الجمعة 25 شوّال 1445 . 3 مايو 2024

الحلقة (48) - سورة البقرة 168-172

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على عبد الله والرسول الأمين، وعلي آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد أيها الإخوة الكرام، يقول الله -تبارك وتعالى- {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالًا طَيِّبًا وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}[البقرة:168]، {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ}[البقرة:169]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ}، هذا هو النداء الثاني في القرآن، الذي يخاطب الله -تبارك وتعالى- فيه الناس جميعًا، الخطاب الأول أو النداء الأول للناس قول الله -تبارك وتعالى- في بدء سورة البقرة {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[البقرة:21]، فكان في النداء الأول دعوة للناس جميعًا أن يعبدوا ربهم، الذي لا رب لهم سواه، فهو الذي خلق لهم هذه الأرض، وبنى لهم هذه السماء، وأنزل لهم المطر ليكون رزقهم به، فهو إلههم الذي لا إله لهم غيره -سبحانه وتعالى-، دعوة إلى توحيد الله وعبادته، ونهي عن الشرك به -سبحانه وتعالى-، وهنا دعوة من الله -تبارك وتعالى- وأمرٌ منه -جل وعلا- للناس جميعًا، أن يأكلوا مما في الأرض حال كونه حلالًا طيبًا، قال {يَا أَيُّهَا النَّاسُ}، هذا يشمل الجميع، نداء من الله -تبارك وتعالى- إلى جميع بني الإنسان بني آدم، {كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالًا طَيِّبًا}، هذا إباحةٌ منه -سبحانه وتعالى- للناس أن يأكلوا مما في الأرض، من كل ما في الأرض، وقال مما في الأرض لأنه مهما بلغ الناس لا يأكلون ما في الأرض كلها، قال مما في الأرض حال كونه حلالًا طيبًا، حلالًا أحله والحلال ضد الحرام، والحرام هو الممنوع، والحلال هو المبذول والمسموح فيه، طيبًا؛ الطيب ضد الخبيث، والطيب من المطعومات والمشروبات على الصحيح هو ما زادت منافعه على مضاره، فكل شيء تزيد منافعه البدنية والنفسية وآثاره الطيبة على مضاره فهو الطيب، وإذا زادت مضاره على منافعه فهو الخبيث، فهذه الآية إخبارٌ منه -سبحانه وتعالى- بأنه أحل لعباده -سبحانه وتعالى- كل ما في الأرض، أن يأكلوا منه حال كونه حلالًا طيبًا، والحرام جاءت بتفصيله الرسالات، فالأصل في هذه الأشياء كلها الحِل.

والحرام جاء الله -تبارك وتعالى- بتفصيله على ألسنة رسله، كما قال -سبحانه وتعالى- في شريعة النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه- {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ}[الأنعام:119]، إلا ما تُلجئكم إليه الضرورة، الضرورة التي هي الحاجة التي تُفضي إلى الموت، فإنه يباح الأمر الذي حرَّمه الله والشيء الذي حرَّمه الله -سبحانه وتعالى-، فإذن سمح الله -تبارك وتعالى- للناس أن يأكلوا مما في الأرض، حال كونه حلالًا -يعني غير حرام-، والأصل في الأشياء الحِل, والحرام مفصل، وطيبًا أي أنهم يرون أن منافعه تزيد على مضاره، هذا فيما لم ينزل فيه التشريع بشيء، فإنهم يعرفون بهذا ما يحِله الله -تبارك وتعالى- وما يحرمه، فإذا ثبت أن شيئًا من الأشياء من النبات أو من الثمار فيها ضرر كسموم ضارة بالجسم، أو آثار ضارة، فإنه يبقى هنا لا ضرر ولا ضرار، لابد أن يكون الأمر طيبًا، أيضًا من معاني الحِل أن يكون قد وصلك هذا الذي تأكله من طريق حلال، ولو كان هذا الشيء الذي تأكله طيبًا في نفسه، فإن الله -تبارك وتعالى- قد حرَّم أنواع من المكاسب، جاءت الشريعة ببيانها كالربا والقمار والغصب والسرقة والاختلاس، وأكل مال الغير بالباطل، فإن وصول هذه الأطعمة والأشربة إلى الإنسان بطريق من هذه الطرق، التي حرَّم الله -تبارك وتعالى- الكسب منها، فإنه يبقى كسبا خبيثا، إذن هذه إباحةٌ من الله -تبارك وتعالى- للناس أن يأكلوا مما في الأرض، لكن بهذين الشرطين أن يكون حلالًا طيبًا.

ثم قال -جل وعلا- {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ}، خطوات جمع خطوة، والخطوة هو واحدة نقل القدم مرة واحدة هذه خطوة، والمقصود لا تتبعوا خطوات الشيطان أي لا تسيروا خلفه فيما يدعوكم إليه، وقد بيَّن الله -تبارك وتعالى- خطوات الشيطان هذه، فقال {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ}[البقرة:169]، هذه هي دعوة الشيطان، وهذا طريقه الذي يجذب الناس إليه أن يسيروا في هذا الأمر؛ وراءه في هذا الأمر، فسر الله -تبارك وتعالى- أو حذَّر الله من الشيطان قال {إِنَّهُ}، أي الشيطان، {لَكُمْ}، أي أيها الناس، {عَدُوٌّ مُبِينٌ}، عدو بيِّن العداوة؛ بيِّنةٌ عداوته، وهذا تحذير من الرب -تبارك وتعالى- من الشيطان، الذي قد أعلن العداوة لهذا الإنسان، لآدم ولذريته إلى يوم القيامة، هذه مهمته الأولى، {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}.

قال -جل وعلا- {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ}، هنا إنما للحصر، وهذه دعوة الشيطان لكم، {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ}، أيها الناس، {بِالسُّوءِ}، السوء هو كل معصية لله -تبارك وتعالى- هي من السوء، يعني بمعصية الله -تبارك وتعالى-، وسميت سوءًا؛ لأنها في النهاية تسوء صاحبها، وهو أمرٌ سيئ في نفسه لأنه في النهاية يسوء صاحبه، يجعله يساء من ذلك, وذلك عندما يرى جزاء فعله الخبيث، {وَالْفَحْشَاءِ}، باسم الجنس أو الاسم لاستغراق الفحشاء كل فُحش، والأمر الفاحش هو الغليظ، والمقصود هنا الغليظ في الإثم والقبح، {........ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ}[البقرة:169]، تقولون عليه ما لا تعلمون، تنسبون الأمر إلى الله -تبارك وتعالى- بظن منكم، بجهل منكم، والله لم يقله –سبحانه وتعالى-، ومن القول على الله بلا علم: تحريم ما لم يحرمه الله، تحليل ما لم يٌحِله الله -تبارك وتعالى-، هذا من هذا الباب، قولٌ على الله بلا علم، وأما القول على الله بلا علم فهو كثير، بل أكثر ضلال الناس من هذا الباب، ينسبون إلى الله -تبارك وتعالى-؛ فقد نسبوا إلى الله -تبارك وتعالى- الآلهة والأنداد والشرك، بل فعل المشركون القبائح وقالوا أن الله هو الذي أمرنا بها، كما قال -تبارك وتعالى- {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا ........}[الأعراف:28]، أمرنا بها إما أمرا يزعمون عن طريق الوحي، وإما أمرنا بها أمرا كونيا قدريا، أي أننا نقوم فيما أقامنا فيه الرب، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا، فهذا كله من اتِّباع خطوات الشيطان، فهذا من خطوات الشيطان، إذن تنحصر خطوات الشيطان في أنه يدعو إلى معاصي الله -تبارك وتعالى-، سواء كانت معصية صغرى قليلة، أو كبيرة غليظة في الإثم، {........ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ}[البقرة:169]، وهذا لا شك أنه أعظم السوء.

بعد هذا التوجيه من الله -تبارك وتعالى- للناس جميعًا، أن يأكلوا مما في الأرض، مما خلقه الله -تبارك وتعالى- لهم في الأرض، وأن يتجنبوا ما حرَّمه -سبحانه وتعالى-، يأكلون الحلال ويتجنبون الحرام، وكذلك يأكلون الطيب ويتجنبون الخبيث، وألا يتَّبعوا الشيطان في هذا، فإن الله هو له الحق أن يشرِّع لعباده ما يأخذون وما يذرون، في هذا الأمر وهو الطعام الذي هو أعظم حاجات الإنسان، فأعظم الغرائز في الإنسان على الإطلاق هو حاجة الإنسان إلى الطعام، لأنه بالطعام والشراب يحيا وبغيره يموت، إذا لم يطعم ولم يشرب يموت، فتتوقف الحياة على هذا، فيجب أن يطيع في هذا الأمر ربه وإلهه وخالقه ومولاه، فإن الله هو خالق كل شيء -سبحانه وتعالى-، فالله هو الذي يُحِل ما يشاء ويحرِّم ما يشاء -سبحانه وتعالى-، وهذا توجيهٌ وإلزامٌ من الله -تبارك وتعالى- للناس، أن يسيروا في هذا الباب بما ألزمهم الله -تبارك وتعالى-، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالًا طَيِّبًا وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}[البقرة:168]، {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ}[البقرة:169].

ثم بيَّن الله -تبارك وتعالى- حال الكفار من هذا النداء، فقال -جل وعلا- {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ}[البقرة:170]، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ}، أي قيل للكفار، لهم أي الكفار، والقائل هو الرسول -صلوات الله والسلام عليه-، فإذا أنزل الله -تبارك وتعالى- وحيه على رسله، وقال الرسول للناس {اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ}، سيروا حيث أمركم الله -تبارك وتعالى-، ما أنزله الله -تبارك وتعالى- على ألسنة رسله، {قَالُوا}، أي الكفار، {بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا}، أضربوا عن هذا الأمر، وتركوا ما أنزله الله -تبارك وتعالى-، وقالوا إن الذي علينا أن نتَّبعه هو {مَا أَلْفَيْنَا}، ما وجدنا، {عَلَيْهِ آبَاءَنَا}، ما شرَّعه لنا الآباء وساروا عليه، فهذا هو الدين والنهج والمسلك الذي نسلكه، وهذا إجرام، كيف يأمرك الله -تبارك وتعالى- بأن تتبع ما أنزله -والله له الحق في أن يأمر عباده -سبحانه وتعالى- بما شاء، فيُحِل لهم ما شاء ويحرِّم عليهم ما شاء، ويضع لهم الصراط الذي يجب عليهم أن يسلكوه، هذا لأنه هو الرب الإله الخالق -سبحانه وتعالى-، فهو الذي له الأمر والنهي، هم يضربون على هذا، يقولون لا؛ لا نتبع ما أنزله الله، بل نتبع ما ألفينا عليه آبائنا، تراثنا وتراث آبائنا وأجدادنا، ما وجدنا على الآباء والأجداد من تحليل وتحريم ومنهج وعادة، هو الذي نسير عليه، هذا مقابلة شرعة الله -تبارك وتعالى- وأمر الله -تبارك وتعالى-، ومعارضة هذا بما كان عليه الآباء والأجداد.

قال -جل وعلا- {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ}، حتى وإن كان هؤلاء الآباء لا يعقلون شيئًا ولا يهتدون، والحال أن هؤلاء الآباء لم يكونوا يعقلون شيئًا، وذلك أنهم كانوا بعيدين عن منهج الله -تبارك وتعالى- وعن صراط الله -عز وجل-، فلم تكن لهم عقول ليفكروا بها، ويعلم أنه لا يجوز أن يُحِل ويحرِّم ويدع، هذا حق  الخالق -سبحانه وتعالى-، {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ}[الأعراف:54]، فالذي خلق هو الذي يأمر، أما أن تأتي تعيش في هذا الكون, الله خلقك وخلق كل ما حولك، ويقول لك افعل هذا ولا تفعل هذا، تقول لا؛ لا أتبع طريقك ولا أمرك ولا نهيك، وإنما أنا آخذ الأمر والنهي من آبائي وأجدادي، فهؤلاء الآباء كان يحلون ويحرمون بأهوائهم، وبغير هدًى من الله -تبارك وتعالى-، ويظنون أن هذا الأمر لهم، وأن لهم أن يفعلوا هذا، فهؤلاء لا عقول لهم، لم يكن لهم عقل يفكرون به، وأن مقتضى العقل هو أنك في هذا الدار هذي بيت الله، أنت في بيت الله -تبارك وتعالى- وأنت صنعةٌ من صنعته، وهو الذي خلقك وهو الذي أقامك في هذي الأرض؛ والأرض كلها له، والذي تأكله وتشربه هي خَلقه، فهو الذي له أن يأمرك وينهاك، فكيف تفعل هكذا ما تريد؟! وتترك ما تريد؟!، وتظن أن لك أن تفعل هذا؟!، {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ}، أيتبعوهم لو كانوا على هذا النحو، لا عقل لهم، ولم تكن لهم هداية، ما كانوا على هدى وإنما كانوا على ضلال فيتبعونهم.

ثم قال -جل وعلا- {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ}[البقرة:171]، هذا مثلٌ آخر ضربه الله -تبارك وتعالى- لهؤلاء الكفار، عندما شبَّه الله -تبارك وتعالى- هؤلاء الكفار؛ عندما يُدعَون إلى الهدى ما موقفهم؟ شبهم الله -تبارك وتعالى- بقطيع الغنم أو البقر، الذي ينعق فيه راعيه، فلا يسمع ولا يعي من نعيق الراعي إلا دعاءً ونداء، دعاء للطعام، دعاء للشراب، فيصرخ الراعي في غنمه، يعرفون صراخه إذا دعاهم لطعام أو دعاهم لشراب فقط، أما إذا وقف فيهم خطيبًا يدعوهم إلى الهدى ويرشدهم إلى طريق فإنهم لا يفقهون عليه، لغة الكلام معطلة بين راعي الغنم في غنمه، أن يدعوهم إلى هداية وأن يرشدهم إلى طريق لا، وإنما كل الذي يفقهونه عنه دعوة للطعام والشراب، فمثل الذين كفروا؛ مثلهم عندما يسمعون الداعي الذي يدعوهم إلى الهدى لا يستجيبون ولا يفقهون، ويصمون آذانهم إلا فيما يسيرون فيه خلف آبائهم وأجدادهم، {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً ........}[البقرة:171]، فهو لا يسمع من كلامك إلا دعاءً ونداءً قطيع، {صُمٌّ}، هذا حالهم هم {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ}، الصمم فقد السمع، وبكمٌ فقد الكلام، وعمي فقد البصر، {فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ}، كذلك فمنافذ المعرفة كلها عندهم معطلة، وملكة العقل الذي هو يستفيد من منافذ المعرفة ويترجمها ويعقلها كذلك هذه معطلة كذلك، فإن هذه الدعوة من الله -تبارك وتعالى- للناس دعوة صريحة، أنه هو ربهم، هو خالقهم، وهو الذي خلق لهم هذه الأرض، وهو الذي له الحق أن يُحِل ويحرِّم، ومع ذلك هم لا يسمعون لهذا الكلام، صمُّوا آذانهم عن هذا، وأعموا أعينهم عن هذا، ولا كلمة حق تخرج من ألسنتهم في هذا، وهم لا يفقهون شيئًا، {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ}، فهم يسيرون يريدون أن يأكلوا ما شاءوا، ويشربوا ما شاءوا، يُحِلوا ما شاءوا، يُحرِّموا ما شاءوا، يجعلون لله مما خلق ما شاءوا، {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}[الأنعام:136]، بحَّروا البحائر، وسيَّبوا السوائب، ووضعوا الحامي، وضعوا تشريعات لهم فيما يجعلونه لله وما يجعلونه للأصنام، أباحوا ما شاءوا، حرَّموا ما شاءوا، وأكلوا الميتة، أكلوا الخنزير، أباحوا الخمر، حرَّموا بعض الطيبات، كل هذا تشريعات بالهوى وباتباع الآباء والأجداد، وتركوا نداء الله -تبارك وتعالى-، الذي يدعوهم على ألسنة الرسل أي أيها الناس أنتم في أرض الله -تبارك وتعالى-، أنتم خلق الله -تبارك وتعالى-، يأمركم الله بألا تأكلوا من هذه الأرض إلا حلالًا طيبا، لا تأكلوا منها لأنها خلقه، إلا إذا كان هذا الذي تأكلونه حلالا، هو أحله لكم ومن الطيب الذي خلقه لكم، أما الخبيث وأما ما حرَّم عليكم فلا يجوز لكم أن تقربوه، لأن هذا أمر الخالق -سبحانه وتعالى-، {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ}[الأعراف:54]، لكنهم قد أصمُّوا آذانهم عن هذا النداء من الله -تبارك وتعالى-.

وهنا وجَّه الله -تبارك وتعالى- النداء إلى الذين آمنوا، فقال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}[البقرة:172]، هذا نداء؛ النداء السابق نداء للناس كلهم، وهذا النداء تقوم عليهم الحجة به، ومعنى هذا أنهم إن أكلوا مما حرَّم الله -تبارك وتعالى- عليهم، أصبحوا مؤاخذين، وإن أكلوا كذلك من الخبيث هم مؤاخذون بهذا، وكذلك إذا أكلوا مما أباحه الله -تبارك وتعالى- للناس أن يأكلوا منه، ولكن لم يقوموا بحق شكره، ولم يؤمنوا بالله -تبارك وتعالى- فيكون هذا كذلك حسرة عليهم وندامة، وذلك أن الله لا يُحِل رزقه إلا لمن يعبده -سبحانه وتعالى-، كما قال –جل وعلا- {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ........}[الأعراف:32]، {قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ}، فالله خلقها لأهل الإيمان، ثم فهي خالصة لهم يوم القيامة لا يُشرَكون فيها الكفار، فالكفار يشركون أهل الإيمان في هذه الزينة، والطيبات التي خلقها الله في الأرض، لكن على وجه الغصب، وأخذ ما لا يحِل لهم، فالكافر عندما يأكل من طعام الله ومن رزق الله -عز وجل- مع كفره، مع قيامه بالكفر، إنما هو معتدٍ؛ هو معتدٍ على رزق الله -تبارك وتعالى- وآخذٌ له بغير حقه، ولذلك هو محاسب على هذا.

فهنا نداء وجَّهه الله -تبارك وتعالى- للذين آمنوا، قال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}، وذكرنا أن الله -تبارك وتعالى- وصفهم بالإيمان، يخاطب الذين آمنوا وواصفًا إياهم بأفضل الصفات وهي الإيمان، وهذا فيه تهييج ودعوة للامتثال، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ}، أمرهم الله -تبارك وتعالى- أن يأكلوا من طيبات ما رزقهم الله -تبارك وتعالى-، وهذا بمفهوم المخالفة نهي عند الأمر الخبيث، والخبيث كل ما زادت مضاره على منافعه، {مَا رَزَقْنَاكُمْ}، رزق الله -تبارك وتعالى- كل ما ينتفع به رزق، والمقصود هنا ما هو معدٌ للطعام، {وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}، اشكروا لله؛ والشكر هو مقابلة الإنعام والإحسان بالاعتراف القلبي، أي لا يكون شكر الله -تبارك وتعالى- إلا باعتراف القلب أن هذه نعمته، والشكر باللسان، وبالقيام بحق هذه النعمة من طاعة الله -تبارك وتعالى-، {وَاشْكُرُوا لِلَّهِ}، اعرفوا هذا بقلوبكم، اشكروه بألسنتكم، قوموا بحق هذا العمل كما أمركم -سبحانه وتعالى-، {إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}، إن كنتم إياه تعبدون فاشكروا له -سبحانه وتعالى-، لأن هذا من العبادة، فالشكر؛ شكر الله -تبارك وتعالى- على نعمه من عبادة الرب -تبارك وتعالى-، {إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}، أهل عبادة لله -تبارك وتعالى-، فاشكروا نعمة الله -عز وجل- على ما رزقكم، وكلوا من الطيبات، كلوا من الطيبات وهذا نهي عن أكل الخبيث، وقد بيَّنا أن الطيب لا يكون إلا ما زادت منافعه على مضاره، هذا في الخواص، ثم لابد أن يكون قد كسبه بطريقٍ حلال، أما إذا كسبه بطريقٍ حرام فإنه خبيث.

ثم بيَّن الله -سبحانه وتعالى- الذي حرَّمه على عباده، فقال {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ}، أربعة فقط من المحرمات هي التي حرَّمها الله -تبارك وتعالى- على عباده، قال {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ}، والميتة هي كل حيوان من الأنعام التي أباحها الله -تبارك وتعالى- يموت حتف أنفه، كما يقال بغير سبب الذبح، بغير الذكاة الشرعي، حتى وإن مات ليس حتف أنفه بأي سبب من الأسباب غير الذكاة الشرعي، كما قال -تبارك وتعالى- في آية أخرى، آية المائدة {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ}[المائدة:3]، فجعل الله المنخنقة، وهي الشاه أو البقرة التي.. يعني حيوان الأنعام الذي يٌشد الحبل على عنقه فيخنقه، سواءً كانت خنقت نفسها أو خنقها خانق، {وَالْمَوْقُوذَةُ}، الموقوذة التي تضرب على رأسها فتموت، ضرب الوقيذ هذا، {وَالْمُتَرَدِّيَةُ}، هي التي تقع من عالٍ فتموت، {وَالنَّطِيحَةُ}، المنطوحة التي ينطحها غيرها، فيكون من أثر النطحة أن تموت، {وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ}، ما عدى عليه السبع، والسبع كل ذي ناب مفترس من الحيوان، كذئب أو ثعلب أو أسد أو نمر أو فهد، أي سبع يعدو على حيوان من الأنعام، مما أباحه الله -تبارك وتعالى- ثم ينهشه ويموت لهذا، فهذا كذلك ميتة، كل هذه ميتات، فالميتة تشمل هذه كلها.

{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ}، ما مات حتف أنفه بمرض أو بغيره، أو ما مات بوسيلة من هذه الوسائل غير الذبح، الذكاة الشرعي، {وَالدَّمُ}، الدم هنا جاء بغير قيد، ومعروف الدم، وجاء مقيدا وهو الدم المسفوح، كما في قول الله -تبارك وتعالى- {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ ........}[الأنعام:145]، فالدم يسفح من البهيمة، سواءً عند الذبح أو سواءً وهي حية، يؤخذ منها وهي حية ثم تترك، وكان العرب يأكلون الدم، سواءً كان مسفوحا عند الذبح عندما يذبحون، أو كان أحيانًا يفصلون البعير يأتون إلى عرق من عروق البعير؛ شريان من الشرايين يقطعونه، ثم يلاقون الدم بإناء، إذا امتلأ هذا الإناء عند ذلك يأخذونه ويغلقون فتحة الدم، ويترك البعير بعد ذلك، فيصبح كأنه خلاصا هذا مصدر للدم، ثم إذا جمد هذا الدم أكلوه.

أدركنا الوقت، لهذه الآية مزيد وتفصيل، وهذا في الحلقة الآتية -إن شاء الله-، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد.