الجمعة 21 جمادى الأولى 1446 . 22 نوفمبر 2024

الحلقة (483) - سورة العنكبوت 22-27

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله الأمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن إهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}[العنكبوت:19]، {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[العنكبوت:20]، {يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ}[العنكبوت:21]، {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ}[العنكبوت:22]، {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُوْلَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[العنكبوت:23]، {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}[العنكبوت:24]، الآيات من سورة العنكبوت وقد مضى أن سورة العنكبوت سورة مكية، وأن موضوعها الرابط الموضوعي فيها هي الفتنة والإبتلاء والإختبار، إختبار الله -تبارك وتعالى- عباده بالقيام بأمره -سبحانه وتعالى-، وأن الله يختبرهم ليظهر الصادق من الكاذب، وأن الله -تبارك وتعالى- هذه سنته الجارية في عباده المؤمنين جميعًا، من الفتنة؛ الفتنة بالكفار، أن يفتنهم الله -تبارك وتعالى- بأذى الكفار وبعلوهم وبمحاولة صدهم إياهم عن طريق الله -تبارك وتعالى-، كيف يثبت بعد ذلك أهل الإيمان الصادق ويذل من يذل من أهل النفاق ومن إدعوا أنهم مؤمنين وليسوا بمؤمنين.

ذكر الله -تبارك وتعالى- في هذه السورة أنواع البلاء الذي تعرض له الرسل، فبدأ بنوح -عليه السلام- الذي لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا يدعوهم إلى الله -تبارك وتعالى-، ثم أخذ الله -تبارك وتعالى- قومه بالطوفان، فكان إبتلاء نوح -عليه السلام- هو في هذا المكث الطويل يدعوا إلى الله -تبارك وتعالى- مع ما تعرض له من الأذى، ثم ذكر الله بعد نوح إبراهيم وفصل الله -تبارك وتعالى- هنا في هذه السورة دعوة إبراهيم لقومه، بإرشادهم إلى آيات الله -تبارك وتعالى- المنظورة في هذا الكون، وكذلك آيات الله -تبارك وتعالى- المنزلة عليه مما يرشدهم الله -تبارك وتعالى- فيه إلى طريقه ويخوفهم من عذابه -سبحانه وتعالى-، فمن جملة ما قال إبراهيم لقومه قال -جل وعلا- {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}[العنكبوت:19]، وهذا أمر مشاهد بدء الخلق وإعادة الخلق، بدء الخلق وإعادة الخلق هذه عملية مكرورة الآن في هذه الحياة، فالإنسان له بداية، له نهاية، ثم له بداية ونهاية، ثم أخبر الله -تبارك وتعالى- أن الذي يكرر الخلق على هذا النحو في البشر وفي النبات وفي غيره سيعيد هذا الإنسان مرة ثانية، الإنسان نفسه إلى الحياة، لأن من بدأ الخلق لا شك أنه قادر على إعادته -سبحانه وتعالى-، {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}، الإعادة.

{قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[العنكبوت:20]، {يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ}[العنكبوت:21]، فكما أنه الخالق وحده -سبحانه وتعالى- فهو المتصرف وحده -سبحانه وتعالى-، ومن هذا التصريف أنه يعذب من يشاء ولا شك أن هذا العذاب يقع في محله، لأن الله هو الحكيم الحميد -سبحانه وتعالى- لا يوقع عذابًا إلا من يستحق العذاب، {........ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ}[العنكبوت:21]، كذلك يرحم الله -تبارك وتعالى- بالهداية والتوفيق، ثم رحمته بعد ذلك بالثواب في الجنة من يشاء من عباده -سبحانه وتعالى- ممن يعلم الله -تبارك وتعالى- أنهم أهل لذلك، {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ}، فالله يعلم الشاكرين -سبحانه وتعالى- ويعلم من يستجيب لأمره ومن يقوم به فهؤلاء الذين يهديهم الله -تبارك وتعالى-، كما قال {وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ}، {وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ}، الخلق كلهم مرجعهم إلى الله -تبارك وتعالى-، {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ}، من وعظ إبراهيم أنه يقول لهم ما أنتم بمعجزين؛ بمفلتين، بفائتين الله -تبارك وتعالى-، في الأرض ولا في السماء؛ لن تفوتونه فتضيعون في الأرض منه وتذهبون منه، ولا في السماء؛ لو أردتم في السماء أن تهربوا لا مهرب من الله -تبارك وتعالى-، ولن تعجزوا الله -تبارك وتعالى- هربًا منه أو نصرًا عليه، تعالى الله عن ذلك، {........ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ}[العنكبوت:22]، ليس هناك من يواليكم دون الله فيحميكم من عقوبته، ولا ينصركم على الله -تبارك وتعالى-، الله لا أحدًا من خلقه يستطيع أن يرد بأسه -سبحانه وتعالى- عن القوم الكافرين، {وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ}، يواليكم أي، ولا نصير؛ ينصركم من دون الله -جل وعلا-.

{وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُوْلَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي ........}[العنكبوت:23]، هذا حكم الله -جل وعلا-، أن كل كافر بآيات الله ولقائه في البعث أنه لن يبعث ولن يقف بين يدي الله -تبارك وتعالى-، {أُوْلَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي}، يئسوا بالإخبار بالماضي وهو واقع غدًا في يوم القيامة، والله يخبر بالماضي عن شيء مستقبل سيقع لتحقق الوقوع، لأن هذا أمر متحقق، فهؤلاء الكفار ييئسون من رحمة الله -تبارك وتعالى- يوم القيامة، يعلموا أنه لا مفر لهم، لا مجال لأن يخرجوا من العذاب بأي صورة من الصور المحتملة للخروج، لا شفاعة تنفعهم، لا فدية إن كان يملكوا شيء وهم لا يملكون، لا يقبل الله -تبارك وتعالى- من أحد فدية، لا يقبل في الكافر شفاعة، لا يقبل إستعطافه للرب واسترحامه له في ذلك الوقت، {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ}، فالإستغاثة بالله -تبارك وتعالى- تزيدهم عذابًا إلى عذابهم، بكل سبيل لا سبيل، لا سبيل إلى الخروج من عقوبة الله، لذلك قال الله -جل وعلا- {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُوْلَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي ........}[العنكبوت:23]، من الآن، من الآن سيقع منهم غدًا، لكنهم ليعلموا أنهم خلاص إنتهى رجائهم في الله -تبارك وتعالى- بكفرهم وعنادهم، {وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، حكم الرب -تبارك وتعالى- لهم عذاب أليم في الآخرة.

هذا البيان من إبراهيم -عليه السلام- لقومه وهذه الدعوة الكريمة، بهذا الوضوح وبهذه الصورة وبهذه الأدلة والبراهين القائمة، انظر كيف جوبهت، قال -جل وعلا- {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ}، هذا الجواب، يعني لا جواب لهم على دعوة نبيهم؛ دعوة رسولهم إبراهيم، إلا الأمر؛ أن يأمر بعضهم بعضًا وأن يوصي بعضهم بعضًا بقتله أو تحريقه، واقتلوه؛ قتل بأي صورة، أو حرقوه؛ هذا يعني الإفضل عندهم، لأن بالحريق يذوق آلام أشد في الموت، اقتلوه أو حرقوه؛ وقد اتفقوا على تحريقه بالنار، وجمعوا لذلك حطبهم، وأخذوا إبراهيم وقذفوه في النار، قال -جل وعلا- {فَأَنجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ}، أنجاه الله من النار؛ من هذه نارهم هذه التي صنعوها، إذ قال الله -تبارك وتعالى- {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ}[الأنبياء:69]، {وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ}[الأنبياء:70]، فالآيات هنا تصور بشاعة وفظاعة رد الكفار على الأنبياء، وهذا على كل حال ليس خاصًا بقوم إبراهيم ولكن الكفر كله هذا منطقهم؛ منطقهم عند الرسل، يعني في ردهم على دعوة الرسل هذه، فقوم إبراهيم ما كان جوابهم عندما رأوا إبراهيم ودعاهم على هذا النحو إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه، والله -تبارك وتعالى- لابد أن ينصر رسله -جل وعلا-، فنصر عبده ورسوله إبراهيم -عليه السلام- {فَأَنجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ}، قال -جل وعلا- {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}، إن في ذلك؛ الذي ذكر هذا، آيات لقوم يؤمنون؛ علامات دلالات واضحة.

أول شيء على أن الله يبتلي عباده المؤمنين -سبحانه وتعالى-، وأشد الناس بلاء الأنبياء كما قال النبي «الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى المرء على قدر دينه، فإن كان في دينه شدة زيد له في البلاء»، وإبراهيم أبو الأنبياء، خليل الرحمن، لعله قد كان من أشد الناس بلاءًا، فإنه المؤمن وحده في ذلك الوقت كل من حوله من الكفار وهو مؤمن وحده، دعى قومه بهذه الدعوة الواضحة النيرة إلى دين الله -تبارك وتعالى-، وكان هذا رد الجميع وتآلب الجميع عليه وهو وحده فصمد على هذا وصبر، اختار له قومه أسوأ الميتات وهو أن يميتوه بالحرق بالنار وهذا بلاء عظيم، ما عنده أحد، ما أحد حول إبراهيم إلا بس فقط تعلقه بربه -سبحانه وتعالى-، لذلك عندما ألقي في النار قال حسبي الله ونعم الوكيل، كافيني الله، الله يكفيني من كل أحد وكفاه الله -تبارك وتعالى-، وقاه الله -تبارك وتعالى- من النار لما قال حسبي الله ونعم الوكيل، إحتسب هذا، حسبي يعني كافيني، ما أحتاج مع الله -تبارك وتعالى- إلى ناصر مع الله -تبارك وتعالى-، فعصمه الله -تبارك وتعالى- من هذه النار؛ آية، فالبلاء آيه وينزل بالأنبياء والأنبياء أشد الناس بلاءً، الله -تبارك وتعالى- لا يخلي عباده، انظر قدرة الرب -تبارك وتعالى- على إنجاء عبده ورسوله إبراهيم، من هذه الآيات ظلمة قلوب الكفار وأظلام هذه القلوب حتى لا ترى نورًا، فالحق تراه باطل والباطل تراه حق، فانظر قوم إبراهيم قد رأوا أن ما هم عليه من هذا الزور والباطل ومن عبادة غير الله -تبارك وتعالى- هو الحق، وهذا الحق في نظرهم يستحق أن يقوموا معه حتى يريدون أن يطفئوا نور الله -تبارك وتعالى-، فيتمالئوا على رسولهم ونبيهم الذي يدعوهم دعوة مخلصة إلى الله -تبارك وتعالى-، انظر ظلمة قلوب الكفار إلى حد نحوه، هذي آية من آيات الله وذلك أن الله -تبارك وتعالى- يطمس على أبصارهم فلا يمكن أن يروا النور، يبقى النور أمامهم ساطع أضوأ من ضوء الشمس، يعني آية إبراهيم وأنه رسول الله حقًا وصدقًا أضواء من الشمس في ربيعة النهار، ولكن القوم يكفرون ويسيرون في هذا الكفر، كذلك هذي آية من آيات الله -تبارك وتعالى- أن الله يضل من يشاء -سبحانه وتعالى-، وأن الضلال عندما يكون على هذا النحو بختم قلب وبإذهاب عقل فإنه لا ينفعه لا بصره ولا سمعه ولا ينفعه قلبه، الأمر الأخر أن الله -تبارك وتعالى- مبلغ أمره، أمر الله -تبارك وتعالى- لابد أن يبلغ، وأن البشر لو اجتمعوا على أن يحولوا بين ظهور أمر الله -تبارك وتعالى-؛ بين أمر الله والظهور لا يمكن، فلابد أن يسير أمر الله -تبارك وتعالى-، ولذلك نصر الله عبده وأقام الحجة عليهم، فيها آيات عظيمة؛ يعني في قصة إبراهيم آيات عظيمة، {........ فَأَنجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}[العنكبوت:24].

وقال؛ إبراهيم بعد هذا، {........ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ}[العنكبوت:25]، وقال؛ إبراهيم -عليه السلام-، {إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا}، شنو اللي بتعبدوه من دون الله؟ ما الذي تعبدونه من دون الله؟ أوثان، إنما؛ بالحصر، إتخذتم؛ يعني لكم آلهة تعبدونها من دون الله، {مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا}، من دون الله؛ غير الله، الذي يجب أن يعبد وحده -سبحانه وتعالى- ولكنكم إتخذتم من دونه أوثان، الوثن؛ كل ما يعبد من صورة أو نصب أو تمثال أو شجرة، كل شيء يعبد شجرًا كان، حجرًا، ديَّت، فهذا وثن، إتخذ أي شيء من هذا وثن يعبد، كما قال النبي للعدي إبن حاتم لما جائه ودخل وهو معلق الصليب في صدره، فقال له ((يا عدي إنزع عنك هذا الوثن))، قال له هذا وثن هذا الذي علقته في صدرك وهو الصليب، قال له إنزع عنك هذا الوثن بعد أن دعاه إلى الإسلام، فوثن؛ إيش تعبد؟ ما الذي يعبده؟ فكل ما ينصب من صورة؛ سواء كانت صورة لمخلوق موجود أو صورة متخيلة لأي من المخلوقات، مخلوق موجود كصورة لرجل أو صورة لكلب أو صورة لصقر أو صورة لغيرها؛ طيور أو حيوانات، أو صورة لما يسمونهم الملائكة، لم يروا الملائكة ولكنهم يصورونهم بالتخيل، أو صورة لما ليس له صورة، فقوم إبراهيم من الصابئة كانوا يصورون، يقولون هذي روح القمر وهذي روح الشمس، وكانوا مولعين بالنظر في النجوم وزعم أن النجوم عندها مقادير الخلق فكانوا يعبدونها لهذا الأمر، القمر فيه مقادير الناس وهذا فيه مقادير الناس، فكانوا يظنون أن مقادير الخلق من الرزق والإحياء والإماتة وغيرها كلها بهذه النجوم، فيصورون أرواحها على الأرض ويعبدونها؛ كلها أوثان، {قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ}[الشعراء:71].

فقال لهم إبراهيم {إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا}، هذه الموجودات والمصنوعات التي تصنعونها والتماثيل التي تخلقونها بأيديكم، {إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}، تحبوها، المودة؛ الحب، المودة التي بينكم وبين هذه الأصنام من محبتكم لها في الحياة الدنيا، ولكن يوم القيامة هتبصقوا عليها، يوم القيامة تحتقرونها وتلعنونها وتسبونها، وكذلك مودة بينكم؛ يحب بعضهم بعض، لأنهم يجتمعون على دين واحد وعلى أصنام واحدة فقال ذلك مودة بينكم، بينكم؛ بعضكم مع بعض في محبتكم لهذه الأوثان، قال {إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}، بس، الحب الذي بينكم وبين هذه الآلهة المزعومة إنما هو في هذه الدنيا، {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا}، يكفر بعضمك ببعض؛ الكل، يعني إذا كان هذه الأوثان هي صور لناس موجودين يكفرون بهم، يقولوا نحن ما درينا عنكم ولا عبدناكم، وإما إن كان مودة بينكم؛ مودة بين العابدين منهم، الرؤساء والأتباع والكل خلاص يحب بعضهم بعضًا وينصر بعضهم بعضًا، لأنهم يجتمعون على دين واحد؛ هذا دينهم في الشرك والكفر، فهم يتوادون هنا لكن في يوم القيامة كلٌ يلعن الثاني، يقول له أنت أضليتني وهذا ديَّت المتبوعين يسبون الأتباع والأتباع يسبون المتبوعين ويلعن بعضهم بعضًا، في أنهم كانوا كلهم يؤازر بعضهم بعضًا وينصر بعضهم بعضًا في الدنيا، ويدعوا بعضهم بعضًا إلى الإيمان وإلى عبادة هذه الأوثان، قال {مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا}، اللعن هو الطرد من الرحمة، يطلبون من الله -تبارك وتعالى- أن يطرد الأخرين من رحمته.

{وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ}، مأواكم؛ المأوى هو ما يلجأ إليه الإنسان للراحة والدعة والسكينة، فبيت الإنسان مأوى لأنه يؤيه ويريحه، هنا مأواكم النار بمعنى أنه ملجأكم، ليس لكم مستقر غيره، النار هي ليست مأوى وأنما النار دار عذاب، لكن هذا خلاص هو المستقر، أو يكون هنا إستخدام المأوى للإستهزاء، لأن النار لا يمكن أن تكون ...، سجن هذه لا يمكن أن تكون مأوى، لكن يكون هذا خلاص مكان راحتك هو هذا، ومكان راحته في النار الذي يؤيه والذي يجتمع به فيكون إستهزاء به، فعلى معنى المأوى بالمعنى العام اللي هو المستقر والملتجأ يعني سجنه، الذي ستستقر فيه وتبقى فيه هو النار -عياذًا بالله-، أو إستهزاءً؛ راحتك والمأوى الذي ستأوي إليه هو النار وبئس القرار، بئس أن يقر الإنسان وأن يأوي في نهاية المطاف وفي آخر الأمر إلى النار، {وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ}، ما لكم من ناصرين؛ ليس لكم هناك من ينصركم من دون الله -تبارك وتعالى-، يعني ستدخلون رغمًا عنكم وتسجنون في هذا السجن ولا ناصر لكم، الآلهة التي عبدتم من دون الله تلعنكم وتلعنونها، والرؤساء والأتباع كلهم يلعن بعضهم بعضًا، {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا}، وليس هناك ناصر ينصركم من دون الله -تبارك وتعالى-، ما أحد يقف معكم، لا ملائكة ولا آلهتكم ولا هناك من يدفع عنكم بأس الرب -سبحانه وتعالى-، {وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ}، هذا كان الختام الذي ختم به إبراهيم -عليه السلام- دعوته لقومه، يندمهم ويحذرهم كذلك مغبة هذا الكفر، ويريهم المآل الذي سيئولون إليه في يوم القيامة.

قال -جل وعلا- {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ}، الحصيلة التي خرج بها إبراهيم بعد هذه الدعوة وهذا الطريق الطويل من الدعوة الكلامية، ثم من الآيات البرهانية؛ الآيات من أن يريدون حرقه بالنار فينجيه الله -تبارك وتعالى- من النار، وبعد هذه المواعظ الطويلة لا يخرج إبراهيم من هؤلاء القوم العميان إلا بمؤمن واحد؛ لوط فقط، إبن أخيه الذي يؤمن بإبراهيم -عليه السلام-، قال -جل وعلا- {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[العنكبوت:26]، وقال؛ أي إبراهيم، {........ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[العنكبوت:26]، أنا مهاجر إلى الله -تبارك وتعالى-، هاجر إبراهيم بعد أن خلاص يئس من القوم وطرده، قال له أبوه {........ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا}[مريم:46]، {قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ}، القوم لما صنعوا فيه هذا الصنيع وبعد ذلك إضطروه إلى أن يخرج من بلدته؛ أور الكلدانيين في العراق، وخرج متوجهًا إلى الشام، قال -جل وعلا- وقال؛ أي إبراهيم -عليه السلام-، {........ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[العنكبوت:26]، مهاجر إلى الله -تبارك وتعالى-، خارج من بلدته هذه التي دعى فيها والتي أوذي هذا الأذى فيها وحرق فيها بالنار، وكانت هجرته إلى الله -تبارك وتعالى- بعد  أن إضطروه إلى الخروج من بلده، إنه هو العزيز؛ الغالب الذي لا يغلبه أحد، الحكيم؛ الذي يضع كل أمر في نصابه -سبحانه وتعالى-.

ثم قال -جل وعلا- {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنِ الصَّالِحِينَ}[العنكبوت:27]، ووهبنا له؛ الوهب هو العطاء والمنة، هذا عطاء الله -تبارك وتعالى- ومنته على عبده إبراهيم، إسحاق؛ إبنه الثاني، وهو إبنه من زوجته سارة، ويعقوب؛ إبن إسحاق وهو إسرائيل، فهذا حفيده، يعني وهب الله -تبارك وتعالى- له إسحاق ويعقوب وكلٌ من هذين جعله الله -تبارك وتعالى- نبي، {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ}، جعل الله -تبارك وتعالى- في ذريته؛ في ذرية إبراهيم النبوة والكتاب، جعل الله كل الأنبياء بعد ذلك إنما هم من ذرية إبراهيم؛ يرجعون إلى إبراهيم، لم يأتي نبي بعد إبراهيم إلا وهو من نسل إبراهيم، من فرعه الأول إسماعيل -عليه السلام-، فأول ولد ولد لإبراهيم بكره هو إسماعيل، وولد من هاجر المصرية، ثم رزقه الله -تبارك وتعالى- إسحاق وهو من زوجته سارة، ومن نسل الأول اللي هو إسماعيل أتى النبي الخاتم للرسل كلهم وهو محمد إبن عبد الله -صلوات الله والسلام عليه-، فنبينا محمد من عدنان وعدنان من ولد إسماعيل قطعًا، فهؤلاء هذا إسماعيل ومحمد -صلوات الله والسلام عليه-، ومن الفرع الأخر فرع إسحاق كان هناك يعقوب، ويعقوب يعني كان منهم الأسباط ومنهم الأنبياء، وتسلسل الأنبياء في هذا الفرع أولاد يعقوب؛ بني إسرائيل، إلى كان آخر نبي من أنبيائهم هو عيسى إبن مريم -عليه السلام-، عيسى من نسل داود النبي، وداود من نسل إسرائيل، آخر نبي كان هو عيسى وليس بين عيسى وبين النبي محمد نبي، فعيسى آخر نبي أرسله الله -تبارك وتعالى- في بني إسرائيل، {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ}، النبوة؛ أن ينبئهم الله -تبارك وتعالى-، والكتاب؛ الذي يتوارثوه، كما أصبحت التوراة هي الكتاب المتوارث بعد موسى إلى عيسى -عليه السلام-، فعيسى كتابه الإنجيل وشريعته هي الإنجيل، ثم إن الله -تبارك وتعالى- نقل النبوة بعد ذلك إلى الفرع الثاني؛ إلى محمد -صلوات الله والسلام عليه-.

قال -جل وعلا- {وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا}، آتيناه؛ أعطيناه، أجره؛ على ما قام به من الدعوة إلى الله -تبارك وتعالى- والرسالة، وإقامة الحجة لله على عباده والصبر في سبيل ذلك، آتاه الله -تبارك وتعالى- أجره في الدنيا، وهذا فيه بيان أن نعم الله -تبارك وتعالى- لا شك أنه لا يمكن مهما قام الإنسان بعمل فإنه لا يكافئ نعم الله -تبارك وتعالى-؛ هذه في الدنيا، فنعم الله -تبارك وتعالى- على العبد في الدنيا من السمع والبصر والفؤاد والقوى والرزق الذي يؤتيه وما يهبه من النعم الظاهرة والباطنة، لا شك أنها خير من عمل الإنسان، نعم الله -تبارك وتعالى- أكبر من عمل الإنسان مهما كان عمل الإنسان، وهذا الرسل هذا يعني أعلى بلاء إبتلى الله -تبارك وتعالى- به عبد بلى إبراهيم، {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ}، وقال الله {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى}[النجم:37]، وفى كل ما أمره الله -تبارك وتعالى- به، وأخذ أجره في الدنيا؛ النعم التي أنعم الله -تبارك وتعالى- بها عليه، وما أغدق عليه من هذه النعم الدنيوية، فهذه هي مقابل الأجر، {وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنِ الصَّالِحِينَ}، والآخرة الثواب في الآخرة والجنة في الآخرة ليست ثمنًا للعمل، وإنما هذي عطاء من الله -تبارك وتعالى-، الجنة هذي عطاء من الله ولا يمكن أن تكون ثمنًا لأي عمل، لأنه مهما كان عمل الإنسان فإنه لا يساوي جزء صغير جدًا من الجنة، الجنة عطاء من الله -تبارك وتعالى-، وهذا فضل وإحسان منه -سبحانه وتعالى-، ليست ثمن مكافئ لما يقوم به العبد من عمل صالح في هذه الدنيا.

{........ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنِ الصَّالِحِينَ}[العنكبوت:27]، وكذلك قول الله -تبارك وتعالى- {وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنِ الصَّالِحِينَ}، هذا فيه بيان لقيمة الصلاح، إذا كان إبراهيم الذي كان على هذا الأفق العالي من الإيمان والتقوى والتحمل والرسالة هو في النهاية معدود في الصالحين، فإذن العبد إذا كان عبدًا صالحًا فلا شك أنها رتبة عظيمة أن يكون الإنسان من عباد الله -تبارك وتعالى- الصالحين، {وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنِ الصَّالِحِينَ}، فهذا فضل الله -تبارك وتعالى- وإحسانه على هذا العبد، هذه الآيات هنا في هذ السياق؛ سياق سورة العنكبوت، أو سورة الفتنة والإبتلاء والإختبار، بيان هنا بالنسبة لإبراهيم -عليه السلام- انظر ما قام به، وانظر أيضًا تأكيد؛ تأكيد من أنه مهما قام الإنسان بعمل فإن نعمة الله -تبارك وتعالى- عليه أكبر من عمله الذي يقوم، {........ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنِ الصَّالِحِينَ}[العنكبوت:27].

ثم ذكر الله -تبارك وتعالى- بعد ذلك لوط، الذي آمن وخرج من قريته مع إبراهيم، قال {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ}[العنكبوت:28]، {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}[العنكبوت:29]، مع هذه الآيات -إن شاء الله- في الحلقة الآتية، استغفر الله لي ولكم من كل ذنب.