{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الفاتحة:2]، {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}[الفاتحة:3]، {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}[الفاتحة:4]، والصلاة والسلام على عبده ورسوله الأمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه، من إهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ}[العنكبوت:48]، {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ}[العنكبوت:49]، {وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ}[العنكبوت:50]، {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}[العنكبوت:51]، {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}[العنكبوت:52]، يخبر -سبحانه وتعالى- أن هذا القرآن المنزل من عنده -سبحانه وتعالى- على عبده ورسوله محمد -صلوات الله والسلام عليه- الذي هو أعظم الآيات؛ أعظم ما أوتي الرسل من آية، أن كون نزوله على النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه- وهو رجل أمي؛ لم يقرأ ولم يكتب، هذا زيادة في المعجزة وزيادة في البيان أن هذا القرآن من عند الله -تبارك وتعالى-، {وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ}، أي كتاب، فالنبي لم يكن قارئً وعذا بإعتراف الجميع؛ أنه لم يقرأ كتابًا قبل ذلك، {وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ}، يعني ولا تخط الكتاب بيمينك، فما كان أيضًا كاتبًا، {إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ}، يعني أنه لو نزل القرآن عليك وأنت قارئ كاتب لكان أهل الباطل يرتابوا، لا شك أن أهل الحق لا يمكن أن يرتابوا، لأن القرآن ولو فرض نزوله على رجل عليم بالقراءة، قادر على الكتابة، لا يمكن كذلك أن يشك ذو عقل أن هذا كلام الله -تبارك وتعالى- وأنه يأتي به بشر، فهو أكبر من أن يستطيع البشر أن يصوغوا مثله سواءً في المبنى أو في المعنى، يعني في معانيه يستحيل هذا؛ أمر مستحيل، فإن الله -تبارك وتعالى- أطلع عباده على غيوب وعلى أسرار لا يعلمها إلا هو –سبحانه وتعالى-، وكذلك شرع لهم تشريع لا يضع الموازين على هذا النحو إلا الرب العليم -سبحانه وتعالى- بخلقه، هذا من حيث المعنى، أما من حيث المبنى وبنائه باللغة العربية التي يعرفها أهلها ولكن أهلها لا شك أنهم لا يستطيعوا أن يصوغوا في أي معنى من المعاني وفي أي ميدان من ميادين القول صياغة بكلام من هذا القرآن، حلاوة وطلاوة وإعجازًا، وهذا بإعتراف كل بلاغئهم أن هذا القرآن يعلوا ولا يعلى عليه، وأنه لا يمكن أن يجارى في أسلوبه، وأنه كلام لا يشبه كلام الشعراء ولا كلام الكهان ولا يشبه كلام أحد من الخلق وإنه لحيط ما تحته، لا يمكن أن يوضع غيره معه في كفة ميزان وأن يكون مساويًا له أو راجح عليه، بل هذا في السماء وهذا في الأرض، كلام الله -تبارك وتعالى- في السماء من حيث الصياغة ومن حيث البيان ومن حيث الإعجاز اللفظي والبلاغي، والكلام غيره في الأرض، {وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ}[العنكبوت:48].
{بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ........}[العنكبوت:49]، بل هو؛ القرآن، آيات بينات؛ واضحات أنها من الله -تبارك وتعالى-، أن هذا الكلام كلام الله -تبارك وتعالى-، خالق السماوات والأرض الذي لا يمكن للبشر أن يأتوا بمثله، في صدور الذين أتوا العلم؛ يحفظونه، فالذين أوتوا العلم الله -تبارك وتعالى- آتاهم حفظ هذا القرآن فبقي في صدورهم منيرًا لهم، وكذلك هو آية في صدور الذين أوتوا العلم، يعني أنهم أيقنوا بقلوبهم أن هذا كلام الله -تبارك وتعالى-، أهل علم في كل جيل وفي كل وقت أهل العلم الذين إصطفاهم الله -تبارك وتعالى- بهذا القرآن؛ حفظوه، وعلموا أنه آياته -سبحانه وتعالى-، {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا}، فهذه {الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ}، الله -تبارك وتعالى- جعل هذا القرآن آيات في قلوبهم، {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ}[العنكبوت:49]، لا يجحد بها ويقول هذا القرآن ليس من عند الله إلا الظالم، ظالمون؛ ظلموا أنفسهم بالتكذيب، وظلموا أنفسهم بوضع الكذب في محل الصدق والصدق في محل الكذب، فقالوا عن القرآن كذب والحال أنه كان يجب أن يعلموا أنه صدق وأنه من الله -تبارك وتعالى-، لكنهم ظالمون؛ وضعوا الأمور في غير نصابها، {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ}.
