الجمعة 29 ربيع الآخر 1446 . 1 نوفمبر 2024

الحلقة (463) - سورة النمل 88-89

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده والرسول الأمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن إهتدى بهديه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ}[النمل:87]، {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ}[النمل:88]، {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ}[النمل:89]، {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}[النمل:90]، {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ}[النمل:91]، {وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنذِرِينَ}[النمل:92]، {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}[النمل:93]، يخبر -سبحانه وتعالى- عما يكون عليه الحال يوم القيامة، فقال -جل وعلا- {وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ}، في القرن، ينفخ فيه إسرافيل -عليه السلام- بأمر الله -تبارك وتعالى-، وإسرافيل وإن كان هو النافخ لكنه لا يعلم الوقت الذي يؤمر فيه بالنفخ، فإن الساعة علمها عند الله -تبارك وتعالى- لم يطلع الله -عز وجل- عليها أحدًا من خلقه قط؛ لا ملك مقرب ولا نبيًا مرسلًا، بل هذا الملك الذي هو المأمور بالنفخ في الصور وهو قد إلتقمه الآن من قبل هذا، يقول النبي «كيف أهنى وصاحب القرن قد إلتقم القرن وأحنى جبهته وأصاغ السمع متى ينفخ في الصور»، فهو على هذه الحال منتظر الوقت الذي يأمره الله -تبارك وتعالى-، فانظر عظمة الرب -تبارك وتعالى- وامتثال ملائكته لأمره -جل وعلا-.

{وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ ........}[النمل:87]، فزع أكبر عند هذه النفخة الأولى في الصور، {إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ}، إلا من شاء الله -تبارك وتعالى- ألا يفزع من ذلك، ومن هم هؤلاء الذين شاء الله -تبارك وتعالى-؟ هل هم الخلق المكرمون في الجنة؛ كالحور اللاتي خلقهن الله -تبارك وتعالى- لعباده المؤمنين، هل بعض الملائكة، هل غيرهم، قال -جل وعلا- أن الفزع سيصيب من في السماوات ويصيب من في الأرض، إلا من شاء الله -تبارك وتعالى- ألا يفزع في هذا الوقت، وكلٌ من هذه المخلوقات من البشر أتوه داخرين؛ أذلة خاضعين، الملوك والرؤساء وأصحاب الأموال وأصحاب الجاه، كل واحد يأتي ربه ذليلًا خاضعًا وينتظر حكم الله -تبارك وتعالى- فيه.

ثم قال -جل وعلا- {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ}[النمل:88]، هذه الآية فسرها بعض أهل التفسير على أنها من آيات الله -تبارك وتعالى- يوم القيامة، وذلك أن حال الجبال في يوم القيامة أخبر الله -تبارك وتعالى- أنها تنسف نسف، ثم تهيل؛ تصبح الكثيب المهيل، ثم تكون كالعن المنفوش، ثم يذروها الله -تبارك وتعالى- حيث شاء، كما قال -جل وعلا- {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا}[طه:105]، {فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا}[طه:106]، {لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا}[طه:107]، تنسف الجبال ويصبح مكانها قاع صفصف {لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا}[طه:107]، وقال -جل وعلا- {........ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا}[المزمل:14]، الكثيب؛ كثيب الرمل هو المجموع من الرمل، والمهيل الذي يهيل بعضه على بعض ويسيل كأنه سائل يسيل بعضه على بعض، هذا ديَّت، وقال -تبارك وتعالى- {الْقَارِعَةُ}[القارعة:1]، {مَا الْقَارِعَةُ}[القارعة:2]، {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ}[القارعة:3]، {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ}[القارعة:4]، {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ}[القارعة:5]، والعهن هو الصوف المنفوش، فتصبح ذرتها خفيفة كخفة الصوف، وتباعد هذه الذرات بعضها عن بعض ولا تكون كما هي الآن صخور مجتمعة، ثم يزيلها الله -تبارك وتعالى- إلى حيث يشاء، فقال بعض أهل العلم هنا {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً}، تظن هذه الجبال جامدة، {وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ}، أي يوم القيامة تمر مر السحاب، إيش لون السحاب يسير فتكون مارة كما ديَّت، بعد أن ينسفها الله -تبارك وتعالى- وأن يذروها في الجو على هذا النحو تمر مر السحاب، ثم قال -جل وعلا- {........ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ}[النمل:88]، يعني أن هذا من صنع الله -تبارك وتعالى- الذي أتقن كل شيء.

