الأربعاء 03 جمادى الآخرة 1446 . 4 ديسمبر 2024

الحلقة (47) - سورة البقرة 165-167

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

أما بعد، فإن خير الكلام؛ كلام الله -تعالى-، وخير الهدي؛ هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار.

وبعد أيها الإخوة الكرام، يقول الله -تبارك وتعالى- {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ}[البقرة:165]، {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ}[البقرة:166]، {وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ}[البقرة:167]، يخبر -سبحانه وتعالى- أن من الناس ناسًا يتخذ من دون الله -غير الله تبارك وتعالى- أندادًا، أي آلهةً يعبدونهم فيعتقدون أنهم أنداد لله، والند هو الشبيه والنظير والمثيل، أندادًا إما في اعتقادهم أنهم يماثلون الله -تبارك وتعالى- في ذاته أو في بعض صفاته، أو يجعلونهم كالله -تبارك وتعالى-، فيعطونهم من العبادة ما يعطون الرب -جل وعلا-، والحال والواقع أنه ليس لله -سبحانه وتعالى- ند، ليس له شبيه ولا نظير ولا كفء ولا مثيل، لا في ذاته ولا في معاني أسمائه -سبحانه وتعالى-، ولا في صفاته، وبالتالي لا يجوز أن يكون له ندٌ في حقوقه، فإنه هو الخالق البارئ المتفضِّل على عباده -سبحانه وتعالى-، بأن خلقهم أظهرهم، هو الذي يرزقهم، وهو الذي يحييهم، وهو الذي يميتهم، هو الذي يملك نفعهم ويملك ضرهم، فلا ند له –سبحانه وتعالى- في ذلك، لا..، كل ما عُبد غيره فباطل، فما عبده الناس غير الله -تبارك وتعالى- باطل، سواءً كان الملائكة أو الشمس أو القمر أو النجوم أو الرسل، أو أي إله يُتخذ من دون الله -تبارك وتعالى- ليس ندًا لله، الله لا ند له -سبحانه وتعالى-، فهؤلاء المجرمون المشركون اتخذوا من دون الله أندادًا، اعتقدوهم واتخذوهم في عبادتهم كذلك، جعلوهم أندادا لله.

الله يقول {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ}، أي يحبونهم حب عبادة، حب العبادة الذي هو كامل الحب وأعلاه، بمعنى أنه يجعل هذا الإله يعطي هذا الإله ثمرة قلبه فينزهه، يعتقد فيه نفعه وضره، فيظن أن هذا المعبود الذي اتخذه هو الإله بالفعل، الذي يملك نفعه وضره وهو الذي يحسن إليه، والحب هو أشرف أعمال المخلوق، أشرف أعمال المخلوق الحب، فهؤلاء جعلوا هذا الأمر وهو أشرف أعمالهم لآلهة باطلة، عبدوها من دون الله -تبارك وتعالى-، هذا فضلًا عما يورثه هذا الحب من التعظيم والإجلال والسجود والركوع، وسائر العبادات التي يتقرب بها؛ يتقربون بها إلى محبوبهم هذا، أي إلههم الذي جعلوه محبوبًا لهم، يتولهون فيه ويتولعون به ويعظمونه، وقد يموتون في سبيله، وقد يدفعون ما يدفعون من أجله، وهم مستعدون للصبر على نصرته، كما قال الملأ من العرب، وقال الملأ منهم {........ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ}[ص:6]، اصبروا على آلهتكم بمعنى أن تحملوا المشاق في سبيل نصرتها، ولذلك بذلوا ما بذلوا، وقال قوم إبراهيم من قبل {........ مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ}[الأنبياء:59]، {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ}[الأنبياء:68]، فأمروا بتحريق إبراهيم -عليه السلام- نصرًا لآلهتهم، {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادً}، والحال أنه ليس لله ند، {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ}، هذا المعنى الأول من معاني يحبونهم كحب الله، المعنى الثاني يحبونهم كحب الله أي أنهم يعطونهم من المحبة ما يعطون الله -تبارك وتعالى- فهم يشركون في الحب، والمعنى الأول هو المعنى الذي يتفق مع سياق الآية.