ثم قال -جل وعلا- {وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ}، وقالوا؛ هؤلاء العميان المشركون الذين عندهم أعظم الآيات، ولكنهم طلبوا آيات حسية عيانية مثل آيات فيما زعموا آيات الرسل السابقين، {وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ}، أي كناقة صالح وعصا موسى ونحو ذلك، قال -جل وعلا- {قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ}، يعني إنها ما عندي، ليس إلي أن آتي بآية مما تقترحونه وأن آتيكم بآية بمشيئتي وإرادتي، {قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ}، كل الآيات؛ هذه الخوارق وهذه المعجزات لا يجريها على أيدي الرسل إلا الله -تبارك وتعالى-، {........ قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ}[العنكبوت:50]، ولكن أنا مهمتي والتي أقامني الله -تبارك وتعالى- فيها أني نذير؛ مخوف، مبين؛ بيِّن النذارة، أحذركم عقوبة الله -تبارك وتعالى- وفي هذا زجر لهم، زجر للكفار أن يقترحوا من عندهم الآيات، ويظنوا أن هذا لنبي مفوض بأن يأتي بما شاء... لا، بل الآيات عند الله وأنا فقط رسول، والرسول إنما مهمته أن يخوفهم بعقوبة الرب -تبارك وتعالى-، {وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ}.
ثم قال -جل وعلا- {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ ........}[العنكبوت:51]، ما يكفيهم هذا؟ ألا تكفيهم هذي آية أعظم آية؟ {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ ........}[العنكبوت:51]، أنا؛ الله -سبحانه وتعالى-، أنزلنا؛ الله -جل وعلا-، عليك؛ يا محمد، الكتاب؛ القرآن هذا المكتوب في السماء، يتلى عليهم؛ يقرأ عليهم، وفيه كل الدلائل أنه كلام الله -تبارك وتعالى-، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}، إن في ذلك لرحمة؛ رحمة أن العبد الضعيف الهزيل الصغير يخاطبه الله -تبارك وتعالى-، الإله العظيم الكبير خالق السماوات والأرض، يجيك خطاب أنت يا أيها الإنسان من خالق السماوات والأرض، من ملك السماوات والأرض، يخاطبك ويناديك ويقول لك هذا طريق الحق، هذا طريق الضلال، إتبع هذا، ترى هذا وراه ما ورائه من الخير لك، إياك أن تتبع هذا الطريق، الشيطان عدوك، فيخاطبك الله -تبارك وتعالى- ويوصيك ويبصرك ويرحمك، وإذا كل ما يأتيك من الشبه ومن الضلال يكشفه لك ويبينه لك، ويحذرك من المخاطر ويرغبك في الخير، ويرشدك إلى ما فيه فلاحك في الدنيا والآخرة، يعلمك الأخلاق والآداب مع والدك ومع والدتك ومع الناس ومع الشجر ومع الحجر ومع كل شيء، علاقتك كيف تبنيها على أحسن السبل ويهديك الصراط المستقيم في كل شيء؛ في كل أقوالك وفي كل تصرفاتك ويهديك، فهذا القرآن الذي يبين الله -تبارك وتعالى- فيه كل شيء ويخاطب الله -تبارك وتعالى- عباده هذا الخطاب الكريم، عباده يخاطبهم خطاب كريم؛ كفارهم ومؤمنيهم، {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ}[الأعراف:26]، {يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ ........}[الأعراف:27]، هذا الخطاب الإلهي، الله يخاطب على هذا النحو ويناديهم الله -تبارك وتعالى- بهذا النداء الكريم، ويقول لبني آدم أنا أحذركم هذا الشيطان عدو لكم، انظروا ماذا فعل في أبيكم، انظروا، انظروا، انظروا ...، يخاطب الإنسان، يخاطب عباده المؤمنين أيضًا خطاب رحمة.
الله يقول أولم يكفهم؛ أولم يكفهم هؤلاء الكفار المتعنتين الجاحدين، {أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ}، الله ينزل كتاب، الله ملك السماوات والأرض ينزل كتاب من عنده يخاطب فيه كل إنسان في الأرض والرسول مبلغ لهذه الرسالة، فيقرأ عليهم كلام الله -تبارك وتعالى-؛ ما يكفيهم هذا؛ يبوا آية أكبر من هذه، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى}، بس لكن {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}، يذكر المؤمن أن الله يخاطبني والله يأمرني والله ينهاني والله يبين لي، طبعًا يتذكر العبد المؤمن يرى أن هذا الشيء من عظيمه، منة عظيمة ورحمة عظيمة من الله -تبارك وتعالى- أن يكون الله -سبحانه وتعالى- هو الذي ينزل هذا الكلام، وهو الذي يخاطبه، وهو الذي يبين له، وهو الذي يقول له إمشي في هذا الطريق، لا تمشي في هذا الطريق، ترى بعطيك كذا وكذا وكذا وكذا ...، ترى إحذى أنا أعاقب عقوبة شديدة {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}[الحجر:49]، {وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ}[الحجر:50]، {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ}، فالمؤمن لا شك عندما يأتيه هذا يرى أن هذا القرآن رحمة عظيمة، هذا من أعظم رحمات الرب -تبارك وتعالى-، ويتذكر بهذا القرآن تذكر عظيم وذكرى، تذكر ربه ويتذكر إفضاله وإنعامه -سبحانه وتعالى- عليه، لكن لقوم يؤمنون؛ لأهل الإيمان، أما الكافر الجاحد فإنه يعرض عن هذا الكلام ويولي ويطعن فيه ويستهزئ به، {وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا ........}[الجاثية:9]، قال -جل وعلا- {فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}.
{قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}[العنكبوت:52]، قل لهم بعد ذلك الذين أتتهم أعظم آيات الله -تبارك وتعالى-، لم ينزل على نبي من الآيات والمعجزات ما نزل على عبده ورسوله محمد -صلوات الله والسلام عليه-، هذا كتاب الله -تبارك وتعالى- المعجز ما في آية مثله، لأن كل الآيات كلها كانت آيات في وقتها رآها من رآها ثم بعد ذلك إنتهت، عصا موسى نعم فعل بها المعجزات الكثيرة ثم إنتهت بعد ذلك، بعد موسى خلاص ها دي ديَّت، أما هذا القرآن فإن هذا القرآن آية حية باقية ويحمل كل المعاني، مو فقط لأن فقط لمجرد الإثبات أنه من عند الله، كلام يثبت أنه من عند الله وإنتهى... لا، هذا كلام رحمة، كلام تشريع، كلام بيان، أمر عظيم جدًا، ما في آية مثل هذه الآية، بعد ذلك {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا}، قل لهم بعد ذلك؛ بعد الإنكار والجحود ورفض هذه الآية وعدم تقدير هذه النعمة العظمى من الله -تبارك وتعالى-، {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا}، يكفيني الله -عز وجل- أن يكون شهيدًا فيما بيني وبينكم، افتريت عليكم، كذبت عليكم، أتيت لكم بالحق من الله -تبارك وتعالى-، الله شهيد على هذا ويكفي؛ ما يحتاج شهادة مع شهادة الله -تبارك وتعالى-، قل كفى بالله؛ ما يحتاج مع شهادة الله -تبارك وتعالى- إلى شهادة أحد، لأن الله عندما يكون شهيد على هذا فلا شك أنه مطلع، ويعلم الصادق من الكاذب، وسيوفي كل أحد جزائه، المجرم المكذب سيأخذ جزائه، الصادق الأمين كذلك سيوفى جزائه.
{قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ........}[العنكبوت:52]، الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض، فإذن لن يغيب عنه حالي عندما أتيتكم رسولًا منه أبلغكم هذا الدين، وحالكم عندما جحدتم وكفرتم ورددتم هذا الحق، {........ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}[العنكبوت:52]، الذين آمنوا بالباطل؛ الباطل ضد الحق، وهذا حال الكفار فإنهم آمنوا بالباطل، آمنوا بأن هذا الرسول كذاب، وآمنوا في زعمهم بأنه افترى هذا القرآن، وأنه وأنه مما قالوه على الرسول، وأمنوا كذلك بالباطل؛ بأن الملائكة بنات الله، وأن الشرك نافع عند الله، وأن الله يشفع عنده برضاه، بغير رضاه، وأنه يقبل شفاعة الشافع وإن كان كارهًا لها؛ فيقبل هذه الشفاعة، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا، فوضعوا واعتقدوا إعتقادات باطلة كثيرة، فالذين آمنوا بالباطل وكفروا بالله الحق -سبحانه وتعالى-، كفرهم بالله؛ كفرهم بأنه الإله وحده -سبحانه وتعالى-، وأنه ليس من له شريك ولا ند ولا نظير -سبحانه وتعالى-، {أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}، ها دول اللي هيخسروا، هؤلاء هم الذي سيخسرون، الذين آمنوا بالباطل وكفروا بالله هؤلاء هم أهل الخسارة، {أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}، وهم الخاسرون بالجملة الإسمية المتمكنين في الخسارة، والخسارة ليست خسارة مال ولا خسارة أهل فقط ولكنها خسارة هذا والنفس، الإنسان يخسر لنفسه لأنه يريد لها المهلكة العظمى؛ يدخلها النار، وإذا دخلت النار خسر نفسه، فلا هي أحياها فتستفيد بحياتها ولا هي تموت فتستريح من عذابه، فيبقى في العذاب دائم؛ عذاب دائم، {........ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}[الزمر:15]، فهذا الخسران البيِّن اللي ما بعده خسار أن الإنسان يخسر أهله ويخسر ولده ويخسر كذلك نفسه التي بين جنبيه، فهذي الخسارة العظمى؛ خسارة الكافر -عياذًا بالله-، لا خسارة أعظم من خسارة الكافر، فهو يظن في هذه الدنيا أنه الكسبان والربحان وأنهم يظنون أنهم عندما كفروا بالله وكفروا برسوله ربحوا هذه الدنيا وربحوا عزهم وربحوا مجدهم، وربحوا ما هم فيه من العز والسلطان والجاه، وأن وين أدخل الإيمان مع هؤلاء العبيد والأرقاء وديَّت، فهم ظنوا أن ما هم عليه هو الحق وأن هذا هو الربح فأخبرهم الله -تبارك وتعالى- بأن هذا هو الخسار، بأن هذا الذي إختاروه من الكفر والتكذيب والرضا بما هم فيه من هذا المال هو الخسارة، {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}.
طبعًا لما ذكروا بهذا قالك وين الخسارة؟ إدينا إياها، عجل لنا هذا، قال -جل وعلا- {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ}، يستعجلونك يعني يطلبوا من النبي -صل الله عليه وسلم- أن يأتي بالعذاب الآن؛ مش حق تأخره، {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}[الأنفال:32]، كرهوا هذا الحق وقالوا ما ندخله ولو كان فيه الجنة ما نريده، وإن كان هذا هو الحق ندخل النار ولا نؤمن به، وطلبوا العذاب؛ طلبوه عاجلًا الآن أن يأتي به، {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ}، قال -جل وعلا- {وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ}، لولا أجل قد سماه الله -تبارك وتعالى- يعني حدده لجائهم العذاب الآن بطلبهم، مادام هم إستعجلوه وطلبوه لكان الله -تبارك وتعالى- قد أعطاهم إياه، لكن الله -تبارك وتعالى- جعل له أجل عنده، كتب له أجل، فلولا أن الله -تبارك وتعالى- كتب له أجل وكان منهم هذا الجحود وهذا الإنكار وهذا التحدي الآن لكان جائهم العذاب؛ لكان جائهم الآن، {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى}، حدده الله -تبارك وتعالى- للبشر كلهم، أن الله كتب أجل عنده اللي هو أجل يوم القيامة، وأنه لابد أن ينتهي هذا الأجل؛ تمشي الدنيا هكذا لها ديَّت، حتى تنتهي ديَّت، كما قال -جل وعلا- {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا ........ }[الأنعام:2]، لكل نفس، {وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ}، أجل مسمى عنده لنهاية الوقت، إنتهاء هذه الدنيا تنتهي بوقت محدد حدده الله -تبارك وتعالى-، ثم يقوم الناس إلى ربهم -تبارك وتعالى- في أجل محدد؛ ساعة محددة لابد أن تكون، فقال -جل وعلا- {وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى}، اللي هو يوم القيامة لجائهم العذاب الآن.
ثم قال -جل وعلا- {وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ}، وليأتينهم؛ والله ليأتينهم، بغتة؛ فجأة، وهم لا يشعرون بقدومه، يعني يكون أولًا من على هذه الأرض تأتيهم الساعة وهم لا ينتظرون اليوم، يخرجون اليوم الذي تقوم فيه الساعة يذهب الناس إلى أعمالهم كالمعتاد؛ مثل ما إعتادوا، هذا في عمله، هذا في غنمه، هذا في جشره، كل إنسان في حاله أبدًا، لا في منجمين قالوا أن اليوم هيكون يوم القيامة ولا عرافيين ولا فلكيين، حسبوا اليوم أن الإنفجار العظيم سيكون في هذه الأرض اليوم وينتظره الناس... لا، هتأتيه الساعة بغتة، {بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلا هُمْ يُنظَرُونَ}[الأنبياء:40]، وكذلك النفخة الثانية تأتي بغتة كذلك، النفخة الثانية في الصور حيث يقوم الناس من قبورهم تأتي فجأة، فإن هذا الإنفجار يكون {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ}[النازعات:13]، {فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ}[النازعات:14]، {قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ}[يس:52]، فسيأتيهم الأمر فجأة وبغتة وهم لا يشعرون، الذين على الأرض في النفخة الأولى والذين في بطن الأرض في النفخة الثانية، {وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ}.
قال -جل وعلا- مستهزءً بحالهم {يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ}[العنكبوت:54]، الله أكبر، يستجلونك بالعذاب؛ يطلبوه، {........ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ}[العنكبوت:54]، والكفار سيكونون في جهنم، في سجن مغلق عليهم ومحيط بهم في كل مكان، يعني أنت لما تستعجل؟ تستعجل ماذا؟ تستعجل الدخول في هذا السجن الإلهي، الذي عندما تدخله لن تخرج منه، ولن ترى نورًا بعد ذلك، وإنما ستكون في هذه النار خالدًا فيها، {إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُوصَدَةٌ}[الهمزة:8]، مغلقة، {فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ}[الهمزة:9]، فالله -تبارك وتعالى- يستهزئ بحالهم، أن هذا الذي كما يقال يتنطط الآن ويعارض النبي -صل الله عليه وسلم- ويقول وين هذا العذاب؟ هات هذا العذاب الذي تحذرنا منه، فالله يقول {يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ}[العنكبوت:54].
{يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}[العنكبوت:55]، يوم يغشاهم العذاب؛ هذا يوم القيامة، يغشاهم؛ يغطيهم، الغاشية هي التغطية، العذاب من فوقهم؛ يأتيهم العذاب من فوقهم، ومن تحت أرجلهم، تأتيهم النار كذلك من تحت أرجلهم، {وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}، يقول؛ الرب -جل وعلا- وتقول لهم ملائكة العذاب، ذوقوا؛ قاسوا، والذوق ليس باللسان فقط وإنما بكل الحواس، الإنسان يذوق بكل حواسه، ذوقوا؛ قاسوا، ما كنتم تعملون؛ يعني هذا جزاء عملكم، هذا جزاء عملكم في الدنيا من التكذيب والإستهزاء وإستعجال العذاب وهات لنا العذاب؛ فهذا هو، هذا هو جزائه، هذا حديث الرب -تبارك وتعالى- وإخباره ووعيده لأهل هذا العذاب وهذا لا شك أنه نافذ لا محالة، ليس كلامًا يفترى، ما كان حديث يفترى، ولا هو كلا تخييل وتخويف لأمر لا يكون، بل هذا كلام الله -تبارك وتعالى- الحق الذي لابد أن يكون، والله لابد أن يكون ويقسم الله -تبارك وتعالى- على هذا، {يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}[العنكبوت:55].
ثم بعد هذا التحذير والوعيد الشديد لأهل التكذيب والعناد، هنا وجه الله -تبارك وتعالى- الخطاب لعباده المؤمنين بأن يصبروا، وأنهم سيفتتنوا في هذه الأرض بدينهم لأن هذه سنة الله الجارية، وأنهم لابد أن يصبروا على هذه الفتنة، فقال -جل وعلا- {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ}[العنكبوت:56]، دينك أيها المسلم هي وطنك، وين تجد قيام لهذا الدين فمكث وأرض الله -تبارك وتعالى- واسعة، خلقها الله؛ بسط هذه الأرض مكان واسع، فإن كان يمكن بأن يحول بينك وبين دينك في أرض ففارق، فارق هذه الأرض إلى أرض تستطيع أن تعبد الله -تبارك وتعالى- فيها، يا عبادي؛ نداء ندي كريم من الله -تبارك وتعالى- لعباده المؤمنين، {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا}، مخصوص النداء هنا للذين آمنوا بالله -تبارك وتعالى-، {إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ}، أرضي؛ أرض الله -تبارك وتعالى-، واسعة؛ قد بسطها الله -تبارك وتعالى- ووسعها فهي أكبر من الناس، {فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ}، فإياي فاعبدون يعني اعبدوني وحدي لا تعبدوا غيري، وهذا توجيه من الرب -تبارك وتعالى- أن يكون المؤمن أن يكون وطنه هي عقيدته، فعقيدة إيمانه هو وطنه، أين يكون قيامه بعبادة الله -تبارك وتعالى- فهي الأرض التي يعيش فيها، فإذا ضيق عليه وضيق عليه في هذه الأرض ولم يستطيع أن يعبد الله -تبارك وتعالى- فليعبده في مكان أخر، وقد كان هذا هو حال الرسل والمؤمنين على طول، بدءًا من هذا إبراهيم -عليه السلام- ضيق عليه في وطنه، وقيل له وأهجرني ما لي وحرقه قومه فقال إني مهاجر إلى ربي، فترك أرضه ومكانه الذي نشأ فيه وهاجر لله -تبارك وتعالى-، وكذلك هاجر معه لوط -عليه السلام-، وكذلك كل نبي ضيق في مكانه وكل ديَّت، آخر هؤلاء هو نبينا محمد -صلوات الله والسلام عليه-، فإنه لما ضيق عليه في مكة هاجر منها -صلوات الله والسلام عليه- إلى المدينة، ولما ضيق على أصحابه قبل ذلك أمرهم بأن يرحلوا عنها، فالمؤمن حياته دينه وإيمانه، وأينما كان قيام هذا الدين فهذا هو الوطن، وإذا ضيق عليه الكفار فليرحل من الأرض، {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ}[العنكبوت:56].
{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}[العنكبوت:57]، أيضًا الأمر أن الموت واحد وأنه مكتوب على كل نفس، ولو كان أعظم العظماء وأمكن الناس مكانًا في قصر مشيد، في رأس جبل لا يأتيه أي خطر، في جيشه وجنوده وحراسه، لابد أن يدخل الموت عليه حتى مخدعه، لابد يصله {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ}، فالموت مكتوب على كل النفوس، ومهما تحصن منه المتحصنون فإنه لا سبيل إلى الإفلات منه، فيستوي فيه من يتعرض للأخطار ومن يبتعد وينأى بنفسه عن كل الأخطار، يستوي فيه الحذر كل الحذر ويستوي فيه المخاطر والذي يقع على الأخطار؛ الكل يستوي، لابد أن يموت ديَّت، {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ........}[العنكبوت:57]، كل نفس ذائقة الموت إذن فيما الخوف، إذن فيما الخوف من الموت والحال أنه لابد أن يموت الإنسان، فإذا كان الموت حق فإذن لا خوف من هذا، لا يجوز لإنسان أن يترك دينه مخافة الموت لأن كل إنسان سيموت، {ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}، ثم في النهاية المرجع مرجع العباد كلهم إلى الله -تبارك وتعالى-، هنا الله -تبارك وتعالى- يهون على عباده المؤمنين أمران من أعظم أمور الفتنة؛ الإخراج من الأرض والموت، الإخراج من الوطن والقتل، والله -تبارك وتعالى- يبين أن الإخراج من الأرض؛ الأرض واسعة، وأن الله -تبارك وتعالى- سيجعل للمؤمن سبيل إذا خرج منها، كما في قول الله -تبارك وتعالى- {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً}، والموت لابد أن يكون، الموت لابد أن يكون لكل أحد فإذن لا خوف من ذلك، فليتمسك المؤمن بدينه ويثبت في الفتنة ولا يترك الدين من أجل هذين الأمرين؛ من أجل الوطن أو من أجل النفس.
سنقف هنا -إن شاء الله- ونكمل في الحلقة الآتية، استغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه.