الجمعة 29 ربيع الآخر 1446 . 1 نوفمبر 2024

الحلقة (476) - سورة القصص 70-76

{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الفاتحة:2]، {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}[الفاتحة:3]، {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}[الفاتحة:4]، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن إهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ}[القصص:69]، {وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}[القصص:70]، {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ}[القصص:71]، {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ}[القصص:72]، {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}[القصص:73]، {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ}[القصص:74]، {وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}[القصص:75]، هذه الآيات للحال والمآل الذي سيكون عليه أهل الكفر بين يديه -سبحانه وتعالى- في يوم القيامة، فيبين -سبحانه وتعالى- قال {وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ}[القصص:69]، ما تخفيه في صدورهم وما يعلنونه، وبالتالي فيكون هذا تهديد لهم في حالهم أن الله يعلم أحوالهم في هذه الدنيا، وهذا سيكونوا مكشوفين أمام الله -تبارك وتعالى- بغير ستر.

{وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ ........}[القصص:70]، على كل أحكامه -سبحانه وتعالى-، فهو المحمود وهو الذي له الحمد لأسمائه وصفاته، تحمده كل الخلائق، يحمده كل خلائقه -سبحانه وتعالى-، ولا تحصي خلائقه حمدًا عليه كما حمد نفسه وكما أثنى على نفسه -سبحانه-، كما في الحديث «سبحانك لا أحصي ثناءًا عليك، أنت كما أثنيت على نفسك»، فالله -تبارك وتعالى- هو الذي وسع كل شيء رحمة وعلمًا، هو خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل -سبحانه وتعالى-، هو الذي لا تسع كلماته كل كتب الأرض، {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ ........}[لقمان:27]، فالله -تبارك وتعالى- الذي له الملك كله وله الحكم كله والذي وسع كل شيء علمًا، هو المحمود -سبحانه وتعالى-؛ المحمود بكل لسان، المحمود من كل خلقه -سبحانه وتعالى-، المحمود -سبحانه وتعالى- الذي حمد نفسه وأثنى على نفسه بما لا يثني عليه أحدًا من خلقه -سبحانه وتعالى-، فله الحمد في الأولى؛ الحياة الأولى، وفي الآخرة؛ هو المحمود كذلك، وهو محمودٌ -سبحانه وتعالى- على أسمائه وصفاته وأفعاله، كل أفعال الله -تبارك وتعالى- خير وحق، وله الحكم؛ الحكم له كله، الحكم الكوني القدري؛ ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فحكمه نافذ في كل مخلوقاته -سبحانه وتعالى-، والحكم الشرعي الديني، الحكم الشرعي الديني فيشرع لعباده ما شاء، الحلال ما يحله والحرام ما يحرمه -سبحانه وتعالى-، الدين ما يشرعه ولا يشرك الله -تبارك وتعالى- في حكمه أحدًا، لا في حكمه الكوني القدري ولا في حكمه الشرعي الديني، فليس رسل الله -تبارك وتعالى- شركاء له في الحكم، لا يحلون ولا يأمرون ولا ينهون إلا بما يأمر به الرب -تبارك وتعالى- وإلا ما ينهى الله -تبارك وتعالى- عنه، {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ ........}[الأعراف:3]، يقول الله -تبارك وتعالى- {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا ........}[هود:112]، مثل ما أمرك الله -تبارك وتعالى-، فالرسول ومن دون الرسول ممن كل من يأمر وينهى إنما الحكم في كل هذا لله -تبارك وتعالى-، الرسول لا يأمر إلا بأمر الله، هو معصوم أن يتقول على الله -تبارك وتعالى- وأن يأمر أو ينهى إلا بأمر الله ونهيه، وكل من غير معصوم من الذين جعل الله -تبارك وتعالى- لهم شيء من الأمر والنهي كالحكام والعلماء، فإن أمروا بطاعة الله -تبارك وتعالى- أطيعوا وإن أمروا بمعصية الله عصوا، فالحكم له -سبحانه وتعالى-، الحكم الشرعي الديني إنما له –جل وعلا-، {وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}، كل مصيركم أيها العباد إنما هو إلى خالقكم وبارئكم -سبحانه وتعالى-.

ثم هنا يطرح الله -تبارك وتعالى- لهم سؤال يبين لهم أن الرب هو الذي يملك كل شيء، كل حياتهم ومآلهم إنما هو بيد الرب -تبارك وتعالى-، قل أرأيتم؛ يعني أخبروني، {........ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ}[القصص:71]، خطاب إلهي موجه إلى هؤلاء الذين يشركون به، يناقشهم الله -تبارك وتعالى- الخطاب ويناقشهم على هذا النحو، قال أرأيتم؛ أخبروني، أيها الناس الذي تشركون بالله -تبارك وتعالى- غيره، {إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ}، والليل يلحق كل مخلوق، كل موجود على هذه الأرض يغطيه الليل، فهو يلحقه ما أحد يقدر يفر منه؛ يجيه يغطيه، آدي واحدة، الأمر الأخر كل مخلوق موجود على هذه الأرض يحتاج لليل؛ يحتاجه ليحيى، نحن البشر محتاجين إلى الليل، لأن فيه سكنا، فيه راحتنا، فيه هدؤنا، النبات محتاجه، الحيوان محتاجه، حاجة إفتقار أصلي لا يمكن أن يستغني عنه، لا بقاء له بغير هذا، لا بقاء للحياة بدون ليل، وهذا الليل ليل الله؛ هو الذي فعله، {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ........}[القصص:71]، لو جعل الله -تبارك وتعالى- هذا الليل سرمد، السرمد هو يعني المستمر، المسرود سردًا لا ينقطع، مستمر لا ينقطع، ما ينقطع بنهار يأتيه، فجعل الله -تبارك وتعالى- الليل على هذا النحو عليكم، لا شك أنه تفنى الحياة وتهلك، لا تبقى حياة، مع معرفة الناس الآن أنه ليل لو كان الأرض هذه عليها ليل دائم ولا يأتيها نهار بدفئه وحرارته تتجمد، تنتهي الحياة.

{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ ........}[القصص:71]، هل هناك إله ...، إله حقيقي، إله يخلق، له فعل، {مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ}، حتى يزيل ظلمة هذا الليل، يصبح بعد ذلك لو كان الليل مستمر إستمرارًا لا إنقطاع له، يصبح مو كابوس يجب أن يزال بل خلاص هلاك، بل هذا كوضع ثقل ضاغط قاتل على هذه الأرض، تتجمد الأرض وتنتهي، من إله غير الله؟ إله له صفة الإلوهية يستحق أن يسمى إله غير الله، يأتيكم بضياء؛ ليكشف ظلمة هذا الليل، وليكون بهذا الضياء نشاطكم وعملكم وكسبكم لمعايشكم، {أَفَلا تَسْمَعُونَ}، توجيه خطاب من الله -تبارك وتعالى-، سؤال يراد به التنبه وهز هذا الإنسان وبعثه إلى التذكر والتفكر، وأنه بقبضة الرب -تبارك وتعالى- وبيده وبسلطانه وأنه في ملكه، وأنه في ملكه القهري الجبري الذي لا يمكن أن ينفك عنه، وأنه إذا أراد الله -تبارك وتعالى- ضر بأهل الأرض فإنه لا يمكن أن يزاح عنهم، فلو حكم الله -تبارك وتعالى- ببقاء الأرض في ظلمة وفي ليل لما إستطاع أحد أن يغير شيئًا من ذلك، من الذي يستطيع أن يدير الأرض مرة ثانية أما الشمس لتدور على هذا النحو؟ من الذي يملك هذا؟ من الذي يملك أن يأتي بضوء الشمس مرة ثانية ليشرق به على هذه الأرض، {مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ}، والحال أنه لا يوجد إله، لا يوجد خالق مع الله -تبارك وتعالى-، لا يوجد ظهير، لا يوجد معين يعين الرب -تبارك وتعالى-، لا يوجد من له إرادة يشارك بها إرادة الرب -تبارك وتعالى- في هذا الخلق، وقول الله -تبارك وتعالى- هنا {أَفَلا تَسْمَعُونَ} لأن سلطان السمع يكون في الليل، أعظم شيء يستخدمه الإنسان في الليل بالنسبة لديَّت، النهار آية البصر والليل آية السمع، فالسمع هو الذي يعمل ويفيد في الليل، لأن في البصر خلاص البصر يكون معطل في الليل بالظلمة، ويكون السمع هو الذي له سلطان وله عمل {أَفَلا تَسْمَعُونَ}.

