الجمعة 21 جمادى الأولى 1446 . 22 نوفمبر 2024

الحلقة (477) - سورة القصص 76-83

{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الفاتحة:2]، {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}[الفاتحة:3]، {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}[الفاتحة:4]، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن إهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ}[القصص:76]، {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}[القصص:77]، {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ}[القصص:78]، {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}[القصص:79]، {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ}[القصص:80]، يخبر -سبحانه وتعالى- في ختام هذه السورة؛ سورة القصص، عن قارون ويقول -جل وعلا- {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى}، قيل إنه إبن عم موسى -عليه السلام- فهو من بني إسرائيل، {فَبَغَى عَلَيْهِمْ}، والبغي هو التطاول والعلو والظلم عليهم، وأنواع البغي التي ذكرت هنا أولًا تفاخره عليهم وسيره في ركاب فرعون، ولعله كذلك كان من الشيوخ الذين يشون بأمر موسى وأمر الذين آمنوا معه إلى فرعون، فإن الذين آمنوا بموسى -عليه السلام- من قومه قد كانوا ذرية، كما قال -جل وعلا- {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ ........}[يونس:83]، يعني الملأ من بني إسرائيل، فلعله كذلك كان أيضًا عميلًا لفرعون ضد أمته وضد شعبه، {فَبَغَى عَلَيْهِمْ}، قال -جل وعلا- {وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ}، آتيناه؛ أعطيناه، أعطاه الله -تبارك وتعالى- من الكنوز، الكنز؛ ما يكتنز، دائمًا يكتنز كل ذي قيمة من الذهب والفضة الآلئ والجواهر وغير ذلك من الأشياء الثمينة، ما إن مفاتحه؛ مفاتيح هذه الكنوز، لتنوء بالعصبة أولي القوة؛ حملها، يعني لا يستطيع أن يحمل المفاتيح فقط وليس الكنوز، مفاتيح هذه الكنوز تتعب وتثقل العصبة من الرجال أولي القوة، {إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ}، الفرح؛ بطر وعلو، {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ}، الفرحين يما أخذوه من هذه الدنيا والذين يبطرون به، ويرون أن هذا حظهم وأن هذا نصيبهم فيفرح بذلك.

{وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ}، إبتغي؛ أطلب، بما آتاك الله -تبارك وتعالى- من هذا المال الدار الآخرة، فإن أعظم ما يستثمر للآخرة المال الطيب؛ المال الصالح، نعم المال الصالح للعبد الصالح، وكما قال النبي «لا حسد إلا في إثنتين رجل آتاه الله مالًا فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها»، بمن آتاه الله مالًا وسلطه على هلكته في الحق؛ إبتغى به الدار الآخرة، فأنفق على نفسه وأهله بالمعروف والنفقة على الأهل فيها أجر عظيم، دينار تنفقه على أهلك ودينار تنفقه في سبيل الله ودينار تنفقه على مسكين، أعظمها أجرًا الذي تنفقه على أهلك، ثم النفقة على المسكين والفقير وفي وجوه الخير؛ وجوه الخير المتعددة، أكثر من أربعين خمسين وجه من وجوه الإنفاق الطيبة الإنفاق فيها أكبر حرث للآخرة، قالوا له {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ}، من إنفاق هذا المال في طرق الخير في مظانه، مما يعلي كلمة الله -تبارك وتعالى- في الأرض، ومما يسد حاجة الفقير والمسكين، {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ}، أطلب ثواب زراعتك هذا المال في وجوه الخير عند الله -تبارك وتعالى- في الدار الآخرة، فإن هذا أعظم حرث، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة.

{وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا}، يعني تمتع بالمال بما أعطاك الله -تبارك وتعالى-، لا تنسى نصيبك من الدنيا طعامًا وشرابًا وزينة بالمعروف وتمتعًا بهذه، وهذا الذي قيل له هو أيضًا ما وصى الله -تبارك وتعالى- به عباده المؤمنين وكل بني آدم، قال {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}[الأعراف:31]، {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ}، فهؤلاء نصحوا ...، يعني أهلوا وقومه نصحوه بهذه النصح العظيم، قالوا له {وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ}، أحسن في سيرك بهذا المال كما أحسن الله -تبارك وتعالى- إليك، {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ}[الرحمن:60]، أحسن الله -تبارك وتعالى- إليك بإعطائك هذا المال وتمكينك منه فأحسن كذلك، أدي حق الله -تبارك وتعالى-؛ هذا الإحسان، وكذلك أدي حقوق الناس، {وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ}، لا تطلب بهذا المال الفساد في الأرض، فالعلو به وإنفاقه في الحرام وإنفاقه إسرافًا وتبذيرًا إفساد في الأرض، أولًا يكسر بهذا قلوب الفقراء، يمنعه عن وجوه الخير، قد ينفقه في الحرام، ينفقه في التبذير، إفساد في الأرض، {وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}، إعلم أن الله -تبارك وتعالى- لا يحب المفسدين، وعظ ونصح عظيم من قومه لقارون وهو أكمل ما يمكن، أكمل ما يمكن لمن أوتي مالًا أن يسير بهذه السيرة، {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ ........}[القصص:77]، أربعة نقاط وأمور لو سار فيها صاحب المال؛ الذي أعطاه الله -تبارك وتعالى- المال، لكان من أسعد الناس وكان من أعظمهم حظًا.

لكن هذا الشقي المغرور رد عليهم هذا الرد، {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي}، إنما أوتيته؛ أوتيت هذا المال وهذه الكنوز، على علم عندي؛ قال أهل العلم على علم عندي يعني أن الله يعلم أنني أستحقه، وأنا حظ ونصيب أعطاينه الله -تبارك وتعالى- لأني جدير بهذا، فهو يرى أنه جدير بالمال الذي أعطاه الله -تبارك وتعالى-، كشأن كل كافر يعطى المال فيقول هذا لي، هذا لي يعني هذا حظي وهذه نصيبي، وكان قوم فرعون إذا جائتهم الحسنة قالوا لنا هذه، {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ ........}[الأعراف:131]، يعني لنا هذه؛ أن هذه حظنا ونصيبنا وأننا أعطيناها، أو {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي}، يعني أني كسبت هذا المال بخبرتي وعلمي، وأنه له الحق في أن يتصرف في ماله كما يشاء فهو الذي كسبه بخبرته وحذقه ومهارته وحرصه وفنه في جمع هذا المال وحفظه، {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي}.

قال -جل وعلا- {أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا}، لا شك طبعًا قوله "على علم عندي" كذب، سواء كان على علم عندي أن الله -تبارك وتعالى- أعطانيه على حظي ونصيبى وأني أستحقه وأني جدير بهذا، أو أنه كسبته بما لي من حذق ومهارة، كل هذا كذب، فإن الله -تبارك وتعالى- هو معطيه وهو مسديه -سبحانه وتعالى-، ويعطي الله -تبارك وتعالى- المال للإختبار والإبتلاء وليس للجدارة للديَّت، لأنه يستحق هذا فيعطيه... لا، الله يعطي المال للصالح وغير الصالح، للمؤمن والكافر، إنما هو إبتلاء وإختبار منه -سبحانه وتعالى-، {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً}، {........ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ}[النمل:40]، فهو ليس جدراة وإستحقاق، {فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ}[الفجر:15]، {وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ}[الفجر:16]، {كَلَّا}، ليس الأمر على هذا وهذا فإنما إعطاء الله -تبارك وتعالى- المال لعبده المؤمن إختبار له وإمتحان له، هل يشكر الله -تبارك وتعالى- ويعلم أن هذا فضله وإنعامه وإحسانه، فيقوم بحق شكر الله -تبارك وتعالى- أم يجحد ويطغى ويكفر، وكذلك هذه الخبرة أن يقول أنا إكتسبت المال بخبرتي وبجهدي، ومن أين أتيت بهذه الخبرة؟ من معطيك إياها؟ من الذي مكنك من هذا؟ من الذي وهبك هذه المقدرة؟ من الذي يسر لك هذه الأمور لتكسب على هذا النحو؟ كله بفضل الله -تبارك وتعالى- وإحسانه، فهذا كافر جاحد لربه -سبحانه وتعالى-؛ جاحد لإنعامه وإفضاله.

{قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي}، لذلك قال -جل وعلا- {أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا}، يعني من أمثال هذا المجرم الأفاك الكذاب الذي يقول أوتيته على علم عندي ولا يذكر فضل الله -تبارك وتعالى-، ولا يقر ويعترف بأن هذا إنعامه وإفضاله -سبحانه وتعالى-، قال -تبارك وتعالى- مثل هذا الكافر قد أهلك الله من أمثاله الكثير، {أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ}، القرون جمع قرن، والقرن الفئة التي يقترن بعضها ببعض في جيل واحد؛ قرون الكفر، {مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا}، للمال، قال -جل وعلا- {وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ}، يوم القيامة يهانون حتى إنهم لا يسأل عن ذنوبهم سؤال عتاب، ولا سؤال طبعًا إستفهام الله لا يسأله يستفهم منهم، وإنما يهان فيؤخذ إلى النار ويدع فيها دون أن يسأل، {فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنسٌ وَلا جَانٌّ}[الرحمن:39]، لكن لا ينفي هذا أن يسأل سؤال الإهانة والتقريع والتوبيخ، ولكن سؤال أن يسأل عن ذنبه من باب أن يعاتب فيه وأنه لما قال هذا وكان الأفضل أن يقول هذا... لا، {وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ}، فهذا المجرم الذي كفر بالله -تبارك وتعالى- وأنكر فضله وإحسانه، وأبى أن يسير في المال كما أمر الله -تبارك وتعالى-، وأن يتمتع به ما شاء في حدود ما شرعه الله -تبارك وتعالى-، بل له أن يتصرف فيه التصرف الذي يراه لأنه هو مالكه وهو الذي كسبه على هذا النحو، فهذا المجرم الله -تبارك وتعالى- يقول له هو وأمثاله يوم القيامة لا يسألهم الله -تبارك وتعالى- عن ذنوبهم، {وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ}.

ثم شرع الله -تبارك وتعالى- يبين كيف أن الله -تبارك وتعالى- إستدرجه إلى حتفه، قال -جل وعلا- {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ}، فخرج على قومه؛ أي متباهيًا في زينته، زينته؛ الزينة كل ما يتجمل به من أنواع التجمل، من الثياب، من الخدم، من المراكب الفخمة، من الناس الذين أمامه، من الناس الذين خلفه، من موكبه وأبهته وعظمته، {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا}، هذا خلاص يعني منظر الدنيا بما يبتغيه الناس أصبح خلاص متمثل أمامهم في قارون بهذه الصورة، {قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا}، أي ولا يريدون غيرها؛ فقط يريدون الدنيا، يريدوا المتاع والزينة والفخامة والفخفخة وها ديَّت فهذا النموذج؛ فهذا نموذجهم، قالوا {يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}، يا ليت؛ تمني، تمنوا أن يكون لهم أي من الأموال مثل ما أوتي قارون؛ مثل الذي أعطيه قارون، إنه لذو حظ؛ نصيب، عظيم؛ له نصيب عظيم في هذه الدنيا، ولذلك هذا بقى عنده هذه الكنوز العظيمة وعنده هذه الزينة وهذا الزخرف وهذا التمكين وهذه الأبهة وهذه الفخامة، فهذا غاية ما يتمناه أهل الدنيا.

لكن أهل العلم على الحقيقة أهل العلم والإيمان المؤمنون بالحقيقة الذين أتاهم الله العلم، قال -جل وعلا- {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ}[القصص:80]، ويلكم؛ كلمة وعيد وتهديد لهؤلاء المغفلون، الذين ظنوا أن هذا هو منتهى الآمال وهو منتهى التمني أن يكونوا مثل قارون، قالوا لهم {وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا}، ثواب الله في الآخرة؛ يعني مجازاته عبده المؤمن على عمله الصالح خير من كل هذا، شنو هذا؟! ما هذا؟! هذا نعيم زائل، ثواب الله خير؛ أخير، {لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا}، فالمؤمن بالله -تبارك وتعالى- الذي عمل عمل صالح وسيلقى جزاء ذلك عند الله -تبارك وتعالى- الجنة وارفة الظلال ثابتة الأركان، الجنة ثمرة يانعة، شجرة مورقة، ظل دائم، نهر مطرد، جارية حسناء، لا هم ولا غم ولا حزن ولا ما يكدر الخاطر، أهل الجنة لا يفنى شبابهم ولا تبلى ثيابهم ولا يكدر خاطرهم أي مكدر، وهم ماكثين فيها مكثًا لا إنقطاع له، أين هذا من هذا الذي يتلهى بما هو فيه من الزينة، أيام معدودات، وهذا الذي يتلهى فيه ليس خالصًا من كل الكروب والهموم والغموم والمخاوف، بل هي كأس حلوة في الظاهر لكنها ممزوجة بالمر، فلا تصفوا الدنيا لأحد مهما كان، فهذا الذي في زينته لا شك أن خلفه وأمامه من الهموم والغموم والمخاوف أمور عظيمة جدًا كلها منغصات لما هو فيه، كيف يكون هذا؟ أي متاع هذا الذي هو فيه؟ فقالوا لهم {........ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ}[القصص:80]، ولا يلقاها؛ هذا الثواب العظيم وهذه الجنة العظيمة، إلا الصابرون؛ الصابرون على الإيمان والطاعة ده صبر، الصابرون على قد يكونوا في هذه الدنيا من أهل الحرمان ومن أهل ديَّت، فهؤلاء الفقراء هم الذين تمنوا هذا الأمر، فقد يصبر على ما في هذه الدنيا من الضيق في الرزق والجوع والمرض، والأحداث التي بتلي الله -تبارك وتعالى- به عباده، الصابر عن المعاصي، قد يكون دواعي الشهوة تدعوه بكل داعي لكنه يصبر عن معاصي الله -تبارك وتعالى-، فهذا الصابرون الذين صبروا عن معاصي الله -تبارك وتعالى-؛ ما عملوها، وصبروا على الطاعة لله -تبارك وتعالى-، فقاموا صيامًا وصلاة وحجًا وعبادة لله -تبارك وتعالى- وجهادًا في سبيله، الصابر على الأحداث؛ على ما يصيبه في هذه الدنيا من الأحداث، فهؤلاء الصابرون هم الذين يلقون جنة الله -تبارك وتعالى-، {وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ}، موعظة عظيمة كذلك وعظ بها أهل العلم الذين يعرفون حقائق الأمور، لم يعشي بصرهم هذا الزخرف الذي فيه قارون وأشكاله، ولم يعموا عن الحق؛ علموه لأنهم أهل العلم.

ثم قال -جل وعلا- {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ}، هذا الأبهة والفخامة والرياش والزينة، هو هارون الله يقول {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ}، هو وداره لأن الدار هذه هي بيته وعظمته، وبيت زخرفه وزينته، فهو وداره خسف الله -تبارك وتعالى- به الأرض، والخسف هو هبوط سطح الأرض إلا أسفلها، هو وداره {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ}، الله يقول {........ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ}[القصص:81]، فما كان له من فئة؛ جماعة، ينصرونه من دون الله؛ يعني يغلبون الرب -تبارك وتعالى- ويمنعون عن قارون عقوبة الرب -تبارك وتعالى-، والله -تبارك وتعالى- قد إختار له العقوبة المناسبة لأن هذي الفتنة خلاص، فتنة قارون علت في الأرض وزادت فالله -تبارك وتعالى- أسقطها في الأرض ليزيل هذه الفتنة، لأن الفتنة تفتن الناس فأزالها الله -تبارك وتعالى- {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ}، وهذا جزاء المجرم المتكبر، قال -جل وعلا- {........ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ}[القصص:81]، لا يمكن أن يكون من المنتصرين، لأن خلاص قد صدر حكم الله -تبارك وتعالى- وجائت عقوبته، فلا يمكن أن ينتصر ولا يمكن أن تكون هناك جماعة في الأرض تستطيع أن توقف بأس الله -تبارك وتعالى- به.

المشهد الآن تغير وجاء هؤلاء المتمنون مكان قارون وأن يكون لهم مثله، رأوا الأمر تغيير تمامًا، وين ...، انظر صنيع الله -تبارك وتعالى- في هذا المجرم المتكبر كيف كان، قال -جل وعلا- {وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ}[القصص:82]، {وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ}، عندما تجلى الصباح وظهرت الحقائق وخسف بقارون مع قصره، قال أولئك بعد أن ظهر لهم هذا الذين تمنوا مكانه؛ الذي تمنوا أن يكون لهم مثل ما لقارون من المال، يقولون وي؛ وي كلمة فزع وتعجب، {وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ}، يعني كأن الأمر على هذا النحو؛ أن الله -تبارك وتعالى- هو الذي يبسط الرزق، ومعنى يبسطه يعني يوسعه -سبحانه وتعالى-، {الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ}، ويقدر؛ يضيقه، فقضية توسعة الرزق وتضييقه إنما هي بيد الله -تبارك وتعالى-، فالله هو الذي يوسع الرزق على من يشاء وهو الذي أعطى قارون ما أعطاه، وهو الذي يضيق كذلك الرزق على من يشاء وكل هذا إختبار وإبتلاء منه -سبحانه وتعالى- بهذا وهذا، كأن الله؛ يعني كأن الأمر على هذا النحو، {وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا}، تذكروا أنهم قد كانوا مشتركين في الجريمة، لأن ذاك كان هو المجرم في ثيابه وهم تمنوا أن يكونوا مثل هذا المجرم فهم مشتركون في هذا، لكن حمدوا الله -تبارك وتعالى- أن الله -تبارك وتعالى- لم يخسف بهم كما خسف بقارون، قالوا {لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا}، يعني أذهبنا محله، فإنا قد كنا نتمنى أن نكون مثله، وي؛ مرة ثانية، {وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ}، وي؛ كلمة الفزع والخوف، كأنه؛ الشأن والحال، لا يفلح الكافرون؛ الكافر لا يفلح وهذا إن أعطي في الدنيا ما يعطى، فهذا قارون قد أعطي كل ما يمكن أن يتمناه صاحب دنيا، الكنوز والزينة والزخارف والأمور كلها والتمكن في مكانه ومع ذلك لم يفلح، فإن هذه كانت نهايته، وما ينتظره طبعًا من العقوبة الأخروية أشد وأنكى، {وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ}، فالكافر لا يفلح، والفلاح هو الفوز بالمطلوب الأكبر، لا يمكن أن ينال مطلوبه الأكبر، ومطلوب الإنسان الأكبر السعادة والأمن والرفاهية والبقاء والخلود، كل هذا لا يمكن أن يناله الكافر، بل الفلاح إنما هو لأهل الإيمان، والفلاح أهل الإيمان مفلحون لأن الله -تبارك وتعالى- ينجيهم من أكبر مخوف وهو النار، ويسكنهم في أعظم مكان وهو الجنة، المكان الذي لا يبغون عنه حولًا؛ لا يريدون أن يتحولوا عنه، من جماله وحسنه وطهارته ونظافته وإشراقته، والنعيم الذي جمعه الله -تبارك وتعالى- لأهله من كل ما يتخيل وما لا يتخيل، «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر»، فالكافر لا يفلح وإنما الفلاح فقط لأهل الإيمان، {وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ}.

ثم قال -جل وعلا- {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ}، وتلك بالإشارة للبعيد لأنها أمر عظيم عالي الشأن، وهو بعيد لأن الطريق إليه طويل، {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا ........}[القصص:83]، نجعلها؛ نجعل هذه الدار الآخرة، البقاء فيها والخلود فيها يعني جنة الله -تبارك وتعالى- التي أعدها لأهلها، {لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا}، هذه هي صفة من يجعل الله -تبارك وتعالى- لهم الفلاح، {لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ}، علو؛ تعالي على الناس، مثل هذا قارون الذي تعالى على الناس بما أعطاه الله -تبارك وتعالى-، ورأى أنه له فضل عليهم وأنه أعلى منهم وأنه أفضل منهم، فكل من تعالى على الناس بشيء فهو ممن يريد العلو، حتى قال بعض أهل العلم لو أنه إفتخر بأن شراك نعله أفضل من شراك نعل الأخر فكذلك، وقد جاء في الحديث أن التعالي بأي شيء مما أعطى الله -تبارك وتعالى- العبد؛ بزخرفه، بزرينته، بثيابه، بأي صورة من الصور، كما قال -صل الله عليه وسلم- «لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر ثوبه خيلاء»، فالذي يجر ثوبه فقط يختال بثوبه ويرى أنه أفضل على الناس بهذا الثوب فهذا لا ينظر الله -تبارك وتعالى- إليه، فكيف بمن يختال بزينته، بزخرفه، بأي صورة من صور مما أعطاه الله -تبارك وتعالى-، فكل ما يعطى إنسان في الدنيا إنما هي عطاء الله -تبارك وتعالى- ولا يجوز لأحد أن يتعالى به على الأخرين، والتجمل والتزين بالزينة إذا كان مما ليس فيه تعالي فهو مما يحبه الله -تبارك وتعالى-، كما قال بعض الصحابة قال النبي -صل الله عليه وسلم- فسألوا النبي قالوا «يا رسول الله إني أحب أن تكون نعلي حسنة وثوبي حسن، أفذلك من الكبر؟ فقال النبي لا، إن الله جميل يحب الجمال».

الكبر؛ بطر الحق وغمط الناس، الكبر إما إنسان يعطى الحق فيأباه، كإبليس الذي أمر بالحق فأبى، وغمط الناس؛ إحتقارهم، فمن إحتقر الناس ورأى أنه أعلى منهم؛ بنسب، بمال، بزينة، بصورة، أعطاه الله -تبارك وتعالى- صورة جميلة فإحتقر من كان دونه بصورة ذميمة؛ لون، غيره، فكل من رأى أن له علو على الناس بأي صورة من الصور هذا الذي يريد علو، {لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ}، بأي شيء حتى بالطاعة، لا يرى أنه يتعالى بذلك ديَّت وإنما يعلم أن ذلك فضل الله -تبارك وتعالى- وأنها نعمته وهدايته، فالهدى هدى الله –تبارك وتعالى- وهذا فضله ونعيمه لعبده المؤمن، أن هداه -سبحانه وتعالى- ووفقه، فلا يرى لنفسه فضل حتى بهذا، {لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا}، فسادًا؛ الفساد اللي هو كل ما هو ضد الصلاح، ففي ناس تريد العلو وفي ناس تريد الإفساد، الإفساد كاللص؛ فاللص لا يريد علو لكنه يفعل الفساد، فاللصوصية والزنا وغير ذلك من كل المعاصي هذا الفساد، فالذين لا يريدون العلوا والتكبر والتعالي ولا الفساد هؤلاء أهل الآخرة، {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا ........}[القصص:83]، المعاصي كلها من الفساد، {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}، العاقبة؛ النهاية للمتقين، نسأل الله أن يجعلنا من المتقين.

نقف عند هذا وصل الله وسلم على عبد ورسوله محمد، وصل الله وسلم على عبده ورسوله سيد الأولين والآخرين.