الجمعة 21 جمادى الأولى 1446 . 22 نوفمبر 2024

الحلقة (467) - سورة القصص 18-26

{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الفاتحة:2]، {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}[الفاتحة:3]، {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}[الفاتحة:4]، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا ونبينا ومحمد وعلى آله وأصحابه، ومن إهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}[القصص:16]، {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ}[القصص:17]، {فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ}[القصص:18]، {فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ}[القصص:19]، {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ}[القصص:20]، {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}[القصص:21]، يخبر -سبحانه وتعالى- عن عبده موسى -عليه السلام- أنه لما قتل ذلك الفرعوني بأن وكزه فقضى عليه، عند إستغاثه أحد من شيعته؛ من بني إسرائيل على هذا، وأن هذا الحدث كان في غفلة من أهل المدينة، قال -جل وعلا- {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا}، كان في هدئة من الناس المارة، ربما منعدمون أو قليلون وما في إلا هذين الشخصين فقط هما اللذان يقتتلان، قال -جل وعلا- {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ}، من جماعته بني إسرائيل، {وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ}، من القبط، قال -جل وعلا- {........ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ}[القصص:15]، {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي ........}[القصص:16]، قال -جل وعلا- {فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}، {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ}[القصص:17]، يعني أنه دعى ربه -سبحانه وتعالى- وعاهده أنه بما أنعم عليه بالمغفرة وتوبته فإنه في مستقبل الأمر لن يكون ظهيرًا للمجرمين.

قال -جل وعلا- {فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ}، خائف أن يكون هذا السر قد أفشي وقد رآه أو إطلع عليه وعلم من الذي قتل هذا وأنه موسى أحد الناس، بقي خائف يترقب ما الذي سيكون عليه الحال بعد أن يبدأ قوم فرعون التحري في الأمر ومعرفة من القاتل، قال -جل وعلا- {فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ}، وهو في حال التخفي والترقب للأمر وهل سيعرف من القاتل أو لا، وإذا بنفس الشخص الذي إستنصره بالأمس وقال له إلحقني يا موسى وإدفع عني، هذا ظالم يضربني يفعلني، فإذا به يستصرخه كذلك، يستصرخه يعني يصرخ له، يصرخ من أجله، يصرخ؛ يعلي صراخه لينقذه موسى من بطش وغلبة قبطي أخر يقاتله، فعند ذلك قال موسى لهذا الذي من شيعته لهذا صاحب هذه المشاكل؛ الذي فعل الخصومة السابقة والشجار السابق واليوم عمل شجار أخر، {قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ}، إنك؛ يعني أيها الشخص، لغوي؛ يعني تغوي غيرك، مبين؛ بيِّن الغواية، فإنه دائمًا يكون في مكان المستضعف ويستعدي عليه من يستعدي، يستعدون عليه؛ يضربونه وديَّت، يكون في حال المستضعف ويستغيث ديَّت ولابد أن يكون هناك من يغيث، كيف يصبر موسى على شخص يستغيثه على هذا النحو وهناك من يضربه أو من يهينه ولا يدفع عنه، ولكن الدفعة الأولى كان فيها قتل شخص، الدفعة الأولى جائت بشيء من القوة فإنها قتلت شخص، {قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ}، يعني بيِّن الغواية.

