الجمعة 21 جمادى الأولى 1446 . 22 نوفمبر 2024

الحلقة (489) - سورة العنكبوت 64-69

{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الفاتحة:2]، {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}[الفاتحة:3]، {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}[الفاتحة:4]، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن إهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}[العنكبوت:64]، {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ}[العنكبوت:65]، {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}[العنكبوت:66]، {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ}[العنكبوت:67]، {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ}[العنكبوت:68]، {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}[العنكبوت:69]، هذه هي الآيات الأخيرة من سورة العنكبوت، يهون الله -تبارك وتعالى- مسألة الدنيا إلى الآخرة، ويبين الفارق العظيم بين حياة الدنيا وحياة الجنة، فيقول -سبحانه وتعالى- {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ}، بالقياس إلى الآخرة؛ حياة الديمومة والإستقرار والمتاع الحقيقي والمكث الحقيقي، والحياة التي ليس فيها أي نقص بالوجود، أما الدنيا فإنها هي كإنما شيء يتلهى به الشخص ويلعب به ثم ينتهي ويزول، وما هذه الحياة الدنيا في حقيقتها إلا لهو، واللهو هو ما يشغل الإنسان من الأمور التافهة الصغيرة، وقد يلهوا به هذا عن أمر أخر، {وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ}، الجنة.

{لَهِيَ الْحَيَوَانُ}، الحيوان؛ الحياة بزيادة الألف والنون للمبالغة، يعني الحياة الكبرى الحقيقية وذلك أنه يختفي منها أنواع مما تنقص هذه الحياة، أولًا لا نوم فيها؛ النوم وفاة، والإنسان في هذه الدنيا يمضي نصف عمره تقريبًا نائمًا، فها ديك لا نوم فيها إنما هي يقظة كاملة، كذلك يمرض في الدنيا، الحياة الدنيا فيها مرض، فيها غفلة، فيها نسيان، الجنة لا مرض فيها، ما يصيب الإنسان فيها ما يمرضه، أي شيء بل ما ينقص فرحه وسروره وحبوره وحياته التي يتمتع بكل وقت فيها وبكل ذرة فيها، فالجنة كلها متع حيث ذهب الإنسان، يتمتع بنظره، بحسه، بشمه، ريح الجنة يكون على مسيرة كذا وكذا، المؤمن يأكل من ألف صحفة مما يشتهي من الطعام، ولا يشعر بثقل طعام ولا بهضم ولا يمضي وقتًا بالتخلص من فضلاته؛ لأنه لا فضلات للطعام أصلًا، كما قال النبي رشحهم مسك، شحهم مسك يعني فقط كل هذا المسلم؛ يعني كل الذي يخرج منه بعد طعامه إنما هو رشح يكون على جسده، وهذا الرشح رائحته رائحة المسك، لا يبولون ولا يتخوطون ولا يتنخمون ولا يبصقون، فحياته لا تعتريها هذه الأنواع من النقص، سواء كان هذا النقص يسير أو نقص كبير كالموت والنوم والغفلة والنسيان ونحو ذلك؛ فهي الحياة الحقيقة، هي حياة حقيقية مع ما هذا ...، هذا المؤمن يدخل الجنة كلهم على صورة أبيهم إبراهيم؛ ستون ذراعًا في عرض ست أذرع، طوله ستين ذراع وعرضه ست أذرع وكلهم في كامل القوى وكلهم في كامل النشاط، لا يبلى ثيابهم ولا يفنى شبابهم؛ شبابه كما هو، فهو شاب أبدًا، هو شاب أبدًا، ونساء الجنة أبكار أبدًا، طول عمرها وهي بكر، تطمس من المؤمن لكنها تعود بكرًا كما كانت، فهم نساء الجنة {إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً}[الواقعة:35]، {فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا}[الواقعة:36]، دائمًا، {عُرُبًا أَتْرَابًا}[الواقعة:37]، {لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ}[الواقعة:38]، {ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ}[الواقعة:39]، فهم طيلة الحياة على هذا النحو.

فهي حياة {لَهِيَ الْحَيَوَانُ}، يعني الحياة الحقيقية، الحياة الحقيقية الكاملة، وكان النبي -صل الله عليه وسلم- يقول وهو يرى الأنصار «خرج النبي والأنصار يحفرون في الخندق في غداة؛ في صبح يوم بارد، قال اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرين»، اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة، هذي ما هي عيشة، يعني هذه الحياة الدنيا إنما تسمى عيشة، والإنسان يعيش فيها ويأكل فيها، هذا تجاوزًا لكن لا مقارنة بين عيش الدنيا وعيش الآخرة، لذلك قال النبي «اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة»، هذا العيش الحقيقي، هذه العيشة الحقيقية، يعني الحياة الحقيقية إنما هي حياة الجنة، وأما الحياة الدنيا فإن هي ما فيها قد تسمى حياة لكنها تجاوزًا حياة مع ما فيها من هذا النقص كله، الإنسان يمضي نصف وقته نائمًا، وأكثر من ربع هذا الوقت أو أقل أو أكثر يقف في قضاء حاجاته، في تبوله وتغوطه وتخلصه من قذارته هذا وقت أخر، ويمضي أكثر الوقت كد وكدح في طلب المعاش، أكثر الناس ها ديَّت، يكدح سبع ساعات ثمان ساعات في اليوم أو أكثر كادح، يكدح بقلمه، يكدح بفأسه، يكدح بعلمه، بأصابعه، طباعة، كتابة، الملك يكدح، يجتمع مع وزارئه، مع قواده، مع أمره، جاء له خطر من هنا وخطر من هنا فهو كادح، {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ}[الانشقاق:6].

{لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ}[البلد:4]، يكابد، ما في أحد إلا ويكابد مهما كان، لو كان أملك الملوك في الأرض فإنه لابد أن يكابد، {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ}[البلد:4]، فهذه حياة مكابدة، في اليقظة مكابدة، أو نوم ينقطع الإنسان عن شهواته وعن لذاته ليستريح، ليجدد شيء من النشاط؛ من النشاط الذي فاته في اليقظة، يسعى في طلب المعاش، يخاف، فهي حياة هذه نقص، أما الجنة أولًا لا سعي فيها؛ ما في أحد يسعى، ما أحد يسعى إلى رزقه بل أصلًا لا يعالج طعامه، ما في أي معالجة للطعام بأي نوع من المعالجة، يعني من أدنى هذه المعالجة أن تكون عندك شجرة مثمرة وأن تصعد إليها حتى تأتي بالثمرة، هذه معالجة حتى تجيب الثمرة... لا، المؤمن لا يعالج رزقه وهو في الجنة قط، وإنما فقط بالتوجه بالنية يسقط غصن الشجرة أمامه ليأكل ما يشاء، {........ وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا}[الإنسان:14]، قطاف الفاكهة في الجنة مذللة تذليل بالإشارة بل بما هو دون الإشارة؛ بالرغبة، يعني فقط تأتي الرغبة في القلب فيخر ما يريده أمامه، يرغب فقط مجرد الرغبة في طير فيخر ناضجًا مشويًا بين يديه، يأكل منه ثم بعد ذلك يقوم يطير في السماء، لا معالجة لطبخ ولا لنفخ ولا لشوي على النار ولا لغير ذلك، لا يعالج المسلم لا طعامه ولا شرابه ولا لباسه ولا أي شيء، ولا يركض خلف متعة يريدها، فنساء الجنة الله -تبارك وتعالى- يقول {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ}[الصافات:49]، يعني يعشن في قصورهن كما أنها البيضة الموجودة في العش، فهي موجودة في القصر {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ}[الرحمن:72]، لا تتعدى الخيمة التي فيها، راضية بكل أنواع الرضا لا تسخط أبدًا، نحن الراضيات فلا نسخط أبدًا، فهي الحيوان، فالله يقول {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ}، هذه التي يتشبث بها الكافر ومن أجلها يرفض الدين هذي لهو ولعب، {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}[العنكبوت:64]، لو كانوا يعلمون هؤلاء المخاطبين بحقيقة هذه فهذه الحياة الحقيقية، هذه الحياة الحقيقية التي يجب أن يسعى الإنسان إليها ويبذل في سبيلها كل شيء حتى نفسه وحتى ديَّت، لأنه من بذل نفسه وجدها هناك، وأما من تيشبث بهذه الدنيا وترك الآخرة إنما أخذ اللهو واللعب ساعة من العمر ثم ينتهي، {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ}[الروم:55].

ثم عاد السياق لبيان سخف هؤلاء الكفار المشركين في إعتقادهم بالله -تبارك وتعالى- وبيَّن حقارة هذا الأمر، قال {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ}[العنكبوت:65]، انظر كيفية تعاملهم مع الله -تبارك وتعالى-، فإذا ركبوا في الفلك؛ السفن، دعوا الله مخلصين له الدين؛ عند الخوف من الغرق، عندما يأتيهم الخطر عند ذلك يخلصون دينهم لله -تبارك وتعالى- ويدعونه وحده، وينسون أصنامهم وشركهم؛ ما يدعوا شيء ديَّت، لا يدعون لا ملائكة ولا هبل ولا غير هبل؛ يدعون أي أصنامهم، يقولوا خلاص ما ينجينا من هذه الورطة وهذا الذي نحن فيه إلا الله -تبارك وتعالى-، فيتوجهون إلى الله وحده بالدعاء، مخلصين له الدين؛ يجعلون دينهم ودعائهم خالصًا لله، {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ}، الله -سبحانه وتعالى- يستجيب لهم، وهو الذي يبجيب المضطر إذا دعاه -سبحانه وتعالى-، وينجيهم من هذا الذي هم فيه، تسكن الريح، تخمد، تنتهي، تتماسك السفينة، يذهبوا ويرجعوا وينجوا ولكنهم يعودون إلى شركهم مرة ثانية، {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ}، وإذا هنا إذا الفجائية، يعني بمجرد راحوا البر ما مكثوا أسبوع أسبوعين، شهر شهرين، كفوا عن عبادة الأصنام... لا، بمجرد الوصول رجعوا إلى الشرك مرة ثانية {إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ}.

قال -جل وعلا- {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ}، اللام هنا لام العاقبة، يعني أن هذا فعلهم هذا عاقبته فقط يعني أن يكفروا بما أعطاهم الله -تبارك وتعالى-، قال {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا ........}[العنكبوت:66]، فهذا عاقبة هذا الأمر إلى أن يكفروا بما آتاهم الله -تبارك وتعالى- من النعم، ومن هذه النعم إنجائهم من البحر، ومن هذه النعم ما هم فيه من كل هذه النعم التي لا يستطيعون عدها، وجودهم، رزقهم، خقلهم، صحتهم، ثم إنجاء الله -تبارك وتعالى- لهم من المخاطر، وليتمتعوا؛ يعني أن الله -تبارك وتعالى- يعمي أبصارهم، فيكونوا بهذا الكفر يتمتعوا بهذا الكفر، بهذا المتاع الذي هم فيه، ثم قال -جل وعلا- {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}، فسوف يعلمون؛ تهديد ووعيد من الله -تبارك وتعالى-، سوف يعلمون عاقبة هذا الكفر الذي هم فيه، وعاقبة الصد عن سبيل الله -تبارك وتعالى-.

ثم قال -جل وعلا- {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ}[العنكبوت:67]، هذا أيضًا من نعم الله -تبارك وتعالى- على أهل مكة؛ على قريش خاصة، أولم يروا؛ يعني يعلموا، {أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا}، حرم آمن؛ حرم مكة، وجعله الله -تبارك وتعالى- آمن لا قتال فيه، يحترم، يقدس حتى من هؤلاء الكفار كلهم في الجزيرة العربية، كان العربي في هذه الجزيرة إذا أتى هذا المكان خلاص علم أن له حرمة، وهذا لم ينزل عليهم فيه كتاب ولم يأتيهم رسول يبلغ هذا، لكن هذا خلاص أمر توارثوه، أن هذا حرم الله وهذا بيت الله فلا يعتدي فيه ولا يطالب بثأره فيه، شوف يرى قاتل؛ رجل قتل أخاه أو قتل أباه، فيكف عنه ولا يأخذ بثأره إلا إذا خرج خارج الحرم، وإذا أتى خلاص أسلم وقال هذا حرم الله -تبارك وتعالى-، وكذلك من يعيشون في هذا الحرم كانت العرب تقدسهم وتعظمهم وترى أن لهم حق وتقول ها دول سكان بيت الله، وكانوا يخرجون في رحلاتهم صيفًا وشتاءً لا ينال منهم أحدًا، يقولوا ها دول قريش؛ ها دول أهل بيت الله -تبارك وتعالى-، لا يمسهم أحد بسوء، فالله يذكر هؤلاء بهذه النعمة التي أنعم الله -تبارك وتعالى- بها عليهم، وهو كأن الحرم جزيرة في وسط هذه الغابة؛ المسبعة التي يتخطف فيها الناس.

{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ ........}[العنكبوت:67]، يتخطف الناس؛ خلاص يقطع طريقهم ويتخطفون فيخطفون، إما يسلب مالهم وإما يقتلون وإما يؤخذ نسائهم هذا قد كان حال الجزيرة، كل الجزيرة من حول مكة إنما هي دار خوف ودار حرب، ولا يستطيع إنسان أن يأمن فيها، ما يمكن أن يجاوز من مكان إلى مكان إلا إذا كان له قوة وله منعة، أما أن يسافر فيها الضعيف فإنه يتخطف، {وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ}، أفبالباطل بما هو فيه من الشرك والكفر وبترك دين الله -تبارك وتعالى- يؤمنون، {وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ}، يكفرون بنعمة الله، {وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ}، جحود ونسيان ورد لنعمة الله -تبارك وتعالى-.

ثم بيَّن الله -تبارك وتعالى- جريمتهم أنها ما في جريمة مثلها، {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ}[العنكبوت:68]، ومن أظلم؛ سؤال للتقرير، {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا}، يعني هل هناك أظلم ممن يفتري على الله كذبًا، يقول أنه رسول الله وأن الله أرسله ولم يرسله الله -تبارك وتعالى-، أو أنه يفتري على الله يقول لله ولد، لله كذا، الملائكة بنات الله أو كذا، ما أظلم من هذا، لا أظلم ممن إفترى على الله كذبًا، سواء بإدعائه النبوة أو بإدعائه لله -تبارك وتعالى- أن له ولد أو أن له شريك، أو أنه أمر بكذا ولم يأمر، أو أنه حرم هذا ولم يحرم، يا ويله هذا لأن هذا كذب على الله -تبارك وتعالى-، والذي يكذب على الله ويشرع لله وينسب لله -تبارك وتعالى- ما ليس من صفته؛ لله، ينسب لمن؟ لخالق السماوات والأرض -سبحانه وتعالى-، فلا أظلم من هذا، {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا}، وهذا متحقق في هؤلاء المشركون فإنهم قد افتروا على الله -تبارك وتعالى- الكذب؛ في أن إدعوا أن الملائكة بناته وأنه تزوج الجن وولد له، وأن له شركاء لهم نصيب من الأمر ونصيب من العبادة، وأباحوا وحرموا بأهوائهم ونسبوا هذا إلى الله -تبارك وتعالى-، كما قال -جل وعلا- {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ ........}[الأعراف:28]، فيعتقدون بأن الله -تبارك وتعالى- هو الذي أمرهم بهذا، فهذا كله من إفتراء الكذب على الله -تبارك وتعالى-، {أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ}، كذلك لا أحد أظلم ممن كذب بالحق لما جائه، كذب بالحق؛ جائه الحق من الله -تبارك وتعالى- هذا الدين وكذب به ورده ولم يقبله، {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ ........}[العنكبوت:68]، لم جائه الحق كذب به، وهذا كذلك متحقق في هؤلاء الكفار؛ كفار قريش وكفار مكة وكفار العرب، أتاهم الحق من الله -تبارك وتعالى-، أتاهم هذا النبي بالحق من ربهم وهذا الحق ظاهر واضح ومؤيد بكل دليل وبرهان، ولكنهم كذبوا به؛ قالوا أن هذا كذب وردوه، قال -جل وعلا- {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ}، سؤال للتقرير، {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى}، مثوى؛ مكان ثواء، الثواء اللي هو الإقامة والبقاء، نقول ثوى بالمكان بمعنى أنه أقام فيه ونزل به، {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ}، والجواب لا شك، بلى، لأن الذي يكفر بالله -تبارك وتعالى- لابد أن يعاقبه الله -تبارك وتعالى-؛ والله أخبر بأن عقوبته جهنم، عقوبة الكافر إنما هي جهنم، {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ}، وهؤلاء كفروا، كفروا وارتكبوا أعظم الذنوب وأعظم الظلم، بل افتروا على الله الكذب وكذبوا بالحق لما جائهم، {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ}.

ثم قال -جل وعلا- {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}[العنكبوت:69]، {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا}، هؤلاء أهل الإيمان، فهذي عقوبة الكفار السابقة وهذا صنيع الله -تبارك وتعالى- بأهل الإيمان الذين جاهدوا في الله، الذين جاهدوا؛ الجهاد هو بذل الجهد، جاهدوا في الله؛ بالإيمان به، بتحمل الأذى في سبيل هذا، بالقيام بما أمرهم الله -تبارك وتعالى- به، من تحمل الأذى في سبيل الله -تبارك وتعالى- ممكن الإخراج من الوطن والأهل، كما وقع للمسلمين فإنهم خرجوا من أهلهم ومن أوطانهم بعد أذى وتعذيب الكفار لهم، عامة المسلمين هاجروا من مكة؛ الذين كانوا في مكة، حتى إنهم إضطروا في نهاية المطاف ...، واحد زي أبو بكر؛ أبو بكر أرجع بعد أن هاجر، ثم هاجر النبي -صلوات الله والسلام عليه-، فهذا كله من بذل جهدهم في سبيل الله -تبارك وتعالى-، ثم الجهاد بالمال؛ جاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، ثم جهادهم بالكلمة؛ بدعوتهم إلى الله -تبارك وتعالى-، والذين جاهدوا في الله -سبحانه وتعالى- {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا}، جهادهم في الله؛ في سبيل الله، ثم أنهم يريدون وجه الله -تبارك وتعالى-؛ مخلصين لله، لا يكون جهاد في سبيل الله -تبارك وتعالى- إلا إذا كان خالصًا لوجه الله -عز وجل-، في أمر الله وهو كذلك خالص لوجه الله -تبارك وتعالى-.

قال -جل وعلا- {........ لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}[العنكبوت:69]، لنهدينهم؛ والله لنهدينهم، سبلنا؛ هذه الهداية هنا هداية توفيق وهداية إعانة، وهداية الله -تبارك وتعالى- للعباد هدايتان؛ هداية بيان وإرشاد وهذي لكل أحد، فإن الله -تبارك وتعالى- أرسل هدايته لكل أحد، كما نزل هذا القرآن يوضح للجميع طريق الله -تبارك وتعالى-، خلاص {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ ........}[القمر:17]، لكل من يتذكر، {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}، وقال {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}، {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا}[الفرقان:1]، وقال لرسوله {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}، {صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ}[الشورى:53]، فهذه هداية عامة، وهداية الله -تبارك وتعالى- العامة لكل أحد ليقيم عليهم الحجة، يرسل الرسل، ينزل الكتب، يبين الحق بما لا يدع في الحق لبس، فهذه هداية الله -تبارك وتعالى- للجميع، ثم لله -تبارك وتعالى- هداية خاصة؛ هدى خاص لعباده المؤمنين، وهو ما يلقيه الله -تبارك وتعالى- في قلوبهم من محبة هذا الدين ومن التمسك به ومن الإيمان به، ومن إيثاره على كل ما يعارضه من شهوات النفس ولذائذ الحياة، لا خلاص يؤثرونه؛ فهذي هدى خاص، والقرآن فيه هذا المعنى للمؤمنين، كما قال -جل وعلا- {الم}[البقرة:1]، {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ}[البقرة:2]، فالله -تبارك وتعالى- يهدي به عباده المتقين بما يجعل هذا القرآن نور في قلوبهم، {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ}، {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ}[البقرة:3]، {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ}[البقرة:4]، {أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ .........}[البقرة:5]، هدى خاص هنا من الله -تبارك وتعالى- يهديهم، {........ مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[البقرة:5]، فالله -تبارك وتعالى- يهدي بهداه الخاص عباده المؤمنين، وهذا الله -تبارك وتعالى- لا يعطيه لأحد وإنما له وحده -سبحانه وتعالى-، لا يعطيه لا لنبي ولا لغير نبي؛ هذا من فعله -سبحانه وتعالى- هو، كما قال الله لرسوله {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ........}[القصص:56]، فالله -تبارك وتعالى- هو الذي يختص بهدايته من يشاء من عباده والأمر له -سبحانه وتعالى-، {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}[القصص:68].

{وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[يونس:25]، فدعوة الله -تبارك وتعالى- إلى دار السلام؛ الجنة، كلها هذه للجميع، الله ينادي الجميع تعالوا إلى دار السلام، ولكنه يهدي؛ يوفق، من يشاء إلى صراط مستقيم؛ الصراط الواصل إلى الجنة، فهذا هداه -سبحانه وتعالى-، هدى الله يهدي به من يشاء من عباده، فمن يشاء الله -تبارك وتعالى- من عباده أن يهديه هذا الهدى الخاص، وهو أن يشرح صدره للإسلام وأن يمسكه به وأن يحبب إليه هذا الدين وأن يؤثره به، هذا فعله وقد جعل الله -تبارك وتعالى- هذا له وحده ليس لأحد من الخلق، قال {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا .........}[العنكبوت:69]، سبلنا؛ السبل جمع سبيل، والسبيل؛ الطريق، يعني طرائق الله -تبارك وتعالى-، وطريق الله –تبارك وتعالى- طريق واحد لكن هذا له شعب؛ له شعب مثل الإيمان، الإيمان طريق واحد والصراط المستقيم صراط واحد ولكن هذا له شعب، فالصلاة والصيام والزكاة والحج وبر الوالدين هذه كلها من شعب هذا الطريق، الطريق يتشعب هكذا يسير في طريق واحد بهذه الشعب، كما قال النبي -صلوات الله والسلام عليه- «الإيمان بضع وستون شعبة، أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان»، فأخبر -سبحانه وتعالى- بأن كل من جاهد فيه {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا .........}[العنكبوت:69]، يهديهم الله -تبارك وتعالى- إلى شعب الإيمان وإلى طرائقه فيسيرون في طريق الرب -تبارك وتعالى-.

ثم قال -جل وعلا- {وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}، ختام هذه السورة، اعلموا أن الله -تبارك وتعالى- مع المحسنين، معية الله -تبارك وتعالى- أن يكون الله مع عباده، لله كذلك مثل الهدى فالمعية كذلك مثلها، الله -تبارك وتعالى- هو مع كل الخلق، ما أحد من الخلق إلا والله -تبارك وتعالى- معه؛ يسمعه ويبصره، فكل خلق الله -تبارك وتعالى- تحت سمعه وبصره، لا يخفى على الله -تبارك وتعالى- شيء من عباده، كمن قال -جل وعلا- {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ}، وين تكونوا فالله -تبارك وتعالى- معكم، {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}[المجادلة:7]، فالله مع خلقه كلهم، لا يوجد صغير ولا كبير إلا والله -تبارك وتعالى- معه، سمعه وبصره -سبحانه وتعالى- يسمعه، يبصره، قريب منه -سبحانه وتعالى-، فهذا الأمر ديَّت، كما قال -تبارك وتعالى- {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}[ق:16]، فالله أقرب لكل أحد من حبل وريده، فهذه المعية العامة؛ معية الله -تبارك وتعالى- مع كل خلقه.

ثم هناك معية خاصة؛ أن الله -تبارك وتعالى- مع عباده المحسنين، مع عباده المؤمنين، معهم -سبحانه وتعالى- هذي معية خاصة، معهم أنه يرحمهم، يؤيدهم، ينصرهم -سبحانه وتعالى-، كما قال -تبارك وتعالى- لموسى {قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى}[طه:46]، إنني معكما؛ معهم الله -تبارك وتعالى- بتأييده ونصره، وأنه يسمعهم ويراهم وأنه الله -تبارك وتعالى- ديَّت، فالله -تبارك وتعالى- هنا {وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}، معهم -سبحانه وتعالى- بهذا التوفيق، بالهداية، بالنصر، {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}، فهذي معية الله -تبارك وتعالى-، إخراج عباده من الظلمات إلى النور، تثبيتهم على الحق، إبقائهم عليه، تمسيكهم به، فالله معهم -سبحانه وتعالى-، نسأل الله -تبارك وتعالى- أن نكون من عباده المحسنين.

وبهذا تنتهي هذه السورة، السورة العظيمة التي هون الله -تبارك وتعالى- ...، بيَّن الله -تبارك وتعالى- سنته في الإبتلاء، وهون الله -تبارك وتعالى- كل أنواع الإبتلاء الذي يبتلى به المؤمنين من الكفار، هونه على عباده المؤمنين بهذا الوعد الحسن منه -سبحانه وتعالى- لهم في الدنيا والآخرة، نسأل الله -تبارك وتعالى- أن يمسكنا بدينه حتى نلقاه، استغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصل الله وسلم على عبده ورسوله محمد.