الجمعة 29 ربيع الآخر 1446 . 1 نوفمبر 2024

الحلقة (493) - سورة الروم 24-28

{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الفاتحة:2] {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}[الفاتحة:3] {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}[الفاتحة:4]، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ}[الروم:22] {وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ}[الروم:23] {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}[الروم:24] {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ}[الروم:25] {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ}[الروم:26] {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[الروم:27]، هذه جملة من آيات الله -تبارك وتعالى- في الخلق والناس والحياة، من أعماله التي لا يقدر عليها إلا هو -سبحانه وتعالى-، وكل هذا جاء في مجال التفريق بين الرب الإله الخالق؛ الذي هو رب العالمين، رب السماوات والأرض -سبحانه وتعالى-، وأنه المستحق وحده للعبادة -جل وعلا-، وبين ما يعبده المشركون من دونه -جل وعلا-، هذه الآيات من سورة الروم، وقد جائت بداية هذا الفاصل من هذه السورة من قول الله –تبارك وتعالى- {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ}[الروم:17] {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ}[الروم:18]، أمر من الله -تبارك وتعالى- بأن يُسَبَح -سبحانه وتعالى- في هذه الأوقات؛ هذه مواقيت الصلوات الخمس، وأن الله -تبارك وتعالى- هو الذي له الحمد في السموات والأرض، فهو المحمود بذاته -سبحانه وتعالى- ولإنعامه ولإفضاله -جل وعلا-.

ثم ذكَر الله -تبارك وتعالى- من صفاته، قال {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ}[الروم:19]، هذه أعمال لا يعملها إلا هو -سبحانه وتعالى-، {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ}[الروم:20] {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}[الروم:21]، فبدأ بخلق آدم الذي هو أساس هذه البشرية وأنه خلقه من تراب، ثم إذا نسله بشرٌ ينتشرون في هذه الأرض، ثم بعد ذلك خلق زوجه حواء، {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا}، حواء التي هي أصل الخِلقَه مع آدم ومنها تناسل البشر، وجعل الله -تبارك وتعالى- خَلق المرأة للرجل بهذه المثابة، {........ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}[الروم:21] {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ}[الروم:22]، ثم قال {وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ}، وهذه حاجة الإنسان إلى النوم بالليل والنهار لتجديد نشاطه وحياته مرةً ثانية، فيستعيد نشاطه في النوم وينشط ويكد ويكدح في النهار، {وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ}، في السعي لطلب الرزق، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ}.

{وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا}، البرق هو لمعان هذا الضوء عندما يصطك بعضه ببعض؛ فتشعل هذه الشرارة العظيمة التي تكون فيه، فإذا رآها الناس يشترك عندهم مشاعر الخوف مع مشاعر الطمع، الخوف؛ من الصواعق ومن أثر البرق، عندما تبرق وتكون هذه الشحنة العظيمة فربما فُرِّغَت في مكان في الأرض فكانت الصاعقة، كما قال -جل وعلا- {وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ}، وطمعًا؛ للمطر، فيكون تختلط مشاعر الخوف والطمع، {يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا}، حال كونكم خائفين من الصواعق التي تكون فيه، وطامعين من المطر الذي يأتي بعده، {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا}، يُنزِّل الله -تبارك وتعالى- من السماء؛ من العلو، المكان الذي فيه السحاب، سماؤنا وكل ما علاك فهو سماء، ماءً؛ اللي هو ماء المطر، {فَيُحْيِي بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا}، بعد أن تكون الأرض جلدة جافة لا حياة فيها إذا نزل عليها هذا المطر إهتزت وربت وأنبتت من كل زوجٍ بهيج، {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ ........}[فصلت:39]، وربت؛ زادت وأنبتت من كل زوجٍ بهيج، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}، في إنزال المطر على هذا النحو وفي إرسال البرق على هذا النحو وما فيه؛ من دلائل قدرة الرب -تبارك وتعالى-، هذا لا يقدر عليه إلا الله، هذا خلق الله -تبارك وتعالى-، وقد علم الناس من أن هذا البرق ليس عبث كذلك، فإنه بهذه الشحنة التي يُفرَغ فيها موجب السحاب في سالبه يكون بها مادة الكربون، التي يتشبع منها ماء المطر ويكون بذلك ماء مبارك، وهذه المادة هي مما يحي النبات ويغذيه وينميه، فكل هذا من آيات الله -تبارك وتعالى- ومن حكمه العظيمة، ليس شيء من خلقه سدىً ولا عبثًا -سبحانه وتعالى-، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}، لهم عقول يتفكرون بها وينظرون في هذا الملكوت العظيم.