بعض أن أهل يقول أن هذه الآية دلالة على أن هذا إنما هو في الدنيا، آية من آيات الله -تبارك وتعالى- الكائنة الآن في الدنيا وليس آية تكون يوم القيامة، {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً}، تحسبها؛ تظنها، تظن أن هذه الجبال جامدة من الجمود وساكنة في مكانها، {وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ}، والحال أنها تمر وسائرة سير السحاب، وهذا قالوا أن فيه دليل على سرعة جريان هذه الأرض وأنها تسير بهذه السرعة، وأن الجبال التي تظنها أنت جامدة إنما هي تسير بسير الأرض التي هي فيها وهي جزء منها سير السحاب، وجاء هذا في هذه العبارة لأن عقول البشر أولًا في وقت نزول القرآن لا يمكن أن تستوعب أن الأرض الثابتة التي يجلسون عليها وهم مقيمون عليها؛ أنها تمر بهم وتسير بهم، فلو قال له النبي -صل الله عليه وسلم-، لو نزل القرآن يقول لهم إن الأرض التي تعيشون عليها الآن إنما هي تجري بكم كجري سفينة في بحر، أو طائرة تطير بكم أو رياح تسير بكم، لكان هذا من أعظم دواعي التكذيب وقالوا إن هذا أتى بكلام يخالف المحسوس، فإننا ببصرنا وبنظرنا لا نرى أن هذه الأرض التي نحن عليها إلا أنها قارة مستقرة قائمة، وهذا النبي يقول إنها جارية فهذا يخالف المحسوس، يخالف ما نراه بأعيننا فيكون هذا من أعظم دواعي التكذيب، لكن أن تأتي بهذه العبارة ويقال لهم هنا يقول الله -تبارك وتعالى- {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ........}[النمل:88]، قالوا أن الدليل على أن هذا آية قائمة الآن هو أولًا قول الله -تبارك وتعالى- {تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ}، ويوم القيامة لا يحسب من يرى الجبال فإنه يرى نسفها ويرى أنها كالكثيب المهيل، يرى أنها كالهن المنفوش، يرى أنها ليست هي الجبال التي كان يراها في الدنيا، فإنه قد تغير حالها وأنها قد أصبحت كالعهن المنفوش وذريت في الهواء، هذه واحدة فقول الله {تَحْسَبُهَا جَامِدَةً}، يدل على أنها الآية الموجودة الآن.

كذلك قول الله -تبارك وتعالى- {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ}، والصنع هو العمل الدقيق، نقول هذا صنع هذا الأمر ديَّت، في عمل وصنع، فالصنع لا يطلق الصنع في اللغة إلا على العمل الذي يحتاج إلى دقة وإلى خبرة وديَّت، فبيان أن هذا الأمر القائم؛ وضع الجبال على هذا النحو في الأرض وهي تمر مر السحاب، أن هذا صنع الله -تبارك وتعالى-، أن هذا عمله العظيم الدقيق، انظر عمل الله -تبارك وتعالى- في هذه الأرض كيف صنعها -سبحانه وتعالى-، بهذه المتانة، بهذا البسط، بهذه الجبال الموجودة عليها، بهذه البحار، بهذه المحيطات، ثم أنها انظر مركبة تسير بالناس على هذا النحو، تدور حول نفسها دورة كاملة كل أربع وعشرين ساعة، ثم تدور حول الشمس هذه الدورة الكبيرة وتسير بهذه السرعة، إثنى عشر ميلًا تسير بها في الثانية، بهذه السرعة العظيمة وهي بهذه الدقة وهذا الإحكام صنع الله، {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ}، أتقن الله -تبارك وتعالى- صناعة كل شيء، ومن يصنع كصناعة الله -تبارك وتعالى-، من يصنع هذه المركبة الكبرى التي نحن على ظهرها، هذه الأرض العظيمة بجبالها وبمحيطاتها وبناسها وبأشجارها بهذا النحو، ويجعلها تطير على هذا النحو وتسير في الفضاء على هذا النحو سابحة على هذا النحو، وهي بهذه المتانة وبهذا الإستقرار وبهذا الثبات، وهذا من ما شاء الله -تبارك وتعالى- من وقت الخلق إلى ما يشاء الله -تبارك وتعالى-، إلى أن ينتهي ويقف هذا الخلق عند حده وينفرط عقد هذا الكون، وهي بهذه المثابة في فلك لا يتغير ولا يتزحزح، وهي بمقدرا لا يزداد واحد على مليون من ثانية ولا أقل من ذلك، صنع الله {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} -سبحانه وتعالى-، {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ}[النمل:88]، إنه؛ هذا الرب الإله -سبحانه وتعالى-، الذي أتقن كل شيء على هذا النحو كذلك هو خبير بما تفعلون، خبير؛ الخبرة هي أدق العلم، يعني أن علمه الدقيق -سبحانه وتعالى-، خبرته -سبحانه وتعالى- وصلت إلى كل ما تفعلونه أناسًا، وقال هنا تفعلون لأن الفعل يطلق على أي حركة، أي سكون، كل فعل، يعني كل فعل لكم فالله -تبارك وتعالى- خبير به -سبحانه وتعالى-، وفي هذا تهديد ووعيد من هذا الرب الذي خلق هذا الخلق وأتقن كل شيء، فهذه من آيات الله -تبارك وتعالى-، يريها الله -تبارك وتعالى- ويطلع الله -تبارك تعالى- عباده ويبصرهم بها ويقول لهم انظروها، ولكن كما قال -تبارك وتعالى- {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ}[النمل:80]، {وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ}[النمل:81].

ثم قال -جل وعلا- مبينًا هنا في آخر السورة كلام؛ كلامه العظيم -سبحانه وتعالى-، قاعدة الجزاء عنده -جل وعلا- فقال {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ}[النمل:89]، {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ}، الحسنة؛ الأمر الحسن، الفعل الحسن، القول الحسن، والحسنة هي الفعل الحسن وهو حسن ضد السيء، السيء يسوء صاحبه والحسن لأنه في ذاته حسن وفي مآله كذلك هو حسن، والحسنة هي كل ما وصى الله -تبارك وتعالى- وأمر عباده من الخير، والله لا يأمر إلا بالخير -سبحانه وتعالى-، {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى}، {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ}، أي حسنة سواء كانت في فعل القلب أو في فعل الجوارح، كلمة طيبة، ذكر لله -تبارك وتعالى-، صلاة، صيام، زكاة، حج، إن شعب الإيمان كلها شعب حسنة، «الإيمان بضع وستون شعبة، أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياة شعبة من الإيمان»، فهذه الحسنات الطيبات الباقيات الصالحات الله يقول {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا ........}[النمل:89]، يؤتيه الله -تبارك وتعالى- خيرًا منها؛ من عمله الذي قدمه لله -تبارك وتعالى-، خيرًا منها في المآل وفي الجزاء، فلو تصدق بدينار هذا الدينار حسنة، لكن الله -تبارك وتعالى- يعطيه خير من هذا الدينار، ولا مقارنة؛ لا مقارنة بين الدينار الذي دفعه وبين الجزاء الذي يعطيه الله -تبارك وتعالى- إياه كجزاء، وكذلك أيضًا في العد؛ فإنه يعد كل حسنة، فإن الله -تبارك وتعالى- يكتبها للعبد عشر حسنات، يعني من تصدق بدينار فكأنه تصدق بعشر دنانير، ومن صلى ركعتين فكأنه صلى عشرين ركعة؛ ركعتين في عشرة، ومن صام يومًا فكأنه صام عشرة، فالله يكتب هذا ديَّت، وأما الجزاء فإنه لا مقارنة بينه وبين العمل، ما في مقارنة، ما في ديَّت، الجزاء ليس ثمنًا لهذا العمل، وإنما هذا جزاء من الله؛ عطاء -سبحانه وتعالى-، فإن العمل مهما كان لو عمل الإنسان عمله في هذه الدنيا ثم أثابه الله -تبارك وتعالى- بأن يرزقه رزق مساوي لهذه الدنيا، بيت جميل وزوجة ومركب هنيء وكذا، ومتعه سنة سنتين ثلاثة من عمره وأعطاه ديَّت، وأعطاه مثل عمره الذي عبده؛ خمسين سنة، ستين سنة، مئة سنة، يعيش في مثل حياة مرفهة طيبة جزاء هذا لكان قد أوفاه، بل إن ما متع الله -تبارك وتعالى- به العبد المؤمن من إنعامه وإفضاله هو لا شك أنه أفضل من عمله، فنعمة البصر أفضل من كل العمل فكيف بسائر النعم، نعمة السمع والقلب والفؤاد وما أعطى الله ديَّت، والرزق الحلال والأكل والشرب والتمتع و ...، كل هذا لا شك أنه أكبر من عمل الإنسان؛ لو كان ثمن أكبر منه، عبادة سبعين سنة لا تكافئ نعمة البصر وحدها، فنعمة البصر أكبر من هذا كمكافأة؛ كثمن.

