الجمعة 29 ربيع الآخر 1446 . 1 نوفمبر 2024

الحلقة (490) - سورة الروم 1-8

{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الفاتحة:2]، {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}[الفاتحة:3]، {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}[الفاتحة:4]، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن إهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- بسم الله الرحمن الرحيم، {الم}[الروم:1]، {غُلِبَتِ الرُّومُ}[الروم:2]، {فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ}[الروم:3]، {فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ}[الروم:4]، {بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}[الروم:5]، {وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}[الروم:6]، {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ}[الروم:7]، {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ}[الروم:8]، هذه الآيات هي بداية سورة الروم وهذه السورة هي مكية بتمامها، بدأ الله -تبارك وتعالى- هذه السورة بهذه الحروف الثلاثة المقطعة {الم}[الروم:1]، كما هو في كثير من سور القرآن، وقد مضى أقوال أهل العلم في معاني هذه الحروف المقطعة، وأمثل ما قيل في ذلك أنها إشارة إلى الحروف التي يتكون منها اللغة، وأن هذا القرآن النازل بلغة العرب وهو إشارة إلى تحدي الله -تبارك وتعالى- العرب أن يأتوا بسورة من مثل سور هذا القرآن، الذي هم في هذه اللغة هم أهل الفصاحة وأهل البلاغة فيها، فإن كانوا يكذبون رسولهم -صل الله عليه وسلم- في أنه أتى بهذا القرآن من عند الله -تبارك وتعالى-، {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ}[الطور:34]، أو أنها مثل آلات التنبيه في بدء الخطاب.

{الم}[الروم:1]، {غُلِبَتِ الرُّومُ}[الروم:2]، غلبت؛ هزمت، الروم؛ تطلق الروم على الشعوب التي تسكن فيما يعرف الآن بأوربا، وغلب عليهم إسم الروم لأن الرومان؛ أهل روما، إستطاعوا أن يخضعوا عامة هذه الشعوب الأوربية، وكذلك أن يخرجوا للغزو والفتح خارج أوربا حتى إنهم إستعمروا أكثر المعمور، فقد وصلوا إلى حدود الصين وكل شعوب غرب آسيا؛ شعوب بلاد الشام كلها وتركيا، وكذلك شعوب شمال إفريقيا كلها؛ من القبط والبربر، كل هذه الشعوب في يوم من الأيام أخضعوها، ووقفوا على حدود جزيرة العرب وكان هناك من القبائل العربية هذا قبل الإسلام من هو موالٍ لهم، كالغساسنة الذين كانوا في بلاد الشام وفي أطراف الجزيرة في شمالها، حتى أنه كان يقال في وقت من الأوقات عن البحر المعروف الآن بالبحر الأبيض المتوسط بحر الروم، فالرومان أو الروم شعب من هذه الشعوب وهم قبائل من قبائل بلاد أوربا، ولكنهم غلبت التسمية على كل هذه الشعوب، وهي شعوب كاسرة مقاتلة فيما بينها، وكذلك محاربة فاتحة قبل أن تدخل في النصرانية، وبعد أن دخلت فيها النصرانية كذلك في عهد قستنطين وحولت الممالك التي تحت أيديها إلى النصرانية قصرًا وجبرًا، الذي كان يعادلها في ذلك الوقت قبل الإسلام في القوة هم الفرس، الأكاسرة الذين كذلك إمتد ملكهم في مناطق إيران وفي أواسط آسيا وكانوا يمتدون أحيانًا حتى يصلون إلى قلب أوربا، وطبعًا في غزواتهم في بلاد الشام وحدود مصر وتكون بينهم وبين الفرس صراعات وسجالات كثيرة.

