الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله الأمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن إهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ}[القصص:33]، {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ}[القصص:34]، {قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ}[القصص:35]، {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ}[القصص:36]، {وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ}[القصص:37]، يخبر -سبحانه وتعالى- أن موسى -عليه السلام- عندما ناداه ربه بالطور وحمله الله -تبارك وتعالى- هذه أمانة الرسالة إلى فرعون وقومه، وأخبره الله -تبارك وتعالى- بأنهم كانوا قومًا فاسقين، وأراه الله -تبارك وتعالى- آيتين في نفسه، عصاه التي يحملها عندما يلقيها في الأرض تصبح ثعبانًا مبينًا، وكذلك يده السمراء؛ يدخل يده في جيبه ثم يخرجها فإذا هي بيضاء للناظرين، وإعتذر موسى أولًا قال لما أمره الله -تبارك وتعالى- قال له الله {........ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ}[القصص:32]، {قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ}[القصص:33]، {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ}[القصص:34]، شفع عند الله -تبارك وتعالى- في أخيه هارون، أن يرسله الله -تبارك وتعالى- معه ليتكلم عنه، وذلك أنه كان في لسانه ثقل عظيم، قال إبن عباس -رضي الله تعالىى عنه- كما جاء عنه في حديث الفتون الطويل، فيما تعرض له موسى -عليه السلام- في حياته الطويلة من الإبتلاءات العظيمة، إبتلاء وراء إبتلاء منذ ولادته وإلى أن توفاه الله -تبارك وتعالى-.
من هذه الإبتلاءات أنه كان يومًا في حجر فرعون فنزع شيئًا من شعر لحيته، فتذكر فرعون ما قيل له بأنه سيكون من بني إسرائيل من يقتله، وأنه توسم في هذا الفتى الجرئ الذي تبنته إمرأته وأصبح أثيرًا وحبيبًا لديها أنه سيكون هذا؛ يعني هلاكه على يد هذا، وأراد أن يقتله عند هذا كما أراد أن يقتله قبل هذا عندما جيء به من البحر وإنتشل، فقالت إمرأته إنه لا يعرف، إن هذا غلام صغير لا يدرك ما فعل، يعني نزعه لشيء من لحية ديَّت إنما كما يصنع أي طفل يداعب أهله ويداعب أباه، وأنه لا يعرف، لا يستطيع أن يميز بين تمر وجمر، فقال فليعطى له التمر والجمر يشوف يميز بينه ولا لا، فجيء بصحن فيه جمر وصحن أخر فيه تمر وقدما لهذا الطفل، يقول إبن عباس وهذا طبعًا كلام لا يؤخذ إلا عن الوحي أن جبريل أخذ يده ووضعها في الجمر، وأخذ جمرة ووضعها في فمه، فأخذ جمرة ووضعها في فمه وهو طفل صغير وكان في هذا نجاته من القتل وأنه لا يميز بين هذا وهذا، فطفل لم يصبح مميزًا بعد؛ لم يميز بين هذه نار تحرق وههذ جمرة تؤكل، مما يدل على أنه مازال بعد في سن عدم التمييز، لا يميز بين هذا وهذا، وأن هذه أحرقت لسانه، وأن إحراق اللسان هذا بقي فيه هذا الثقل الذي في لسانه منذ ذلك الوقت.