{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ}، العكس، أرأيتم؛ أخبروني، {إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ}، الجعل هنا الخلق، خلق الله -تبارك وتعالى- هذا وجعل النهار سرمد، سرمد؛ دائم، يعني أنه مسرود سردًا، النهار يسرد سرد لا ينقطع إلى يوم القيامة نحترق، معرفة الناس الآن أنه لو مكثت هذه الأرض في مكانها والشمس تشرق عليها دائمة فإنه تحترق، فإن أيام الصيف التي يطول فيها النهار وقتًا ما تزداد حرارة الأرض وتزداد الحرارة، فلو كان هذه الحرارة دائمة مو فقط الإثنى عشرة ساعة ولا الأربعة عشر ساعة في النهار وإنما أربعة وعشرين ساعة، أو كان هذا مستمرًا أبدًا لأصبحت المعادن على طول التي على ظهر هذه الأرض تميع؛ يميع الحديد، فتحترق، فلو أن الله -تبارك وتعالى- جعل هذا إذن لا حياة، {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ ........}[القصص:72]، هل هناك إله خالق له القدرة مع الله -سبحانه وتعالى- غير الله -عز وجل-؟ يأتيكم بليل تسكنون فيه؛ ليل تستريحون فيه من هم النهار، فلو كان حتى هذا النهار نهار قابل للحياة اللي هو النهار المستمر هذا فإن الناس تحتاج إلى ليل تسكن فيه وترتاح فيه، {مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ}، السكون؛ الراحة والطمأنينة بظلمة الليل وبرودته، {أَفَلا تُبْصِرُونَ}، سؤال يراد به كذلك هز هذا الإنسان، تفكيره؛ أن يفكر في هذا الأمر، أفلا تبصر؟ وهنا أفلا تبصرون بعد النهار لأن سلطان البصر وفعل البصر إنما يكون بالنهار {أَفَلا تُبْصِرُونَ}.

ثم قال -جل وعلا-  {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}[القصص:73]، ومن رحمته أن هذا الفعل من رحمة الله -تبارك وتعالى- بكم، {جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ}، جعل لكم؛ خلق هنا، يعني أنه خلق الليل والنهار، صيرهما على هذا النحو متتابعان على سطح هذه الأرض، قال {لِتَسْكُنُوا فِيهِ}، هذا بالنسبة لليل، {وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ}، هذا بالنسبة للنهار، فهذا الذي يسمونه اللف؛ يعني في البلاغة اللف ونشر، قال {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ}، جمع الليل والنهار، ثم قال {لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ}، ولو بالتفصيل؛ ومن رحمته جعل لكم الليل لستكنوا فيه والنهار لتبتغوا من فضله، لكن بهذه الصيغة؛ صيغة البلاغ والإعجاز، {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ}، الإثنين فجمع بين الليل والنهار متقابلان، ثم قال {لِتَسْكُنُوا فِيهِ}، أي ليكون سكونكم في الليل، وهذا أمر لازم ويحتاج له الإنسان حاجة فطرية جبلية لابد له منها، {وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ}، أي بالتجارة وبالرزق وبالعمل، فالنهار مشرق وفيه حرارة ومناسب ليسعى الإنسان لمعايشه، {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}، يعني أن الله فعل هذا من رحمته بكم وليكون هذا دافع وسبب لكم لتعرفوا نعمة الله –تبارك وتعالى-، وأن الذي جعل لكم الليل والنهار على هذا النحو أنه هو الرب -سبحانه وتعالى- الرحيم بكم فتشكروه -سبحانه وتعالى- على نعمته، والشكر لا يكون شكرًا على الحقيقة إلا أولًا بإعتراف القلب، إعتراف القلب بالنعمة أنها نعمة الله -تبارك وتعالى-، ثم كذلك أن يجري هذا على اللسان، ثم أن يفعل الإنسان في أوامر الرب -تبارك وتعالى- ما هو من حقه؛ يقوم بحق الله -تبارك وتعالى-، ولعلكم تشكرون ربكم -سبحانه وتعالى- الذي خلق لكم الليل والنهار على هذا النحو.

ثم قال -جل وعلا- {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ}[القصص:74]، هذه تكرر هنا الأمر نفس هذه الآية قبل ذلك، {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ}[القصص:74]، وهذا تذكير بهذا الأمر العظيم الفظيع، لأن هذا الذي يظهر فيه خذي الكافر على أتم صوره، عندما يناديهم الرب -تبارك وتعالى- هذا النداء ويقول له وين الشركاء الذي أشركتموهم بالله -تبارك وتعالى-، يقول الله هذا بعد أن يبين هنا أن هذه آياته -سبحانه وتعالى-، أنه لو شاء أن يبدل هذا النظام ويجعل الليل مستمر لما إستطاع أحد أن يغير هذا، ولو أراد الله أن يجعل النهار سرمدًا إلى يوم القيامة لما إستطاع أحد أن يغير من هذا الأمر، فهو الذي ينفذ حكمه -سبحانه وتعالى-، هو الذي يخلق ما يشاء وهو الذي ينفذ حكمه في هذا الخلق، وبالتالي لا مقارنة بين الرب الإله الذي له تستحق العبادة -سبحانه وتعالى- وبين ما يعبد من دونه، فأعاد الله -تبارك وتعالى- تبكيتهم وبيان ما سيكون حالهم يوم القيامة، قال {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ}[القصص:74]، مرة ثانية، يناديهم؛ ينادي هؤلاء الضلال من الأتباع والمتبوعين، {........ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ}[القصص:74].

قال -جل وعلا- {وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا}، النزع؛ الإخراج، يعني أخذ الله -تبارك وتعالى- واستخرج من كل أمة شهيدًا، {فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ}، شهيد يشهد عليها، وهو الرسول الذي بلغهم دين الله -تبارك وتعالى-، فإن كل أمة من الأمم {........ وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلا فِيهَا نَذِيرٌ}[فاطر:24]، إلا أرسل الله -تبارك وتعالى- فيها نذير ينذرهم ويحذرهم، فكل رسول إنما هو شاهد وشهيد على أمته، كما قال -جل وعلا- {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا}[النساء:41]، طبعًا {يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا}[النساء:42]، {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}، فكل رسول إنما يؤتى به يوم القيامة شهيد على قومه، يشهد لمن أطاعه وهذا بالإيمان وبالتالي يكون الجنة، ويشهد على من عصاه فيكون هذا مآلهم إلى النار، {يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ ........}[النساء:42]، لو يكونوا في داخل الأرض مش يكونوا فوقها، {وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا}، ولا يستطيعوا أن يكتموا الله -تبارك وتعالى- حديثًا.

{وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا}، ليشهد عليهم، {فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ}، هاتوا برهانكم على شرككم وعلى كفركم، على أن هذه الآلهة التي عبدتموها من دون الله، سميتموها آلهة، أنها آلهة حقيقية تملك شيء من صفات الإلوهية، تملك أن تكون آلهة بالفعل، {فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ}، قال -جل وعلا- {فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ}، علموا؛ الكل، أن الحق لله؛ في الدنيا والآخرة، فالحق له؛ هو الذي أرسل الرسل، هو الذي أنزل الكتب، هو الذي وعظ عباده -سبحانه وتعالى-، هو الذي ذكرهم، هو الذي كانت أخباره كلها حق، أحكامه كلها عدل، وكذلك الحق له في الآخرة -سبحانه وتعالى-، فهو الذي تحقق كلامه وهو الذي ظهرت آياته -سبحانه وتعالى-، وكل ما قيل خلاف هذه الآيات في الدنيا إنما كان كذب وتمويه، فالذين دعوا الناس إلى عبادة أنفسهم الآن هم يتهربون، هم خرجوا، هم يتبرأون من أتباعهم، هما يقولون كما قالوا هنا قبل هذا {رَبَّنَا هَؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا}، ثم يتبرأون من أتباعهم قالوا {تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ}، فيكذبون ويجحدون، فيصبح الحق فقط هو لله -تبارك وتعالى-، الله هو الذي قال الحق؛ قال في الدنيا وفي الآخرة، وظهر في الآخرة لكل ذي عينين أن كل ما أخبر الله -تبارك وتعالى- به حق، {........ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}[القصص:75]، ضل؛ ذهب وأصبح ذاهب هالك، ما كانوا يفترون؛ الذي كانوا يفترونه، كل الذي أفكوه وكذبوه من إدعائهم آلهة غير الله -تبارك وتعالى-، من أن هذا طريقنا هو طريق الحق، طريق الرسل هو طريق الضلال، كل هذا الذي أفكوه وكذبوه ضل عنهم وظهرت حقائق غير التي كانوا يدعونها من الحق، ظهر الحق؛ الحق الصراح، اللي هو الذي قاله الله -تبارك وتعالى- وبطل كل هذا الذي قيل مما يضاد ذلك، {........ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}[القصص:75].

ثم بعد ذلك شرع الله -تبارك وتعالى- يبين في آخر هذه السورة شأن قارون الذي كان مع موسى، القصة هذي هذه سورة القصص هي في البداية في شأن موسى -عليه السلام-، وذكرنا أن الله -تبارك وتعالى- ذكر فيها يعني قص فيها هذه القصة، والمنحى الذي سيقت القصة هنا له هي بيان أن الله -تبارك وتعالى- إذا أراد شيئًا أنفذه، وأن الواقع قد يكون بصورة معينة ويريد الله -تبارك وتعالى- أن يغيره فيغيره؛ وله الأمر -سبحانه وتعالى-، {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ}[القصص:4]، هذي الصورة القائمة، هذا الكفر القائم، {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ}[القصص:5]، {وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ}[القصص:6]، هذي إرادة الله -تبارك وتعالى- ثم تسير السورة لبيان هذه الإرادة سيؤاخذهم، ثم كان بعد هذا بيَّن الله -تبارك وتعالى- هذا وبيَّن العاقبة والمآل الذي آل إليه قوم فرعون والمآل الذي أكرم الله -تبارك وتعالى- به موسى ومن معه، ثم بعد ذلك خاطب الله -تبارك وتعالى- كفار مكة، في أن هذا النبي الذي جاء بهذا الدين ستكون قصته قصة موسى، المآل والنتيجة ستكون له والهلاك والدمار سيكون لكم كما كان شأن فرعون، وخاطبهم الله -تبارك وتعالى- في البداية أن النبي ...، هذي آيات النبي، ما كان عند النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه- علم بهذا، {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ}[القصص:44]، {وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ}[القصص:45]، {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ}، ثم ناقشهم الله -تبارك وتعالى-؛ ناقش الله الكفار، وساق لهم الحجة تلو الحجة في هذا النقاش، وضحد الله -تبارك وتعالى- كل شبهاتهم وذلك هذا الأمر الفظيع؛ وهو إتخاذهم آلهة من دون الله -تبارك وتعالى-، وبيَّن الله -تبارك وتعالى- لهم المآل والحال التي سيكونوا عليها يوم القيامة.

قارون كان من قوم موسى وهذا حجبه عن الإيمان غناه وما كان فيه، وانظر المآل الذي آل إليه كذلك والمآل الذي آل إليه من آمنوا بموسى وإتخذوه، قال -جل وعلا- {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ}، ومعنى أنه من قوم موسى أنه من بني إسرائيل، فهو من القوم؛ القوم هم الجماعة الذين يشتركون في نسب واحد، إن قارون كان من قوم موسى؛ النبي، {فَبَغَى عَلَيْهِمْ}، بغى عليهم؛ ظلمهم وتعدى عليهم بما كان فيه، فقد كان موالي لفرعون فكان مع فرعون الكافر ضد قومه وكذلك كان على الكفر، فبغى على قومه؛ ربما كذلك كان عميلًا الفرعون وكان يدل عليهم، وكان يعاند ويعارض ما عليه موسى وما جاء به من الدين، فهو وإن كان من بني إسرائيل إلا أنه كان ملتحقًا بفرعون وصاحب أموال ويسير في ركاب الفرعون، {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ}، قال -جل وعلا- {وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ}، وآتيناه؛ أعطيناه، من الكنوز؛ ما يكتنز، والناس لا يكتنزوا إلى الثمين، يكنزا الذهب والفضة والتحف وغيرها مما قد يخف وزنه ولكن يعظم ثمنه، {مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ}، يعني مفاتيح هذه الكنوز لو جمعت وجاء عصبة من الرجال؛ عشرة، خمسة عشر، هذي عصبة؛ جماعة من الرجال، أربعين رجل هذا كلهم عصبة، والعصابة على هذا النحو، إذا قالت العرب هذي عصابة أو هذي عصبة فإنما يعني في ديَّت بهذا المجموع، لو أنهم بهذا المجموع مجموعة كبيرة على هذا النحو؛ عدد هكذا من الرجال، ليحملوا هذه المفاتيح لم يستطيعوا حملها؛ حمل المفاتيح، إذن ماذا في الكنوز بعد ذلك، فإذا الكنوز هذي لا تحملها الإبل إذا كانت المفاتيح لا تحملها العصبة من الرجال، فهذا مما يدل على مقدار ما إكتنزه من الأموال العظيمة، ما إن مفاتحه؛ مفاتيح هذي الكنوز، {لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ}، تنوء بهم؛ يعني تثقلهم وتتعبهم أن يحملوها، اولي القوة؛ أهل القوى، مش عصبة من الرجال الضعفاء بل من الرجال الأقوياء لا يستطيعون حملها، {إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ}، يعني أذكر إذا قال له قومه من بني إسرائيل {لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ}، يعني يفرح بماله وترى أن هذا أنت جدير به وهذا حقك، {لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ}، بهذا لأن الدنيا عرض زائل ولا ينبغي للإنسان أن تبطره وأن تجعله ديَّت؛ تجعله يتعالى عن الأخرين، {لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ}، ربما كذلك هذا أمر ممكن أن يزال في أي وقت.

{وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}[القصص:77]، نصح له قومه الناصحون بهذه الوصايا العظيمة، قالوا أولًا {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ}، إبتغي؛ أطلب، أطلب فيما آتاك الله من هذا المال الدار الآخرة، المال إذا إستخدم للدار الآخرة كان أعظم حرث وأعظم سبب، فإنفاقه في سبيل الآخرة أعظم شيء، ففي الفقير والمسكين والضيف وفي سبيل الله يضاعف لك، فتدخره عند الله -تبارك وتعالى- ويضاعف لك بأضعاف كثيرة، وإبتغي في هذا المال فيما أعطاك الله -تبارك وتعالى- الدار الآخرة، هذا أعظم إستثمار، أعظم إستثمار لك بهذا المال العظيم أن تستثمره في الدار الآخرة ليكون لك به الثواب العظيم عند الله -تبارك وتعالى-، ولا شك أن هذا كما قال النبي -صلوات الله والسلام عليه- «لا حسد إلا في إثنتين؛ رجل آتاه الله مالًا فسلطه على هلكته في الحق، ورجلًا آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها»، فأعظم إستثمار؛ إستثمار المال في سبيل الله.

سنعود -إن شاء الله- إلى هذه الآية في الحلقة الآتية، نقف عن هذا، استغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وأصلي وأسلم على عبد الله ورسوله محمد، والحمد لله رب العالمين.