الجنة لا ثمن لها وليست ثمن للأعمال، ليست مكافئ للأعمال، أن هذه الجنة تساوي هذا العمل... لا، وإنما هي عطاء من الله -تبارك وتعالى- حساب، الله يجازي عباده -سبحانه وتعالى- بهذا العطاء؛ يعطيهم الخلود، يعطيهم الخلود فيما يشتهون، فيما إشتهت أنفسهم وفيما يقترحونه ويدعونه وفيما لا يدخل ولا يخطر على بالهم من النعيم يؤتون، وكلما طلبوا وقبل أن يطلبوا يزادون، {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ}[يس:55]، {هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ}[يس:56]، {لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ}[يس:57]، {سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ}[يس:58]، {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ}[يس:59]، هذا أمر يفوق الوصف ولا يمكن أن يكون مقابل للعمل، فقول الله {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا ........}[النمل:89]، خير منها أولًا في عد؛ بأن كل من عمل حسنة فإن الله -تبارك وتعالى- يكتبها له عشر حسنات، عشر أعمال هذا في العمل، وفي النية كذلك يعطى بها علمًا أن النية مجرد إرادة وما باشر العمل، كما جاء في الحديث «أن الله -تبارك وتعالى- كتب الحسنات والسيئات، فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله له حسنة كاملة»، بمجرد الهم هو لم يعملها، «فإذا عملها كتبت له عشر حسنات، إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة»، الله يضاعف لمن يشاء هنا، لكن الحد الأدنى للعامل المؤمن الذي عمل هذه الحسنة لله؛ يريد بها وجه الله، يأخذ العد الأدنى عشرة، في أمور تحتف بهذا كأنواع من الإحسان، معاناة أكثر، مشقة أكثر، فيأخذ أجر على هذا، فقد يحج حاج ويحج حاج أخر لكن هذا الحاج نال من المشقات شيء عظيم جدًا فيأخذ أجر أكثر من هذا بالذي ناله، كما قال النبي -صل الله عليه وسلم- لعائشة -رضي الله تعالى عنها- «أجرك على قدر تعبك»، على قدر ما تتعبين تأخذين أجر، علمًا أن الحج واحد وقد يكون عمل هذا وعمل هذا لكن ديَّت، كذلك الصدقة واحدة ممكن واحدة يتصدق بدينار وواحد يتصدق بدينار، لكن هذا الذي تصدق بدينار هذا تصدق وهو رجل غني ثري، الدينار لا يشق عليه إن تصدق بدينار، وأما إنسان لا يجد إلا هذا الدينار وبه خصاصة إليه وهو محتاج إليه ومع ذلك تصدق به، فالذي تصدق بهذا الدينار وهو في هذه المثابة وبهذه الشدة أعظم من هذا، الصدقة في الرخاء غير الصدقة في الشدة، {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ}[البلد:11]، {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ}[البلد:12]، {فَكُّ رَقَبَةٍ}[البلد:13]، {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ}[البلد:14]، {يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ}[البلد:15]، {أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ}[البلد:16]، فهذي عقبة لأنه يتغلب على عقبة النفس، ويتصدق في يوم الجوع الشديد يطعم غيره، {........ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ}[البلد:14]، {يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ}[البلد:15]، {أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ}[البلد:16]، وكما قال -تبارك وتعالى- {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ ........}[الإنسان:8]، حب الطعام وحب الإطعام، {مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا}، {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا}[الإنسان:9].

نفقة في سبيل الله هذي تضاعف أضعاف غير النفقة في غير ذلك، فهناك أمور تجعل الحسنة تتضاعف؛ يضاعفها الله -تبارك وتعالى- إلى سبعمائة ضعف، إنسان دفع دينار فالله -تبارك وتعالى- يكتب له كأنه تصدق بسبعمائة دينار، {مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ ........}[البقرة:261]، إذن واحدة في سبعة في مائة بيصير سبعمائة، والله يضاعف لمن يشاء أضعاف كثيرة عن هذه، ثم فيه مضاعفة بدون عد، هذي بالعد إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف أكثر من هذه، وهناك مضاعفة عند الله -تبارك وتعالى- بلا عد وهي في الأمور اللي هي فيها مشقة على النفس كالصبر، الصبر عبادة شديدة والصبر معاناة لأنه حبس النفس على المكروه، فالصبر الله يقول {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}، بدون عد، دون أن يعد الله -تبارك وتعالى- لهم عشرة أو مئة أو سبعمائة أو أضعاف كثيرة وإنما يدعون بلا عد، عندما يقول الله بلا عد فلنتخيل كيف يكون عطاء الله -تبارك وتعالى- عندما يعطي أحد بلا عد، وقد جاء أن الصوم على هذا النحو لأن الصوم صبر، الصوم صبر عن حبس النفس عن شهوة الطعام والشراب والشهوة في نهار رمضان، وقد يكون هذا في الهواجر الشديدة، الأيام الحارة الشديدة أو الأيام الباردة الشديدة مع قرص الجوع وفطام النفس عن شهوتها، ولذلك جاء في الحديث «كل عمل إبن آدم له»، قد كتب يعني، «إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به»، يجزي به؛ هو اللي هيعطي، هيعطي عطاء هنا بلا عد، يعطي الرب -تبارك وتعالى- عطاء بلا عد «إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به»، ثم قال -جل وعلا- يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي، فبيَّن لما يعطيه هنا الرب -تبارك وتعالى- بلا عد، قال يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي، فلما كان هذا من أجل الله -تبارك وتعالى- ويصبر على أمور تدفعها نفسه إليه ولكنه يفطم هذه النفس ويحبسها رغبة فيما عند الله -تبارك وتعالى- فهنا يأخذ بلا عد، فهذا أول معنى من معاني {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا ........}[النمل:89]، خير منها أن الله -تبارك وتعالى- يعطيه ويجازيه بالحسنة عشر أمثالها، الأول اللي هو عد الحسنات ثم خير منها أنه مهما عمل وين ...، أنت تصدقت بدنانير وأخذت الجنة، أنت بذلت نفسك في سبيل الله نلت الجنة والخلود، {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ}، النفس أعز ما يملك الإنسان لكنك ستموت ستموت، الموت كله واحد، كل واحد هيموت، ممكن تموت على فراشك وممكن تموت وقد قدمت روحك لله -سبحانه وتعالى-، قدمتها؛ بعتها لله خلاص، الله -تبارك وتعالى- كافأك على هذه الروح التي أعطيتها له؛ أعطاك الجنة.

{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا ........}[التوبة:111]، وعد هذا أنه يعطي الجنة في مقابل هذا، {وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ}، من يوفي بعهده؟ لا أحد يوفي بعهده كالله -سبحانه وتعالى-، عندما يعد الله -تبارك وتعالى- لا يمكن أن يخلف وعده -سبحانه وتعالى-، ثم قال -سبحانه وتعالى- {فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ}، استبشر بشران؛ يعني خذ هذا، يا من بعت نفسك وروحك لله إعرف أن صفقتك رابحة، أعظم صفقة لأنك بعت الرب الغني الكريم -سبحانه وتعالى-، سيأخذ منك هذا وسيعطيك شيء لا يمكن أن يخطر بالبال، {فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}، هذا الفوز العظيم، ما في فوز إنسان يقول لك فاز، ربح، نال مطلوبه الأكبر، لا فوز أعظم من هذا الفوز، أعظم ممن باع نفسه وماله لله -تبارك وتعالى- وتلقى جائزة الرب -سبحانه وتعالى-؛ الجنة، فهذا الذي خير منها، {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا ........}[النمل:89].

ثم {وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ}، هم؛ هؤلاء الذين أتوا بالحسنة، {وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ}، الفزع الأكبر بقى، الخوف العظيم عندما يقوم الناس من قبورهم وبعد النفخة الثانية ويقوم الناس بعد الفزع الأكبر، فأهل الإيمان لا يحزنهم الفزع الأكبر، الفزع الأكبر هذا لا يحزنهم، لأنه بمجرد ما يخرج المؤمن من قبره تأتي ملائكة الرب -تبارك وتعالى- وتقول له أبشر هذا يومك الذي كنت توعد، أبشر لا تخاف، فيبشرونه ويطمنونه يقولوا له لا تخاف هذا اليوم الذي كنت توعد؛ هذا يومك الذي كنت توعد، كنت توعد بإيمانك وبصلاحك وبعملك وبتقواك في الدنيا أن لك الجنة عند الله هذا يومك، أما الكافر فإنه يتلقى بالصفع، يتلقى بالسوق إلى جهنم -عياذًا بالله- ويبشر بكل سوء، يقولوا له هذا يومك بقى الأسود الذي كنت توعده ديَّت، فأبشر بسود الوجه فيسود وجهه -عياذًا بالله-، {........ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا}[طه:102]، {يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا}[طه:103]، {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا}[طه:104]، يبدأ الحساب هذا يوم الحسرة، {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}[مريم:39].

فالمؤمن في هذا اليوم {وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ}، يؤمنون بمجرد خروجهم من قبورهم، وأهل الإيمان من أتباع النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه- على طول أول منزل من منازل يوم القيامة أنهم يذهبون إلى حوض النبي -صلوات الله والسلام عليه-، حوض في المحشر، حوض هذا مساحته يقول النبي من مكة إلى هجر؛ يعني بعرض الجزيرة العربية كلها، من مكة في غرب الجزيرة إلى هجر في شرق الجزيرة، عليه آنية كعدد النجوم، أحلى من العسل وأشد بياضًا من اللبن وأبرد من الثلج، من شرب منه شربة لا يظمأ بعدها أبدًا، لا يشرب المؤمن شربة من حوض النبي -صل الله عليه وسلم- يرد النبي على الحوض، النبي قائم على حوضه -صل الله عليه وسلم- وهو أول المنازل، وقد بشر النبي -صل الله عليه وسلم- قالهم إصبروا حتى تلقوني على الحوض، أول شيء بعد ما تقوموا من القبور أول ديَّت تلقوا النبي -صل الله عليه وسلم- على حوضه -صلوات الله والسلام عليه-، فهم يؤمنون؛ أهل الإيمان يؤمنون في يوم الفزع الأكبر، يشوفوا الناس في الفزع وفي الضيق وفي الكرب وفي الموت وفي سواد الوجوه وهؤلاء يؤمنهم الله -تبارك وتعالى-، {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ}[النمل:89]، {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}[النمل:90].

نعود إلى هذه الآيات في الحلقة الآتية -إن شاء الله-، أستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصل الله وسلم على عبده ورسوله محمد.