قال -جل وعلا- بعد ذلك {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ}، المؤمنون يحبون الله -تبارك وتعالى- حب عبادة، وهم في حبهم لله -تبارك وتعالى- أعظم وأكبر من محبة المشركين لآلهتهم، فإن المؤمن يحب ربه -سبحانه وتعالى-، فيبذل ماله ونفسه لله -تبارك وتعالى-، يستعذب الآلام في سبيل الله -تبارك وتعالى-، يقوم في الصلاة فيستعذب المشقة، يصوم وهو يستعذب هذه المشقة، يجاهد في سبيل الله والمشقة تكون عنده مستعذبة، وذلك من محبته لله -تبارك وتعالى- وتعظيمه له، لأنه يعلم أن الله -تبارك وتعالى- أهل لأن يٌحَب، فهو المنعم المتفضِّل -سبحانه وتعالى-، وهو المتصف بكل صفات الكمال والجلال، فيحب لصفاته ويُحَب لإنعامه -سبحانه وتعالى-.

بعد هذه الجملة المعترضة {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ}، رجع الكلام إلى هؤلاء المشركين، وبيان صفة إجرامهم في هذا الأمر، وهو أن جعلوا أن نصبوا لهم آلهة دون الله -تبارك وتعالى-، أعطوهم أثمن ما عندهم وهو المحبة، قال -جل وعلا- {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ}، {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ}، أي لكان لهم شأنٌ غير ذلك، عندما يرون ما عند الله -تبارك وتعالى- الإله الحق من العقوبة، وأنه هو ملك السماوات والأرض، وأنه هو القاهر فوق عباده، وأنه الرب الرحمن خالق كل شيء، الذي بيده كل شيء، وأنه هو الذي يعاقب أعداءه عقوبة لا يعاقب أحد مثل عقوبة، {فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ}[الفجر:25]، {وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ}[الفجر:26]، {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ}، أي ما فعلوا هذا، ولا ما اتخذوا من دون الله أندادًا يحبونهم كحب الله، سيرون {أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا}، القوة كلها، ولا قوة في مخلوقٍ إلا به -سبحانه وتعالى-، فلا حول ولا قوة إلا بالله، لا حول لأحد ولا قوة لأحد ملك أو بشر أو جن أو سماوات أو أرض، ما من شيء فيه قوة إلا وهي من الله –تبارك وتعالى-، فالقوة كلها لله -سبحانه وتعالى-، فهو الرب الإله القوي، {وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ}، فهذه من صفته -سبحانه وتعالى- أن عذابه شديد، والنار هذه أثر من آثار صفته -سبحانه وتعالى- أنه شديد العذاب، فإنه يعذِّب أعداءه بالنار، التي لا ينطفئ أوارها، ولا تفتر ولا تخبو، وهي نارٌ قال فيها النبي «ناركم هذه جزءٌ من سبعين جزء من نار الآخرة، قالوا يا رسول الله إنها كافية، قال ولكنها فُضِّلت عليها بتسعٍ وستين جزءا، يعذَّب فيها الكافر، ولا يموت ولا يحيا»، يموت فيستريح فيه، ولا يحيا حياةً تنفعه، بل يبقى معذبًا هكذا أبدا، والمشرك الذي اتخذ من دون الله ندًا عبده وأعطاه ما يُعطى الله -تبارك وتعالى- فهذا عذابه، {وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ}.

ثم قال -جل وعلا- {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ}[البقرة:166]، {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا}، وهم المتبوعون، والذين اُتُبِعوا أصناف كثيرة، عُبدوا من دون الله، منهم من عُبد بغير رضاه، ومنهم من عُبد برضاه، فكل من عُبد بغير رضاه وكان هو عبدًا مخلصًا لله -تبارك وتعالى- فإنه يتبرأ من عابده كالملائكة، فإنه يعرض عليهم الكفار ويقال {أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ}، {قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ}[سبأ:41]، فالملائكة عندما يُعرض عليهم عبَّادهم يوم القيامة، الله يقول للملائكة {أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ}، {قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ ........}[سبأ:41]، إما بصورة مباشرة، وإما أن الجن كانت تدخل في أصنامهم وتخاطبهم منها، ويظنون أن هؤلاء هم الملائكة، الذي يعبدونهم وأنهم يخاطبونهم، قال -جل وعلا- {........ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ}[سبأ:41]، وكذلك كثيرًا ما كان يقوم بين الإنس وبين الجن علاقات، كلٌ منهم ينفع الأخر، كما في قول الله -تبارك وتعالى-، قال {........ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ ........}[الأنعام:128].