قال -جل وعلا- {فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا}، وتوجه موسى إلى أن يبطش بالذي هو عدو لهما، يبطش به بمعنى البطش هنا ضربه ودفعه وإبعاده عن ظلم ذلك الإسرائيلي، {فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ}، بمجرد الإرادة والتوجه شاف إنه متوجه ليبطش بذلك الفرعوني، {قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْسِ}، قال؛ الصحيح أن هذا القائل هو الإسرائيلي، وظن أن غضب موسى لما قاله إنك لغوي مبين على هذا النحو أنه أراد أن يؤدبه هو وأن يمنعه هو من هذا الأمر، وأنك صاحب غواية يعني كأنك تعمل كل يوم مشكلة من المشاكل، وظن هذا الإسرائيلي أن موسى سيبطش به هو ولن يدفع عنه عدوه، قال؛ أي ذلك الإسرائيلي لموسى، {يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْسِ}، فكان من شأنه أن أفشى سر موسى وقال له أتريد أن تقتلني؛ يعني أنا اللي هو الإسرائيلي، كما قتلت نفسًا بالأمس؛ كما قتلت الفرعوني بالأمس، {إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ}، {إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأَرْضِ}، فهنا توجه الإسرائيلي ليتهم موسى بهذا الإتهام وأنه يريد أن يكون جبار في الأرض، ومعنى الجبار هو القاهر الظالم، في الأرض؛ في أرض مصر، {وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ}، وذلك أن موسى إنما قائم بأمر الإصلاح، ما تريد أن تكون من المصلحين بهذا الأمر، فخشي على نفسه فقال هذه المقالة، هذا هو الصحيح في سياق الآية وأقوال أهل العلم بالتفسير.

قال أخرون بأن قائل هذه المقالة إنما هو الفرعوني، لما أراد موسى أن يبطش به وأن يدفعه عن الإسرائيلي قال هذه المقالة، قال يا موسى أتريد أن تقتلني؛ وهو الفرعوني، كما قتلت نفسًا بالأمس؛ مثل ما قتلت أحد بالأمس، {إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأَرْضِ}، ما تريد إلا أن تكون جبارًا في الأرض، {وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ}، فيما تزعم من أنك داعي إلى الإصلاح، وقول هذا من الفرعوني دليل على فساد الحكم وفساد التذوق والنظر إلى الأمور، فإنه يرى الحال هو نفسه وجماعته يروا أنهم في مقام الإذلال لبني إسرائيل، وأنهم يستذلونهم على هذا النحو، فإذا كان مرة واحد دافع عن نفسه ووقع منه هذا يصبح بعد ذلك أنه يصبح جبار في الأرض؛ ولا يريد أن يكون من المصلحين، فهذا على القول الأخر بأن قائل هذه المقالة هو الفرعوني وليس الإسرائيلي، لكن هذه المقالة لا شك أنها مرجوحة؛ يعني من يقول بأن قائل هذه المقالة هو الفرعوني مرجوحة، لأن أولًا لم يكن أحد يعرف أن موسى هو القاتل إلا هذا فقط؛ إلا الإسرائيلي الذي دافع عنه موسى، لأن الله قال {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ}، فلم يكن ثمة إلا هذين الرجلين يقتتلان ولم يراه أحد، وأحدهم قتل وهو الفرعوني وبقي هذا الإسرائيلي الذي علم أن موسى هوالقاتل، وأن مقالته هذه إنما هو أن الله قال {فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا}، وجاء يتكلم هذا وقال له إنك لغوي مبين، قال هذا إنك لغوي مبين قالها للإسرائيلي، وأن أمس لك مشكلة واليوم هذي مشكلة ثانية تفعلها، {إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ}، فظن أن شدة موسى عليه في الخطاب وعزمه بعد ذلك على البطش إنما ستكون به هو وليس بالفرعوني، فعند ذلك أفشى سر موسى وقال {أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْسِ}، فعند ذلك إلتقطها القبطي وذهب بها إلى بلاط الفرعون ورجال الحكومة، ليخبرهم أن الذي قتل إنما هو كذا، وكان الشأن تخاصمت مع إسرائيلي ثم أتى موسى وقال الإسرائيلي كذا، قال {أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْسِ}، أفشي السر وعرف الأمر ووصل أمر موسى إلى فرعون نفسه.