فإعتذر موسى عن حمل رسالة الرب -تبارك وتعالى-، وأنه لا يستطيع أن يفصح بما في نفسه لفرعون عندما يدعوه، وفي الآية الأخرى قال {وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ}[الشعراء:13]، وهنا قال الله -تبارك وتعالى- عن قول موسى قال {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا}، الفصاحة هي سهولة البيان ووضوحه، {هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءًا}، أرسل هارون ردءًا يعني مساعدًا ومعاونًا لي في هذا الأمر، ويردأ عني ما يمكن أن يأتيني من الإتهام والقول من فرعون، يصدقني في مقالتي وأننا بالفعل رسولان من رب العالمين -سبحانه وتعالى-، ولذلك قالا {........ إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الشعراء:16]، نحن قد أرسلنا الله -تبارك وتعالى- كلانا، الله -تبارك وتعالى- أرسلنا إليك فيصدق ويقول نفس المقالة التي يقولها موسى –عليه السلام-؛ يصدقني في مقالتي، {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ}، إن أخاف أن يكذبون هذا أيضًا من جملة الإعتذار، فهنا يقدم موسى -عليه السلام- أمام الرب -تبارك وتعالى- الأمور التي يمكن أن تعيقه في القيام بهذه المهمة، ليس هذا نكول عن المهمة لكن بيان الأمور التي ستعترضه في مهمته، أول شيء أن قوم فرعون سيلاحقونه بقضيته الأولى؛ قتله للفرعوني، لسانه ثقيل فطلب من أن واحد يشدده في أذره ويعضده في رسالته، ثم أنه كذلك القوم سيكذبوه فما يكون الأمر.
قال له الله -تبارك وتعالى- {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ}، فهذا أول شيء، استجاب الله -تبارك وتعالى- شفاعته وطلبه من الله -تبارك وتعالى-، أن يرسل الله إلى هارون فقال له {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ}، العضد هو ما فوق الساعد، اليد تتكون من الكف والساعد والعضد، والإنسان إذا شد عضده يعني قواه الله -تبارك وتعالى-، والمعنى سنقويك بهذا الأمر ونشد عضدك بأخيك؛ هارون -عليه السلام-، قبل الله -تبارك وتعالى- شفاعته وتقول عائشة -رضي الله تعالى عنها- ((لم ينفع أخ أخاه بمثل ما نفع موسى أخاه، فإنه شفع له في النبوة))، اللي هي أعلى الدرجات، شفع له بالنبوة وقبل الله -تبارك وتعالى- شفاعته، ما في أخ نفع أخاه كما نفع موسى هارون -عليهما السلام-، {قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا}، حجة وقهر وسلطة وقوة، {فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا}، نجعل لكما سلطانًا؛ يعني على فرعون وملأه، فلا يصلون إليكما؛ بعذاب، بقهر، بسجن، سيجعلهم الله -تبارك وتعالى- مع هذا السلطان القاهر الذي يضعه في قلوب الناس من تعظيمهم ومن إجلالهم ومن رهبتهم ومن الخوف من المساس بهم ما يحميهم من تسلط فرعون، والحال أنه متسلط بكل ما يشاء، يقتل هذا ويسجن هذا فإنه المتفرد بالأمر والذي لا يرد أمره، ويقول لقومه {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ}، لكن أخبر الله -تبارك وتعالى- أنه سيجعل لموسى حماية، لا يستطيع، ويأتي في قول الله -تبارك وتعالى- أنه مع تغيظه بعد ذلك على موسى كان يستنجد بالملأ ويقول له دعوني أقتل موسى {........ وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ}[غافر:26]، وكأن هناك قوة تحجبه وتمنعه أن يبطش بموسى -عليه السلام-، وهذه هي القوة؛ السلطان الذي جعله الله -تبارك وتعالى- له، قال -جل وعلا- {........ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ}[القصص:35]، بآياتنا؛ بآيات الله -تبارك وتعالى- التي يعطيهم الله -تبارك وتعالى- إياها، العصا والتي غلبت كل سحر السحرة ومكر فرعون، الآيات الأخرى التي ضرب الله -تبارك وتعالى- بها الفراعنة، من الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والرجز الذي أرسله الله عليهم من المرض وكذلك قتل أبكارهم، أمور عظيمة ضربهم الله -تبارك وتعالى-، قال الله -تبارك وتعالى- بآياتنا أنتما؛ موسى وهارون، ومن إتبعكما؛ من بني إسرائيل ومن غيرهم، الغالبون؛ الذين يغلبون، وإذن عدوكم هو المغلوب المقهور وأن الغلبة ستكون لهم، وهذي بشارة لهم من الله -تبارك وتعالى- تحمل معنى التأييد والتقوية والتعضيد، وأن يعتمدوا بعد ذلك على بشارة الرب -تبارك وتعالى-.
