الجمعة 25 شوّال 1445 . 3 مايو 2024

الحلقة (49) - سورة البقرة 173-176

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على عبد الله والرسول الأمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد أيها الإخوة الكرام، يقول الله -تبارك وتعالى- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}[البقرة:172]، {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[البقرة:173]، هذا نداءٌ من الله -تبارك وتعالى-، يأمر الله -تبارك وتعالى- عباده المؤمنين أن يأكلوا من طيبات ما رزقهم، وأن يشكروا له -سبحانه وتعالى-، وقال {وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}، تحريض على الشكر، يعني إن كنت حقًا تعبد الله -تبارك وتعالى- فاشكر الله -عز وجل-، مقتضى أن يرزقك الله -تبارك وتعالى-، وأن يُحِل لك هذه الطيبات، أن تقوم بشكره -سبحانه وتعالى- إذ هو الخالق الرازق -سبحانه وتعالى-، ثم بيَّن -سبحانه وتعالى- أن من رحمته بعباده أن المحرمات التي حرَّمها عليهم من كل هذه المطعومات التي خلقها لهم من الطيبات أنها قليلة، وأنها أربعة أشياء فقط، قال {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ}، بالحصر، {الْمَيْتَةَ}، وقد بيَّنا في الحلقة الماضية أن الميتة المحرمة هي كل ما مات من الأنعام، هذه الميتة المحرمة حتف أنفه، أو بوسيلة غير الذبح، كما قال الله -تبارك وتعالى- في آية سورة المائدة، {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ}، {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ}[المائدة:3]، إلا ما أدركتموه من هذه الأشياء التي تموت بهذه الوسيلة غير حتف الأنف، إلا ما أدركتموه منها فذكيتموه، فما أُدرك فذكي فنعم, كأن تدرك المخنوقة مثلًا التي شارفت على الموت، فيفك عنها الحبل ثم تذكى الذكاة الشرعية فإنها تؤكل، أو الذي أدركتم السبع قد نهش شيئًا منه، وقبل أن يموت أُدرك فذكي فنعم.

هنا الله -تبارك وتعالى- أخبر بأنه حرَّم على عباده المؤمنين الميتة أن يأكلوها والدم، والدم هنا جاء مطلقًا وجاء مقيدًا، في آية سورة الأنعام، وهي قول الله -تبارك وتعالى- {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا}[الأنعام:145]، وسفح الدم؛ السفح هو الدلق والهدر، والمسفوح سواء كان السفح هذا عند الذبح، فيذبح الشاه والبقرة ثم يلاقي الدم النازل منها بإناء وغيره، ثم يؤخذ فيؤكل، كما كانت عادة العرب السابقين في الجاهلية، أو يقطع شريان من الحيوان, وكان هذا الأمر يفعلونه في الإبل، ثم يلاقون الدم بوعاء، ثم يغلقون الجرح، ويأكلون الدم هذا بعد أن يجمد يأكلونه، فهذا الدم المسفوح الذي جاء هنا مطلقًا ولكنه مقيد بآية الأنعام، هذا الذي حرام، أما الدم الذي يبقى في عروق الذبيحة بعد أن تذبح ويصفى دمها، فإذا بقى شيء من دمها في العروق أو بقى شيء على اللحم وظهر هذا الدم على القِدر في الطبخ، فإن هذا قد عفي عنه، فلا يشترط أن يغسل اللحم غسيلًا كاملًا حتى ينقى من كل ذرات الدم، بل هذا الدم كان كما في حديث أم المؤمنين عائشة كانوا لا يعدونه شيئًا، وهو ما بقي في العروق، {وَالدَّمَ}، أي المسفوح، {وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ}، الخنزير حيوان معروف هنا حرَّمه الله -تبارك وتعالى- على المؤمنين، جعله الله -تبارك وتعالى- حرامًا، ولا شك أن اللحم هنا يدخل فيه الشحم، بل يدخل فيه كل ما يؤخذ من الخنزير، سواء يؤكل شحمه أو عظمه أو جلده، كما يفعل الآن من أكل جلد الخنزير، فكله من الخنزير، وقيل هنا اللحم ليس للتخصيص، وإنما اللحم إذا قيل لحم الخنزير فإنه يعم هذه الأجزاء الباقية، فإنك إذا قلت اشتريت لحمًا لا يفهم من هذا أنك أخذت اللحم فقط، بل يكون مع اللحم شحمٌ وعظمٌ، فلحم الخنزير حرام؛ حرَّمه الله -تبارك وتعالى-، هذا المحرَّم الثالث.

ثم قال -جل وعلا- {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ}، الإهلال هو رفع الصوت، وأصله جاء من الهلال، والهلال معروف هو أول ليلة في الشهر العربي يظهر القمر على شكل هلال، وكان من عادة العرب أنها إذا رأت القمر لأول مرة هلالًا، تقوم ترفع صوتها إستبشارًا به، أن هذا بداية الشهر، فسمي كل رفع للصوت عند عمل ما إهلالًا، و {أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ}، أهل به أي رفع الصوت عند ذبحه، فما يرفع الصوت به عند ذبحه فيقال هذه للصنم الفلاني، أو للإله الفلاني، باسم المسيح أو باسم السيد أو باسم غيره يذبح، كل ما يهل به لغير الله عند ذبحه فهذا نجس، هذا من جملة ما حرَّم الله -تبارك وتعالى-، فهذه أربعة محرمات حرَّمها الله -تبارك وتعالى- علينا، وهي من أنواع اللحوم، قال {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ}، مطلقًا، {وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ}، الذي استثني من معنى الميتة هو فقط ميتة السمك والجراد، فهذه قد استثناها، أما ميتة السمك فهذه قد قام النص والإجماع على حِلِّها، كما في الحديث «أُحلت لنا ميتتان ودمان، أما الميتتان فالسمك والجراد»، والأحاديث في حِل السمك والجراد أحاديث كثيرة، وأيضًا في قول الله -تبارك وتعالى- {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ}[المائدة:96]، فصيد البحر ما يصاد، يصاد ثم يموت في صيده، سواء مات في شباكه أو مات بعد خروجه من الماء، فهذا الذي مات بعد الخروج من الماء دون ذكاة فيؤكل، وكذلك طعام البحر، طعام البحر ما يلقيه البحر مما يموت فيه ثم يلقيه، فإذا وجد ما يلقيه البحر ميتًا كذلك ولم يتعفن ولم يفسد قبل فساده فإنه يؤكل، والجراد كذلك يؤخذ حيا ثم يوضع في ما يؤخذ فيه ويترك فيموت فيؤكل، فهاتان الميتتان حلال، أما الميتة التي حرَّمها الله -تبارك وتعالى- إنما هي ميتة الأنعام، الأنعام التي جاءت في قول الله -تبارك وتعالى-  {مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ}، {وَمِنَ الإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ}[الأنعام:143]، هذه الأنعام، هذه هي التي أحل الله -تبارك وتعالى- لنا أن نأكلها، طبعًا هذا دون السباع -كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير-، هذه هي الأنعام التي أحلها الله -تبارك وتعالى- لنا، لا تؤكل إلا بالذكاة الشرعية بشروطها، فالميتة والدم أما الدمان اللذان اٌحلا لنا فالكبد والطحال، هذه أعضاء من الذبيحة ويغلب فيها الدم، لكن هي مما أحله الله -تبارك وتعالى-.

قال -جل وعلا- {........ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[البقرة:173]، فمن اضطر أي ألجأته الضرورة إلى أن يأكل شيئا من هذه الأربعة التي حرَّمها الله، حال كونه غير باغٍ متعدٍ، البغي هو العدوان، قالوا هنا غير باغٍ أي ليس من أهل البغي، ولا عادٍ ليس من أهل البغي وهم الذين يسافرون سفر المعصية بغيا على الإمام، أو غير باغ في هذا الأمر، متعدٍ في هذا الأمر بألا تكون هناك ضرورة، وإنما مجرد حاجة وليست عنده ضرورة مفضية للموت، أو عاد يتعدى، تعدى حدود ما أباح الله –تبارك وتعالى- له ليقيم الأود، ويخرج من الإشراف على الموت، وهو أن يأكل قدر ما يقيم أوده، فإذا زاد وتوسع في هذا فيكون معتديًا، {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ}، أي أن الله -تبارك وتعالى- يرفع عنه الإثم والحرج، بأكله مما حرَّم الله -تبارك وتعالى-، {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، هذا من مغفرته ورحمته -سبحانه وتعالى-، ولو أراد الله أن يلزم العبد أن يظل على الامتناع عن أكل هذه حتى الموت لفعل، ولكن من مغفرته ورحمته -سبحانه وتعالى- أنه أباح للمضطر أن يأكل مما حرَّمه عليه -سبحانه وتعالى-،