قال -جل وعلا- {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ}[القصص:20]، {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ}، قيل أن هذا الرجل هو مؤمن آل فرعون، وعلى كل حال سواء كان هو المؤمن الذي آمن بعد ذلك؛ مؤمن آل فرعون، أو كان رجل أخر فهذا رجل كان من بلاط فرعون، وقد علم بالقرار الذي إستقر عليه أمرهم في المشاورة في أمر موسى، وأنه لابد من قتله بعد أن قتل رجلهم، {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ}، أبعدها، أتى لموسى في مكانه، يسعى؛ السعي هو المشي السريع، وأسر لموسى بهذا السر وقال له {يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ}، الملأ هم علية القوم، وهذا فرعون في بلاطه، {يَأْتَمِرُونَ بِكَ}، الآن مجتمعين وقد عقدوا مؤتمرهم يأتمرون بك ليقتلوك، وأن قرارهم قد قر على قتلك، {فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ}، لا بقاء لك في أرض مصر، في أرض مصر سيلاحقونك، إن أخذوك قتلوك، فأخرج؛ أي من أرض مصر، إن لك من الناصحين؛ أنا ناصح لك، والناصح هو المخلص الذي لا يغش، يعني أنا ما أغشك في هذا ولا أريد أن أخرجك لتخرج، ولكن هذا نصحي لك وإخلاصي لك أن تخرج من أرض مصر حتى تنجوا بنفسك قبل أن تلحقك شرطة فرعون فتقتلك، {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ}[القصص:20]، فأخذ موسى بنصيحته وعلم أن هذا الأمر جد وأنه مقتول إن بقي.

قال -جل وعلا- {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}[القصص:21]، فخرج منها؛ من أرض مصر، خائفًا؛ حال كونه خائفًا، من أن يلحقه الطلب أو أن يعلم بخروجه أحد منهم، يترقب؛ يترقب يعني حصول أي أمر من الخطر في اللحاق به وأخذه، قال؛ وهو متوجه إلى الله -تبارك وتعالى-، رب؛ يعني يا ربي، نجني من القوم الظالمين؛ نجني من القوم الظالمين اللي هم قوم فرعون أهل الظلم ديَّت، فانظر يعني مجرد إنسان يدافع عن نفسه، مجرد دفاع عن نفسه ودفاع عن هذا يصبح هو المجرم، وأما هم بإجرامهم وقتلهم للذرية وتذبيحهم لهذا هذا أمر نعم؛ هذا من حقهم أن يفعلوه، ولكن لمجرد أن إنسان دافع عن نفسه مجرد مدافعة وقتل إنسان بطريق الخطأ؛ مو الخطأ شبه العمد، لا يريد قتله لكن هذا يقتل، هذا يصبح بعد ذلك هو ضد الدولة وضد الحكم وضد كذا وفعل هذا فهذا يحكم عليه بالقتل، وأما هم في إجرامهم وسعيهم بالفساد في الأرض وإذلالهم الأخرين وقتلهم وفعلهم هذا الفعل؛ كل هذا بالنسبة إليهم هو أمر من حقهم أن يفعلوه، {........ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}[القصص:21]، وكان هذا التدبير من الله -تبارك وتعالى- تدبير لما بعده، أن يخرجه الله -تبارك وتعالى- من أرض مصر ليسير في طريق، يقطع شبه جزيرة سيناء ويخرج إلى مدين في وادي الأردن، ثم يعود بعد ذلك فتكون غيابه في هذه الفترة عشر سنوات التربية والتعليم والمعاناة والمقاساة وليتربى، وأنه هو سيكون بعد ذلك قائد المسيرة؛ قائد مسيرة قومه من مصر إلى بلاد الشام، فلابد أن يكون هو بقى يعرف الطريق ويعرف ديَّت، فهيأ الله -تبارك وتعالى- له هذا ليعرف الطريق بنفسه ويسيره ويأخذه، ثم يتربى في مدين بأمر شديد، يرى الغربة وأن يكون أجيرًا عاملًا، يعني هيأ الله -تبارك وتعالى- له من الدروس ما يكون له بعد ذلك تأهيل له ليكون بعد ذلك المخلص والقائد.

قال -جل وعلا- {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ}[القصص:22]، لما توجه فين يذهب من أرض مصر إلى غيرها، أقرب مكان يكون بعيد عن حكم فرعون هي مدين، ومدين هي الأردن؛ جنوب الأردن، توجه إلى هناك فرارًا بنفسه، {........ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ}[القصص:22]، ما عنده هادي يهديه، مرشد يرشده الطريق، معين يعينه، ما عنده وسيلة يركبها وإنما سيسير على قدميه في هذا الطريق الشاق البعيد، {........ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ}[القصص:22]، دعاء له من الله -تبارك وتعالى- عسى أن يهديه الله -تبارك وتعالى- سواء السبيل، السواء هو الوسط، وسط السبيل ووسط الطريق هو الذي يكون الإنسان أمكن فيه من الهداية، يعني الطريق السوي الذي يأخذه ويتوجه به رأسًا، فلا أضل ولا أضيع حتى أصل إلى المكان الآمن، {........ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ}[القصص:22]، السبيل هنا الطريق الحسي الدنيوي، وليس سواء السبيل طريق الله -تبارك وتعالى- اللي هو الصراط المستقيم، وإنما سواء السبيل الطريق المستقيم الذي يخرجني من أرض مصر إلى هذا المكان الآمن.

قال -جل وعلا- {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ}[القصص:23]، {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ}، ورود ماء مدين؛ البئر التي يسقون منها، وهذه أرض مدين منطقة صحراوية رعوية، أهلها رعاة أغنام وإبل، فذهب إلى وين يتوجه لما وصل مدين؟ وصل في البادية إلى الماء الذي يسقون به، والله يقول لما ورد مائهم {وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ}، وجد تجمع كبير، جماعة كثيرة يسقون من هذه البئر الواحدة، وكلٌ أتى بغنمه أو بإبله ليسقي من هذا المكان، {وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ}، يعني يسقون أنعامهم، {وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ}، وجدا إمرأتين منعزلتين بعيدتين عن الناس، تذودان؛ تجمعان أغنامهما بعيد في مكان منعزل عن زحمة القوم؛ الأمة الذين على البئر، {قَالَ مَا خَطْبُكُمَا}، بشهامة الرجل وبنجدته، يعني إمرأتين مع غنمهم، منعزلتين بعيدتين، فأتى إليهم وقال -جل وعلا- قال لهما ما خطبكما؟ ما خطبكما؟ الخطب اللي هو الأمر والخبر الخطير الذي هم فيه، ما خطبكما؟ يعني منعزلتين بعيدتين عن الناس، {قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ}، يعني قالت نحن إناث؛ بنات، ولا نستطيع أن نزاحم الرجال في إخراج الماء من البئر، فحتى يكتمل الرعاء جمع راعي، فكل هؤلاء الرعاة إذا إنتهوا من سقي غنمهم ومواشيهم عند ذلك يفرغ البئر ونذهب نحن فنسقي بعدهم ونأخذ غنمنا بعد ذلك، {قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ}، وهذا من كمال أدبهما وكمال أخلاقهما، أنهما لا تزاحمان الرجال في سقي الماء على هذا النحو والخلوص إلى البئر ويصير مزاحمة وخلطة على هذا النحو، فيبقوا حتى ينتهي الرعاة من سقي مواشيهم فتذهبان، ثم قالوا {وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ}، وأبونا شيخ كبير يعني لا يقوى على جلب الماء والرعي معنا، فنحن الذي نقوم بهذا العمل وأبونا رجل كبير؛ شيخ، الشيخ هو الذي كبر سنه، وكذلك تأكيد على أنه كبير وبالتالي أنه قد أصبح طاعنًا، شيخ وكان طاعن في السن كذلك لا يستطيع أن يفعل شيئًا من ذلك.

قال -جل وعلا- {فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ}[القصص:24]، موسى رجل وفتى ومكتمل الرجولة وأتى، أتى أدخل أغنامهم وسقى لهم مع من يسقون، فزاحم الناس كما يقال زنوب لي وزنوب لك، حرب سيجال، وسيجال مأخوذ من إنك هذا السجل يأخذه شخص ويلقي الأخر سجله فيأخذه هذا وهكذا، فالبئر لا يسقي منها واحد فقط وإنما يسقي منها أكثر من واحد، فكلٌ يلقي دلوه ويخرج وهذا الثاني يلقي دلوه، هذا دلو لك ودلو لغيرك، {فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ}[القصص:24]، سقى لهما ثم تولى بعد ذلك إلى الظل؛ ظل شجرة، وجلس مهموم غريب لعله في هذا الوقت جائع، قطع هذه المسافات الطويلة وحده وليس عنده شيء، ولعله لم يكن كذلك تزود بمال ولا غيره ما عنده، فجلس جلسة المنكسر الفقير المحتاج، فقال رب؛ يعني يا ربي، {إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ}، محتاج إلى عطائك، الفقير هو المحتاج الملجأ، محتاج إلى عطائك ومنك، {لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ}، وهنا قال أنزلت يعني تنزل، فكمأنه متيقن من الإجابة، وأنه محتاج إلى ما يؤتيه الله -تبارك وتعالى- من الخير، قال {........ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ}[القصص:24]، وقوله أنزلت ما قال لما تنزل لأنه يعلم بأن دعائه محقق، ولابد أن ربنا –سبحانه وتعالى- يستجيب دعائه.

وحقق الله -تبارك وتعالى- رجائه في التو واللحظة، قال {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ}، على طول كأنه ما كاد يفرغ من دعائه إلى الله -تبارك وتعالى- إلا جائته إحدى المرأتين؛ الفتاتين، تمشي على استحياء؛ أنها تمشي على استحياء لأنها ستكلم رجلًا غريبًا، رجل ما هو معروف؛ غريب، وتأتي ديَّت وتدعوه إلى البيت فهذا أمر طبعًا ديَّت؛ حيية ديَّت، تمشي على استحياء والحياء أكمل الصفات في المرأة، {قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا}، كلام محدد واضح وهدف واضح، إمرأة تدعوا رجل إلى البيت فقالت إن أبي يدعوك؛ أول شيء ذكرت أن الأب هو الذي يدعوا، إن أبي يدعوك؛ أي إلى البيت {لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا}، صنعت جميلًا ونريد أن نرد لك هذا الجميل، {يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا}، هذا أجر، هذا جميل فعلته وطبعًا فعله بغير مشراطة وبغير أجر، ولكنه فعله مروئة منه وهمة وتفضلًا ولكنهم يريدوا أن يكافئوه بهذا الجميل، موسى طبعًا لم يمتنع عن قبول هذه الدعوة من رجل، ولعل في قبول هذه الدعوة باب من أبواب الخير، قال -جل وعلا- {........ فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}[القصص:25]، فلما جائه؛ يعني ذهب موسى مع هذه الفتاة، وقيل أنها سارت خلفه وتدله على الطريق من كمال الأدب وحسن الخلق، ولما جائه؛ دخل على هذا الشيخ الكبير وقص عليه القصص، طبعًا هذا رجل غريب، ما الذي أتى بك إلى هذا المكان؟ أنت منين جاي؟ من أنهي ديَّت؟ فقص قصته، والله شأني هذا هو من البداية إلى النهاية، قص ما كان له؛ ما كان من شأن موسى -عليه السلام- في مصر، قال -جل وعلا- {وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ}، ما هي قصة واحدة؛ فقط قصة مجيئه، وإنما قص عليه القصص كله من بداية الأمر، قصته في ولادته، في ما فعلت فيه أمه عندما ألقته، في أخذ قوم فرعون له، في حياطة فرعون، في نشأته، قص قصته كاملة بل كل قصصه كاملًا بين يدي هذا الرجل الصالح، قال؛ أي ذلك الرجل الصالح، لا تخف خلاص {نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}، يعني قد نجوت من القوم الظالمين، هذا الآن الموضع من أرض أخرى؛ مكان أخر، فرعون لا يصل سلطانه إلى هذا المكان وأنت الآن في أرض آمنة بعيد عن هؤلاء القوم الظالمين وأنت قد نجوت منهم، {قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}.

فتبرأت إحدى الإبنتين {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ}[القصص:26]، دعت أباها وقالت يا أبتي إحداهما؛ إحدى الإبنتين، {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ}، يعني إجعله أجيرًا عندنا، {........ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ}[القصص:26]، إما أن يكون هذا من كلام الفتاة وهذا يدل على كمال عقل وكمال لب، خير من يستأجر القوي الأمين، قيل أنها علمت هذا من شأن موسى -عليه السلام-؛ من شأن قوته، أنه كان ينزع من البئر نزعًا ليس كالرجال، الزنوب العظيم الذي ينزعه مجموعة من الرجال هو ينزعه، وكذلك أنه دحرج بعد ذلك غطاء البئر؛ حجر عظيم، يحتاج إلى مجموعة من الرجال حتى يرفعوه ويغطوا به البئر، هو نتعه ورفعه وحده فوضعه، فأبدى من قوة عظيمة؛ قوة بدنية عظيمة، ثم من أمانة؛ الوقت القليل الذي رأته فيه دل على أمانته، إما غض بصره؛ أنه لم يخرج كلمة من هنا كلمة من هناك، فدل كل تصرف الذي تصرفه يدل على أمانته وشهامته وأنه من عباد الله -تبارك وتعالى- الصالحين المتقين، أو أن يكون هذا من كلام الله -تبارك وتعالى- يعني بيان ليا أبت إستأجره، أن على ذكر الأجير فيكون توجيه من الله -تبارك وتعالى- أن خير من تستأجر القوي الذي يستطيع أن يقوم بديَّت، طبعًا القوة المناسبة للعمل الذي سيقوم به، فمن تستأجره في رعاية الغنم يحتاج إلى قوة بدنية وقوة ملاحظة وقوة عقلية وقوة في الإرادة المعينة، قوة عاطفة يحوط هذه الرعية، وكذلك كل من يستأجر لعمل لابد أن يكون قويًا فيه.

{........ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ}[القصص:26]، الأمين على المال على السر ديَّت، فيكون هنا توجيه من الله -تبارك وتعالى- ولا شك أن الجمع بين هذين الأمرين هما الكمال في من يقوم بالأمر، كل من يقوم بالأمر من الخليفة إلى أصغر عامل، الخليفة عامل، فالخليفة الحقيقي القائم إذا كان قويًا في الأمر أمينًا فهذا هو ديَّت، وأصغر عامل ديَّت، الكل أجراء، الكل أجراء، كما قال أحدهم لمعاوية إبن أبي سفيان -رضي الله تعالى عنه- السلام عليك أيها الأجير، فقيل له قل أيها الأمير، فقال دعوه فإنه أعلم، وقال له أنت أجير إستأجرك هؤلاء دول رعية، استأجرك ربها لتقوم عليها وتحسن إليها، فأنت مستأجر؛ أي من الله -تبارك وتعالى- ديَّت، وأجرتك على الله -عز وجل-، فلا شك أن كل من يقوم بأمر ويستعمل عليه فهو أجير عنده، كما قال النبي «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام راعٍ وهو مسئول عن رعيته، والرجل في بيته راعٍ وهو مسئول عن رعيته، والمرأة في بيت زوجها راعية وهي مسئولة عن رعيتها، والخادم في مال سيده راعٍ وهو مسئول عن رعيته، فكلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته»، فيكون توجيه من الله -تبارك وتعالى- أن خير الأجراء هو الذي يجمع بين القوة والأمانة، القوة والأمانة، أما إذا كان أمين وضعيف فإنه لا يصلح، وإذا كان كذلك قويًا وخائنًا فإنه لا يصلح، القوة والأمانة.

سنقف عند هذا -إن شاء الله- ونكمل في الحلقة الآتية، أستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصل الله وسلم على عبده ورسوله محمد.