أخذ موسى هذا وقبل الله -تبارك وتعالى- دعوته، وحمل موسى هذه الرسالة العظيمة من هذا المكان؛ من طور سيناء، ونزل إلى أرض مصر وكان من شأنه أن كلم هارون، ثم بعد ذلك كان من شأنه ما قصه الله -تبارك وتعالى- في مواضع أخرى من القرآن، وهنا أجمل الله -تبارك وتعالى- بعد ذلك ظهور غلبة موسى وبني إسرائيل على فرعون، قال -جل وعلا- {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ}[القصص:36]، فلما جائهم؛ جاء قوم فرعون، موسى؛ جائهم موسى، موسى هو الذي جائهم، بآياتنا؛ هذه الآيات العصا ويده، وما تلى ذلك من الآيات التي ضربهم الله -تبارك وتعالى- بها، {قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى}، بالحصر ما هذا الذي جاء به موسى إلا سحر مفترى؛ مكذوب، فهذي العصا الذي يجعلها إنما هي نوع من السحر والتخييل لنا، وليست حقيقة وليست آية من آيات الله -تبارك وتعالى-، وكذلك يده التي يدخلها في جيبه ويخرجها إنما هي شعبذة وتلبيذ وسحر يسحر عيوننا بها، كما قال فرعون بعد أن رأى هذه الآيات {قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى}[طه:57]، {فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى}[طه:58]، وقال لقومه لما رأى هذه الآيات {قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى}[طه:63]، فجمعوا مقالتهم في أن هذا الذي يرونه من آيات الله -تبارك وتعالى- الباهرات الظاهرات أنها سحر، قالوا ما هذا إلا سحر ومفترى؛ مكذوب، {وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ}، ما سمعنا بهذا؛ أن الله -تبارك وتعالى- يختار من عباده رسول يبلغه رسالته ويرسله إلى الناس ليعبدوه، قالوا هذا أبدًا ما سمعناه في آبائنا الأولين، هذا تاريخ آبائنا الأولين لم يأتي من يدعي أنه رسول من الله -تبارك وتعالى-، وأن الله هو خالق السماوات والأرض وحده وأنه هو الرب وحده -سبحانه وتعالى-، قالوا هذا كل ما سمعناه في آبائنا الأولين.
رد عليهم موسى الذين ردوا آيات الله على هذا النحو، قال -جل وعلا- {وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ ........}[القصص:37]، وهذه الكلام الذي قاله موسى بعد يأسه من إيمانهم، وأن هؤلاء لا فائدة فيهم فدعى ربه أن هؤلاء قوم مجرمون، مهما جائتهم من الآيات لا فائدة فيهم، وقال في دعاء أخر قال {........ رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ}[يونس:88]، قال ها دول ما في فائدة فيهم، {وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ ........}[القصص:37]، ربي الذي أرسلني هو أعلم من جاء بالهدى من عنده، فسلم الأمر إلى الله -تبارك وتعالى- والعلم إليه -سبحانه وتعالى-، وفي هذا إستشهاد للرب الإله -سبحانه وتعالى- وأنه أعلم بمن جاء بالهدى، مضمون هذا أني أتيت بالهدى من الله –تبارك وتعالى- والله يشهد بهذا ويعلم هذا –سبحانه وتعالى-، ثم {وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ}، من الذي ستكون له عاقبة الدار في النهاية؛ ينصره الله -تبارك وتعالى- ويؤيده، ومن الذي يزيله ويمحوه عن وجه هذه الأرض، {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ}، إنه؛ الحال والشأن، هذا ضمير الشأن، لا يفلح الظالمون؛ الظالم لا يفلح، هذي هي سنة الله -تبارك وتعالى- ونظامه وعادته أنه لا يجعل ظالمًا يفلح، ما يفلح الظالم، الظالم وأعنى معنى ذلك بيان أنهم ظلموا أنفسهم وساروا في طريق الظلم والفلاح لا يمكن أن يحل بهم، كل مضمون هذا أن عاقبة الدار ستكون لأهل الإيمان وأن الله -تبارك وتعالى- سيهلك أهل الكفر والعصيان، {وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ}[القصص:37]، تهديد ووعيد شديد لهم.