كذلك عيسى -عليه السلام- والصالحون من عباد الله -تبارك وتعالى- الذين عٌبدوا بغير رضاهم، فعيسى قد عُبد بغير ما يرضى، ولا هو يرضى بأن يعبده أحد، بل هو عبد الله ورسوله، ولذلك يُعرض عليه هؤلاء الذين عبدوه يوم القيامة، كما قال -تبارك وتعالى- {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ}[المائدة:116]، {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}[المائدة:117]، {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[المائدة:118]، فيتبرأ عيسى -عليه السلام – ممن عبده، وأنه قد عبده بغير معرفته، وأن هذا إنما وقع بعد رفعه إلى السماء، قال: {وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي}، توفيتني أنمتني ورفعتني إلى السماء، كما في قول الله -تبارك وتعالى- {........ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ........}[آل عمران:55]، إني متوفيك أي منيمك، كما في قول الله -تبارك وتعالى- {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا}[الزمر:42]، وفي قوله {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ}[الأنعام:60]، يتوفاكم بالليل اللي هي الوفاة الصغرى؛ وفاة النوم، الشاهد أن عيسى يوم القيامة يتبرأ من الذي عبدوه بغير علمه، وبالتالي بغير رضاه، فإنه قد دعا وهو حي في أوساطهم، قائلًا لهم قال {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}[المائدة:117]، {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[المائدة:118]، {قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ}.[المائدة:119]

فالمتبوعون يتبرؤون من أتباعهم هذا أولًا، إذا كان هذا المتبوع لم يرض بهذا ولم يقله فهو يتبرأ، أما إذا كان هو طاغوت قد دعا الناس إلى عبادة نفسه، وهو سعى في هذا وهو راضٍ بهذا، كذلك هذا يوم القيامة يلعن من اتبعه، والتابعون لهم كذلك يلعنونهم، {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا}، جميعًا، من عُبد منهم برضا، ومن عُبد منهم بغير رضا، {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ}، رأوا العذاب جميعًا هؤلاء الذين عُبدوا وهم راضون، وأتباعهم الذي رضوا بعبادتهم واتخذوهم أولياء من دون الله، أما الذي كانوا لا يرضون بهذا فإنهم مبرؤون عند الله، كملائكة الله -عز وجل- وعيسى، ولذلك قال -تبارك وتعالى- {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ}[الأنبياء:101]، {لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ}[الأنبياء:102]، وهذه الآية نزلت بعد قول الله -تبارك وتعالى- {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ}[الأنبياء:98]، فاحتج بهذا المشركون على النبي -صلوات الله والسلام عليه-، قال إنك تقول {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ........}[الأنبياء:98]، فإنا نعبد الصالحين ونعبد الملائكة، والنصارى يعبدون المسيح، فهل الملائكة والمسيح سيكونون من حصب جهنم؟ فأنزل الله -تبارك وتعالى- قوله {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ}[الأنبياء:101]، {لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ}[الأنبياء:102]، وإنما الإله ومن عبده الذي يقذفون في النار هم؛ هم وأصنامهم، وكذلك هم وطواغيتهم الذين دعوهم إلى عبادة أنفسهم، وترك عبادة الله -تبارك وتعالى-، وأشركوا أنفسهم مع الله، فهم جميعًا {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ}[الأنبياء:98].