{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ}، من آيات الله -تبارك وتعالى- كذلك أن تقوم السماء والأرض بأمره، قيام السماء وهي بقائها في أماكنها قائمة دون أن يسقط بعضها على بعض، أو تصطك أجرامها بعضها في بعض، أو تتهاوى على الأرض وينتثر عِقدها، بل قيامها في هذا النظام المحكم البديع العظيم إنما هي بأمر الله -تبارك وتعالى-، وكذلك قيام الأرض في مقامها وسيرها في مسارها، وقد علم البشر الآن علم ليس علم برهاني وإنما علم الآن أصبح علم نظري حسي، أن الأرض قائمة في مسار ومدار تدور حول نفسها مرة كاملة، دورة كاملة كل يوم وليلة كاملة، ودورة أخرى حول الشمس تدور فيها في هذه السنة الشمسية؛ التي هي نحو ثلاثمائة وستين يوم، تدور دورة كاملة هنا وميلها على هذا النحو ومنه يكون الفصول الأربعة، فإقامة الأرض بهذا في مقامها على هذا النحو أنها لا تقوم إلا بأمر الله -تبارك وتعالى-، أمره -جل وعلا- لها أن تقوم على هذا النحو، كما قال -جل وعلا- {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ}[فصلت:9] {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ}[فصلت:10] {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}[فصلت:11] {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}[فصلت:12]، فهي قائمة بأمر الله -تبارك وتعالى-، وقضائه وقدره وإحكامه على إحكام كل أمر فيها بهذا الإحكام البديع.

فمن آيات الله -تبارك وتعالى- أن تقوم السماء بأمره، ولا شك بأن الله الذي أقامها لا يوجد من يقيمها مقامها إلا هو -سبحانه وتعالى-، ما أحد يقيم السماوات والأرض إلا هو -سبحانه وتعالى-، {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ ........}[فاطر:41]، يعني ما أمسكهما من أحدٍ من بعده، لا يوجد أحد؛ لا يوجد إلا غير الله -تبارك وتعالى-، له القدرة؛ يستطيع أن يضع كل هذه الأجرام في مكانها، هذا أمر لا شك أنه لا يصنعه ولا يفعله إلا الله -تبارك وتعالى-، {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ}[الروم:25]، دعاكم، زجرة واحدة، دعاكم؛ طلب منكم بأمره -سبحانه وتعالى- أن تقوموا في ظاهر الأرض تكونون، وليس بمستبعد ولا بمستصعب على الذي خلق السماوات والأرض وأقامها على هذا النحو أن يخرج الناس من قبورهم، فإن إخراج الناس من قبورهم إنما هو لا شك أنه أمر هيِّنٌ عليه -سبحانه وتعالى-، {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}[غافر:57]، قال -جل وعلا- {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ}[النازعات:13] {فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ}[النازعات:14]، زجرة واحدة؛ يعني صرخة واحدة ونهرةٌ واحدة، {فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ}[النازعات:14]، فإذا هم؛ الناس، بالساهرة؛ بظاهر الأرض، {........ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ}[الروم:25]، دعوة من الأرض؛ يعني دعوة من الأرض إخرجوا من الأرض، {إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ}، إذا؛ الفجائية.

{وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ}[الروم:26]، وله؛ لله -سبحانه وتعالى-، من في السماوات والأرض؛ كل من في السماوات والأرض مِمَن يعمُرُوها، {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ}، القانت هو الطائع الخاضع، فكل من في السماوات والأرض خاضعون له -سبحانه وتعالى-، ليس هناك من يتأبَّى عليه ومن يخرج عن أمره الكوني القدري، فأمره الكوني القدري نافذ في كل خلقه -سبحانه وتعالى-، وله؛ ملك، مَن في السماوات والأرض يملكهم -سبحانه وتعالى-؛ يملك ذواتهم ويملك تصرفاتهم، يملك ذواتهم لأنه هو الذي خلقهم -سبحانه وتعالى-، وهو الذي أنشأهم، وهو الذي وضع كل مخلوق في مكانه وأعطاه قدره ومقداره، وكذلك هو يملك تصرفه؛ فلا يتصرف مخلوق من هذه المخلوقات إلا بإذنه وإلا بأمره، كلٌ؛ من هذه المخلوقات، له قانتون؛ خاضعون؛ طائعون؛ ذليلون، منفذون لأمره -سبحانه وتعالى-.

{وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[الروم:27]، {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ}، بدء الخلق من البداية له، فبداية الخلق من بدايات الخلق له -سبحانه وتعالى-؛ هو الذي بدأ الخلق، وبداية كل مخلوق منه -سبحانه وتعالى-، الإنسان له بداية في الخلق، كل إنسان له بداية في الخلق، لم يكن شيئًا ثم خلقه الله -تبارك وتعالى- من هذا الحيوان الصغير الذي يخلق منه وهو في رحم أمه، قال -جل وعلا- {ثُمَّ يُعِيدُهُ}، والله -تبارك وتعالى- يعيد هذا الخلق من جديد، {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ}، الرب -تبارك وتعالى-، ولا شك أن مَن بدأ الخلق قادر على إعادته -سبحانه وتعالى-، قال -جل وعلا- {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ}، وهو؛ الإعادة، {أَهْوَنُ عَلَيْهِ}، أهون عليه بحسب النظر العقلي وتقريب المسألة للناس، وإلا فإن الله -تبارك وتعالى- ليس هناك شيئٌ مستصعب عليه، وليس هناك شيءٌ أصعب من شيء، وإنما كل شيئٍ إذا أراده الله -تبارك وتعالى- فإنما هو بالأمر الإلهي "كل فيكون"، {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}[النحل:40]، فهو بالأمر الإلهي فقط، يعني بالإرادة الإلهية والأمر الإلهي يكون ما يريده الله -تبارك وتعالى-، فسواء كان هذا الخلق خلق صغير أو خلق كبير كخلق هذه السماوات العظيمة؛ التي لا يعرف البشر لليوم أبعادًا لها، {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ ........}[الذاريات:47]، بقوة، {وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ}، أو كان خلق الإنسان الضعيف، فالأرض بالنسبة للسماوات ذرة في حلقة في فَلَاء، والإنسان بالنسبة لخلق السماوات والأرض أمر حقير صغير، فالله -تبارك وتعالى- ليس هناك شيءٌ مستصعب عليه وبعيد عليه -سبحانه وتعالى-، وقول الله -تبارك وتعالى- {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ}، بحسب النظر العقلي؛ أن إعادة الشيء إنما هي أهون من إبتدائه، فالإبتداء دائمًا يكون أصعب لأن هذا إنشاء جديد، وأما الإعادة فإنما هي إعادة لشيء قد كان ويكون، قال -جل وعلا- {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ}، ليبين أن هذا الأمر الذي ينكرونه هو أهون في النظر العقلي من الأمر المبتدأ، فكيف يؤمنون ببدء الخلق؛ بأن الله -تبارك وتعالى- بدأ الخلق، وينكرون أن الله -تبارك وتعالى- هو يعيده، والحال أنهم يرون أن إعادة شيء إلى الوجود أهون من بدئه بدايةً.

قال -جل وعلا- {........ وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[الروم:27]، لمَّا ذكَر الله -تبارك وتعالى- هذا النظر العقلي لهم قال {وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ}، المثل الأعلى؛ يعني إذا كنت ستمثل الله -تبارك وتعالى- وتضرب لله مثل فالله -تبارك وتعالى- له المثل الأعلى، ما في مثل مساوي لله لأنه لا مساوي لله -تبارك وتعالى-، الله -تبارك وتعالى- لا يقع تحت قضية قياسية تمثيلية ولا قضية شمولية، لأن الله هو الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي ليس له نظير ولا شبيه ولا شريك، فإذن لا يمكن أن يدخل الرب -تبارك وتعالى- في قضية تمثيلية قط، كأن نقول مثلًا الملوك تفعل كذا والله ملك إذن الله يفعل كذا، تعالى الله -تبارك وتعالى-، فإن كان الملوك تسمى ملوك والله -تبارك وتعالى- من أسمائه الملك فإنه لا مجال لأن يوضع الرب -تبارك وتعالى- وهذه الملوك تحت قضية واحدة وتحت قياس تمثيلي واحد، وكذلك في كل شأن، فنقول المخلوق عندما يبدأ خلق شيء وعندما يعيده؛ إعادة الأمر عند الإنسان أهون من بدايته، والله -تبارك وتعالى- يبدأ الخلق ثم يعيده، لا يمكن أن نضع هذا في قياس تمثيلي مع الله -تبارك وتعالى-، كل ما يوصف به الرب -تبارك وتعالى- ويوصف به المخلوق لا شك أنه ليس هناك تماثل، فعندما نقول الله يسمع والمخلوق يسمع، الله يبصر والمخلوق يبصر، الله يتكلم والمخلوق يتكلم، يعني صفة الكلام، صفة السمع، صفة البصر، أي صفة من صفات الله -تبارك وتعالى-، الله ليس مساويًا لخلقه في صفة من صفاتهم، وإنما الله هو المثل الأعلى، المثل الأعلى؛ يعني هذه الصفة التي يتصف بها المخلوق إن كانت صفة كمال، الله لا يتصف إلا بصفات الكمال ولا يتصف بصفة من صفات النقص قط، صفة النقص في المخلوق؛ كالموت، والمرض، والغفلة، والنسيان، الله منزَّه عن كل صفات النقص، لكنه متصف بصفات الكمال؛ السمع، والبصر، والعلم، والإرادة، والقدرة، والعظمة، والجاه، والسلطان، والملك، كل هذه من صفات الله -تبارك وتعالى- ومن أسمائه، إذا إتصف المخلوق بهذه وهي صفة كمال فالله يكون له المثل الأعلى فيها، فإذا كان الله -تبارك وتعالى- هو الملك وهناك في الأرض من يسمى الملك فلا شك أن الله له المثل الأعلى، المثل الأعلى في أن ملك الله -تبارك وتعالى- لا يدانيه ملك أي مخلوق مِمَن يملك.

صفة أخرى في الملك؛ الله -تبارك وتعالى- يملك المخلوق ملك حقيقي، وأما كل من يملك ويسمى ملك يملك ملك عاري؛ يعني هو أخذ هذا عاريًا، الله -تبارك وتعالى- خلق هذا الذي يملكه هذا المالك، وأما الله -تبارك وتعالى- فإن ملكه ملك حقيقي، كل من يملك من المخلوقين لا يملك التصرف، قد يملك ذات ورقبة هذا الشيء لكن لا يملك تصرفه، ممكن يتصرف هذا المملوك بغير إذن مالكه، فالعبد ممكن يخرج يصير آبق على سيده والملك يخرج من يده، ويعالج هذا الملك معالجة قد لا يزعن له... لا، لكن لا...، كل ما هو تحت ملك الله -تبارك وتعالى- هو في قبضته، وفي تصرفه، وتحت قهره، ولا يخرج شيءٌ عن ملكه -سبحانه وتعالى-، كذلك كل من يملك يُورَث والله -تبارك وتعالى- هو الوارث -سبحانه وتعالى-، {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ}[مريم:40]، فمهما كان ملك في الأرض لكنه في يوم من الأيام سيكون ما ملكه يتركه ويخلِّفُه، أما الله -تبارك وتعالى- فإن ملكه ملك باقي، {وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا}، خضوع الخلق له خضوع أبدي، وكل هذا الملك هو الله -تبارك وتعالى- وارثه، ولا يوَرِّث الله -تبارك وتعالى- ملكه قط لأحد بعده -جل وعلا-، فالله هو مالك الملك وهو وارثه -سبحانه وتعالى-، إذن الله له المثل الأعلى في كل وصف يوصف به المخلوق من صفات الكمال؛ الله له المثل الأعلى فيه، وليس لله -تبارك وتعالى- مثل مساوي قط في أي صفة من صفاته، فإذا قلنا هذا المخلوق يرى أو يسمع أو يعلم والله -تبارك وتعالى- يرى ويسمع، {........ إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى}[طه:46]، ويعلم؛ هو العليم، لكن لا يمكن أن يكون أي موجود؛ أي مخلوق، مساويًا للخالق -سبحانه وتعالى- في صفة من هذه الصفات؛ من صفات الكمال، تعالى الله -تبارك وتعالى- عن ذلك.

له؛ لله، {الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ}، لأن الله -تبارك وتعالى- لا أجل منه، ولا أعظم منه، ولا أكبر منه، ولا أعلم منه، ولا أرحم منه -سبحانه وتعالى-، فكل صفاته له فيها المثل الأعلى، التي لا يدانيه، ولا يساويه، ولا يقاربه، أحدٌ من خلقه -جل وعلا-، {وَهُوَ الْعَزِيزُ}، الغالب لكل خلقه، ما أحد يغلبه، لا أحد يغلب الله -تبارك وتعالى- فهو الغالب لكل الخلق -سبحانه وتعالى-، {الْحَكِيمُ}، الذي يضع كل أمرٍ في نِصَابه، ما في شيء مما خلقه الله -تبارك وتعالى- إلا وهو موضوع في نِصَابه، كل شيء يضعه الله -تبارك وتعالى- في نِصَابه، فالله حكيم؛ وين يضع أي أمر يضعه في نِصَابه، الهدى في نِصَابه، الضلال في نِصَابه، هذا في مكانه، هذا في مكانه، ما في شيء يوضع في غير مكانه قط أبدًا؛ حكيم، الذي بلغ علمه بكل مخلوقاته العلم الكامل بها والذي -سبحانه وتعالى- يصرفها، ويضعها -سبحانه وتعالى- هذه الحكمة؛ هذا العلم الكامل، فكل شيء في نِصَابه الحق -سبحانه وتعالى-، فالله له المثل الأعلى في السماوات والأرض، وهو العزيز الحكيم في السماوات والأرض، ليس في السماوات مَن يشابهه، ومَن يماثله، ومَن يكون ندًا له، أو شبيهًا له، أو مساويًا له في صفة من صفاته -جل وعلا-، وكذلك هو العزيز الغالب؛ الذي غلب من في السماوات وغلب من في الأرض، فكلهم في قهره -سبحانه وتعالى-، كما قال -جل وعلا- {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً}، فهو القاهر فوق العباده كلهم -سبحانه وتعالى-، لا يوجد في الخلق مَن يساوي الله ومَن يكون ندًا له -سبحانه وتعالى-، وهو العزيز الذي غلبهم، والحكيم؛ الذي يضع كل أمر في نِصَابه -سبحانه وتعالى-.

ثم قال -جل وعلا- {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ}، هذا مثل يضربه الله -تبارك وتعالى-، لينظروا أن الله الذي له المثل الأعلى يضرب لهم مثلًا من أنفسهم حتى يبين تناقض هؤلا المجرمين المشركين، {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}[الروم:28]، هل لكم؛ إيها المشركون، {هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ}، ما ملكت أيمانكم؛ اللي هم عبيدكم وأرقَّائكم، هل لكم منهم؛ من هؤلاء العبيد والإماء، شركاء في ما رزقناكم؛ يعني هل عبيدكم الذين تملكونهم؛ تملكون رقبتهم، تبيعونهم، تشترونهم، تهبونهم، هل هم يشاركونكم في أموالكم التي لكم؟ وأنتم وهم في هذا المال سواء في التصرف؟ يتصرفون في مالكم كما تتصرفون أنتم في هذه الأموال، {فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ}، إذن الإنسان اشترك مع حر في شركة مال، أو شركة بدن، أو شركة مال وبدن، إذن لشاركتموهم الإنسان قد يخاف من شريكه؛ أن يأخذ ماله، أن يغشه، أن يزيد عليه، أن يعلوا عليه، أن يستأثر بهذا المال، فهل عبيدكم أيضًا كالأحرار الذين تشاركونهم؟ وهل عبيدكم يشاركونكم في أموالكم الخاصة؟ يتصرفون فيها بمحض إرادتهم كما أنتم أيها الأحرار تتصرفون في أموالكم، هم لا يرضون أن يشاركهم عبيدهم في أموالهم، فالعبد هو في ملك سيده، ولا يمكن يسمح هذا الحر، هذا الكافر لا يمكن يسمح لعبده أن يشاركه في المال، ثم إذا كان يعمل معه؛ يعمل في المال، فإنه لا يخافه كما يخاف مثيله من الأحرار عندما يدخل معه في شركة، فإذا كنتم لا ترضون بأن يشارككم عبيدكم في أموالكم، والحال أن عبدك هذا هو في البشرية مثلك، ولكن ضروفه قد أوقعته إلى أن يكون عبدًا لك، فكيف ترضون أن يكون عبيد الله -تبارك وتعالى- شركاء لله -تبارك وتعالى-، شركاء له في التصرف، شركاء له في العبادة؛ يعبدون معه -سبحانه وتعالى-، كيف ترضون هذه القسمة لله وأنتم لا ترضونها لأنفسكم؟ لا ترضى لنفسك أن يكون عبدك شريكًا لك، فكيف ترضاه لله -تبارك وتعالى- أن يكون عبيده شركاء له؟ عيسى عبده؛ كيف أن يكون هذا شريك لله -تبارك وتعالى-؟ كيف ترون أن الملائكة؛ الملائكة عبيده، كيف ترون أن الملائكة شركاء لله -تبارك وتعالى- يعبدون معه؟ كذلك أصنامكم وأوثانكم وما عبدتموه من دون الله -تبارك وتعالى-، تجعلونهم شركاء في العبادة، وتجعلونهم كذلك شركاء في التصريف، تعالى الله -تبارك وتعالى- عن ذلك.

فما لا ترضونه لأنفسكم كيف ترضونه لله؟ والحال أن الله -تبارك وتعالى- له المثل الأعلى في السماوات والأرض، فإذا كان هناك صفة من صفة المدح فينبغي أن يكون الله أولى بها -سبحانه وتعالى-، لأن الله هو خالق كل شيء -سبحانه وتعالى-، وهو العليم بكل شيء، وهو مالك كل شيء -سبحانه وتعالى-، إذا ثمة صفة مدح فينبغي أن يكون الله -تبارك وتعالى- أولى بها من خلقه -سبحانه وتعالى-، فمن صفة المدح عندهم أن يكون السيد وعبيده لا يشاركونه، ولا يأتمرون إلا بأمره، فلِما لا تجعلون لله -تبارك وتعالى- لا تنسبون لله -عز وجل- هذا؟ وتقولوا الله هو المالك، هو السيد -سبحانه وتعالى-، إذن لا ينبغي أن ينازع، لا ينبغي أن ينازع، وأن له الأمر كله، وأن كل خلقه إنما هم عبيده، ولا يمكن أن يكون عبيد الله -تبارك وتعالى- مشاركون لله -تبارك وتعالى-، يتصرفون في ملك الله -تبارك وتعالى- كما يشاؤون ولا يتصرفون بأمره، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا، {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ ........}[الروم:28]، قال -جل وعلا- {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}، كذلك؛ يعني كهذا التفصيل والبيان المفصل الواضح، الذي يضع الأمور في نِصَابها ويوضح الحقائق على هذا النحو، نفصل الآيات لكن لقوم يعقلون؛ لناس عندهم عقول، لناس عندهم عقول يعقلون بها، أما الأعمى، الجاهل، المطموس على بصره وبصيرته، فكيف يعقل مثل هذا؟! لا يمكن أن يعقل مثل هذه، بل ينسبون لله ما لا يرضونه هم لأنفسهم، هم لأنفسهم لا يرضون هذا وينسبونه لله -تبارك وتعالى-، ولذلك العاقبة عندهم، لا عقل لهؤلاء المشركين؛ فالكافر المشرك لا عقل له، {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}.

ثم قال -جل وعلا- {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ}[الروم:29]، عودة -إن شاء الله- إلى هذه الآيات في الحلقة الآتية، استغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصل الله وسلم على عبده ورسوله محمد.