الجمعة 29 ربيع الآخر 1446 . 1 نوفمبر 2024

الحلقة (468) - سورة القصص 26-33

{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الفاتحة:2]، {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}[الفاتحة:3]، {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}[الفاتحة:4]، والصلاة والسلام على النبي الأمين، المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن إهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ}[القصص:26]، {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ}[القصص:27]، {قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ}[القصص:28]، {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ}[القصص:29]، {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}[القصص:30]، كنا قد وصلنا في الحلقة الماضية مع آيات سورة القصص إلى قول الله -تبارك وتعالى- {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ}، إحداهما؛ إحدى الإبنتين اللتين سقى لهما موسى -عليه السلام-، عندما توجه بعد قتله للفرعوني وإنكشاف أمره ومعرفة القوم به، ومجيئه أن رجل أتاه من قوم فرعون ممن كان في بلاط الملك، وقال له {........ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ}[القصص:20]، فخرج من أرض مصر وتوجه إلى أقرب أرض بعيدة عن سلطان ملك مصر وهي مدين، وهي الحالية شرق الأردن في الوقت الحاضر إلى جهة معان، لما خرج الله -تبارك وتعالى- قال {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ}[القصص:22]، ثم لما ورد ماء مدين؛ ناس بادية رعاة، لما وجد الماء الذي يسقون منه وجد عند الماء أمرأتين تذودان غنمهما بعيدًا عن زحمة القوم، فقال لهما ما شأنكما؟ {قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ}، لا نستطيع أن نزاحم القوم عند البئر، فحتى يصدر الرعاء؛ يخرجوا وينتهوا من سقاية أغنامهم نأتي نحن ونسقي، نحن بنات لا يزاحمن الرجال، فسقى لهما، زاحم هو الرجال وأخرج من البئر وسقى غنمهما، ورجعتا مع القوم في البكور، حتى قيل إن أباهما إستنكر عودتهما هذه المبكرة، فأخبرتاه بما كان من شأن هذا المصري، قالوا له رجل مصري موجود عند الماء وسقى لنا الغنم، فأمرهما؛ أمر واحدة أن تذهب وتدعوه.

قال -جل وعلا- {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ ........}[القصص:25]، أي موسى جاء الرجل، هذا الرجل تذكر التوراة أنه هو كاهن موديان، ومعنى الكاهن لم تسميه نبيًا وذلك أن من كتبوا التوراة لم يذكروا فقط من الأنبياء إلا أنبياء بني إسرائيل، ولم يذكروا قط أنبياء غير الذين تناسلوا من نسل إسرائيل، بعد وجود إسرائيل إبراهيم فإسحاق فيعقوب فيوسف وهكذا إلى آخر أنبياء بني إسرائيل، طبعًا عيسى من أنبياء بني إسرائيل ولكنهم أنكروه وجحدوه وقالوا ليس بنبي، وسعوا في قتله حتى رفعه الله -تبارك وتعالى- إليه، الأنبياء الأخرون الذين أرسلهم الله -تبارك وتعالى- من غير بني إسرائيل كهود -عليه السلام-، وصالح -عليه السلام-، وشعيب كذلك الذي كان في أرض مدين، لم يذكروهم قط في التوراة، وإنما ذكروا بالنسبة لمدين أنها كان فيها كاهن ما ذكروه بنبوة ولا برسالة، وهذا من تعصب اليهود ديَّت، وجعلهم أن رسالة الله -تبارك وتعالى- إنحصرت فقط في نسل إسرائيل وهو يعقوب، وأن هؤلاء هم شعبه المختار الذي يرسل فيهم الأنبياء ويرسل فيهم الدين، وأما من هم خارج هذا الشعب فإنهم لا يستحقون هداية الرب -تبارك وتعالى-، لذلك عبروا عن هذا الرجل الصالح الذي كان في مدين بأنه مجرد كاهن.

الله -تبارك وتعالى- أخبر بأنه رجل صالح، هل هو شعيب -عليه السلام- الذي كان في هذا؟ لم يأتي القرآن بذكر أنه شعيب -عليه السلام-، يحتمل أنه شعيب وهو الذي زوج موسى، ويحتمل أنه رجل صالح في أرض مدين، فلما جائه موسى وقص عليه قصته؛ قصة خروجه من مصر، قال له نجوت لا تخف، قاله لا تخف نجوت، يعني خرجت من سلطان حاكم مصر وأصبحت في أرض بعيدة عن سلطانه، قال {نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}، ثم عرضت إحدى الإبنتين على أبيها قالت {........ يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ}[القصص:26]، وقد ذكرنا في الحلقة الماضية بيان هذه العبارة العظيمة {........ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ}[القصص:26]، فإن كانت من كلام هذه الفتاة فهذا من كمال العقل والفهم، وإن كانت من كلام الرب -سبحانه وتعالى- تعقيبًا على قول هذه الفتاة {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ}، أنها طلبت إستئجاره، وقول الله -تبارك وتعالى- {........ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ}[القصص:26]، وأن موسى -عليه السلام- إجتمع فيه هذا؛ الأمانة وكمال القوة، وخاصة في العمل الذي سيقوم به إنما سيستأجر في رعاية الغنم، فأمين وقوي وهذا الجمع بين القوة والأمانة لا شك أنه هما العنصران الأساسيان في كل شخص يتولى عملًا ما، فإذا كان قويًا فيه أمينًا كان هذا هو الأجير المثالي، بدءًا بالخلافة العظمى ونهاية بخادم يقوم بأي عمل، فالخلافة العظمى لا تصلح إلا بقوة وأمانة، خليفة قوي، شجاع، قوي القلب، ليقوم بواجب الجهاد في سبيل الله، أمين على أموال الأمة وديَّت، كما تحقق هذا في الخلفاء الراشدين وكذلك من كان على نمطهم وأمثالهم من أهل القوة والشجاعة، وكذلك أهل الأمانة.

{........ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ}[القصص:26]، القوة وحدها مع الفجور لا تصلح، والأمانة مع الضعف كذلك لا تصلح، وكان عمر إبن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- يشتكي ويقول ((اللهم إني أشكوا إليك جلد الفاجر وعجز التقي))، فاجر ويكون جلد قوي على عمله ولكنه في فجور، في ظلم، في تعدي، وعجز التقي؛ قد يكون تقي مؤمن بار أمين ولكنه عاجز عن القيام بالعمل، أما إجتماع القوة والأمانة في رجل هذا أمر قد يكون نادر وهذا هو ملاك الأمر، والنبي يقول «الناس كإبل مئة لا تجد فيها راحلة»، إذا كان إنسان عنده مئة من الإبل فقل ما يجد واحدة تصلح للسفر الطويل وعندها الصبر الطويل، ناقة تصلح لأن تكون راحلة؛ يعني ترحل وتسافر، فإن أكثر الإبل لا تحتمل جلد السفر الطويل، وهكذا الناس يخبر النبي هذا المثال ضربه للناس، أنه الشخص الأمين الجلد الصبور الذي يقوم الأمانة والصبر والجلد قليل في الناس، على كل حال قال الله -تبارك وتعالى- {........ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ}[القصص:26].

فعرض صاحب مدين؛ هذا الرجل الصالح، عرض على موسى هذا العرض، {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ}، إني أريد؛ يعرض عليه هذا العرض، أن أنكحك؛ أزوجك، النكاح هنا بمعنى الزواج، {إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ}، ولعله عرض لم يعرض الكبرى عن الصغرى ولم يعرض الصغرى وإنما ترك الإختيار هنا، ليكون ثمة إختيار لموسى لمن تقع في قلبه، ويكون هذا أكمل لدوام العشرة وإستقرار الأمر، {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ}، تصبح أجير عندي ثماني حجج؛ يعني ثماني سنوات، السنة يعني الحجة سنة، {فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ}، يعني إن أتممت وجعلت هذي عشر يكون هذا تطوع من عندك وليس من قبيل الإلزام والشرط، فيكون المهر الذي يدفعه للفتاة؛ مهر الزواج، هو أن يكون أجيرًا عند شعيب -عليه السلام- إن كان هو شعيب، أو هذا الرجل الصالح يكون أجيرًا عنده ثماني سنوات، قبل موسى هذا العرض ورآه أنه مناسب للبقاء، فهذا مأوى رزقه الله -تبارك وتعالى- إياه، وهذا زواج بعد ذلك، ثم هذا عمل على كل حال محبب إلى نفسه، وما من نبي إلا ورعى الغنم كما قال النبي -صلوات الله والسلام عليه- «ما من نبي إلا ورعى الغنم»، كأن هذه تهيئة للنبوة، حتى قيل للنبي -صل الله عليه وسلم- وأنت يا رسول الله؟ فقال نعم، رعيته على قراريط لأهل مكة؛ لبعض أهل مكة، يعني كان النبي في شبابه فإستؤجر على قراريط، والقيراط كالفلس يعني عملة أصغر العملة، فالقيراط أصغر من الدرهم والدرهم طبعًا أصغر من الدينار، فقال أنه رعى الغنم أجيرًا على هذه القراريط القليلة، هذا كان شأن موسى -عليه السلام-، قال موسى بعد ذلك لذلك الرجل الصالح، بعد أن قال له ...، قال الرجل الصالح لموسى {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ}، يعني أكثر من هذا، {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ}، ستجدني -إن شاء الله- في صحبتك وفي هذا العقد الذي عقدناه من الصالحين؛ من الناس الصالحين، فلا يكلف أجيره ما لا يتحمل ويوفي عهده وعقده معه ويحسن صحبته.

فقال له موسى {قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ}، يعني هذا عهد بيني وبينك، {أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ}، قاله أنا مخير في أي أجل أقضيه؛ ثمن سنوان أو عشرة سنوات، فلا عدوان علي؛ لا يكون هناك عدوان علي في إلزامي للعشر أو تركي للعشر والبقاء على الثمانية، {وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ}، جعل الله -تبارك وتعالى- شهيد ومتوكل بهذا الأمر، وكيل علي ووكيل عليك، يعني قائم ومتولي أمرنا وهو ناظر إلينا وهو شاهد -سبحانه وتعالى- لعقدنا، {وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ}، هذه نقلة نقل الله -تبارك وتعالى- موسى -عليه السلام- من مصر إلى أرض مدين على هذا النحو، وفيها كثير من الدروس له والعبر، أول درس هو سيره هذه المرحلة على قدميه، ولعل هذا كان تمهيدًا من الرب -تبارك وتعالى- ليعلمه، لأنه سيأتي وقت يخرج ببني إسرائيل من مصر سالكًا نفس الطريق ليخرج بهم إلى أرض مدين، الأمر الأخر أن يكون أجيرًا، والإنسان إذا كان أجير فإنه يكتسب كثير من الفضائل، أولًا التواضع والإحساس بحال فقراء الناس وديَّت، كذلك المعاناة والتربية؛ يتربى على عمل شاق، هذا عمل من الأعمال لا شك أن رعاية الغنم والخروج بها من فجر اليوم والرجوع بها في المساء ورعاية هذه وسقاية هذه عمل فيه مشقة، وفيه تعرض للحر والبرد والمقاساة، فهذا يتربى بها الإنسان وذلك ليكون في كمال رجولته رجل، يتحمل الأعباء التي ستلقى على عاتقه بعد ذلك من رعاية أمة وقيادتها وتعليمها وصيانتها، هذا المكث الطويل بعد ذلك لا شك أنه فيه مجال للنظر والإعتبار، ومكث بعيد عن ذل الحياة التي تعاش في مصر، وليكون في هذه البرية مجال بعد ذلك لصفاء الذهن وصفاء العقل والإستعداد لحمل رسالة الرب -سبحانه وتعالى-.