أمام هذا التهديد والوعيد لهم بالهلاك قام فرعون بمزيد من الطغيان والكبر، وفي ظاهر الأمر أنه يريد معرفة الحق ويريد أن يصل إلى حقيقة الأمر وجليته، {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ}[القصص:38]، مضى فرعون في غروره وتكبره وتجبره، ولكن في إظهار يظهر أمام شعبه وأمام أمته الحريص على العلم والحريص على إستجلاء جلية الأمر وأن يعرف هذا، فأولًا ذكرهم بالأمر الذي هم عليه {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي}، يا أيها الملأ؛ نادى جماعته، {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي}، ما كان في شرعنا وملتنا وديننا وتراث آبائنا وأجدادنا أنه إله يعبد ويطاع أمره ويطاع تشريعه غيري، فهو يعتبر نفسه أنه من سلالة الآلهة وأنه إله من هؤلاء الآلهة، وأنه قد أجمع المصريين على عبادة هذه الأسرة فردًا بعد فرد، فهم آلهتهم وأن هذا هو تاريخهم وهذا هو نظامهم وهذا نظام حياتهم، {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي}، إله يعبد ويسار بأمره غيري، ثم كأنه من باب التنازل قال {فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِي صَرْحًا}، أوقد على الطين؛ الطين إذا أوقد عليه وأشعلت النار تحته وفيه فإنه يتحول إلى الأجور الأحمر، يصبح حجر أجر أحمر، وهذا من إختراع المصريين القدماء تحويل طابوق أو القوالب هذي اللبن من وضعها الطيني إلى وضع الحجارة الحمراء، وذلك بأن يجعل ما يسمى بالقمين، القمائن التي هي يرصون الطابوق بعضه فوق بعض؛ الطين هذا اللبن، ثم يغطونه بالطين حتى لا تكون فيه منافس، ثم يشعلون تحته حتى يصبح الأجر الأحمر، قال له فأوقد لي يا هامان على الطين؛ أي ليحول هذه إلى أجر، والأجر بمثابة الحجارة، وهذه يمكن أن يرتفع بها بالبناء طوابق متعددة، أما اللبن فإنه يكون ثقيل ويكون أيضًا هش ولا يتحمل الأدوار العالية، {فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِي صَرْحًا}، الصرح هو القصر العظيم المرتفع الذي يكون طبقات بعضها فوق بعض، {لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى}، أطلع على هذا الصرح ثم أنظر بعد هذه الطبقات العالية وأطلع إلى إله موسى، وهذا فيه من الأدلة الظاهرة على أن موسى عندما يخبر الناس بإلهه الذي يعبده أنه -سبحانه وتعالى- في السماء وأنه في العلو، فأنظر إلى هذا الإله الذي يذكر موسى بأنه في السماء وفي العلو، فأطلع عليه وأنظر هل هناك بالفعل إله غيري في هذا الوجود موجود في السماء أم لا؛ فأطلع إلى إله موسى، ثم قال {وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ}، وإني لأظنه؛ الظن هو الرجحان، من الكاذبين؛ وهذا إستهزاء بموسى، وبيان أنه يظهر لشعبه ولأمته أنه رجل باحث عن الحق وأنه يغلب، وفي تغليبه أن موسى كاذب ليس هناك إله في هذا الوجود إلا الفرعون الذي يعبد، وهو مصدر النعمة ومصدر الخير ومصدر الإشراق، كما كان يعتقد القدماء المصريين في ملوكهم هذا.
