الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده والرسول الأمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن إهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}[العنكبوت:16]، {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}[العنكبوت:17]، {وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ}[العنكبوت:18]، {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}[العنكبوت:19]، {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[العنكبوت:20]، {يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ}[العنكبوت:21]، {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ}[العنكبوت:22]، {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُوْلَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[العنكبوت:23]، بعد أن قص الله -تبارك وتعالى- وذكر ما كان من شأن نوح -عليه السلام-، والإبتلاء الذي إبتليه من قومه بأن مكث ألف سنة إلا خمسين عامًا يدعوهم إلى الله -تبارك وتعالى-، وكانت النهاية كما ذكر الله -تبارك وتعالى- {فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ}[العنكبوت:15].
ذكر الله -تبارك وتعالى- بعد نوح عبده ورسوله إبراهيم، وذكر هنا إستعرض الله -سبحانه وتعالى- ما تعرض له من البلاء، أولًا دعوته قومه بكل صنوف البرهان، بالبرهان الساطع الذي لا شبهة معه، وبالنصح لهم وبدعوتهم إلى الله -تبارك وتعالى- وإقامة الحجة عليهم، ثم بعد ذلك بما قوبل به هذا النبي الكريم؛ خليل الرحمن -صلوات الله والسلام عليه-، قال -جل وعلا- فما كان جواب قومه إلا أن {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ}[الأنبياء:68]، قال -جل وعلا- {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ........}[العنكبوت:16]، إبراهم بعد نوح -عليه السلام-، {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ}، وقومه الذين أرسل إليهم إبراهيم -عليه السلام- كانوا من الكلدانيين في أور الكلدانيين في العراق، {اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ}، أمر لهم ودعوة لهم إلا أن يعبدوا الله، وعبادته -سبحانه وتعالى-؛ الخضوع لأمره والإستجابة له والإسلام له، وأن يكون الله -تبارك وتعالى- وحده هو معبودهم -جل وعلا- فلا يعبدون مع الله -تبارك وتعالى- غيره، واتقوه؛ خافوه، خافوا الله -تبارك وتعالى- واجعلوا وقاية بينكم وبين عذابه، لأنه الرب الذي يؤاخذ بالذنب ويعاقب به، يأمر وينهى ومن لا يستجيب لأمره يعذبه -سبحانه وتعالى-، {وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ}، إذا عبدتم الله -تبارك وتعالى- وإتقيتموه خير لكم؛ أفضل لكم، خير؛ أخير، أحسن لكم من مجانبة طريق الرب -تبارك وتعالى-، {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}، يعني إن كنتم تعلمون العلم الحقيقي فهذا هو الطريق الصحيح، فهذا الذي هذا مؤدى العلم، مؤدى العلم أن تعلموا أن عبادتكم لله -تبارك وتعالى- وتقواكم له هو الطريق الصحيح وهذا هو الخير، وأن ما سوى ذلك هو الشر والباطل.
ثم قال لهم {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا}، ما الذي تعبدونه من دون الله؟ أوثان، الوثن هو كل نصب أو صنم أقيم ليعبد، سواء كان على صورة إنسان أو على أي صورة من الصور، فهذا الوثن أعم من الصنم، الصنم على صورة شيء من الأحياء، كأن يكون على صورة إنسان أو ملك أو روح للكواكب كما كانوا يفعلون، والوثن هو كل نصب أقيم ولو حجر؛ أقيم ليعبد، شجرة أقيمت لتعبد، وكان هؤلاء يعبدون هذه الأصنام وهذه الأوثان، قال لهم إبراهيم يومًا {........ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ}[الأنبياء:52]، قالوا وجدنا آبائنا كذلك يفعلون، فلم يكن لهم من حجة إلا أنهم وجدوا آبائهم يفعلون هذه العبادة، وقال لهم {........ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ}[الأنبياء:52]، عاكفون يعني قائمون عندها، منشغلون بها، ماكثون أمامها لعبادتها، قال {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا}، عبادتهم لها؛ تقديسهم لها، تعظيمهم لها، ذبحهم لها، يصرفون لها، هذي من فروع العبادة، {وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا}، تخلقون اللي هو تصنعون، يصنعون هذه الأصنام بأيديهم، وهذا خلق؛ الخلق يقال للإنشاء من العدم، وهذا لا يقدر عليه إلا الله -تبارك وتعالى-، ويقال للتصوير؛ التصوير خلق، {أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ}، أخلق من الطين؛ أصور من الطين، فكل من صور شيئًا وقدره وقطعه ونظمه هذا خلق له، فيسمى الخلق لكل صناعة يصنع بها الإنسان، ممكن يخلق جرة، يخلق سيارة، يخلق ديَّت، هذا خلقه، قال تخلقون إفكًا يعني تصنعون بأيديكم وتصورون هذه الصور والتماثيل وهي إفك؛ كذب، تجعلونها آلهة وليست بآلهة، تقولون هذه روح للكوكب الفلاني وهذه روح للكوكب الفلاني وهذه ديَّت، كانوا صابئة يعبدون النجوم ويصنعون تماثيل على الأرض لهذه النجوم، ويقولون هذي روح الكوكب، فهذا إفك؛ كذب، فلا هم رأوا الملائكة ولا لهذه الشمس روح معينة تنصب لها، والقول بأن هذه الأصنام تنفع وتضر إفك.
قال {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا}، والوثن هذا المجسمات التي تعبد يعني يكفي أن تكون وثن ليدل هذا على أنها ليست مستحقة للعبادة، {وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا}، تنحتون بأيديكم تماثيل تسمونها بأسماء وتتخيلون لها معاني كلها كاذبة؛ من إفككم ومن كذبكم، {إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا}، إن الذين تعبدون من دون الله؛ هذه المصنوعات التي صنعتموها وتعبدونها من دون الله، لا يملكون لكم رزقًا؛ وهي دافع العبادة، دافع العبادة عند المشرك للأوثان والأصنام أنه يظن أن هذه الأصنام والأوثان تملك نفعه، وأعظم نفع يطلبه الإنسان هو الرزق، الرزق هو كل ما ينتفع به في هذه الدنيا؛ من طعام، من شراب، من لباس، هذه الأرزاق، فقال هذه لا تملك لكم رزقًا، لا تملك أن تنزل مطرًا ولا أن تنبت زرعًا ولا أن تكسوكم، تسقيكم، تطعمكم، كل هذا الرزق هذا كله بيد الله -تبارك وتعالى-؛ خالقه ومسديه ومعطيه، وأما هذه الأصنام والأوثان لا تملك شيئًا من ذلك، {إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ}، ابتغوا؛ اطلبوا، عند الله؛ لا عند غيره الرزق، فالرزق هو عنده لأنه هو خالقه، هو خالق كل شيء -سبحانه وتعالى-، فهو مجري السحاب وهو منزل المطر وهو منبت النبات وهو خالق كل هذه الأرزاق -سبحانه وتعالى-، فابتغوا عند الله؛ الله رب العالمين، ملك السماوات والأرض -سبحانه وتعالى-، هذا الذي عنده الرزق.
{فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ}، ذلوا له واخضعوا له واسمعوا لأمره -سبحانه وتعالى-، {وَاشْكُرُوا لَهُ}، اشكروا له نعمائه، شكر بالقلب؛ بالإعتراف بأن كل نعمة إنما هي منه -سبحانه وتعالى-، وشكل باللسان؛ بأن يلهج اللسان بذكره وأن هذه نعمائه -سبحانه وتعالى-، فيأكل بإسمه ويشرب بإسمه ويلبس بإسمه ويحمده -سبحانه وتعالى- على كل ما ينعم به ويتفضل، ويطيعه؛ طاعته من شكره -سبحانه وتعالى-، {إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}، إليه؛ لا إلى غيره، ما قال ترجعون إليه وإنما قال إليه ترجعون، ليكون الحصر حصر الرجوع إلى الله -تبارك وتعالى-، يعني إلى الله لا إلى غيره مرجعكم في النهاية، بعد أن يبعثكم الله -تبارك وتعالى- من هذه الأرض سيكون مرجعكم إلى الله؛ ليحاسبكم الله -تبارك وتعالى-، إذن هذا الرب الذي يستحق العبادة، خالق الرزق الذي عنده رزقكم، والذي إليه مرجعكم في النهاية، وهو الذي يستحق أن يعبد وحده لا شريك له وأن يشكر وحده.
ثم قال لهم {وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ........}[العنكبوت:18]، إن تكذبوا؛ تردوا هذا الحق وتقولوا أن الذي يقوله كذب وإنه ليس بصدق، تكذبوا هذا الصدق، {وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ........}[العنكبوت:18]، في أمم من قبلكم كانوا على هذا التكذيب اذكروهم، كقوم نوح فإنهم كذبوا رسول الله -تبارك وتعالى- نوح، فانظروا المصير والمآل الذي آلوا إليه، {وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ}[العنكبوت:18]، أنا ما علي إلا أن أبلغكم، ما على الرسول؛ يعني هنا نفسه، وأن هذه سنة الله -تبارك وتعالى- في الرسل، أنه لا يحملهم إلا البلاغ المبين؛ الذي عليهم، عليهم الواجب الذي عليهم تجاه الرب -تبارك وتعالى- أن يبلغوا قومهم، البلاغ المبين؛ البيِّن الواضح، الذي لا يترك في الحق شبهة، ويقول أنا خلاص يعني بعد هذا البيان قد أديت مهمتي، فمهتي إليكم أن أبلغكم البلاغ المبين، يعني لا أحملكم حملًا ولا أجبركم جبرًا على الهداية وإنما الذي علي فقط أن أبلغكم، وعند ذلك تخلوا مسئوليتي أمام الله -تبارك وتعالى-، {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ}.
ثم قال -جل وعلا- {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}[العنكبوت:19]، أولم يروا؛ أولم يعلم هؤلاء المخاطبون وغيرهم، {كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ}، كيف يبدئ الله الخلق؛ أن كل هذا الخلق كله له بداية، فالإنسان له بداية حياة من بطن أمه هذه النطفة، ثم بعد ذلك ينشئه الله -تبارك وتعالى-، والله -تبارك وتعالى- يعيده لأنه هو الذي بدأه -سبحانه وتعالى-، وكذلك الحال في النبات الذي نراه أمامنا، كيف يبدئه الله -تبارك وتعالى- من بذرة صغيرة، ثم يموت هذا النبات ويجعل الله -تبارك وتعالى- بذوره تحمل وتحمل خصائص النبات، ثم يعيد حياته من جديد فتبدأ حياة وموت، حياة وموت، حياة وموت، وهكذا ...، كلها نراها ماثلة أمام أعيننا، {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ}، هو الذي يبدئه -سبحانه وتعالى-، وليست هذه الأصنام ولا هذه الأثان هي بدأت أي خلق، أي خلق أي نشأة من نشأة أي شيء لا تبدأها، وليس لها أصلًا تدخل ومعاونة ولا في جزء وأي وقت من أوقات هذا المخلوق، {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ}، والله وحده -سبحانه وتعالى-، {........ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}[العنكبوت:19]، إن ذلك على الله يسير؛ الخلق وإعادة الخلق مرة ثانية، إعادة الناس مرة ثانية إلى الحياة هذا يسير على الله -تبارك وتعالى-، يعني ليس فيه كلفة عليه ولا مشقة عليه -سبحانه وتعالى-، و{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}[يس:82]، فبالأمر؛ بالأمر الإلهي كل ما يريده الله -تبارك وتعالى- يكون، {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ ........}[النحل:40]، أي شيء، {أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}، فيأمره الله -تبارك وتعالى- بالأمر التكويني فيكون، فهذا ديًّت {مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ ........}[لقمان:28]، {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}، فهذا أمر يسير على الله، وهؤلاء المخاطبون يستعظمون إعادة الخلق ويرون أن إعادة الخلق أمر في غاية العسر، بل في الإستحالة على الله -تبارك وتعالى-، كيف يستطيع الرب -سبحانه وتعالى- أن يعيد الأجساد مرة ثانية، هذي أجيال تلوا أجيال تلوا أجيال ...، ماتت ووضعت في الأرض ودفنت فيها وتحللت هذه الأجساد وضلت، {أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ}، {أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ}، فيرون أن إحنا نخلق خلق جديد بعد أن نكون تراب وعظام، يستبعدون هذا كل الإستبعاد ويستعظمونه على الله -تبارك وتعالى-، فالله يقول {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}، هذا إعادة الخلق مرة ثانية إلى الحياة يسير على الله -تبارك وتعالى-.
قال -جل وعلا- {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[العنكبوت:20]، {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ}، سيروا سير المتعظ والمعتبر والناظر والمتفكر، {سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ}، كيف بدأ الله -تبارك وتعالى- الخلق، كيف بدأ الخلق؛ بدأ خلق هذه المخلوقات، وبسير الناس في هذه الأرض علموا أن هذه المخلوقات اللي هي بغير الإنسان ...، الإنسان قد خلقه الله -تبارك وتعالى- خلقًا مستقلًا في السماء، ولم يكن شيئًا مذكورًا على هذه الأرض قبل أن ينزل الله -تبارك وتعالى- ويهبط آدم إليها، آدم خلقه الله من طين هذه الأرض كما أخبرنا -سبحانه وتعالى-، وسواه في السماء بيديه -سبحانه وتعالى-، نفخ فيه من روحه، أسجد له ملائكته وأسكنه جنته، ثم لما أكل من الشجرة التي نهاه الله -تبارك وتعالى- إياها أنزله وزوجه وإبليس إلى هذه الأرض، {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ ........}[البقرة:38]، فلا يضل ولا يشقى، {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى}[طه:124]، أهبطه الله إلى الأرض، وكان قبل أن يهبط آدم وزوجه حواء إلى هذه الأرض لم يكن فيها من ذكر الإنسان شيء، كانت الأرض مسكونة قبلهم من هذه كل دابة نشرها الله -تبارك وتعالى- فيها، ومن النبات ولكن لم يكن لآدم ولا للإنسان ذكر، {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا}[الإنسان:1]، ما كان مذكورًا في هذه الأرض، وكل النظر في بداية الخلق تقول الإنسان طارئ كما أخبر الله -تبارك وتعالى-، أما بداية الحياة الحيوانية على الأرض فإنها قبل الإنسان بأزمان كثيرة، بأزمان متعاقبة، ولعلها بدأت كذلك يعني بدأها الله -تبارك وتعالى- بالتدريج، من حيوانات واحدة الخلية إلى متعددة إلى أسماك إلى فقاريات إلى برمائيات إلى برية، هذا كذلك التدرج في هذا الخلق لعل هذا فيما ذكره علماء الحفريات أن هذا ربما يكون أمرًا صحيحًا، إلا الإنسان فإن الله -تبارك وتعالى- قد خلقه خلقًا مستقلًا.
هذا التسلسل في الخلق دليل على عظمة الخالق -سبحانه وتعالى-، وأن الله -تبارك وتعالى- بدأ هذا الخلق ونماه وصنع به هذا الصنيع بسلسلة مترابطة متصلة تدل على القدرة والعظمة الإلهية -سبحانه وتعالى-، فهو خالق الخلق كله -سبحانه وتعالى-، الله خالق كل شيء، {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ}، أمر بالسير في الأرض والنظر كيف بدأ الله -تبارك وتعالى- هذا الخلق، وكذلك كيف بدأ الخلق بكل مخلوق، بكل مخلوق كيف بدأ، سواء من النبتة كيف بدأت؟ بذرة، من الإنسان كيف بدأ من بذرته، عندما تكون بذرته في رحم أمه، من الحيوان، انظروا كيف يبدأ الله -تبارك وتعالى- الخلق ويطوره هذه الأطوار، {ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ}، مادام أن الله -تبارك وتعالى- هو الذي أنشأه على هذا النحو ولم يساعد الله -تبارك وتعالى- ولا ظاهره أحد وشيء من مخلوقاته في هذا الخلق، فإن النشأة الآخرة في الدار الآخرة إنما هي له -سبحانه وتعالى-، {........ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[العنكبوت:20]، تأكيد، الله -سبحانه وتعالى- على كل شيء يريده -سبحانه وتعالى- هو قدير عليه، لا يعجزه شيء -سبحانه وتعالى-، فكل ما يريده لابد أن يكون، وقد أخبر بأن لابد أن تكون نشأة أخرى وإعادة لهذه الحياة مرة ثانية لتجزى كل نفس بما كسبت، وقال الله لموسى {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى}[طه:15]، لابد عند الله -تبارك وتعالى- الذي خلق هذا الخلق أن يجزي كل نفس بسعيها، كيف سعت في هذه الدنيا في هذه المرحلة لابد أن تنال جزاء سعيها، إن كفرًا فعذاب باقي وخلود في النار، وإن إيمانًا وطاعة لله -تبارك وتعالى- لابد أن يلقى جزائه، فعند الله لابد أن تلقى كل نفس جزاؤها، لابد أن تلقى كل نفس جزائها عن الله -تبارك وتعالى-، {........ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[العنكبوت:20]، -سبحانه وتعالى-.
{يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ}[العنكبوت:21]، الأمر كله أمر العباد كله إلى الله -تبارك وتعالى-، يعذب من يشاء؛ تعذيبه، ممن يسمع لقوله ولم يزعن له ولم يعبده وحده لا شريك له، فهذا قد كتب الله -تبارك وتعالى- له العذاب، ودخول هؤلاء في الكفر واقع بمشيئة الله -تبارك وتعالى-، {وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ}، بالإيمان والطاعة والإستجابة لأمر الله -تبارك وتعالى-، فالله يدخل في رحمته من يشاء -سبحانه وتعالى-، {وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ}، إليه؛ لا إلى سواه أيها المخاطبون، تقلبون؛ ترجعون، إنقلب إلى أهله بمعنى أنه رجع إليهم، فتقلبون إلى الله -تبارك وتعالى- بمعنى أن رجوعكم إلى الله لا إلى غيره -سبحانه وتعالى-، {وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ}.
{وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ}[العنكبوت:22]، الله، تحذير بليغ جدًا، يعني يا أيها الكافر وين تروح؟ أين تذهب؟ لن تعجز ربك لا في الأرض ولا في السماء، لو كنت في الأرض، لو كنت في السماء، لو ذهبت إلى ما ذهبت فإنك لن تعجز الله -تبارك وتعالى-، {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ}، لو غصت في أعماق البحار أو طرت في أجواء السماء، لو ذهبت يمينًا، ذهبت يسارًا فإنك في قبضة الله -تبارك وتعالى- منكل، لا يمكن أن تعجز الله -تبارك وتعالى- هربًا منه أو غلبة له، تعالى الله عن ذلك، {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ}، أي بمنفلتين بفائتين ربكم -سبحانه وتعالى-، لا يمكن أن تفوت الله -تبارك وتعالى-، {........ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ}[العنكبوت:22]، وما لكم من دون الله؛ غير الله، من ولي؛ يواليكم على الله، أو نصير؛ ينصركم عليه، كل هذه الجنود المجندة كلٌ يقول نفسي نفسي، وأمام الله -تبارك وتعالى- لو تعاون من تعاون من الكفار فإنهم لا ينتصرون على الله -تبارك وتعالى-، {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ}[القمر:45]، {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ}[القمر:46]، {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ ........}[العنكبوت:22]، يواليكم، ولا نصير؛ ينصركم منه -سبحانه وتعالى-.
ثم الحكم الإلهي {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُوْلَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[العنكبوت:23]، هذا الحكم الإلهي على الكافر، {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ}، كفروا بآيات الله؛ ستروها وغطوها، جائهم الإيمان فكذبوه، جائهم الصدق علموا أنه صدق ولكن كذبوه فكفروا بآيات الله، آيات الله؛ سواء آياته -سبحانه وتعالى- المنظورة مما ذكرهم بها الرسل، {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}[العنكبوت:19]، {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[العنكبوت:20]، هذي آيات الله -تبارك وتعالى- المنظورة، أو آياته -سبحانه وتعالى- المتلوة المقروءة المنزلة منه على رسله، {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى}[الأعلى:18]، {صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى}[الأعلى:19]، فهذه آيات الله -تبارك وتعالى-؛ كلامه المنزل على الرسل هذه آياته وبيناته، {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ}، كفروا بلقاء الله؛ كفروا بلقاء الله يوم القيامة، وأن كل العباد سيلاقون ربهم -سبحانه وتعالى-، ما منك إلا وسيكلمه ربه من كل الخلائق ليس بينك وبينه حاجب أو ترجمان يحجبه دونك، ما في حاجب يستر العبد عن الله -تبارك وتعالى-، بل هذا الستر مكشوف، فيسأله ألم يأتك رسولي فبلغك؟ وآتيتك مالًا وأفضلت عليك فما قدمت لنفسك؟ فلينظرن أيمن منه فلا يرى شيئًا، ولينظرن أشأم منه فلا يرى شيئًا، ولينظرن تلقاء وجهه فلاي يرى إلى النار، ثم قال النبي «فاتقوا النار ولو بشق تمرة»، فكل العباد ملاقون ربهم، والله يحاسب كل عباده وهو الذي يتولى حسابهم -سبحانه وتعالى-، الله لا يوكل أحدًا عنه بحساب الخلائق، {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ}[الغاشية:25]، {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ}[الغاشية:26]، فيحاسب الله -تبارك وتعالى- الجميع كما يحاسب نفس واحدة، مثل ما يحاسب نفس واحدة يحاسب الجميع، كلٌ في موقعه يحاسبه الله -تبارك وتعالى- ويكلمه ربه -سبحانه وتعالى-، فهؤلاء الذين كفروا بلقاء الله، {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ}، لقائهم لله -تبارك وتعالى- ومقامهم بين يديه يوم القيامة.
{أُوْلَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي}، يعني الله يقول يقطعوا أملهم في حصول رحمة لله -تبارك وتعالى-، مادام أنهم قد جائوا الله -تبارك وتعالى- يوم القيامة كافرين بآياته؛ مكذبين بها، ثم كافرين بأنهم سيلقوا ربهم -سبحانه وتعالى- وأنه لا لقاء مع الله، فهؤلاء يقول الله -تبارك وتعالى- {أُوْلَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي}، لا مجال لأن يرحمهم الله -تبارك وتعالى-، ما في أي سبيل لأن ينالوا رحمة الله -تبارك وتعالى-، {أُوْلَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي}، وقول الله -تبارك وتعالى- هنا بالتعبير بالفعل الماضي يئسوا من رحمتي، ما قال فلييئسوا من رحمتي أو قال سييئسون من رحمتي بالفعل المضارع أو الفعل الأمر... لا، عبر الله بالفعل الماضي لبيان أن هذا أمر قد تحقق وإنتهى، {أُوْلَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي}، وإن كان هذا اليأس من الرحمة سيكون يوم القيامة، لأن مازال هؤلاء قد يتبجحون وقد يظنون بأنه يمكن لهم أن تنالهم رحمة من الله -تبارك وتعالى- يوم القيامة، لكن في يوم القيامة سيعلمون أن هذا أمر لا يكون، وأن الله -تبارك وتعالى- لن يرحم كافرًا من دخول النار أو أنه يدخله الجنة، فإن الله أخبر بأن هذا حكم مقضي ولا ينقض ولا يخص، ما له تخصيص ولو كان هذا الكافر هو أبو نبي أو إبن نبي أو أقرب المقربين إلى نبي، فإن الله لا يقبل في كافر شفاعة يوم القيامة، {........ أُوْلَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[العنكبوت:23]، فلن ينالوا رحمة الله -تبارك وتعالى- بالصفح والمغفرة ودخول الجنة، وكذلك لن يكون لهم إلا العذاب الأليم، {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا}[طه:74]، هذا خلاص؛ هذا الحكم الإلهي، {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُوْلَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[العنكبوت:23].
بعد هذا البيان الطويل العظيم المدلل بهذه الأدلة، وبعد هذا الوعظ البليغ من إبراهيم -عليه السلام- لقومه انظر ماذا كان ردهم، قال -جل وعلا- {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ}، هذا رد على هذه الدعوة العظيمة الناصحة من إبراهيم لقومه، قال -جل وعلا- {........ فَأَنجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}[العنكبوت:24].
ونعود إلى هذه الآية -إن شاء الله- في الحلقة الآتية، أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصل الله وسلم على عبده ورسوله محمد.