الجمعة 21 جمادى الأولى 1446 . 22 نوفمبر 2024

الحلقة (465) - سورة القصص 1-8

{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الفاتحة:2]، {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}[الفاتحة:3]، {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}[الفاتحة:4]، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن إهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- بسم الله الرحمن الرحيم، {طسم}[القصص:1]، {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ}[القصص:2]، {نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}[القصص:3]، {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ}[القصص:4]، {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ}[القصص:5]، {وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ}[القصص:6]، هذه سورة القصص وهي سورة مكية، وقد تميزت هذه السورة بأن الله -تبارك وتعالى- فيها قص قصة موسى -عليه السلام-، بتفصيل أكثر مما ذكرت به هذه القصة في مواضع أخرى من كتاب الله -تبارك وتعالى-، بدأ الله -تبارك وتعالى- هذه السورة بالحروف المقطعة شأن كثير من سور القرآن {طسم}[القصص:1]، الطاء والسين والميم، وقد مضى أقوال أهل العلم في معاني هذه الحروف وأن أمثل ذلك؛ أمثل ما قالوه، هو أن هذه إما حروف للتنبيه ينبه ديَّت، {طسم}[القصص:1]، ونموذج من إعجاز هذا القرآن في ذكر هذه الحروف قبل ذكر الموضوع المراد وكأنه ينبه المستمع، وإما أنه إشارة من الله -تبارك وتعالى- إلى أن هذا القرآن الذي قال فيه المشركون ما قالوا؛ من أنه سحر وأنه كهانة وأنه أساطير الأولين إكتتبها، أنه كتاب عربي من هذه الحروف التي يعرفونها، فليأتوا بكلام مثل هذا الكلام، فليأتوا بسورة من مثل سوره إن كانوا صادقين في أن النبي افترى هذا الكتاب، فيكون إشارة إلى أن هذا الكتاب هو من لغتهم وبنفس الحروف التي يؤلفون منها كلامهم.

أشار الله -تبارك وتعالى- إلى هذا القرآن إشارة تعظيم، فقال -جل وعلا- {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ}[القصص:2]، {طسم}[القصص:1]، {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ}[القصص:2]، إشارة للبعيد إشادة بهذا الكتاب العظيم المبارك المنزل من الله -تبارك وتعالى-، تلك آيات؛ والآيات جمع آية، والآية هي العلامة، فكل جملة من جمل هذا القرآن إنما هي علامة على أنها من الله -تبارك وتعالى-، معجزة؛ كلام معجز يحمل الدليل على أنه من كلام الله -تبارك وتعالى-، سواء في معانيه التي يسوقها أو في مبناه بهذه اللغة، فإنه مبني بناءًا يستحيل على البشر أن يبنوا من كلامهم مثله، لا يمكن أن يبنى كلام في البلاغة والفصاحة والبيان كهذا الكلام، فإن الله -تبارك وتعالى- قد أنزله على هذا النحو معجز، تحدى به الجميع أن يأتي بكلام مثله، {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ ........}[القصص:2]، هو كتاب لأنه مكتوب في اللوح المحفوظ، مكتوب عند الله -تبارك وتعالى- {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ}[عبس:13]، {مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ}[عبس:14]، {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ}[عبس:15]، {كِرَامٍ بَرَرَةٍ}[عبس:16]، مكتوب في السماء، ثم قد كتب الله -تبارك وتعالى- أن يكتب هذا الكتاب في الأرض، وأن يكون أعظم كتاب ينتشر بين أيدي الناس لتقوم به الحجة لله -تبارك وتعالى- على عباده.

{الْمُبِينِ}، المبين؛ البيِّن الواضح الذي لا غموض فيه، ما فيه لبس ولا فيه غموض بل هو ميسر للذكر عند كل من له سمع وبصر وعقل، {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}[القمر:17]، فهو بيِّن واضح، وكذلك هو المبين إذا كان من أبان متعدية بمعنى أن المبين، يعني المظهر لكل معنى جائه، فقد أظهر كل شيء وقد أنزله الله -تبارك وتعالى- تبيانًا لكل شيء، فهذا الكتاب البيِّن الواضح والمبين لكل المعاني فلا يحتاج إلى غيره لأي بيان، بل هو كتاب مبين مفصل من رب العالمين -سبحانه وتعالى-، وهذه الإشادة للقرآن تتكرر كثيرًا في كتاب الله -تبارك وتعالى-، وذلك لينبه الله -تبارك وتعالى- خلقه إلى عظمة هذا الكتاب، وأنه كتابه، وأنه كتاب مبين، وأنه كتاب محفوظ من الله -تبارك وتعالى-، وأنه الذكر الحكيم، وأنه كلامه، وأنه هو الذي أنزله -سبحانه وتعالى-، وهذا كله لإقامة الحجة على الناس ولتنبيه الناس إلى أن يعظموا هذا القرآن ويضعوه في موضعه الصحيح؛ من أنه رسالة رب العالمين -سبحانه وتعالى-، وأنه أنزله بهذه الصورة التي هو عليها من البيان والإيضاح والرحمة التذكير والموعظة والتفصيل لكل شيء، فإذن ليعلموا نعمة الله -تبارك وتعالى- في إنزال هذا القرآن المبارك العظيم، {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ}[القصص:2].

{نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}[القصص:3]، يعني في هذه السورة، نتلوا عليك؛ نقرأ عليك، والله هو الذي يقرأ -سبحانه وتعالى-، فالكلام هذا إنزاله -سبحانه وتعالى-، نتلوا عليك؛ يعني يا محمد، {مِنْ نَبَإِ مُوسَى}، النبأ هو الخبر العظيم، فهذه أخبار عظيمة من أخبار موسى النبي وفرعون الذي أرسل إليه موسى، بالحق؛ يعني أنزلها الله -تبارك وتعالى- بالحق، فنزول هذه الآيات نازلة بالحق، وذلك أن الله -تبارك وتعالى- هو الذي يتكلم بالصدق ويتكلم بالحق -سبحانه وتعالى-، فلا يتطرق أي خلل ولا أي شك إلى كلامه، ولا يمكن أن يحمل كلامه أي باطل بل هو بالحق، ثم قال -جل وعلا- {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}، يعني كأنه حصر نزول هذا لقوم يؤمنون، لأنهم هم الذين يصدقون بكلام الله -تبارك وتعالى- فيستفيدون به ويأخذونه، وأما غير المؤمنين فإنهم يصدون ويبتعدون ويشككون ويرفضون ما أنزله الله -تبارك وتعالى-، أما موسى فهو النبي العظيم والرسول العظيم من أنبياء بني إسرائيل، من رسل الله -تبارك وتعالى-، أرسله الله -تبارك وتعالى- لبني إسرائيل مخلصًا، وهذه السورة تبين كيف أن الله -تبارك وتعالى- جعله مخلصًا لهم من ذلك القبط؛ الفراعنة، وأنه أخرجهم بآيات الله -تبارك وتعالى- وبقيادة حكيمة، من ذل قوم مستغلون مستضعفون يخرجهم بعد ذلك إلى العز والمنعة، ليكونوا أمة عابدة لله داعية له -سبحانه وتعالى-.

موسى طبعًا من نسل إسرائيل؛ يعقوب -عليه السلام-، ومعلوم سبب وجود بني إسرائيل في مصر، وأنه كان بداية لما بيع يوسف -عليه السلام- إبن إسرائيل إبن يعقوب إبن إسحاق إبن إبراهيم، بيع بسبب مكر إخوانه به وإلقائه في غيابة الجب، ثم جائت سيارة؛ ناس ممن يسيرون، فالتقطوه من البئر الذي هو فيه وأخذوه على أنه بضاعة لهم، ونزلوا به إلى أرض مصر فباعوه في سوقها واشتراه وزير من وزرائها؛ عزيز مصر، ثم ربي في بيته وقص الله -تبارك وتعالى- قصته كاملة في سورة من سور هذا الكتاب الكريم وهي سورة يوسف، وفي تمام هذا الأمر هو أنه أتى يوسف -عليه السلام- بأبيه وبأمه وبإخوانه وأسكنهم أرض مصر، وكانوا في هذا الوقت نحو من بضع وعشرين نفس، مكثوا فيها، تكاثروا، نسلوا، وكان طبعًا القبط أحبوهم حبًا عظيمًا، لأن يوسف -عليه السلام- جاء أيضًا مخلصًا لهم من كارثة كانت تنتظرهم؛ كارثة القحط، ودلهم على الطريقة التي سيخرجون بها من هذه الكارثة في سني الجدب السبع، ولأمانته ولصدقه ولعلمه مكن تمكين عظيم، {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ ........}[يوسف:56]، يتبوأ؛ ينزل في أي مكان يريد من أرض مصر بأمر ملكها، {نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}، ثم بعد ذلك لما مكث بنوا إسرائيل في مصر ما شاء الله أن يمكثوا، وكثروا وزادوا وكانت لهم العزة والمكانة، ثم بعد ذلك قلب لهم القبط ظهر المجن، وخافوهم أن يكثروا وأن يكون لهم هم السيادة وتتحول القيادة والسيادة إليهم وأن يذهب ملك الفراعنة، فلما خافوهم عند ذلك بدأوا بحملة إستئصال وإستضعاف لهم، بأن أنزلوهم من الأماكن العالية والمنازل العالية والدرجات العالية التي كانوا فيها إلى المنازل السفلى، سخروهم من أحقر الأعمال في أحقر أعمالهم وأشد أعمالهم؛ ضرب الطين والتنظيف وغير ذلك، بدأوا في إضعافهم في قتل الذكور منهم وترك الإناث حيات حتى تضعف هذه الطائفة، وبدأوا بإستعباد عظيم لهم، وكان مما كان أن الله -تبارك وتعالى- أراد أن يغير هذه المعادلة فكان من الشأن أن أرسل موسى النبي -صلوات الله عليه وسلم-، وهذا ما يقصه الله -تبارك وتعالى- في شأن موسى وقومه وفرعون بالحق.

{نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}[القصص:3]، فرعون إسم لكل من ملك مصر من القبط، كل من ملك مصر من القبط كان يسمى الفرعون كأنه لقب للملك، كما يقال كسرى لكل من ملك الفرس وساسهم، ويقال قيصر لكل من كان على رأس الروم، {نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}[القصص:3]، {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ}، هذا إخبار من الله -تبارك وتعالى- أن فرعون ملك مصر من القبط علا في الأرض، وفي الأرض؛ في أرض مصر، وعلا فيها بمعنى العلو هنا علو تجبر، وأنه جعل نفسه ليس فرد من أفراد الناس بل متميزًا عليهم، فإنه كان يرى نفسه عنصره من عنصر أخر، بل أنه هو الإله وجاء الوقت الذي يقول لقومه {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي}، وأن يفرض رأيه على الجميع، يقول لهم {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ}، فالذي أراه هو الذي يجب أن يراه الناس، وطريقه هو طريق الرشاد وغير طريقه هو طريق الغواية والضلال، وبدأ ينفذ ما يشاء بقهره، فعلا في الأرض؛ علا علو المتجبرين المتألهين، {وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا}، جعل أهل الأرض هم أهل مصر شيعًا؛ جماعات، طوائف، {يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ}، يستضعفهم يعني يراهم أنهم ضعفاء وبالتالي يعلوا عليهم ويقسوا عليهم، وكذلك يعمل في إستضعافهم، يعمل في إبقائهم في حال الضعف والمسكنة.

ثم بيَّن الله -تبارك وتعالى- سياسة هذا الفاجر المتعالي المتأله، قال {يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ}، يذبح أبنائهم؛ ويذبح بالفعل المضارع الذي يدل على الإستمرار والعمل المتكرر، أبنائهم؛ ذكورهم، {وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ}، يستحي نسائهم يعني يبقي نسائهم أحياء، فإذا ولد الولد الذكر أمر بقتله وإذا ولدت الأنثى أمر بأن تبقى، {وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ}، وفي هذا من عظيم الذل والقهر لهم، فالأبناء هم الذين بيدهم القوة وبيدهم الدفع وديَّت، وأما البنات فإن بقائها أحياء كذلك ليس من المنة على بني إسرائيل بل هذا زيادة في ضعفهم وفي إذلالهم، لأن الأنثى تكون محل كذلك لزيادة في الإستضعاف وزيادة في الإذلال، يعني بقاؤها فيه زيادة في الإذلال لبني إسرائيل، قال -جل وعلا- {إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ}، إنه؛ حكم الله -تبارك وتعالى- في هذا المجرم {إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ}، هذا من الإفساد في الأرض، فقتل الناس وإستعبادهم وإستضعافهم على هذا النحو وإعلاء طائفة على طائفة أخرى في الأرض الواحدة هذا من الإفساد في الأرض، {إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ}.

قال -جل وعلا- {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ}[القصص:5]، {وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ}[القصص:6]، انظر الواقع القائم الذي يبينه الله -تبارك وتعالى- هنا وانظر إرادة الرب -تبارك وتعالى- التي ستكون، والنقلة البعيدة وكيف تكون بعد ذلك، قال -جل وعلا- {وَنُرِيدُ}، إرادة الله -تبارك وتعالى-، مراد الله -عز وجل- ومراد الله لابد أن يتحقق، {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ ........}[القصص:5]، المن هو التعطف والعطاء والتكرم من الله -تبارك وتعالى-، نمن عليهم بمننا وعطائنا وكرمنا، على الذين استضعفوا في الأرض وهم بنوا إسرائيل، نمن عليهم بالخروج من هذا الذل الذي هم فيه، {وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً}، نجعلهم أئمة للناس، يهدون بأمر الله -تبارك وتعالى- ويدعون إلى الله -تبارك وتعالى- ويرشدون الناس إلى طريق الله -جل وعلا-، نجعلهم أئمة جمع إمام، والإمام هو الفرد المقتدى به، فنجعلهم يعني أفراد يقتدى بهم ويتمثل بأقوالهم وأعمالهم، {وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ}، نجعلهم الوارثين للأرض، فهم الذي يرثوها هم وأبنائهم من بعدهم وعلى هذا النحو.

{وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ}، التمكين؛ التثبيت، نجعلهم ثابتين في الأرض، ولا يمكن هذا التمكين إلا بأن يكونوا أناس لهم إستقرار وقوة ومنعة، فهذا هو التمكين في الأرض؛ القيام فيها والبقاء فيها، وأنه لا يوجد قوة تزحزحهم وتزيلهم ليس على هذا النحو الذي هم عليه فإنهم غير ممكنين في الأرض، إنما هم طائفة بهذا الحال الآن مستضعفة مستذلة؛ السوط على ظهرها ورأسها، والسكين يلاحق ذكورها والإناث يلاحقهن الإستذلال والإستضعاف والخدمة والتسخير، فيخرجون من حال هذا الإستضعاف إلى حال القوة والتمكين، {وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ}، ثم {........ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ}[القصص:6]، نري؛ نجعل فرعون يرى، فرعون وهامان؛ وذكر الله -تبارك وتعالى- هامان لأنه كان الوزير المنفذ لسياسة فرعون، وهامان وجنودهما؛ جنود فرعون وهامان، المجندون لهم في تنفيذ هذه السياسة والبطش من الجيش والشرطة والأعوان الذين سخروهم في هذا الأمر، وجنودهما منهم؛ من هؤلاء من بني إسرائيل، ما كانوا يحذرون؛ الذي كانوا يحذرونه ويتخوفون منهم أن يغلبهم هؤلاء وأن يقهروهم، وأن يكون لهم هم العز والسلطان والمكانة وأن يزيلوهم، يقول هذا الذي حذروه منهم إما بنظر مستقبلي وإما بتخوف من عند أنفسهم وإما برؤيا، قيل إن فرعون رآها أن هؤلاء ديَّت، وأنهم بطريق العرافين والدجالين الذين قالوا له أنه سيخرج من بني إسرائيل من يقتلك، فهذا الذي بدأوا من أجله يحذرون من بني إسرائيل ويتخوفون منهم على أنفسهم، يقول هذا الذي تخوفوه بما تخوفوه سنريهم إياه، سنريهم أن هذه الطائفة المستضعفة الذين يصنعون فيها هذا الصنيع سيكون هي التي لها البقاء والإستقرار والقوة في الأرض، وأن ملك هؤلاء الأقوياء المتجبرين هو الذي سيزول.

نجد هنا أن الله -تبارك وتعالى- عرض علينا في هذا القصص الإلهي الذي يقصه الله -تبارك وتعالى-، أولًا بعد الإشادة بالقرآن الكريم وأن هذا هو الحق، وأن الله -تبارك وتعالى- يقص من نبأ موسى وفرعون بالحق، وأن الحق هذا لا يستفيد به إلا أهل الإيمان؛ لقوم يؤمنون، بدأ الله -تبارك وتعالى- يبين الواقع القائم الذي كان ديَّت، قال {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا}، هذا الواقع القائم الآن، ملك متكبر معه الجنود والأعوان يستضعف طائفة من شعبه ويفعل بهم ما يشاء من أقسى أنواع الإذلال، قتل الذرية وإبقاء النساء أحياء، وأن الله -تبارك وتعالى- يريد أن يجعل هذا الشعب المستضعف هو الشعب الوارث المهتدي الذي يقتضي به الناس، ويجعله منارة للعالمين ويحطم أولئك، فالإرادة الإلهية بالنسبة لهذا الواقع شيء بعيد، وهذا لبيان تشوق لكيف؟ وكأن المستمع يقول كيف سيتم هذا الأمر؟ كيف سيتم قلب هذه المعادلة وتغيير هذا الواقع هذا التغيير الجذري، الذي يجعل ناس في الأسافل يصبحون في الأعالي وناس في الأعالي يصبحون في الأسافل، كيف يكون هذا؟.

بدأ الله -تبارك وتعالى- القصة بولادة المخلص موسى -عليه السلام-، قال -جل وعلا- {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ}[القصص:7]، بدأت إرادة الرب تتحقق أولًا بهذا الأمر، أن يولد المخلص ويولد في اليوم الذي ينتظر كل مولود فيه السكين ليقتل، وتنتشر جواسيس فرعون في الأزقة والحواري والقرى التي يسكن فيها بني إسرائيل ليستطلعوا خبر كل مولود يولد، وأن كل مولود يولد في هذا اليوم السكين بإنتظاره، قال -جل وعلا- {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ}، يعني بعد أن تلده أن ترضعه، {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ}، وهي لا شك أنها طبعًا تخاف عليه، ولكن قول الله {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ} يعني بيان أن اليم هو خطر أيضًا، يعني إلقاء طفل في اليم هو نفسه خطورة وأمر مرعب وأمر قد يفضي إلى الهلكة، فإن إلقاء طفل في البحر ديَّت، لكن كأن الله -تبارك وتعالى- يبين أن إرادته لابد أن تتم وأنه لابد أن يكون وأنه لا خطر عليه، وأن انظر هذه الخطورة الأولى التي يتعرض لها موسى وهو أن يلقى في البحر، في اليم؛ في نهر النيل، وهذا بجريانه وديَّت، وأن يوضع طفل في صندوق ليس معه مجداف ولا معه دفة يسوق بها ولا معه حارس يحرسه هو أمر في ذاته في غاية الخطر، وهو تعريض له لأكبر الخطر أنه ضع صندوق والطفل فيه وحده في البحر، في نهر النيل بجريانه وبحدته، هذا ليريها الله -تبارك وتعالى- أن لا تخافي، أن انظر هذا؛ هذا الأمر، وهذا أمر مخيف لكن انظر عناية الرب -تبارك وتعالى-، قالها {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ}، إذا كان فيه خوف عليه مش تبقيه عندك، مو أبقيه عندك ولا ضعيه في صندوق ولا إبعديه عن الأعين والأبصار وخليه لديَّت، لكن ألقيه في اليم لأن هذا أمر الله -تبارك وتعالى-، وأن الله -تبارك وتعالى- سيعتني به رغم كل الأخطار وهذا مثال لها، أن يكون هذا شوفي الخطر هذا الكبير هذا على طفل صغير هو الله -تبارك وتعالى- سينجيه، وأنه كما سينجيه من هذه اللجة سينجيه مما بعدها، {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ}، ثم قال -تبارك وتعالى- {وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ}، أوحى الله -تبارك وتعالى- قال أهل العلم إلهام، إلهام تملكها أو ملك ناداها وكلمها، وقد كان هذا يحصل في بني إسرائيل كانوا يسمعون الصوت، كانوا يسمعون الصوت؛ يسمعون صوت الملك يكلمهم، فإما أنه إلهام جائها من الله -تبارك وتعالى- وتملك صدرها وإطمأنت به وعلمت أن هذا حق، وإما صوت ملك أخبرها بهذا وقال لها هذا الأمر، {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ}، إنا؛ الله -تبارك وتعالى- يؤكد على نفسه -سبحانه وتعالى-، رادوه إليك؛ سنرد موسى إليك، {وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ}، يعني أنه سيكبر ويشب ويصبح رجلًا كاملًا ويجعله الله -تبارك وتعالى- رسولًا.

فهذا إخبار من الله -تبارك وتعالى- أن أمر موسى إنما سيكون على هذا النحو، وهذا من أعجب العجب؛ أن الله –تبارك وتعالى- يخبر أم موسى بهذه الأمور، التي أولًا فيها إلقاء موسى في الخطر ثم تبشير لأم موسى بهذه البشارة العظيمة، أولًا أنه سيرد إليها وهذا الرد لتكون هي أمه عند العالم كله، هي الرضاعة التي ترضعه وتحتضنه بعد ديَّت، ثم أن الله -تبارك وتعالى- سيمكن له وسيطيل عمره ويجعله نبيًا مرسلًا، {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي}، لا تخافي؛ الخوف هو مما هو قادم، والحزن مما مضى، يعني لا يشغل بالك ولا يقلقك شيء من الخطر ومن الهم لأمور مستقبلة؛ الخوف على شيء مستقبل، وكذلك لا تحزني على أمر ماضٍ، بل كوني في إطمئنان خاطر وثبات قلب أن هذا وعد الله -تبارك وتعالى- وأنه لابد أن يتحقق، {وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ}.

قال -جل وعلا- {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ}[القصص:8]، {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ}، يسر الله -تبارك وتعالى- أن هذا الصندوق الذي يجري على صفحة النهر -بغير مجداف وبغير دفة- أن يذهب الصندوق ويجري إلى أن يراه من؟ يراه العدو؛ آل فرعون، فيلتقطونه من النهر ويأخذونه، وهذا هو الفتنة الثانية والمحنة الثانية أن الصندوق لا يتلتقطه رجل من الناس العاديين أو رجل له تنفذ يحميه أو يصونه أو يخبئه، بل يلتقطه أعدى عدو والآمر بذبح الذرية، قال -جل وعلا- {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ}، قال -جل وعلا- {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا}، اللام هذه لام العاقبة، طبعًا لم يلتقطوه للتعليل {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا}، حتى يصبح عدوًا لهم، ولكن حتى تكون العاقبة من الله -تبارك وتعالى- أن يكون لهم عدوًا وحزنًا، ثم قال -جل وعلا- مبينًا ذلك ومعللًا لما فعل الله -تبارك وتعالى- هذا بهم، قال {........ إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ}[القصص:8].

نقف هنا -إن شاء الله- ونتم في الحلقة الآتية، أستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصل الله وسلم على عبده ورسوله محمد.