في وقت نزول القرآن على النبي -صلوات الله والسلام عليه- في مكة هزمت الروم من الفرس هزيمة منكرة، {فِي أَدْنَى الأَرْضِ}، أدنى الأرض المقابلة للجزيرة كانت هذه المعارك في الجزيرة؛ المكان بين عراق وبلاد الشام، هزموا هزيمة ودفعهم الفرس عن بلاد الشام، ثم بعد ذلك قام الروم من كبوتهم وأزاحوا الفرس بعد ذلك، في الوقت الذي نزلت فيه السورة في الوقت الذي إنتصرت فيه الفرس هذا النصر العظيم على الروم وإكتسحوهم، وروي عن بعض الصحابة؛ عن إبن عباس وغيره، أن العرب المشركين فرحوا بنصر الفرس فرحًا عظيمًا، قيل أن سبب فرحهم أنهم قريبون لهم في الإعتقاد من الشرك وعبادة الأوثان، الفرس في هذا الوقت كانوا يعبدون النار، ويعتقدون أنها رمز لإله؛ إله النور، ويعتقدون بأن هذا العالم له إلهان؛ إله خلق الخير وإله خلق الشر، إله النهار وإله الليل، وكانوا من عبادتهم للنار أنهم يشعلونها في الليل كأنها مساعدة لإله النهار على إله الليل، هذا إلى سخافاتهم وقلة عقولهم، فعلى كل حال هم مجوس مشركون أهل عبادة أوثان، قيل إن العرب المشركين كانوا يرون أن الفرس أقرب إليهم في هذا الأمر، وأما الروم فإنهم كانوا قد تنصروا وكان فيهم نصرانية، كان فيهم إعتقاد بالله -تبارك وتعالى-، وإن كانوا طبعًا يقولون بأنه له إبن وله زوجة، تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا، لكنهم رأوا أنهم أبعد إليه، وأن النبي محمد -صلوات الله عليه وسلم- الذي نشأ فيهم هو أقرب إلى أهل الكتاب؛ هؤلاء النصارى من الروم، قيل هذا وقيل كذلك أن سبب فرح المشركين بغلبة الفرس على الروم هو أنهم تمنوا عدوا للإسلام قوي، يستطيع أن يقهر الإسلام وأن ينهي وجود النبي -صلوات الله والسلام عليه-، فكأنهم رأوا في هذا عدو للإسلام يشترك معهم في القضاء على الإسلام، ولم يروا مثل هذا في الروم، لعل كان فرح المشركين بإنتصار الفرس على الروم لهذا المعنى، المهم أنه قد نقل أن مشركي العرب فرحوا بهذا وأن المسلمين سائهم هذا، سائهم نصر الفرس على الروم لما لا شك أن المسلمين يعتقدون بأن الروم وإن كانوا نصارى مشركين وكفار لكنهم أقرب إلى الإسلام، من أنهم أهل دين من السماء وأهل كتاب، أقرب لهم من الفرس المجوس المشركين، فكأن المسلمين حزنوا لهذا، وهذه واقعة حدثت بجوار الجزيرة؛ هذه المعارك الكبرى بين الفرس والروم، وكان لابد أن يتأثر لها المسلمون والمشركون، فالمشركون فرحوا لنصر الفرس والمسلمون حزنوا لذلك.

فكأن الله أنزل عن غيبه إخبارًا بهذا الغيب وأن هذه المعادلة القائمة الآن ستتغير، قال -جل وعلا- {غُلِبَتِ الرُّومُ}[الروم:2]، {فِي أَدْنَى الأَرْضِ}، يعني في أرض الجزيرة، اللي هو أدنى الأرض من جزيرة العرب، منطقة الجزيرة التي هي بين العراق والشام، {........ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ}[الروم:3]، هذا إخبار من الله -تبارك وتعالى- أنهم من بعد غلبهم؛ يعني من بعد هزيمة الروم، سيغلبون؛ سيغلبون الفرس، {فِي بِضْعِ سِنِينَ}، أن هذا كائن في بضع سنين، وأنه ليس في أماد طويلة وإنما في بضع سنين، والبضع في لغة العرب هو من الثلاثة إلى التسعة؛ هذا البضع، {لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ}، لله -سبحانه وتعالى- أمر الخلق كلهم إلى الله، لله لا إلى غيره -سبحانه وتعالى-، فالله -تبارك وتعالى- هو الحاكم في كل مصير عباده -سبحانه وتعالى-، {لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ}، في قبل هذه الهزيمة والنصر وبعد ذلك كله، كل مصائر الخلق وتدبيرهم إنما هو بيد إلههم ومولاهم رب السماوات والأرض، ثم قال -جل وعلا- {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ}، {بِنَصْرِ اللَّهِ}، ويومئذ؛ يعني يوم ينتصر الروم مرة ثانية على الفرس سيفرح المؤمنون بنصر الله، قيل {بِنَصْرِ اللَّهِ}، أن هذا نصر من الله -تبارك وتعالى- نصر به الروم على الفرس، وأن الله -تبارك وتعالى- هو الذي ينصر من يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء ويؤتي ملكه من يشاء؛ سواء من الكفار أو من غيرهم، كما قال -تبارك وتعالى- {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[آل عمران:26]، {تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}[آل عمران:27]، فأمر العباد كلهم إلى الله -تبارك وتعالى-؛ إعطاءً وسلبًا وأخذًا، كل هذا إنما هو إلى الله -تبارك وتعالى-.

قيل أن المؤمنين يفرحون بهذا لأنهم أقرب إليهم، وقيل {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ}، {بِنَصْرِ اللَّهِ}، المؤمنون يفروحون بنصر الله للمؤمنين، أنه في هذا الوقت ينصر الله -تبارك وتعالى- نبيه محمد -صل الله عليه وسلم- والمؤمنون معه بنصر من الله -تبارك وتعالى-، وقد كان فإنه صادف هذا إنتصار المسلمين في بدر، بعد أن هاجر النبي -صل الله عليه وسلم- من مكة وبقي في المدينة، ثم كانت موقعة بدر وكان فيها النصر العظيم من الله -تبارك وتعالى-، في هذه البضع سنين التي أخبر الله -تبارك وتعالى- عنها، {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ}، {بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}[الروم:5]، فعلى القول الأول {بِنَصْرِ اللَّهِ}، للروم على الفرس، وقد إنتصر هرقل وأزاح الفرس من بلاد الشام وأزاحهم من الشام والعراق، وكان قد نذر لله -تبارك وتعالى- أنه إن إنتصر ورد هذه الممالك للروم أن يحج إلى بيت المقدس، من حمص إلى إيليا اللي هي القدس ماشيًا على قدميه، وقد سار هذه المسافة كلها على قدميه بعد أن إنتصر الروم على الفرس، فعلى كل حال فرح المؤمنون؛ المؤمنون هنا إذا أطلق المؤمنين فيعنى به أتباع النبي محمد -صل الله عليه وسلم-، النبي محمد والمسلمين مع يفرحون بنصر الله، بنصر الله للروم من باب قرب هؤلاء وأنهم أقل شرًا من الفرس المجوس المشركين، والقول الثاني أنهم يفرحون في هذا اليوم يفروحون بنصر الله لهم عندما ينتصرون على كفار قريش في بدر، ينصر من يشاء وهو العزيز؛ الغالب الذي لا يغلبه أحد، الرحيم؛ الذي يرحم من يشاء -سبحانه وتعالى-، فعزته وغلبته على الكفار المشركين -سبحانه وتعالى- ورحمته –سبحانه وتعالى- إنما هي بعباده المؤمنين، فهو العزيز الرحيم، العزة في مقابل الكفر أهل الكفر والعناد، والرحمة في مقابل أهل الإيمان والإسلام.

ثم قال -جل وعلا- {وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ ........}[الروم:6]، وعد الله لا يخلف الله وعده وهذا الوعد بشقيه؛ سواء كان بنصر الروم على الفرس أو بنصر المسلمين على المشركين، لا شك أنه كان أمرًا مستغربًا بعيدًا عما يرى على أرض الواقع في هذا الوقت؛ وقت نزول هذه الآيات، فإن الهزيمة التي كان قد مني به الروم كانت هزيمة مذلة وقد أزاحتهم، أزاحهم الفرس وإنتهت فلولهم أمام الفرس، وأنهم يستردون عافيتهم بعد ذلك ويهزمون عدوهم كان هذا أمر بعيد المنال وفي بضع سنين، وكذلك أن يكون نصر الله -تبارك وتعالى- لعباده المؤمنين على الكفار المشركين هذا كان أمرًا كذلك بعيدًا متصورًا، فإن أهل الإسلام في مكة كانوا في غاية الضعف والذل، فكيف ينتصروا على هذا العدد الضخم القوي المستعد؟! كما ذكر الله -تبارك وتعالى- عباده المؤمنين بأن نصرهم في بدر قال {وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ}، يعني قد كانوا في غاية من الذل، كيف يكون هذا؟! يعني كيف تتغير هذه المعادلة؟! فالله -تبارك وتعالى- أخبر بأن هذا وعده، {وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ ........}[الروم:6]، هذا وعد من الله، والوعد هو الإخبار بما يسر، فهذا إخبار من الله -تبارك وتعالى- بما يسر أهل الإيمان وأن الله لا يخلف وعده، إذا وعد الله –تبارك وتعالى- لا شك أن الله لا يخلف وعده، لأن الله -تبارك وتعالى- {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا}، ثم هو الذي مصائر العباد كلها بيديه -سبحانه وتعالى-، ثم إنه علام الغيوب -سبحانه وتعالى- يعمل ما الذي سيكون وكيف يكون، {وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}[الروم:6]، ولكن أكثر الناس على يعلمون هذه الحقائق، لا يعلمون أن الأمر كله بيد الله -تبارك وتعالى-، وأن ينصر من يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء وأن -سبحانه وتعالى- إذا وعد لا يخلف -جل وعلا-، كل هذه الحقائق كثير من الناس هم عن غفلة عنها وعن عدم علم بها، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}.

ثم قال -جل وعلا- {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ}[الروم:7]، لا يعلمون هذه الحقائق؛ حقائق الدين والنور والبرهان، ولكن ما علمهم بالدنيا... نعم، {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ........}[الروم:7]، علمهم في هذا الظاهر، والظاهر هو ما يترآى للأعين ويحس؛ ما يقع تحت الحواس، ولا يتعمقون إلى حقائق هذه الأمور وبواطنها ولا يتدبرون في نهاياتها وغاياتها، وصدق الله -تبارك وتعالى- فإن حدود علم الكفار إنما هو في هذا الظاهر، ممكن أن يعلم هذا الإنسان من ظاهره ومن بنيته وتشريحه وأمراضه وحقائق هذا الخلق فيه لكنه يعمى عمن خلقه -سبحانه وتعالى-، عن خالقه الذي خلقه والذي سواه -سبحانه وتعالى- وماذا يريد به، يعمل ظاهر هذه الحياة الدنيا من النبات، من السحاب، من السماوات، من الأرض، من الشمس، من القمر، من كل ما يحيط به قد يعلم أسرار بنائه وصنعته وخواصه وعن كل شيء بما يحيط بهذا الخلق، لكن يبقى هو في حدود هذا الظاهر ولا يعرف لما خلق الله -تبارك وتعالى- هذا الخلق وما مؤدى هذا الخلق وما نهاية هذا الأمر، فهو علمه فقط بالظاهر يحيى، يتعلم ما أمامه، يأكل، يشرب، يتمتع، فعلمهم إنما هو فقط بهذه الحياة الدنيا على ظواهرها، لكن حقائق الأمور وغاياتها وأهدافها لا علم له بذلك، {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ}[الروم:7]، وهذا أكبر العمى، فإن الآخرة هي نهاية المطاف وهي الأجل الذي ضربه الله -تبارك وتعالى- للإنسان، وهي مستقر الإنسان؛ فيها سيكون مستقر الإنسان، إما في جنة عرضها السماوات والأرض وإما في نار من دخلها الذين هم أهلها كان خالدًا فيها مخلدًا لا يخرج منها؛ عذاب دائم، ثم أنه لابد للرب -تبارك وتعالى- الذي خلق هذا الخلق من أن يوقفه بين يديه وأن يعطي كل إنسان جزائه، فهم غافلون عن هذا، غافلون عن لما خلق الله هذا الخلق، عن مآل ومؤدى هذا الخلق، {وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ}، غفلة يعني أنها نسيان وترك وإهمال كأنها غير موجودة، والحال أنها أكبر وأعظم الحقائق، حق لابد أن تكون، فالجنة حق والنار حق ولقاء الله -تبارك وتعالى- حق وهؤلاء الأنبياء الذين أرسلهم الله -تبارك وتعالى- حق وصراط الله حق، هذا كل ديَّت، وما سوى ذلك مما يعتقده الكفار فباطل فهؤلاء أهل غفلة يعلمون {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ........}[الروم:7]، كيف يبنون، يأكلون ويشربون ويتمتعون ويعيشون، ولكنهم لا يعلمون لما خلقوا وما المآل الذي سيئولون إليه، ولقائهم لربهم -سبحانه وتعالى- والآخرة التي ستكون نهاية المطاف، كل هذا هم في غفلة عنه، {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ}[الروم:7].

قال -جل وعلا- {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ}، سؤال يراد به الإنكار، {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ}، في أنفسهم؛ في خلق أنفسهم، هذي البنية؛ بنية الإنسان هذا المبني، ما تفكر الإنسان في نفسه، في عينيه، في قلبه، في سمعه، في بصره، في كيانه، كيف قام؟ كيف نشأ؟ كيف كانت البداية؟ {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ}، ولو تفكر الإنسان في نفسه وعرف نفسه علم باليقين أن له خالق خلقه وسواه أعطاه صورته وأعطاه هذا، لأن الإنسان لم يشترك في خلق نفسه بشيء ولا إقترح لنفسه شيء، وأنه أعجز من أن يخلق لنفسه أظفر ولا شعرة؛ أعجز من هذا، فما تفكر والله يقول {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ}، المعنى الثاني {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ}، فكرة في النفس يعني يجعل فكره في نفسه، فيرجع إلى عقله وإلى فؤاده فيتفكر لما هو موجود هنا في هذه الأرض وما مؤداها، ما معنى أن يرسل الله -تبارك وتعالى- رسلًا إلى العباد؟ هذا التاريخ الطويل للرسالات وهذا المآل الذي آل إليه أهل الإيمان والمآل الذي آل إليه أهل الكفران، وكذلك فما وضع هذه الأسئلة اللي هي الأسئلة الضرورية الملجئة التي لابد أن يلجأ إليها كل فكر عندما يفكر، لما هو موجود هنا؟ وما هو نهاية هذا الخلق؟ وإذا متنا ما المصير بعد هذا الموت؟ كيف نشأنا؟ ولما نشأنا؟ هذه أمر يعني هذه الفكرة يتفكرها في نفسه، فيجعل هذه الفكرة في نفسه {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ}.

قال -جل وعلا- {مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى}، هذه أعظم الحقائق، يخبر الله -تبارك وتعالى- أنه {مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ}، لو كان الفكر الإنسان يفكر في نفسه لوصل إلى هذه الحقيقة، أن الله الذي خلق هذه السماوات والأرض أنه لا يمكن أن يكون خلقها إلا بالحق، ما يمكن أن يكون قد خلق هذا الخلق سدى وعبث، يخلق هذا الخلق بهذا الإتقان وهذه العظمة وهذه الأبهة والفخامة، السماوات والأرض والنجوم والشموس والأقمار وهذه السعة العظيمة، وهذا الإنسان بهذه الدقة والإحكام، وهذه كل جزئية من جزيئات هذا الخلق بهذه الدقة والإحكام، ويكون مؤدى هذا أنه لا غاية ولا هدف ولا حكمة من وراء هذا، {مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا}، ما بين السماوات والأرض، إلا بالحق؛ خلقها حق وللحق، خلقها حق لأن الله -سبحانه وتعالى- خالقها الذي لا إله غيره -سبحانه وتعالى- ولا رب سواه ولم يشاركه أحد في هذا، فوحدة الخلق دليل على وحدة الخالق -سبحانه وتعالى-، كذلك دقة الخلق وإحكام صنعه دليل على أن الخالق حكيم وأنه لا يمكن أن يخلق هذا الخلق عبثًا وسدى، تعالى الله عن ذلك، إذن خلق ليعلم ويعرف الرب -تبارك وتعالى- ويعبد وحده لا شريك له، وقد بيَّن -سبحانه وتعالى- لما خلق الله -تبارك وتعالى- هذا الخلق وأخبرنا بذلك على لسان رسله، {وَأَجَلٍ مُسَمًّى}، أجل مسمى تنتهي فيه هذه السماوات والأرض وأنها لا تبقى بقاءً لا إنقطاع له، بل لها أجل ومسمى يعني مكتوب، وتسميته عند الله -تبارك وتعالى-، والله -جل وعلا- أخبرنا أنه لم يطلع أحدًا من خلقه على ميعاد هذا الأجل، هذا الأجل ميعاده إلى الله -تبارك وتعالى-، {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ}، فلا يجليها؛ يخرجها لوقتها إلا هو -سبحانه وتعالى-، {يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ}، وإنما أنا نذير مبين، قال الله -تبارك وتعالى- لموسى {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى}[طه:15]، {فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى}[طه:16]، فقد جعل الله -تبارك وتعالى- أجل مسمى لنهاية هذا الكون المشاهد من السماوات والأرض.

قال -جل وعلا- {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ}، وإن كثيرًا من الناس؛ هؤلاء الذين لم يتفكروا في أنفسهم ؟؟؟وإن إبتقى هذه؟؟؟؟، بلقاء ربهم؛ بأن يلتقوا بربهم، كما أخبر -سبحانه وتعالى- بأن كل الخلق لابد أن يلاقوا ربهم -سبحانه وتعالى-، وأنه جعل لهم ميعاد لينظروا عظمته -سبحانه وتعالى- ويعلموا أن كل ما عبدوه من دونه هو الباطل، وأن الله -تبارك وتعالى- هو الإله وحده -سبحانه وتعالى- الرب الإله وحده، فيبرز الجميع لله –تبارك وتعالى- ليلتقوا به {........ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ}[النحل:39]، فهؤلاء قال -جل وعلا- {كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ}، بتأكيد هذا المعنى باللام، لكافرون بأنهم سيلقوا ربهم -سبحانه وتعالى-، وهذا من أعظم السخف وأعظم ضياع العقل، كيف يكون هذا الذي خلقك -سبحانه وتعالى- لا ترد إليه ولا يحاسبك على عملك، وإنما يتركك تفعل ما تشاء، تحل ما تشاء وتحرم ما تشاء وتفعل ما تشاء، ثم لا يكون لك قيامة بين يديه ليحاسبك على عملك، يكون هذا إتهام للرب باللعب والعبث وأنه خلق خلقه وخلاهم -سبحانه وتعالى-، لا يسألهم ولا يحاسبهم، فقال -جل وعلا- {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ}.

ثم قال -جل وعلا- {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}، ما شافوا؟ {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ}، سؤال للإنكار، {فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}، هذا صنيع الله بهم، الذين كانوا من قبلهم من أهل الكفر دمرهم الله -تبارك وتعالى- بكفرهم، فهذه قوم نوح أغرقهم الله -تبارك وتعالى-، عاد أهلكهم الله، ثمود أهلكهم الله، قوم فرعون أغرقهم الله -تبارك وتعالى-، قرى لوط أفكها الله -تبارك وتعالى- على رؤوس أصحابها، فهذا إنتقام الله -تبارك وتعالى- من كل من كفر به وعصاه، إذن له إنتقام -سبحانه وتعالى- {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ}، {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً}، يعني في الأرض، قوة أبدان، قوة عقول، قوة إمكانات ومال وصناعة وزراعة، {وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا}، أصاروا الأرض؛ أثاروها ليزرعوا وليبنوا، وعمروها؛ بالبناء والزروع، أكثر مما عمروها؛ أكثر مما عمرها الحاضرون، {وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ}، وجائتهم رسلهم بالبينات؛ بالآيات الواضحات، يدعوهم إلى الله -عز وجل-، ثم قال الله -جل وعلا- {فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}، ما كان الله ليظلمهم؛ عندما أهلكهم، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون؛ عندما ظلموا هم أنفسهم.

سنعود -إن شاء الله- إلى هذه الآيات في الحلقة الآتية، أقول قول هذا واستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصل الله وسلم على عبده ورسوله محمد.