ثم قال -جل وعلا- {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ}، الأجل؛ الصحيح أن موسى قضى كما قال إبن عباس أطول الأجلين؛ اللي هو عشر سنوات، يعني كان موسى كريمًا مع الرجل ولم يقف عند الثماني سنوات بل جاوزها إلى العشر سنوات ووفى هذا، {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ}، الأجل المضروب بينهم وهي العشر سنوات، {وَسَارَ بِأَهْلِهِ}، أخذ زوجته وسار بها راجعًا إلى مصر، عشر سنوات كافية لتقدام قضيته، وأن تسقط حادث القتل عن المصريين؛ لا يطالبونه بالدم، ويظن بعد ذلك أن هناك المجال ليعود ليعيش مع إخوانه وأهله في مصر، {وَسَارَ بِأَهْلِهِ}، قال -جل وعلا- {آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا}، لما كان في سيناء والطور هو الجبل، آنس منه نارًا؛ من جانب الطور ظهر في جانب الجبل؛ جبل الطور، آنس منه نارًا؛ رأى نارًا من بعيد، {قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا}، في المنزل الذي نازل فيه وكان هذا ليلًا، قال لأهله امكثوا؛ يعني أبقوا في المكان الذي أنتم فيه لم يأخذهم معه، إن آنست نارًا؛ في نار من بعيد، ودائمًا في البرية إذا رأى الإنسان نار فالنار يكون عندها ناس، العادة أن النار تشتعل ناس هناك عندها، {إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ}، لعلي آتيكم منها بخبر؛ ممن حول هذه النار أو ممن أشعلها أن يخبرني عن الطريق، قيل أنه في هذا الوقت ضل الطريق إلى مصر، {أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ}، الجذوة هي شعلة النار التي تكون في رأس عود أو مشعال؛ تكون فيه ديَّت، جذوة؛ قطعة من النار، لعلكم تصطلون؛ تتدفئون، لعلكم تتدفئون بها، وهذا يشعر أن في هذا الوقت كان في ليلة باردة، شاتية، مظلمة، ضل الطريق، رأى النار من بعيد، فقال لأهل هذه المقالة.

قال -جل وعلا- {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}[القصص:30]، لما أتى النار وجد أن هذه النار تشتعل في شجرة لكن لا تحرقها، ليست كالنار المعهودة التي تأكل الشجر، وإنما شجرة مورقة وهذه النار بمثابة نور يخرج منها فتظهر على شكل النار لكنها ليست كالنار، {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ}، نودي؛ الذي ناداه الله -تبارك وتعالى-، {مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ}، شاطئ؛ ناحية، الوادي؛ الوادي الذي يكون بين الجبال، الأيمن؛ بالنسبة إليه إلى يمينه، {فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ}، بقعة مقدسة كما قال له الله -تبارك وتعالى- في الآية الأخرى قال يا موسى {........ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى}[طه:12]، {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى}[طه:13]، {........ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}[القصص:30]، جائه هذا النداء وإذا بهذا النداء من الله -تبارك وتعالى-، يخاطبه الله -تبارك وتعالى- بكلام وبنداء يسمعه، ويقول له الله -تبارك وتعالى- إن أنا الله؛ المتكلم، {إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}، الله؛ بهذا الإسم المعلوم لكل الأمم والشعوب، إسم العلم على الله -تبارك وتعالى-، ووصفه أنه رب العالمين؛ كل العوالم، العالمين جمع عالم، والعالم هو الخلق الذي يجمعهم صفات واحدة، السماء عالم والأرض عالم والبحار عالم والملائكة عالم والجن عالم والإنس عالم، الله -تبارك وتعالى- رب هذه العوالم كلها -سبحانه وتعالى- رب العالمين، ربها؛ خالقها، مالكها، المتصرف فيها، سيدها، الحاكم فيها -سبحانه وتعالى-، الذي لا معقب لحكمه ولا راد لأمره -سبحانه وتعالى-، {إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}.

{وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ}، أمره الله -تبارك وتعالى- أن يلقي العصا التي في يده، وقد جاء أن الله -تبارك وتعالى- قبل هذا سأله عنها فقال {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى}[طه:17]، {قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى}[طه:18]، وقول موسى هذا إنما هو إستئناس، أراد أن يكلم الرب -تبارك وتعالى- لما آنسه الله -تبارك وتعالى- وإلا فالعصا معلومة، وكذلك لعل هذا من موسى بعد ذلك ليخبرنا الله -تبارك وتعالى- أن العصا التي كانت بيده من جنس العصي التي يحملها الناس ويحملها الرعاة بالخصوص، فإن موسى كان يرعى الغنم وهو مسافر الآن في البر فلابد له من العصا، {قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى}[طه:18]، فهي عصا كسائر العصي، وليس كما يقول بعض الذين ينتهجون الغرائب أنها عصا نازلة له من السماء، وإنما هي عصا من شجرة من أشجار هذه الأرض، لها هذه الخواص التي هي لأي عصا في الدنيا {........ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى}[طه:18]، {وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ}، أمره الله -تبارك وتعالى- الذي بيده على الأرض، قال -جل وعلا- {فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ}، تحولت العصا بمجرد أن لامست الأرض إلى أن أصبحت ثعبان كبير كأنها جان، الجان هو الذكر من الحيات، وتهتز على الأرض كأنها جان يخبر الله -تبارك وتعالى- الصفة بهذا، {وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ}، ولى؛ يعني أعطى ظهره للمكان ولنداء الرب -تبارك وتعالى-، ولم يعقب؛ يعني لم ينظر خلفه، بل أخذ في سياقه نحو الطريق المخالف ورجع راكضًا بعيدًا عن مكان العصا، {وَلَّى مُدْبِرًا}، قال -جل وعلا- {وَلَمْ يُعَقِّبْ}، يعني يرجع ليرى العصا هل هي وين راحت، تحولت ما تحولت، فناداه الرب -تبارك وتعالى- {يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ}، نداء من الله -تبارك وتعالى- له بإسمه، يا موسى أقبل مرة ثانية إلى حيث خاطبه الله -تبارك وتعالى- ولا تخف، {إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ}، لا تخف من هذه العصا من كلام الرب -تبارك وتعالى- {إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ}، أمنه الله -تبارك وتعالى-، أعطاه الله -تبارك وتعالى- الأمن فهو رسوله، وقد إختاره الله -تبارك وتعالى- لمهمة عظيمة.

ثم قال له الله -تبارك وتعالى- {اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ}، اسلك؛ أدخل، والجيب؛ شق الثوب، شق الثوب مما يلي العنق أدخلها فيه، أدخل يدك في جيبك ثم أخرجها تخرج بيضاء من غير سوء، بيضاء يعني يتحول لون جلده الأسمر ...، كان موسى آدم؛ أسم، يتحول إلى لون رجل أبيض من غير سوء؛ من غير برص، يعني ليست برصاء وإنما بيضاء من غير سوء، نظيفة، بيضاء، لا مرض فيها، فتصبح يد بيضاء ويد سمراء وهذا إعجاز أن يتحول لون الجلد مباشرة بمجرد ما يضعها في جيبه ثم يخرجها على هذا النحو في ثوانٍ معدودات، {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ}، جناحك؛ جناح الإنسان هو يديه كجناح الطائر، أضممها على صدرك، من الرهب؛ اللي هو الخوف الشديد، والرهبة العظيمة من هذا الأمر كله، نار تضيء وتشتعل بغير إحتراق، وكلام من الرب -تبارك وتعالى- يكلمه، وعصا يلقيها ففي الحال تصبح حية، أمور لا شك أنه رعب أخذه، رهبة شديدة وتعظيم وفزع عظيم، فإذا ضم جناحيه كأنها هذه تساعد في تسكين قلبه وفي تهدئة روعه، {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ}، قال له الله -تبارك وتعالى- فذانك؛ إشارة إلى يده التي تخرج بيضاء وإلى العصا التي تتحول إلى حية، ثم إذا أخذها تعود مرة ثانية إلى سيرتها الأولى؛ تصبح عصا من جديد، قال له الله -تبارك وتعالى- {فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ}، البرهان هو الحجة القاطعة القاهرة، الذي يدل على ما يساق إليه دلالة ملجئة لا مجال لإنكارها، {فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ}، أن هذان البرهانان إلى فرعون ليصدقك أنك رسول من الله -تبارك وتعالى- وملئه، ملأه؛ وزرائه وجماعته، سموا الملأ لأنهم يملأون المكان أو يملأون العين، {إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ}، أخبره الله -تبارك وتعالى- بأنهم كانوا قوم فاسقين؛ خارجين عن طاعة الله -تبارك وتعالى-، خارجين عن طاعة الرب -تبارك وتعالى- سواء كانوا في الإيمان بالله -تبارك وتعالى- وعبادته وحده فإنهم قد نسوا الرب -تبارك وتعالى- وعبدوا من دونه ما عبدوا، من الفرعون أولًا الذي يعتقدون بأنه الإله الذي له الأمر وله التدبير وله الحكم، ومما إتخذوا من هذه الآلهة الباطلة من الشمس وغيرها، ثما ما إبتدعوه من التشاريع لأنفسهم والحكم على الأمور بأهوائهم، ثم كذلك فسقهم في إذلالهم وإهانتهم لبني إسرائيل بصنوف الإذلال والتعذيب، {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ}.

فعند ذلك قال موسى {قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ}[القصص:33]، في هذا السياق ذكر أولًا معتذرًا لله -تبارك وتعالى- عن قتله للنفس التي قتلها من الفراعنة، وسياق هذه القصة يبين أن هذه كانت جزء من القصة الأساسية، في قتله للفرعون الذي جعله يسافر إلى أرض مدين ويتزوج فيها ويبقى فيها، ثم يعود بعد ذلك لديّت، فذكر هذا {قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ}[القصص:33]، كيف أذهب إليهم وأدعوهم إليك وإلى أن يطلقوا بني إسرائيل والحال أني قد قتلت منهم نفسًا، وإذا ذكرت لهم ذلك فسأذكرهم بجريمتي عندهم وبالتالي سيلاحقوني ويقتلوني، {فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ}.

{وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ}[القصص:34]، كان من توفيق الله -تبارك وتعالى- وإعانته لعبده موسى -عليه السلام- أن شفع عند الله -تبارك وتعالى- لأخيه هارون، أن يرزقه الله -تبارك وتعالى- النبوة كما رزقه، وقد قدم موسى شفاعته للرب -تبارك وتعالى- بأن هارون هو أفصح لسانًا منه، وذلك أن لسان موسى كانت فيه ثقل من أكله للجمرة التي وضعها في فمه، وجاء في حديث الفتون الذي ذكره إبن عباس -رضي الله تعالى عنهما- أن موسى -عليه السلام- عندما كان طفلًا صغيرًا، وكان في حجر فرعون يومًا إذ إنتزع شعرًا من لحيته، فغضب فرعون وتذكر كلام عرافيه فيه وأن هناك ولدًا من بني إسرائيل سيكون مهلكه عليه، وظن أن هذا الولد المتجرئ على هذا النحو هو الذي سيكون على هذا الأمر.

أدركنا الوقت ونعود -إن شاء الله- إلى هذه الآية مرة ثانية في الحلقة الآتية، استغفر الله لي ولكم من كل ذنب، اللهم صلي وسلم وبارك وعلى عبدك ورسولك محمد.