قال -جل وعلا- {وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ........}[القصص:39]، لا شك أن فرعون هو الكاذب، وأنه يعلم حقيقة أن هذه الآيات التي جاء بها موسى أنها آيات الله -تبارك وتعالى-، وأنه لا يقدر على هذا إلا الله، وقدر ظهر كذبه مرارًا وتكرارًا وظهرت آيات الله -تبارك وتعالى- له مرارًا وتكرارًا، فإن من البداية موسى خاطبهم أولًا بالعقل في التعريف برب العالمين -سبحانه وتعالى-، عندما دعاه فقال له فرعون وما رب العالمين؟ قال {رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ}[الدخان:7]، رب العالمين هو رب هذه السماوات ورب هذه الأرض، فإن هذا الوجود لا يمكن له إلا من موجد خلقه، وهذا الذي خلق هذا الوجود المشاهد هو رب العالمين -سبحانه وتعالى-، قال {رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ}[الدخان:7]، {قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ}[الشعراء:25]، {قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ}[الشعراء:26]، خالقكم، أنتم الذي خلقكم من؟ وخلق آبائكم الأولين، فعند ذلك لم يدلي بحجة {قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ}[الشعراء:27]، {قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ}[الشعراء:28]، الرب الذي أدعوكم إليه هو رب المشرق، كل هذه المشارق حيث مشارق الشمس وغيرها والمغارب وما بين المشرق والمغرب كل هذه خلق الرب -تبارك وتعالى- إن كنتم تعقلون، فعند ذلك لم يستطيعوا في باب البرهان؛ الدليل العقلي الملجئ، الذي هو بالضرور أن يزعن له كل من صاحب عقل، فإنه لا خالق في هذا الوجود إلا الله -تبارك وتعالى-، وهذا الوجود الموجود أنه لا شك أنه يدل على أن له خالق؛ خلقه ورتبه على هذا النحو.
فقال له لئن لم تنتهي عن مقالتك هذي لأجعلنك من المسجونين، {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ}[الشعراء:30]، جائت الآيات الأخرى بعد الآيات هذه العقلية المشاهدة؛ الآيات الأخرى الحسية المشاهدة بالنظر، {قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}[الشعراء:31]، {فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ}[الشعراء:32]، {وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ}[الشعراء:33]، فعلى طول رتب هذه إلى السحر وجمع السحرة وأراد أن يبطل هذا، فالذي بطل هو سحره وسحر السحرة، ثم شهادة السحرة جميعًا أن هذه آية من آيات الله -تبارك وتعالى-، الله يقول {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ}[الشعراء:46]، {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ}[الشعراء:47]، {رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ}[الشعراء:48]، فآمنوا، فهذا علم يقيني حسي مشاهد يقوم عليه البرهان والدليل على أن هذه آية من آيات الله -تبارك وتعالى-، ثم جائت بعد ذلك الآيات بعد ذلك آية تلو آية، والله -تبارك وتعالى- يخبر أن لا تأتيهم آية إلا وهي أكبر من أختها، آيات الدم؛ ينزعون الماء من النهر ثم يضعونه في آنيتهم فيصبح دمًا عبيطًا، هذا أمر عظيم، الضفادع التي تأتيهم بعد ذلك من كل مكان، تدخل الضفادع قصورهم إلى مخادعهم، يتكلم المتكلم فتقفز الضفدعة في فمه، يضع يده في جيبه فإذا به كله مليء بالضفادع، يتقلب في فراشه فتخرج الضفادع، خرجت من كل مكان، أمر كله آيات تأتيهم على هذا النحو ولا يرعون، ولذلك قال في نهاية المطاف قال موسى لفرعون {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا}[الإسراء:102]، أنت ستكون هالك لأن هذه آيات الله -تبارك وتعالى- قد علمتها، وقد أخبر -سبحانه وتعالى- بأنه ليس هو وحده الذي علم أن هذه آيات الله بل الكل، كما قال الله -تبارك وتعالى- في قوم فرعون {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ........}[النمل:14].
فهنا قال -جل وعلا- واستكبر؛ أي فرعون، {هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ}، استكبر؛ طلب الكبر والتعالي، وأنه لا يمكن أن يدخل في هذا الأمر ويؤمن بهذا الإله ويتبع أمر هذا الرسول والحال أنه من قوم هم عبيد لهم، قال {........ أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ}[المؤمنون:47]، قومهم يعبدونا كيف نزعن لهم ونسير في ركابهم ونؤمن بهم، واستكبر هو وجنوده الذي ساعدوه وآذروه في هذا، في الأرض؛ أرض مصر، بغير الحق؛ بغير حق أن يتكبر على هذا، كيف يتكبر على ربه وإلهه وخالقه ومولاه -سبحانه وتعالى-، فكبرهم إنما هو استكبار بغير الحق، بل بالباطل وبالزور وبالكذب الذي أقنعوا أنفسهم به، {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ}، ظنوا؛ اعتقدوا بظنونهم الفارغة، أنهم إلينا؛ إلا الله -تبارك وتعالى-، لا يرجعون؛ في نهاية المطاف يموتون وأنهم يرجعون إلى الله -تبارك وتعالى- فيحاسبهم إلى أعمالهم، وأنه ليس إلا هذه الدنيا، وأنه إذا كان حياة فإنه سيكون الملك منهم ملكًا والوزير منهم وزيرًا والغني منهم غنيًا والفقير منهم فقيرًا، ستعود الحياة عندهم مرة ثانية لكن ستعود على النمط والنظام الموجود، الذي هو موجود في هذه الدار، تكون دار أخرى كان يعتقد المصريين هذا لكن الملوك هم الملوك والوزراء هم الوزراء والسوقة هوم السوقة، كأنها مسرحية تتكرر نفسها وليس هناك إله يعبد، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا، فقال -جل وعلا- {وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ}[القصص:39]، وهذا وعيد عظيم من الله -تبارك وتعالى- لهم.
قال -جل وعلا- {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ}[القصص:40]، فأخذناه؛ الأخذ الهلاك، هو أخذه الله -تبارك وتعالى- وجنوده، فأخذناه وجنوده؛ جنوده الذي كانوا معه، وقد بيَّن الله -تبارك وتعالى- هذا يعني كيفية هذا، عندما أمر الله -تبارك وتعالى- موسى بأن يخرج هو وبني إسرائيل من أرض مصر ليلًا، قال -تبارك وتعالى- لموسى {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ}[الشعراء:52]، قال له هيتبعوكم ويخرجوا ورائكم، {فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ}[الشعراء:53]، حاشرين؛ جامعين، يجمعون كل القوى؛ الجنود النظاميين وغير النظاميين، يقول لهم {إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ}[الشعراء:54]، {وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ}[الشعراء:55]، {وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ}[الشعراء:56]، لابد أن نخرج مرة ثانية ونرجعهم إلى الذل والقهر، ويبقوا تحت ذلنا وقهرنا، ليتجمعوا بعد ذلك ويصبحوا قوة ويغزونا، فلنأتي بهم مرة ثانية، قال -جل وعلا- {فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ}[الشعراء:57]، {وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ}[الشعراء:58]، {وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ}[الدخان:27]، أخرجهم الله -تبارك وتعالى- مما كانوا فيه من نعمة، وأخذوا سحبوا من أرض مصر وجرهم الله -تبارك وتعالى- إلى مهلكهم في البحر، قال -جل وعلا- {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ ........}[القصص:40]، النبذ هو الإلقاء بإهمال، وذلك أنه دخل موسى عندما لحق به فرعون، أمر الله -تبارك وتعالى- موسى أن يضرب البحر بعصاه، فانفلق البحر فكان كل فرق كالطود العظيم، دخل موسى هو وقومه بأرض يابسة، {........ فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى}[طه:77]، حتى خرجوا إلى الشاطئ الأخر، ودخل فرعون أيضًا مع أنه رأى هذه الآيات ولكن لم يرعوي، دخل في البحر فلما كانوا في وسطه أمر الله -تبارك وتعالى- البحر أن ينطبق عليهم، {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ ........}[القصص:40]، البحر، قال –جل وعلا- {فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ}، خطاب من الله -تبارك وتعالى- لرسوله أن ينظر في العاقبة المريرة السيئة التي كان وصل إليها هؤلاء الظالمين.
نقف عند هذا ونكمل في الحلقة الآتية -إن شاء الله-، استغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصل الله وسلم على عبده ورسوله محمد.