فهنا يخبر -سبحانه وتعالى- بأن هؤلاء قال {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ}[البقرة:166]، تقطعت الأسباب بين العابد والمعبود، والأسباب هي أسباب النصرة، الوسائل التي كانت بينهم من المحبة ومن النصرة، فقد كان هؤلاء الطواغيت يوالون من يعبدهم، وهم يوالون الأتباع، ويحتفون بحياتهم، يشيدون بهم، ينصرونهم، فالأسباب التي كانت بينهم من الدنيا من المودة والمحبة والنصرة والتكاتف، كل هذا يتقطع فيما بينهم، ويحل محل ذلك البغض والتقاطع، وكلٌ منهم يلعن الآخر ويسبه، {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ}، {وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا}، قال -جل وعلا-  {........ كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ}[البقرة:167]، {وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا}،هؤلاء أتباع، {لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ}، لو أن لنا كرَّة رجعوا إلى الدنيا مرة ثانية، فنتبرأ منهم من هؤلاء الطواغيت، الذين عبدناهم ودعونا إلى عبادتهم، وأخلصنا لهم، وكنا معهم، وأشدنا بهم، وواليناهم من دون الله -تبارك وتعالى-، يعني يا ليت لنا رجعة إلى الدنيا مرة ثانية، فنتبرأ منهم كما تبرأوا منها هنا، نتبرأ منهم بأن لا نعبدهم ونلعنهم، ونكون في بغضٍ بيننا وبينهم، كما تبرأوا منها هنا، قال -جل وعلا- {كَذَلِكَ}، كهذا الحال المزري الذي وصلوا إليه، المتبوعون الذي رضوا بأن يعبدوا من دون الله –تبارك وتعالى-، والأتباع الذين عبدوهم من دون الله -عز وجل-، لما وصلوا إلى هذا الحال في أن يلعن بعضهم بعضًا، ويتبرأ كلٌ منهم من صاحبه، قال -جل وعلا- {كَذَلِكَ}، يعني كهذا الحال المزري, والخزي العظيم وملاقاة العذاب للجميع، {يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ}، يريهم الله رؤية عين هنا، هنا رؤية عين، أعمالهم التي عملوها في الدنيا، حسرات عليهم في الآخرة، فيتحسرون على تلك الأعمال التي عملوها في الدنيا، من عبادة غير الله -عز وجل- محبته وموالاته، {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ}، يدخلون جميعًا النار، ويبقون فيها بقاءً لا ينقطع.

وبهذا يكون قد بيَّن الله -تبارك وتعالى- الفارق الهائل بين التوحيد والشرك، في آيات متعاقبة، ففي التوحيد بيَّن الله -تبارك وتعالى- أنه الإله هو إلهٌ واحد، {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ}، الإله الذي تجب له العبادة هو إلهٌ واحد، ولا يمكن أن يكون في الوجود إلهٌ آخر، لأن الإله الذي يستحق العبادة حقًا وتليق به العبادة أن يكون خالقًا رازقًا، يحيي عابده، يميته، يملك نفعه وضره، وهذا لا يكون إلا لله وحده -سبحانه وتعالى-، فثمَّت خالق واحد، رازق واحد، خلق هذا الكون كله ولم يشاركه أحد، {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ}[سبأ:22]، {وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ}[سبأ:23]، فأي معبود عُبد من دون الله -تبارك وتعالى- فإنه لا يملك مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، {وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ}، مع الله، ما هم يشتركون مع الله في شيء من هذا الملك، {وَمَا لَهُ}، لله، {مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ}، معين، لم يعن الله أحد، وكذلك الشفاعة {وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ}، لملك أو لرسول أو لغيره، {........ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}[سبأ:23]، هذا حال الملائكة عندما يسمعون أمر الله –تبارك وتعالى-، كلام الله فإنهم يصعقون، كما فسَّر النبي هذا فقال: «إذا قضى الله -تبارك وتعالى- الأمر في السماء سُمع لصوته كجر سلسلة على صفوان، فيصعق الملائكة، فيكون أول من يفيق جبريل»،  فيقول: {مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}[سبأ:23]، فالملائكة تخاف الله -تبارك وتعالى-، بل تصعق من كلامه، قال -جل وعلا- عنهم {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}[النحل:50]، فهذا حال الملائكة، ما لهم شركة مع الله -تبارك وتعالى- وهم في خوفٍ دائم من إلههم وخالقهم، فكيف يُعْبدون معه -سبحانه وتعالى-! إذن التوحيد {إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ}، الإله في الكون هو إلهٌ واحد؛ هو الله –سبحانه وتعالى-، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم هذه صفته، ثم هذه أدلة توحيده، {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}[البقرة:164]، هذه آيات بصرية كونية، تشهد بأن الله هو الإله الواحد -سبحانه وتعالى-.

ثم هذا الشرك{ومِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا}، يجعله ندا لله، والحال أنه ليس لله ند، ثم يعطيه ثمرة قلبه، يعطيه أشرف ما عنده الحب، يحبه حب عبادة، هذا إجرام، هذه جريمة الكفر، كيف تحب حب عبادة لمن لا يملك حياتك ولا موتك؟! لم يخلقك، لم يرزقك، لا يملك لك أصلًا، لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا فضلًا عن أن يملكه لعابده، هذه جريمة كبرى، تعدي على حق الله -تبارك وتعالى-، الشرك أعظم الجرائم، الشرك أعظم الجرائم أن تجعل لله ندًا وهو خلقك، كما في حديث عبد الله ابن مسعود، قال «سألت النبي –صلى الله عليه وسلم- قلت يا رسول الله أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك»، فالذي خلقك كيف تجعل له ندا! الذي سواك، هاتان العينان، هاتان اليدان، هاتان الرجلان، هذي البنية التي أعطاك إياها الله -سبحانه وتعالى-، فكيف يكون له ند! تعطيه من العبادة ومن التعظيم ما تعطي الله -تبارك وتعالى-، أو ما يُعطى الله -عز وجل-، أو ما يجب أن يُعطى الله، من المحبة والرجاء والخوف والإنابة، هذه العبادة أشرف أعمال القلب، لا تُعطى إلا لله -تبارك وتعالى-، فإذا أُعطيت لغيره من مخلوق ملك صنم إنسان حيوان، أي شيء مخلوق خُلعت عليه صفة الألوهية زورًا وبهتانًا تكون هذه أكبر جريمة، فلذلك بيَّن الله هنا أن أكبر الجرائم هو هذه، هو الشرك.

ثم بيَّن -سبحانه وتعالى- بأن هؤلاء يُعَذَّبون عذابًا شديدًا يوم القيامة، أول شيء أن الله يُخزيهم، يأتي بكل معبود رضي بالعبادة، ودعا الناس إلى عبادته، ويأتي بعابده، ثم يحصل بينهم التبكيت والتأنيب، والكل يلقي اللائمة على الآخر، ويتبرأ من الآخر ويسبه، ويرى حال العبَّاد؛ فحال هؤلاء الذي عبدوا غير الله -تبارك وتعالى- تكون حالا مزرية، فهم يرون آلهتهم التي بذلوا مهجة قلوبهم لها، وثمرة أفئدتهم، نصروهم، حبوهم، عزوهم، يروهم في الموقف أمام الله -عز وجل- يتبرؤون منهم، ويلعنونهم ويسبونهم، فعند ذلك يتحسر هؤلاء على عبادتهم السابقة لهم في الدنيا، {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ}[البقرة:166]، {وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ}، وهذه لا تنفع، ما عادت تنفع هنا، لأن الله -تبارك وتعالى- قد قطع بأنه لا عودة إلى الدنيا مرةً ثانية، ولا إقالة من عثرة الكفر، الكفر والشرك لا يقال صاحبها أبدا، ومعنى يقال يخرج من هذه الورطة، تبقى ورطته ورطة أبدية، ولعنة أبدية لا تخرج منه، فقال -تبارك وتعالى- {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ}، {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ}[البقرة:166]، {وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا}، قال -جل وعلا- {كَذَلِكَ} أي كهذا الخزي والندامة والحسرة، {........ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ}[البقرة:167]، يدخلون النار فتغلق عليهم إغلاقًا لا تفتح بعده أبدا، {إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُوصَدَةٌ}[الهمزة:8]، {فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ}[الهمزة:9]، عياذًا بالله من حالهم، وهذه المقابلة هنا بين الشرك والتوحيد؛ مقابلة عظيمة لكل ذي لبٍ وعقل.

أسأل الله -تبارك وتعالى- أن يرزقنا عبادته وتوحيده، وأن يبرئنا من الشرك كله، أستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد.