{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الفاتحة:2]، {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}[الفاتحة:3]، {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}[الفاتحة:4]، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن إهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- بسم الله الرحمن الرحيم، {الم}[العنكبوت:1]، {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ}[العنكبوت:2]، {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}[العنكبوت:3]، {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}[العنكبوت:4]، {مَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}[العنكبوت:5]، {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}[العنكبوت:6]، {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ}[العنكبوت:7]، هذه الآيات هي بداية سورة العنكبوت وهذه السورة سورة مكية، بدأ الله -تبارك وتعالى- هذه السورة بهذه الثلاث حروف المقطعة؛ الأف واللام والميم، {الم}[العنكبوت:1]، وقد مضى ما ذكره أهل العلم في معاني هذه الحروف.
قال -جل وعلا- {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ}[العنكبوت:2]، هذه السورة؛ سورة العنكبوت، موضوعها الأساس هو موضوع الفتنة، الإبتلاء، الدعوة إلى الله -تبارك وتعالى- والصبر على ذلك، ما حمله الله -تبارك وتعالى- عباده المؤمنين من أن يؤمنوا به وأن يدعوا إليه -سبحانه وتعالى-، وأن يتحملوا في سبيل ذلك البلاء الذي هو من لوازم ومن بنيات هذا الطريق؛ طريق الدعوة إلى الله -تبارك وتعالى-، فهي السورة التي توضح هذه الفتنة، هذا الإختبار والإبتلاء من الله -تبارك وتعالى-، وخاصة إبتلاء الله -تبارك وتعالى- عباده المؤمنين بالكافرين، قال -جل وعلا- {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ}[العنكبوت:2]، أن يتركوا؛ يعني لهذه الدعوة التي يدعوها، أن يقولوا آمنا بالله وهم لا يفتنون؛ لا يختبرون، فتنة وإختبار تبين الصادق من الكاذب، وقول الله {أَحَسِبَ النَّاسُ} سؤال يراد به الإنكار؛ يعني أن هذا لا يكون، أن هذا أمر لا يكون أن يخلي الله -تبارك وتعالى- ويترك من يقول أنه مؤمن دون أن يختبره في هذه الدعوى، حتى يتبين صدق الصادق من كذب الكاذب، أن هذا سنة جارية في خلقه -سبحانه وتعالى- وأن هذا أمر لابد أن يكون، وأن الله -تبارك وتعالى- لن يدخل أحد الجنة بمجرد الدعوى؛ دعوى الإيمان، بل لابد أن يثبت حقيقة هذه الدعوى في واقع الأمر، {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا}، أي إلى فقط مجرد الشهادة والإدعاء والإعلان، تفسير الترك هنا أن يقولوا آمنا؛ يقولوا آمنا بالله، وهم لا يفتنون؛ وهم لا يختبرون.
{وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}[العنكبوت:3]، يبين -سبحانه وتعالى- ويؤكد أنه قد فتن الذين من قبلهم؛ من قبل إرسال نبيهم محمد -صلوات الله والسلام عليه-، فكل الذين قالوا آمنا من قبل النبي بدءًا من نوح -عليه السلام- وقبله، نوح أول رسول إلى أهل الأرض وقبله لابد أن يختبروا إلى نبينا محمد، {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}، إختبرناهم وإبتليناهم عند دعواهم الإيمان، قال -جل وعلا- {........ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}[العنكبوت:3]، فيعلمن الله الذين صدقوا؛ هذا العلم إظهار هذا العلم في واقع الأمر، أن هذا قال دعوى لابد أن يظهرها الله -تبارك وتعالى- في واقع الأمر، ليكون الحساب والجزاء على أساس هذا، وليس {........ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}[العنكبوت:3]، أنه علم بعد أن لم يكن الله -تبارك وتعالى- يعلم هذا، لا شك أن الله -تبارك وتعالى- ...، لا شك أنه يعلم ما سيكون من خلقه قبل أن يخلقهم -سبحانه وتعالى-، فإن الله قبل أن يخلق الخلق كتب مقادير كل شيء -سبحانه وتعالى-، أول ما خلق الله القلم قال له أكتب، قال وما أكتب؟ قال أكتب ما كان وما سيكون إلى يوم القيامة، وفي الحديث «أتلومني على شيء قد قدره الله علي قبل أن يخلقني بخمسين ألف سنة أو بأربعين سنة»، كلام آدم -عليه السلام- إلى موسى -عليه السلام-، فهذه مقادير الخلق وكتابتها قد أحصاها الله -تبارك تعالى-، وكتبها وعلمها -سبحانه وتعالى- قبل أن يخلق الخلق -جل وعلا-، ولكن العلم هنا هو قيام هذا الأمر في واقع الحياة؛ واقع الوجود، ليكون على أساسه الحساب عند الله -تبارك وتعالى-، {........ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}[العنكبوت:3]، هذا ظهور حقيقة هذا العلم في واقع الأمر.
وهذه نفي الله -تبارك وتعالى- لهذا الظن الذي يظنه بعض الناس الذي يمكن أن يقول أنه مؤمن، ثم يكون بعد ذلك يحاسب على هذه الدعوى دون الإختبار والفتنة، كما فيها آيات كثيرة في القرآن كقول الله -تبارك وتعالى- {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ}[آل عمران:142]، يعني أنه لا دخول للجنة إلا بعد أن يثبت ويظهر أهل الجهاد والصدق حقيقة، وكذلك قول الله -تبارك وتعالى- {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً ........}[التوبة:16]، يعني هل حسبتم يترككم الله -تبارك وتعالى- عند دعوى الإيمان، ولما يظهر أهل الإيمان الحق الذين جاهدوا في سبيل الله، {وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً}، وقوله -تبارك وتعالى- {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ}[البقرة:214]، فالله يقول لعباده المؤمنين {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ}، لم يأتي بعد، {مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ}، يعني في إبتلاء الله -تبارك وتعالى- لهم، {مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ}، أي من إستبطاء النصر، {مَتَى نَصْرُ اللَّهِ}، قال -جل وعلا- {أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ}، فهذا أمر قد حتمه الله -تبارك وتعالى- وقضاه وقدره، وبيَّن -سبحانه وتعالى- أن لن يدخل أحدًا الجنة إلا بعد أن يبتليه بصنوف الإبتلاءات، ويختبره بصنوف الإختبارات، حتى يظهر أهل الصدق والإيمان الذين يستحقون الجزاء وأهل الكذب والنفاق وأهل البهتان حتى يتبينوا، فهذا أمر يبين الله أنها سنة جارية في عباده المؤمنين -سبحانه وتعالى- وأنه لابد أن يكون.
بعد أن نفى الله -تبارك وتعالى- هذا الظن الذي قد يظنه البعض، قال -جل وعلا- {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}[العنكبوت:4]، هذا ظن الكفار، بعد أن نفى الله -تبارك وتعالى- ظن من يقول أن دخول الجنة أنما هو بالدعوى هنا بيَّن ظن الكفار السيء وأنه لن يكون، ظن الكفار السيء أنهم سيسبقوا الله -تبارك وتعالى- وسيغلبوه، {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ ........}[العنكبوت:4]، حسبوا؛ ظنوا، الذين يعملون السيئات؛ من الكفار، كفرهم وعنادهم وصدهم عن سبيل الله، أن يسبقونا؛ يعني أن يسبقوا الله، يسبقونا؛ يغلبونا، يغلبوا الرب -تبارك وتعالى-، أو يسبقونا؛ يفوتون الله -تبارك وتعالى- فلا يستطيع أن يأخذهم وأن يعاقبهم في الدنيا والآخرة، قال -جل وعلا- {سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}، يعني حكمهم هذا الذي حكموه وأنهم ممكن أن يفلتوا من الله -تبارك وتعالى-، وممكن أن يغلبوا الرب -جل وعلا- ويغلبوا رسله ويكون هم الذين لهم الغلبة؛ يقول هذا حكم في غاية السوء، أن يحكموا بهذا الحكم على الله -تبارك وتعالى- إذ الله هو العزيز الحكيم الذي لا غالب له -سبحانه وتعالى-، فكيف يغلب هذا الإنسان الضعيف الهزيل يغلب ربه وخالقه وإلهه ومولاه؛ رب السموات والأرض.
ثم وجه الله -تبارك وتعالى- خطابه إلى كل أحد يريد أن يعمل بالإيمان وأن يفوز برضوان الله -تبارك وتعالى-، قال -جل وعلا- {مَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}[العنكبوت:5]، من كان يرجوا لقاء الله؛ من الجميع، يرجوا؛ يطمع ويؤمل في لقاء ربه، والأمل في لقاء الله -تبارك وتعالى- طبعًا يحمل هذا الطمع العظيم والرغبة العظيمة فيما عند الله -تبارك وتعالى-، هذا يلتقي مع الله؛ يعني يكون حبيب الله، ويلتقي مع الله -تبارك وتعالى- لقاء الله يوم القيامة، وعند الله -تبارك وتعالى- الجزاء العظيم جدًا، وكذلك من كان يرجوا لقاء الله وكذلك لقاء الله -تبارك وتعالى- قد يكون عنده العذاب الأليم جدًا، فالرب -تبارك وتعالى- هو الغفور الرحيم وهو شديد العقاب، {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}[الحجر:49]، {وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ}[الحجر:50]، فالله يقول {مَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ اللَّهِ}، ويريد أن يتقي سخطه وعقابه ويريد أن ينال ثوابه وجنته ورضوانه فهذا الذي يرجوا لقاء الله، يرجوا لقاء الله فيخاف من ما زخره ووضعه من العذاب عنده ويؤمل في رحمته وما عنده -سبحانه وتعالى-، قال -جل وعلا- {فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ}، أجل الله قادم، وهو السميع؛ لكل عباده، العليم؛ بكل خلقه -سبحانه وتعالى-، فالذي يؤمل الخير عند الله -تبارك وتعالى- فليبشر به، فليبشر به من كان يرجوا لقاء الله فهو جاي، فما تخاف، ما تحزن، أي عمل تعمله، أي جهد تؤديه، لو بذلت مالك ونفسك لله -تبارك وتعالى- ستنال الأجر، ستنال المثوبة لأن أجل الله سيأتي وموعوده سيكون، وهذا فيه أولًا تطمين لكل العباد المؤمنين، الذين يبذلون ما يبذلون من إمكانياتهم، من قدراتهم، من مالهم، من جهدهم، في سبيل الله، قول له هيحصل، ستلقى ربك -سبحانه وتعالى- سيوافيك أجرك فلا تخاف، لا تخف على أجرك فإنه لن يضيع، وترجوا لقاء مين؟ من كان يرجوا لقاء الله -سبحانه وتعالى-، الله ملك السماوات والأرض، {........ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}[العنكبوت:5]، وقول الله -تبارك وتعالى- {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}، ذكر هاتين الصفتين هنا هذا تطمين للمؤمن وإعلام له أن كل همسة همسها هي بسمع الرب -تبارك وتعالى- وأنه ما ضاع شيء، فلو أنه سبح تسبيحة قال سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله، سبح تسبيحة، عمل أي شيء من خير، الله سامع له، وكذلك هو السميع لعباده في دعائهم، في ذكرهم، في كل شأنهم، وهو العليم بأحوالهم -سبحانه وتعالى-، الله -تبارك وتعالى- هو العليم بأحوالهم فلا يخفى عليه شيء، إذن لن يضيع من عملك أيها المؤمن شيء، بل الله -تبارك وتعالى- سميع لكل خلقه عليم بأحوالهم -سبحانه وتعالى-.
ثم قال -جل وعلا- {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}[العنكبوت:6]، ومن جاهد؛ في سبيل الله، الجهاد هو بذل الجهد، وبذل الجهد سواء كان جهد بدن بقتال الكفار، أو جهد مال؛ كسب مال وأنفقه، أو جهد بالكلمة، يقول النبي «جاهدوا الكفار بألسنتكم وأموالكم وأنفسكم»، هذا كله من جهاد الكفار، جهاد الكفار بالنفس وبالمال وبالكلمة، فمن جاهد؛ بذل أي جهد في سبيل الله، في إعلاء كلمة الله، قال -جل وعلا- {فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ}، مجاهدته لنفسه، يعني أن ثوابها وأجرها ونفعها سيعود عليه، وذلك أن الله -تبارك وتعالى- ليس في حاجة إلى جهد الخلق لينصروه وليعلو دينه، فإن الله -تبارك وتعالى- {وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ}، فالله يستطيع أن يهدي عباده بغير وسيلة أن يقوم أناس بالجهاد والدعوة، فيلهمهم رشدهم ويهديهم إلى طاعته دون أن يكون هناك بذل من أحد في هذا السبيل؛ من إبلاغ دعوة ومن الصبر عليها ومن محاورة ومن مناقشة ومن مجادلة ومن دفع بالأنفس والأموال... لا، هذا كله لا شك أن الله -تبارك وتعالى- هو الغني -سبحانه وتعالى- بذاته، وهو ليس مفتقرًا إلى جهد المجاهدين لينتصر دينه ولتعلوا كلمته وليؤمن من يؤمن... لا، بل الله -تبارك وتعالى- هو القوي بنفسه، العزيز -سبحانه وتعالى- الغالب الذي لا يغلبه أحد، ولكنه إنما شرع هذا إبتلاء لعباده وإختبار لهم وإمتحان لهم وليكون نفع هذا في النهاية لهم، كما قال -جل وعلا- {وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ}، وقال لنبيه «إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك»، فيبتلي النبي بالقيام بهذا الأمر ويبتلي به من يبلغهم هذا الأمر، فالذين لهم البلاء الحسن يختبرون الإختبار ينجحون فيه؛ أهل الإيمان الذين يصدقون ويؤمنون، وأولئك الكفار يفشلون في هذا فيردون الحق ويكذبونه وتحق عليهم كلمة العذاب من الله -تبارك وتعالى-، ومن جاهد؛ أي في سبيل الله، فإنما يجاهد لنفسه؛ يعني عمل هذا سيعود عليه، والذين آمنوا وعملوا الصالحات فلأنفسهم يمهدون، إنما يمهد لنفسه ويفعل هذا لنفسه وثواب هذا له وجزاء هذا له، فإنما إعلم أيها المجاهد في سبيل الله -تبارك وتعالى- أن ثمرة هذا وعاقبة هذا إنما هي عائدة عليك.
{إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}، الله غني، عن العالمين؛ عن كل خلقه -سبحانه وتعالى-، العالمون جمع عالم، والعالم هو كل مجموعة من الخلق يشتركون في صفات واحدة، الله -سبحانه وتعالى- هو رب العالمين كلهم، رب كل هذه العوالم والله غني عنها، غني عنها أنه غير محتاج إليها، لا يحتاج إلى شيء من خلقه -سبحانه وتعالى- أيًا كان هذا الخلق، ملائكته، عرشه، كرسيه، أنبيائه، رسله، الناس، كل هذا الله -تبارك وتعالى- هو غني عنه، فهو الغني بذاته -سبحانه وتعالى- وبصفاته عما سواه -سبحانه وتعالى-، وإنما خلق هذا الخلق ليعبد -جل وعلا-، وأقامه -سبحانه وتعالى- وهو الذي يقيمه وهو الذي يبقيه، وهو الذي أي الخلق هذا يرزقه ويحيه ويميته ويقيمه فيما يقيم فيه، لا قيام لخلق من هذا الخلق إلا بقيامة الرب -تبارك وتعالى-، وأما الله -سبحانه وتعالى- هو الحي القيوم الذي لا يحتاج في قيامه إلى أحد -سبحانه وتعالى-، {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ}[البقرة:255]، فالله هذه صفاته -سبحانه وتعالى-، ومن صفاته أنه غني عن العالمين، عن العالمين؛ عن كل خلقه -سبحانه وتعالى- غير محتاج لهم، فلا يظن المجاهد في سبيل الله أن الله محتاج إليه ولذلك يجنده ويقول له إدفع مالك، إدفع نفسك، إفعل كذا، حتى تنصرني لأني في حاجة إلى النصر... لا، ليس الله -تبارك وتعالى- في حاجة إلى أن ينصره أحد -سبحانه وتعالى-، وإنما الله -تبارك وتعالى- أقام المؤمن فيما أقامه وإبتلاه بما إبتلاه به وحمل رسله ما حملهم نصرة للدين وقيامًا بالحق، إنما هذا ليكون لا شك أن ثمرة هذا وعاقبة هذا راجعة إليهم وليس لحاجة الله -تبارك وتعالى- إلى أحد، {إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}، {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}[العنكبوت:6].
ثم أخبر -سبحانه وتعالى- أن إيش لون سترجع ثمرة الجهاد على نفس المجاهد، قال -جل وعلا- {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ}[العنكبوت:7]، {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}، هؤلاء هم أهل النجح والفلاح، آمنوا؛ بالله -تبارك وتعالى- وبكل أركان الإيمان، الإيمان لما سئل عنه النبي -صل الله عليه وسلم- قال «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره من الله تعالى»، فهذه أصول الإيمان الست، والذين آمنوا؛ أي بهذه الأصول، وعملوا الصالحات؛ عملوا الصالحات من العمل الصالح، فإن عمل الصالحات أولًا عمل القلب؛ بمخافة الله -تبارك وتعالى- وتقواه وخشيته والإنابة إليه، وبعد ذلك عمل الصالحات من الصلاة والصيام والزكاة والحج وبر الوالدين وصدق الحديث إلى آخر شعب الإيمان، كل هذه صالحة وأنها صالحة أنها ضد الفساد، وأن هذا العمل مثاب عليه عند الله -تبارك وتعالى-، وجمع الله -تبارك وتعالى- بين الإيمان والعمل الصالح لبيان ثمرته {........ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ}[العنكبوت:7]، وهذا في القرآن دائمًا، في القرآن سبع وخمسين موضع يرتب الله -تبارك وتعالى- فيه الجزاء الأخروي على الإيمان والعمل الصالح معًا، ولا يذكر الإيمان وحده والعمل الصالح وحده، بل لابد من الإثنين،؛ لابد من الإيمان والعمل الصالح.
{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ ........}[العنكبوت:7]، تكفير السيئات؛ تغطيتها وسترها ومحوها، فالله -تبارك وتعالى- يمحوا سيئاتهم؛ يمحوها من الصحائف التي كتبت عليهم، ويكفرها؛ يسترها، فلا يفضحهم الله -تبارك وتعالى- بها أمام الأشهاد، يوم الفضائح؛ يوم الفضيحة الكبرى في يوم القيامة، الذي تبلى فيه السرائر ويظهر عمل كل إنسان عيانًا بيانًا، فالمؤمن يقول هاؤم إقرأوا كتابيه والكافر يقول يا ليتني لم أوتي كتابي، {وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ}[الحاقة:26]، {يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ}[الحاقة:27]، هذا يوم الخزي الأكبر والذي يظهر فيه عمل كل إنسان، والغادر ينشر له لواء غدرته تحت إسته، لكل غادر لواء تحت إسته يوم القيامة تكتب فيه غدرته، هذي غدرة فلان إبن فلان يقرأوها العالمين، فهذا يوم الخزي الأكبر والندامة الكبرى، يوم تنشر وتعلم وتنشر الفضائح فأهل الإيمان الله -تبارك وتعالى- يستر عملهم؛ يغفره -سبحانه وتعالى-، قد عملوا السيئات؛ كل السيئات اللي عملوها الله -تبارك وتعالى- يكفرها، {لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ}، نمحوها، نسترها، لا نفضحهم بها، ثم {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ}، ولنجزينهم؛ بتأكيد اللام الموطئة للقسم، نجزينهم؛ الجزاء إعطاء الثواب يترتب على فعلهم، {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ}، عملهم الحسن الذي كانوا يعملونه، فعملهم الحسن كله يأخذه ما كان، حتى لو كلمة، لو أنها ذرة من الخير، لو أنها شق تمرة بذلها في سبيل الله؛ أطعمها فقير مسكين، أي شيء {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه}[الزلزلة:7]، فالله -تبارك وتعالى- يقول أعمالهم السيئة سنمحوها وسنكفرها لهم، وأعمالهم كل أعمالهم الحسنة نجزيهم أجرهم فيها، {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ}، فعلمهم الحسن كله يجزون به، أجر لهم ومثوبة لهم على كل عمل حسن عملوه، حتى صغائر هذا العمل حتى لو كان مثقال ديًّت، {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا}[النساء:40]، سبحان الله، فهذا تطمين لأهل الإيمان، كل هذا نقول هذه سورة العنكبوت؛ سورة الفتنة، هذه المقدمات كلها بيان هذا الأمر، يعني تيجي تجاهد أعرف هذا، {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}[العنكبوت:6]، ثم بيان بعد ذلك هذا إيش لون لنفسك قال {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ}[العنكبوت:7]، أعظم شيء، هذا أعظم شيء، أعظم مآل ومرجع يرجع إليه أهل الإيمان.
ثم قال -جل وعلا- {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}[العنكبوت:8]، هذه أول عقبة من عقبات الدخول في دين الله والإيمان بالله -تبارك وتعالى-؛ أن يكون الصاد عن الإيمان هو الأبوين، فهذي فتنة عظيمة، فبيَّن الله -تبارك وتعالى- أنه إياك وأن تطيع حتى والديك اللي هم أقرب شيء في معصية الله -تبارك وتعالى-، قال {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا}، فهذي توصية الله -تبارك وتعالى- كل مؤمن بأن يقوم بالإحسان إلى والديه، ووصينا؛ وهذي وصية، والوصية هي إعمال وتحميل من محب لمن يحب، يوصيه بالأمر يعني يرشده إليه وينصحه به ويأمره بالتمسك به ويحذره من مغبة ذلك، كما يوصي الأب إبنه وتوصي الأم إبنتها ويوصي الحبيب أحبابه ويوصي المفارق من يفارقهم، الله -سبحانه وتعالى-، الله الرب الإله الذي لا إله إلا هو يوصي عباده -سبحانه وتعالى- كلٌ بوالديه، قال ووصينا الإنسان؛ كل إنسان، بوالديه حسنًا؛ أن يتخذ فيهم الإحسان، الحسنى؛ العمل الحسن معهم، طبعًا العمل الحسن يشمل القول اللين؛ الإحترام، التبجيل، الطاعة، المعاونة، وينفي عن ذلك كل عمل إساءة، والله -تبارك وتعالى- نهى أي إنسان أن يقدر أي إساءة لوالديه في كل مراحل العمر، ولو كانت هذه الإساءة مجرد الضجر؛ الضجر بالوجه أو بالكلام، كما قال -جل وعلا- {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا}[الإسراء:23]، {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}[الإسراء:24]، فنهى عن مجرد التأفف، والتأفف هو التضجر، يعني إظهار الضيق والملل أو السئامة من وجود الوالدين في حال الكبر، وحال الكبر معلوم؛ حال خرف وحال ثقل وحال إعتماد الكبير على من حوله، وتكون حياته صعبة ومملة وثقيلة على من حوله، يقول الله إما يبلغن عندك الكبر أحدهما؛ واحد، أو كليهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما؛ النهر هو الزجر بالكلام الشديد، وقل لهما قولًا معروفًا، {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}[الإسراء:24].
فالله يقول نحن الرب -سبحانه وتعالى- قد أمرنا {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا}، لكن {وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا}، إن جاهداك؛ بذلا الجهد، بالكلام، بالتضييق، بأي صورة من صور بذلهم الجهد الشديد لصرف إبنهم عن الدين، قال -جل وعلا- {فَلا تُطِعْهُمَا}، إياك أن تطعهما لأن هنا عدوان على حق الله -تبارك وتعالى-، حق الله أولًا ثم بعدين حق الوالدين، وحق الوالدين إذا يأمران بما يعارض أو يعصى به الله -تبارك وتعالى- لا يطاعان، {وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}، وكل الشرك لا علم للمشرك بشركه، ما عنده علم إنما هو كل الشرك ظن، كل الشرك إنما هو بالظنون والأكاذيب، لأن ليس لله إله يعبد معه -سبحانه وتعالى-، {وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا}، إياك أن تطعهما؛ الأب أو الأم، الإثنين أو واحد منهم، ثم قال -جل وعلا- {إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}، وهذا تخويف، وهذا تخويف وبيان أن مرجع الجميع إلى الله -تبارك وتعالى-، وأن الله سينبئ كل إنسان على عمله.
سنعود إلى هذه الآية -إن شاء الله- مرة ثانية، لبيان سبب نزولها وبعض ما يتعلق بها من الأحكام الأخرى، في الحلقة الآتية -إن شاء الله-، استغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصل الله وسلم على عبده ورسوله محمد.