بعد هذا رجع الحديث مرة ثانية إلى تحريم كتمان العلم، بصورة جديدة وبوعيد جديد، قال -جل وعلا- {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[البقرة:174]، هذه الآية جاءت تعقيبًا على هذه الآيات، في وجوب أن يأكل المؤمن حلالًا، أولًا تأكيدًا للمعنى الأكبر الذي هو السبب الأكبر في فساد الدين، وهو كتمان العلم، أهل العلم إذا كتموه فلم يظهروا العلم فهذا يؤدي إلى فساد الدين، وذلك أن هؤلاء هم المؤتمونون هم ورَّاث الرسالة، وهم أتباع الرسل، فإذا تواصوا على كتمان العلم معناه أطفئوا نور الله -تبارك وتعالى- عندهم، والعامة من أين لهم أن يهتدوا؟ ما دام أن هؤلاء الخاصة الذين عندهم العلم قد كتموه، فيكون شرا، ثم إذا بدلوه بعد ذلك أي أخرجوا آراءهم وأهواءهم؛ أخرجوها للناس وقالوا هذا هو دين الله، يكون هذا أمرا أكبر، ويكون تبديلا أكبر لهذا، {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ}، يكتمونه يحجبونه ويتواصون على إخفائه، {مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ}، الذي أنزله الله -تبارك وتعالى- من الكتاب، أي كتاب هذا نصٌ عام في كل من كتم دين الله -تبارك وتعالى- والآيات المنزلة منه، {وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا}، يشترون بسكوتهم وكتمانهم هذا ثمنا قليلا، رشاوى لهذا التبديل من الناس، جزاء من الناس لكتمانهم هذا العلم، اسكت وخذ هذا المال في مقابل سكوتك، هذه الآية ليست لها مفهوم، ثمنًا قليلًا معناها ليس لأنه اشتُريَ منه كتمانه للعلم بدراهم معدودة لا، بل لو أُعطي الدنيا لكان ثمنًا قليلًا كذلك، لأنه لو أعلن دين الله وقام بدين الله, وكان له الجنة فهذي الجنة لا يقاومها شيء، فقد استبدل الجنة بالدنيا لو أُعطيها، والدنيا لو أُعطيها كلها ثمنٌ قليل، {وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا}، هذا تحقير لما يأخذه هذا الكاتم لدين الله -تبارك وتعالى-، ولو أخذ الدنيا كلها.

قال -جل وعلا- {أُوْلَئِكَ}، وهذه إشارة إليهم بالإشارة للبعيد، إبعادًا لهم وتحقيرًا لهم، {مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ}، الذي أخذوه هذا، الثمن الذي أخذوه في مقابل كتمانهم لما أنزل الله -تبارك وتعالى- إنما هو نار، حقيقة الذي أكلوه نار وذلك أنهم سيعذبون بالنار عذابا, ويأكلونها، يأكلون النار أكلا يوم القيامة، فإن عقوبة المعذَّب هناك -عياذًا بالله- هي أن يطعم نارا، الزقوم نار، {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ}[الدخان:43]، {طَعَامُ الأَثِيمِ}[الدخان:44]، {كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ}[الدخان:45]، {كَغَلْيِ الْحَمِيمِ}[الدخان:46]، كالمهل؛ المهل هو كل معدن مذاب، كل معدن يذاب كحديد يذاب أو نحاس مذاب أو رصاص مذاب, تسميه العرب مهلا، فالمهل كل معدن مذاب، هذا يشبِّه الله -تبارك وتعالى- غلي الزقوم في بطن من يأكله كغلي المعدن المذاب، {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ}[الدخان:43]، {طَعَامُ الأَثِيمِ}[الدخان:44]، طعام المجرم الذي ارتكب الإثم، {كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ}[الدخان:45]، {كَغَلْيِ الْحَمِيمِ}[الدخان:46]، كغلي الماء الحار، {خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ}[الدخان:47]، {ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ}[الدخان:48]، {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ}[الدخان:49]، فالله يقول {أُوْلَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ}، لأنهم يطعمون يوم القيامة نارًا -عياذًا بالله-.

{وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}، لا يكلمهم كلاما ينفعهم، بل يهملهم الله -تبارك وتعالى- ازدراءً لهم، ومقتًا لهم من الله -تبارك وتعالى-، فيٌترَكون ويُخَلَون ويهملون، {وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ}، في الدنيا لا يطهرهم من هذا الرجس والنجاسة، وهي أنهم باعوا دين الله -تبارك وتعالى- بثمن بخس، اشترى الناس سكوتهم عن الحق بهذا المال القليل الذي أخذوه، عندهم الحق لو بيَّنوه لكان لهم ما لهم عند الله -تبارك وتعالى- من الجنة والرضوان، {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، لهم يوم القيامة عند الله -تبارك وتعالى- عذابٌ مؤلم.

{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى}، أولئك أيضًا بالإشارة إليهم تحقيرًا لهم إشارة بالبعيد، {الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى}، اشتروا الضلالة أخذوها بالهدى اللي باعوه، وهذا خاسر، أخذ الضلالة وذلك بكتمانه للعلم الذي أنزله الله -تبارك وتعالى-، وأخذه ثمنا على هذا الكتمان، بالهدى؛ الهدى هو البيان، والوقوف مع الحق والصدع به، وبيان أمر الله -تبارك وتعالى-، فأخذ الضلالة وترك الهدى، {وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ}، اشترى العذاب وباع المغفرة، اشترى عذاب الله -تبارك وتعالى- هو الذي أخذه، وترك مغفرة الرب -تباك وتعالى-، قال -جل وعلا- {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ}، هذا تعجب من أحوال هؤلاء، {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ}، ما أصبرهم على النار! هذا تعجب من حالهم، ما أشد صبرهم على النار! قال أهل العلم في تفسير هذه الآية: ما أصبرهم!؛ ما أكثر صبرهم على أكل الحرام على هذا النحو!، واشتراء الضلالة والبعد عن الهداية، فهم سائرون في هذا الأمر، أو ما أصبرهم على النار! ما أشد صبرهم على النار! هذا يوم القيامة، يكون يوم القيامة أنهم يطول عذابهم، وتطول محنتهم في النار طولًا شديدًا، ويبقون يستصرخون فيها ولا يُستصرَخون، ويقال لهم {........ اصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}[الطور:16]، وليس معنى ذلك أنهم يصبرون عليها فيحبسون النفس عن المكروه، وإنما {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ}، أي ما أطول بقاءهم في النار وصبرهم عليها ومقاساتهم لعذابها! -عياذًا بالله-، {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ}[البقرة:175].

{ذَلِكَ}، أي هذا المآل والنهاية والعذاب الذي يُعذَّب به هؤلاء الذي كتموا العلم، علمًا أنهم ورَّاث القرآن وورَّاث التوراة وورَّاث الإنجيل، كل من حمل دين الله -تبارك وتعالى- ثم صنع هذا الصنيع، من كتمانه للحق وأخذه للدنيا وتركه للآخرة، قال الله {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ}، الله نزَّل الكتاب بالحق، والله هو الذي أنزله -سبحانه-، الله هو الذي أنزله، ونزَّل هذا الكتاب بالحق؛ نزوله بالحق وكذلك مضمونه حق، مضمون هذه الكتب حق، {........ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ}[البقرة:176]، {........ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ}[البقرة:176]، اختلفوا في التوراة اختلفوا في الإنجيل كما قال النبي -صلوات الله والسلام عليه- «إفترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وإفترقت النصارى على إثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاثٍ وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة»، فالذين اختلفوا في الكتاب مخالفين للكتاب هم في شقاق بعيد، شقاق فيما بينهم، ومُشاقة للهدى بعيد، بل هم في شُقَّة بعيدة عن الهدى الذي أنزله الله -تبارك وتعالى-، وذلك أن الله يضلهم فيكونون في شق بعيد عن هذا الهدى، {........ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ}[البقرة:176]، وذلك أن الكتاب واضح، فالقرآن حلاله وحرامه وبيانه واضح، قد فصَّل الله -تبارك وتعالى- فيه الأمر، فالذين يكتمون ما أنزل الله -تبارك وتعالى- من هذا القرآن، ويغيرونه ويبدلونه ويُحِلون ما حرَّمه الله، ويحرِّمون ما أحله الله، مع البيان والوضوح لا شك أنهم في شقاق بعيد، في شُقَّة بعيدةٍ جدًا عن الحق والهدى.

هذه الآيات جاءت أيضًا تكريرا للمعنى السابق من قول الله -تبارك وتعالى-، {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ}[البقرة:159]، {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}[البقرة:160]، جاء هنا يكرر المعنى، {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[البقرة:174]، {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ}[البقرة:175]، {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ}[البقرة:176].

بعد أن بيَّن الله -تبارك وتعالى- عقوبة الكاتمين للعلم على هذا النحو، بدأت تأتي صفحة جديدة لبيان المؤمن الحقيقي، ما الإيمان الحقيقي؟ من البار على الحقيقة؟ فقال -جل وعلا- {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}[البقرة:177]، هذه الآية جاءت هنا فاصلا بين بيان جزاء الكاتمين لدين الله -تبارك وتعالى-، ثم بعد ذلك بيان التشريعات التي شرَّعها الله -تبارك وتعالى- للإسلام، جاءت هذه الآية؛ وهي آية فريدة في القرآن، جمع الله –تبارك وتعالى- فيها صفات الإنسان البار، المؤمن الصالح، الذي يحبه الله -تبارك وتعالى- ويرضاه، من هو هذا المؤمن الصالح؟ الذي يحبه الله –تبارك وتعالى- ويرضاه، ولتفصيل هذه الآية حلقةٌ آتية -إن شاء الله-.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب.