{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الفاتحة:2]، {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}[الفاتحة:3]، {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}[الفاتحة:4]، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيد ولد آدم -صل الله عليه وآله وسلم-.
وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ}[القصص:7]، {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ}[القصص:8]، {وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ}[القصص:9]، {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}[القصص:10]، {وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ}[القصص:11]، {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ}[القصص:12]، {فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ}[القصص:13]، يخبر -سبحانه وتعالى- في هذه السورة؛ سورة القصص، التي إشتملت على تفصيل قصة موسى وفرعون، يخبر بأن الله -تبارك وتعالى- بدأ تحقيق إرادته -سبحانه وتعالى- في قلب تلك المعادلة، التي كانت قائمة من تسلط فرعون على طائفة من شعبه وهم بنوا إسرائيل؛ يذبح أبنائهم ويستحي نسائهم، وأن الله -تبارك وتعالى- أراد يخرج بني إسرائيل وأن يجعلهم أئمة ويجعلهم الوارثين ويمكن لهم في الأرض ويغير هذا، ويري فرعون وهامان منهم ما كانوا يحذرون، وأن الله -تبارك وتعالى- بدأ هذا الأمر؛ أمر تحقيق إرادته -جل وعلا-، في بني إسرائيل وفي آل فرعون بأن ولد موسى، وأوحى الله -تبارك وتعالى- إلى أمه أن ترضعه وأن تلقيه في اليم، قال {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ}، ليعطيها الله -تبارك وتعالى- الدليل على أن إرادته لابد أن تنفذ، وينجيه من لجة البحر أمام الجميع بمعجزة إلهية، فإن صندوق طفل يلقى في البحر وينجوا من هذه الحال لا ينجوا إلا بمعجزة، فيريهم الله -تبارك وتعالى- هذا.
ثم يسقطه -سبحانه وتعالى- ويجعل آل فرعون هم الذين يلتقطونه ليربى في بيتهم، قال -جل وعلا- {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ}[القصص:7]، قال -جل وعلا- {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ}، هيأ الله -تبارك وتعالى- لألا ينشله ويأخذه من البحر ويرفع تابوت موسى -عليه السلام- إلا قصر فرعون؛ على شاطئ نهر النيل، ويراه بعض خدمه؛ فيروا صندوق يطفوا في البحر، فينتشلونه ويفتحون الصندوق، وإذا به هذا الطفل الأسمر المليح فكل من يراه يقع حبه في قلوبهم، قال -جل وعلا- {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ}، ولكن {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا}، ليصبح هذا الغلام الذي يلتقطونه هم بأيديهم من البحر ويأخذونه هو الذي يصبح عدوًا لهم وحزنًا لهم؛ مصدر حزن لهم، وسيقص الله -تبارك وتعالى- كيف أصبح موسى مصدر حزن لهؤلاء وعدو لهؤلاء، قال -جل وعلا- {إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ}، بأنهم كانوا خاطئين؛ فاعلين الخطيئة، وهذه الخطيئة إجرامهم على هذا النحو وتقتيلهم للذرية وسومهم بني إسرائيل سوء العذاب.
قال -جل وعلا- {وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ}، لما رأته إمرأة فرعون زوجته أدخل الله -تبارك وتعالى- محبته في قلبها، وقالت {قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ}، العين تقر إما تقر بمعنى قرار العين هو إستقرارها، لأن العين المطمئنة والفرحة هادئة، وأما العين الخائفة فإنه تكون متحركة ديَّت، فمن القرار قرة عين، أو من القر الذي هو البرد، وكأن العين الفرحة المطمئنة باردة ودمعها بارد، كما يقال دموع الفرح باردة، وأما العين الحزينة الباكية تكون حارة ودمعها حار، ولذلك يقال أحر من دمع المقلاة، المقلاة هي المرأة التي قليلة الأولاد وتفقدهم، فإنها تكون دمعتها سخينة وتبكي بدموع حارة، قرة عين ليك ولك يعني أنه طفل تقر به عيوننا، بمعنى أنها تهدأ به وتفرح به وتطمئن إليه، لي؛ قالت لنفسها، ولك؛ تخاطب زوجها فرعون، {لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا}، لا تقتلوه؛ تستغيث وتستجير وترجوا زوجها الفرعون ومن حوله من الزبانية الذين ينفذون أوامر القتل، قالت عسى أن ينفعنا؛ عسى أن يكون له نفع، ينفعنا إما نحن نربيه في الخدمة، يعني في خدمتنا كأن يكون من جملة خدمنا، أو نتخذه ولدًا؛ نتبناه، يكون من الذكاء والنجابة وغير ذلك ما نتخذه ولدًا لنا بأن نضفي عليه صفة البنوة لنا، وبالتالي يصبح ولد من أولادنا، قال -جل وعلا- {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ}، جملة حالية يعني أنهم قالوا هذا وهم لا يشعرون بما يدبره الله -تبارك وتعالى- في الخفاء، ما يشعرون بالذي سيكون بعد ذلك من شأن هذا الطفل الرضيع الصغير، وأن الله -تبارك وتعالى- سيجعله بعد ذلك نبيًا ورسولًا ومخلصًا لبني إسرائيل ومخرجًا لهم من هذا وعدوًا لفرعون، الذي يعاديه ويحاول أن يقتله بكل سبيل فلا يستطيع، وأن الله -تبارك وتعالى- يمده بآيات قاهرة قوية يضرب بها فرعون وقومه ضربات شديدة جدًا، {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ}[الأعراف:133]، وأن الله يضربهم بالرجس وقتل الذرية، ثم بعد ذلك يغرقهم في البحر وكل بديَّت، فهم لا يشعرون بما يخبئه القدر بعد ذلك من شأن هذا الطفل الصغير الذي سيصبح بهذي المثابة، نبيًا عظيمًا مخلصًا لأمته وشعبه.
جاء في رواية إبن عباس في حديث الفتون أن إمراءة فرعون التي أحبت موسى الرضيع من قلبها وقالت لفرعون قرة عين لي ولك، قال لا؛ لكي وحدكي، وأنه لو قال لو أقر بهذا قرة عين لي ولك لكان بالفعل؛ لكان فرعون قد آمن بموسى، لو قرت عينه به وفرح به واستجاب له صغيرًا وحنا عليه صغيرًا لكان هذا بابًا إلى الإيمان به، ولكنه كرهه وأبغضه بشأن من يبغض من كل أولاد بني إسرائيل؛ ذكور بني إسرائيل الذين عمل في قتلهم، ولكن الله -تبارك وتعالى- تحول هنا الإرادة الإلهية أن يمده بالقتل وأن يبقى رغمًا عنه، بطلب من زوجته التي قالت قرة عين لي ولك، وأنها أحبته ولم ترد أن يخلص إليهم فيقتلوه، وكانت هذه المرأة ذكر أهل التفسير أن إسمها آسيا بنت مزاحم -رضي الله تعالى عنها-، كان هذا الذي ألقاه الله -تبارك وتعالى- في قلبها من محبة موسى هو الذي كان السبيل بعد ذلك والسبب إلى أن أدخل الله -تبارك وتعالى- الإيمان بموسى، نبيًا ورسولًا من الله -تبارك وتعالى- بعد ذلك، وأن تموت شهيدة على يد فرعون بإيمانها، وأن تتبرأ إلى الله -تبارك وتعالى- وتبرأ من عمل فرعون، وأن تطلب من الله -تبارك وتعالى- أن يرزقها عنده بيتًا في الجنة، {........ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنَ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}[التحريم:11]، فكان من شأنها أن تموت شهيدة لله -تبارك وتعالى- وأن يرزقها الله -تبارك وتعالى- جنته ورضوانه، وتكون من خير بل خير نساء الأرض مع مريم إبنة عمران، فقد قال النبي -صل الله عليه وسلم- خير نسائها؛ خير نساء الأرض على الإطلاق آسيا هذي بنت مزاحم؛ آسيا إمرأة فرعون، ومريم إبنة عمران، فهذي لم يكمل من نساء الأرض كلها إلا هاتان المرأتان، فرضي الله عنها وأرضاها قالت {قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا}، قال -جل وعلا- {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ}.
ثم إنتقل الحديث إلى أم موسى لنرى هذا، إستقر موسى هنا؛ وصل موسى إلى قصر فرعون، وإحتضنته إمرأة فرعون، قال -جل وعلا- {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا}، أصبح فؤاد أم موسى فارغًا يعني بعد أن ألقته في اليم أصبحت الآن المخاوف جائتها من كل جانب، جائتها المخاوف عليه من لجة البحر التي ألقي فيها، وأنه ربما ذهب إلى ديَّت أو إنقلب الصندوق به فيهلك، والمخاوف من أن يأخذه من يأخذه فإذا رآه ولد على هذا النحو يعلم أنه من بني إسرائيل، الذين يحاولوا أن يخفوا أبنائهم بأي طريقة، وأن هذه طريقة أراد أن يخفيه أو يتخلصون من الأبناء على هذا النحو فيأخذه فيقتله، فأصبحت تأتيها وساوس الشيطان من كل جانب، والله يقول أصبح فؤادها فارغًا، يعني فارغًا لا ثبات فيه، كشأن القلق الخائف من كل شيء، ما أصبح لقلبها ثبات تستطيع أن ترده إليها لتعقل ما هي فيه، بل كأنه هواء، خرج منها قلبها، أصبحت لا تملك قلبها أن تثبته وأن تبقيه، يقول وأصبح فؤاد أم موسى؛ يعني قلبها فارغًا، يعني خلاص فاضي، لا تعرف كيف تتصرف ولا كيف تثبيت نفسها، قال -جل وعلا- {إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ}، إن كادت؛ قربت، لتبدي به؛ لتقول يا أيها الناس أنا جننت، ألقيت إبني في البحر، هو الذي هذا الذي أخذه الصندوق، فتفشي هذا السر وتخرجه إلى الناس من كونها أصبحت لا تعي ما الذي تفعله من طيران قلبها، {إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ}، قال -جل وعلا- {لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}، لولا أن الله -تبارك وتعالى- ربط على قلبها، الربط عليه؛ تثبيته وأنه يبقى، وبالتالي تصبر؛ يعني أنها تصبر على هذا الأمر، وأنها تعلم وتثق في موعود الله -تبارك وتعالى-، وأن الله وعدها بهذا الأمر ولابد موعود الله -تبارك وتعالى- لابد أن يكون، فالله ربط على قلبها وثبتها وإلا فإنها كانت بحال ممكن أن يدل على موسى، وأن تقول بهذا ديَّت، وبالتالي تتسبب في مقتله.
{وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ}، وقالت؛ أي أم موسى -عليها السلام-، لأخته؛ لأخت موسى قصيه، قصيه؛ القصص هو أن تسير في إثره، فتعرف وين سيذهب هذا الصندوق في لجة النهر وين ديَّت، {وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ}[القصص:11]، كانت أخته من الذكاء وربما هذا من تعليم أمها لها أن تبصره من بعد، وألا تشعر أحدًا بأنها تراقب الصندوق وأن لهذا الصندوق رابط معها، فيربط بينها هذه بنت من بنات بني إسرائيل وهذا الصندوق وهي تراقبه، إذن هي لابد أنها على علم به وبالتالي يؤخذ فيعلم كذا فيقتل، أو أن يعرف أهله فيكون هذا سبب في هلاكه وفي موته، قال -جل وعلا- {فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ}، يعني أنها تبصره عن جنب، وكأنها فتاة عابرة ممن يعبر الطريق ولكنها تبصره من بعيد، وتعلم وين رايح بدون أن تشعر أحد بأنه أخوها أو أن لها علاقة به، {فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ}، قال -جل وعلا- {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ}، لا يشعرون بأنها تراقبه وأنها تتبع الصندوق لتعرف أي سيستقر.
قال -جل وعلا- {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ}، وحرمنا عليه المراضع؛ أخذ هذا الطفل من الصندوق -رجعنا إلى موسى الآن-، يؤخذ هذا الطفل من الصندوق، جيء له بالمراضع التي ترضعه، هذا خلاص هذا أصبح إبن ملكة الفرعون، فجيء بالمراضع والله -تبارك وتعالى- منعه، التحريم هنا المنع، منعه هذا منع كوني قدري من أن يقبل ثدي إمرأة تلقمه قط، فكلما قدم له ثدي لا يقبله ويرفضه ويبكي طالبًا شيئًا أخر، {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ}[القصص:12]، يعني أن أخته جائت بطريق إما أنه قوم فرعون بعد ذلك ذهبوا ليبحثوا عن مرضعة، كل ما يجيبوا مرضعة على هذا النحو فجائت كأنها تدل على أمر وتقول أنا أعرف إمرأة مرضعة ممكن أن يقبل ثديها، فبالطبع هم كالذي يتعلق بقش، يريدون أي إمرأة ممكن أن يقبل هذا الطفل الرضيع ثديها، فرجعت الفتاة إلى أمها وأخذتها فديَّت، فقالت لهم {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ}، يعني يتكفلون بتربيته وإطعامه وإرضاعه، {وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ}، ويكونون ناس من أهل نصح له ويخلصون له ويربونه تربية جيدة، طبعًا في القصة أنهم وافقوا على هذا فذهبت إلى أمها فأتت بها إلى القصر، فلما قدم لها الطفل سكن إليها وقبل ثديها وإطمأنت به، طبعًا فرح أهل القصر بذلك.
قال -جل وعلا- {فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ}، انظر هذا، رددناه؛ رجعنا الولد إلى أمه بعد ذلك، لكن رجع بكفالة وبأنه أصبح من الأسرة الحاكمة، أصبح الآن فرد من أفراد الأسرة الحاكمة التي تحكم مصر وتتحكم في رقاب أهلها، رد هنا بقى بشهادة وبإستقرار وديَّت؛ بحماية، {فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ}، قال ديَّت، والذي دبر كل هذا هو الرب -سبحانه وتعالى-، انظر إلى نسبة الرب -تبارك وتعالى- هذه الأعمال كلها إليه، فهو الذي يدبرها وهو الذي يسيرها على هذا النحو حيث يريد -جل وعلا-، {فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ}، قال -جل وعلا- {كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ}، رددنا إلى أمه كي تقر عينها بوجود إبنها صغيرها بين يديها، وهي التي ترضعه وليس مرضعة أخرى ترضعه، يعني كان ممكن أن الله -تبارك وتعالى- يجعل أي مرضعة في القصر من غيرها ترضعه، وتطمئن أم موسى لكن إطمئنان جزئي، أن إبنها في أمان وهو في قصر فرعون وترضعه مراضع من غيرها، فيكون نوع من الرضا بأن إبنها مازال حيًا، لكن الله -تبارك وتعالى- أخبرها أنه هو سيرد إليها وقد كان، فإن الله -تبارك وتعالى- رده إليها، رتب له هذا الترتيب ودبر له هذا التدبير بألا يقبل ثديًا إلا ثدي أمه، فانظر عناية الرب -تبارك وتعالى-، قال -جل وعلا- {فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ........}[القصص:13]، لتعلم الأم هذا برهان من الله -تبارك وتعالى- أن وعد الله حق، وعدها الله وعد لابد أن يتحقق، فوعدها؛ قالها الله -تبارك وتعالى- قالها إرضعيه، إلقيه في اليم، ما تخافي، لا تحزني، هيرجعلك، فلما يرجع لها بعد هذه الساعات أو بعد هذا اليوم أو بعد اليومين على الأكثر، أن يكون يرد لها بعد ذلك ويتحقق موعود الله -تبارك وتعالى- لها على هذا النحو، علمًا بأن الرب لما أمرها؛ أمرها بأن تلقيه في مهلكة إضافة إلا المهالك التي تنتظره وتوتحشه من كل جانب، لكن ديَّت حتى يبين الله -تبارك وتعالى- لها أن إرادته نافذة، {........ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ}[القصص:13]، قال -جل وعلا- ولكن أكثرهم؛ أكثر الناس، لا يعلمون؛ لا يعلمون أن وعد الله حق، وأن ما شاء الله كان وأن ما لم يشأ لم يكن، وأنه لا راد لإرادته، وأنه إذا اراد شيء لابد أن ينفذه مهما كان، إذا أراد الله -تبارك وتعالى- شيئًا لابد أن تنفذ إرادته وإن أراد الناس كلهم غير ذلك، ولو لم يرد الله -تبارك وتعالى- شيئًا فلا يمكن أن يكون ولو أراد الناس كلهم غير ذلك، {فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ}[القصص:13].
ثم قال -جل وعلا- {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}[القصص:14]، ولما بلغ أشده؛ كمال القوة، الأشد؛ كمال القوة، والإنسان يبلغ كمال القوة في وسط الشباب، خمسة وعشرين، ستة وعشرين سنة، يبلغ الجسم كمال قوته، لكن القوة العقلية لا يبلغها الإنسان إلا في سن الأربعين، كمال القوة العقلية في سن الأربعين، وهي السن التي يرسل الله -تبارك وتعالى- فيها الرسل، لكن كمال القوة البدنية في سن من الخامسة والعشرين أو السادسة والعشرين يصل الإنسان إلى كمال قوته البدنية، ولما بلغ أشده في قوته البدنية واستوى، استوى؛ إكتمل، اكتمل كرجل مكتمل الرجولة، مكتمل القوة، لأن استوى الشيء بمعنى إكتمل، كما نقول استوى الطعام يعني بلغ حده ونضجه، {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا ........}[القصص:14]، آتيناه؛ أعطيناه، والرب الذي أعطاه -سبحانه وتعالى-، حكمًا وعلمًا؛ حكمًا على الأشياء، فيحكم على الأمور بالحكم الصحيح، وعلمًا بما يحتاج إلى علمه من علوم الغيب ومما غاب عنا ومن علوم ما يحيط من علوم الدنيا، فأعطاه الله -تبارك وتعالى- علمًا بهذا وهذا فكان متبصرًا عالمًا {آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا}، وهذا كله طبعًا قبل النبوة والرسالة، قال -جل وعلا- {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}، وكذلك؛ على هذا النحو من لطف الله -تبارك وتعالى- وعنايته بعباده المؤمنين، نجزي المحسنين؛ المحسن الذي يحسن في عمله، يجزيه الله -تبارك وتعالى- هذا الجزاء.
ثم قال -جل وعلا- {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا}، دخل المدينة؛ مدينة عاصمة البلاد التي يعيش فيها، على حين غفلة من أهلها؛ إما على حين غفلة من أهلها في وقت هدئة، إما أن يكون هذا في وقت ظهرهم؛ قيلولتهم، أو في وقت ليل والناس فيه أكثر الناس يعني الأسواق فارغة والسابلة قليلة، {فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ}، فوجد رجلين من الرجال يقتتلان وليس حولهما ناس، ما في من السابلة ومن الناس ومن الجموع أحد، {هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ}، هذا؛ واحد من الإثنين، من شيعته؛ شيعته جماعته بنوا إسرائيل، وهذا من عدوه؛ والثاني من القبط من أعدائه، وهم أعدائه بالضرورة لأن القبط أصبحوا معادين لبني إسرائيل، لأن سياسة الملك الآن تستضعفهم، تذبح أبنائهم، تستحي نسائهم، يسخرونهم في أحقر الأعمال، فالشعب كله يعني هذه الطائفة كلها؛ طائفة القبط، هي مع ملكها ضد هذه الطائفة التي يستضعفها فرعون وقومه، {وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ}، قال -جل وعلا- {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ}، يعني جاء الإسرائيلي وإستغاث موسى في أن يغيثه من هذا الذي يتعارك معه، الذي من عدوه؛ على القبطي الفرعوني، قال -جل وعلا- {فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ}، الوكز؛ الطعن، يعني أنه دفعه دفعة وكان في هذه الدفعة القوية من موسى هلاك ذلك ديَّت، قال -جل وعلا- {فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ}، أي قضى عليه أنه بالموت، مات من هذه الوكزة وهذا يدل على قوة وموسى، وطبعًا على أنه لم يرد قتله وإنما أراد دفعه، ولكن هذه الدفعة كانت من القوة بحيث أنها قتلته، فهذا قتل يعني شبه عمد، يعني لم يتعمد قتله وإنما تعمد دفعه ولكن كان في هذه الدفعة مقتله، قال -جل وعلا- {فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ}، قال؛ أي موسى، بعد أو وقع ما وقع من قتل القبطي، هذا الذي فعله من عمل الشيطان ومن وسوسته ومن تحريضه، فإنه غضب هذه الغضبة والتي كان فيها مقتل الفرعون على هذا النحو، إنه؛ إن الشيطان، عدو مضل مبين؛ عدو للإنسان، مضل يضله ويجعله يسير في طريق الضلال لا يسير في طريق الحق، مبين؛ بيِّن العداوة، بيِّن العداوة للإنسان، فعلم أنه قد فعل ما لا تحمد عقباه وأنه لم يؤمر بقتل هذه النفس وأنه لم يرد قتلها على هذا النحو لكنه قتلها، وعلم ما سيسببه هذا القتل بعد ذلك من المشاكل، فإنه سيفتح باب الآن من الأبواب لتسلط أخر لفرعون على بني إسرائيل، وكذلك لملاحقته هو.
{قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}[القصص:16]، قال؛ أي موسى -عليه السلام-، {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي}، ظلمت نفسي؛ أي بقتلي هذا الفرعوني، وهذا فعل شائن وقد وقعت فيه وهذا ظلم لنفسي لأنه معصية، فهي نفس لم يؤمر بقتلها ولم يؤمر بأن يقتل على هذا النحو، ما جاء أمر من الله -تبارك وتعالى- بالقتال فهذا ظلم، قال ظلمت نفسي بأني فعلت من الآثام ما جررته على نفسي، {فَاغْفِرْ لِي}، تائب إلى الله -تبارك وتعالى-، أراد التوبة من الله -تبارك وتعالى- والرجوع إليه، وأن يغفر الله -تبارك وتعالى- خطيئته في هذا، قال -جل وعلا- {فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}، غفر الله -تبارك وتعالى- له أولًا لتوبته ورجوعه إلى الله -تبارك وتعالى-، وكذلك لأن هذا الذنب وإن كان فعله إنما فعله دفاعًا عن ناس يظلمون ويطهدون هذه ناحية، وكذلك هو لم يرد قتله بالقتل وإنما أراد دفعه بالدفع وكان فيها مقتله، فاستجاب الله -تبارك وتعالى- دعاء موسى الذي استغفر ربه من هذا الفعل، قال -جل وعلا- {فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ}، -سبحانه وتعالى- الرحيم، والمغفرة هي الستر، رحيم بعباده –سبحانه وتعالى-.
قال؛ أي موسى بعد ذلك، {........ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ}[القصص:17]، رب؛ يعني يا ربي، ينادي ربه -سبحانه وتعالى-، بما أنعمت علي؛ يعني بإنعامك علي أي بالمغفرة وقبول إقالتي لهذه الذلة، {فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ}، لن؛ نفي الفعل في المستقبل، أن أكون؛ أنا، ظهير؛ الظهير هو المعين، يعني لن أكون معينًا للمجرمين، ويعني بهذا مثل هذا الإسرائيلي المتسبب لهذا، الذي حرض موسى على الدفاع عنه وقتل هذا الفرعوني، فقال مثل هؤلاء فاعلي الإجرام لن أكون ظهيرًا لهم، يعني لن أكون معينًا لهم في المستقبل، فكأنه قطع على نفسه وعاهد ربه -سبحانه وتعالى- أنه سيلتزم جانب الحيطة والصبر، وأنه لن يقع في هذا الأمر مرة ثانية، {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ}[القصص:17].
سنقف هنا -إن شاء الله- ونتم هذه الآيات -إن شاء الله- في الحلقة الآتية، أستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصل الله وسلم على عبده ورسوله محمد.