{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الفاتحة:2] {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}[الفاتحة:3] {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}[الفاتحة:4]، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}[الروم:46] {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ}[الروم:47] {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ}[الروم:48] {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ}[الروم:49] {فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[الروم:50]، يخبر -سبحانه وتعالى- أن من آياته الدالة على عظمته -سبحانه وتعالى-، وأنه الخالق الذي لا يعجزه شيء -سبحانه وتعالى-، وأنه الرزَّاق الذي يرزق عباده -سبحانه وتعالى-، وأن المُلك كله له، وأن كل مصائر العباد بين يديه -سبحانه وتعالى-، ومن آياته الدالَّات على رحمته وإحسانه بخَلقه -سبحانه وتعالى- أن يرسل الرياح مبشِّرات، يرسل الرياح التي تأتي قبل المطر مبشِّرات بقرب المطر، يعرفها أهل المعرفة؛ عندما تهُب الرياح من مكان كذا من جهة كذا يعلمون أن هذه الرياح رياح المطر؛ مبشِّرة بمجيئه، قد يكون بعد يوم، بعد يومين، بعد ثلاثة، سيأتي المطر؛ يعرفون هذا، فهو الذي يرسل هذه الرياح، مَن الذي يُجري هذه الرياح؟ والتي تحمل في إثرها هذا السحاب الذي يأتي بالمطر، {مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ}، بالمطر الذي ينزل بعد ذلك، {وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ}، في هذه الأنهار، تجري هذه الأمطار بعد ذلك أنهار في الأرض، تضعون عليها سفنكم وقواربكم فتسير بها، {وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ}، أمره الكوني القدري -سبحانه وتعالى-، وهذه صناعة؛ صناعة الرب -تبارك وتعالى-، وخَلق الرب -جل وعلا-، {وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ}، لتبتغوا من فضله؛ تبتغوا بالانتقال من مكان إلى مكان للتجارة، وانتقال البضائع من مكان إلى مكان، {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}، لعلكم أيها العباد تشكرون الله -تبارك وتعالى- أن يسَّر لكم هذه الأمور، التي لا إله غيره ولا رب سواه في قوته أن يصنع هذا.
ثم أخبر بأن الكافر كافر، مع رؤية لآيات الله -تبارك وتعالى- وإنعام الله -عز وجل- إلا أنه يظل على الكفر، قال -جل وعلا- {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ}، ولقد أرسلنا؛ الرب -تبارك وتعالى-، من قبلك؛ يا محمد، رسلًا إلى قومهم؛ كل رسول إلى قومه، {فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ}، البيِّنَات؛ الآيات الدلالات الواضحات، البراهين الساطعة، لأنهم رسل الله، من المعجزات الباهرة القاهرة التي تدل على أن هذا الرسول رسول من عند الله -تبارك وتعالى-، وكذلك من البيِّنَات؛ البراهين على صدق ما يدعوهم إليه، قال -جل وعلا- {فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا}، هؤلاء الذين أجرموا لمَّا عاندوا الرسل، وكذَّبوهم، ورفضوا الحق الذي جاء معهم، وظهرت لهم البيِّنَات من كل مكان، فهذا الإجرام الله -تبارك وتعالى- لابد أن ينتقم منهم، قال {فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا}، انتقم الله -تبارك وتعالى- منهم بصنوف العقوبات التي أرسلها عليهم، ثم قال -جل وعلا- {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ}، وأن الله -تبارك وتعالى- قد أحقَّ على نفسه -سبحانه وتعالى-، لا أحد يجعل شيئًا لازمًا لله -تبارك وتعالى-، الله الذي أحقَّ حقًا على نفسه؛ ألزم نفسه -سبحانه وتعالى- بأن ينصر أهل الإيمان، قال {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا}، يعني أمر لازم أحقَّه الله على نفسه -سبحانه وتعالى-، {نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ}، أن ينصرهم الله -تبارك وتعالى-؛ نصرهم على أعدائهم، كما نصر الله -تبارك وتعالى- نوح لمَّا دعاه الله -تبارك وتعالى-، وهود وصالح وسائر الأنبياء والمرسلين جعل الله -تبارك وتعالى- الغلبة لهم والنصر لهم على قومهم الكفار.
ثم آية أخرى من آيات الله -تبارك وتعالى-، {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا}، الله وليس غيره -سبحانه وتعالى-، الله خالق السماوات والأرض رب العالمين -سبحانه وتعالى-، {الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ}، يرسلها؛ إرسالها يعني إجرائها -سبحانه وتعالى-، الرياح؛ هذه الأرواح، حركة هذا الهواء من مكان إلى مكان على سطح هذه الأرض، {فَتُثِيرُ سَحَابًا}، إثارتها؛ تحريكها وتجميع هذا السحاب، فتثيره؛ أي من الأرض لتحمله إلى السماء، {فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ}، يبسطه؛ مثل البِساط، يعني يوسِّعه -سبحانه وتعالى- وينشره في السماء، السماء؛ اللي هي العلو، كيف يشاء؛ كيف يشاء الله -تبارك وتعالى-، فبسط السحاب في السماء؛ تكوُّنه هنا، أو تكوُّنه هنا، أو تكوُّنه في هذا المكان، وحركته إلى هنا أو إلى هنا، كله بأمر الله -تبارك وتعالى-، بمشيئه سبحانه -جل وعلا-، {فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا}، يجعل هذا السحاب كِسفًا؛ طبقات، يأتي طبقة، وطبقة، وطبقة ...، قد تكون طبقات السحاب في السماء عِدة كيلومترات بعضها فوق بعض؛ قد تكوَّنت طبقة إثر طبقة، وهذه الطبقات؛ هذا السحاب الذي هو طبقات بعضها فوق بعض، هوالسحاب الذي ينزل منه المطر الغزير، {وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ}، الودق؛ اللي هي حبات المطر الصغيرة، يخرج من خلاله؛ من خلال هذا السحاب، منطر بديع جميل جدًا، تُكوِّن بعد ذلك تتكثَّف؛ يتكثِّف هذا الماء الذي يكون في حالة غازية، بخار ماء في السحاب يتكثَّف بعضه على بعض يصير قطرات، ثم ينزل من خلال هذا السحاب إلى الأرض، {فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ}، ينبُت كأنه نبات، كأنه بذور لهذه ثم تنزل وتتساقط من خلال هذا السحاب؛ اللي هو طبقات، {........ فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ}[الروم:48]، إذا أصاب؛ بهذ المطر النازل من السماء ومن خلال هذه الحسب، مَن يشاء من عباده؛ فهذا تصريفه حيث يشائه الله -تبارك وتعالى-، {إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ}، يستبشرون بالمطر لأن المطر هو الخير، هو الرزق، هو البركة، غسل لهذه الأجواء وتنظيف لها وطهارة لها، طهارة للجو؛ ترطيب له، تدفئة؛ في حال الأمكان الباردة فالمطر يأتي ليدفئ الجو، ثم هذي حياة؛ الماء النازل من السماء، أثمن ما في الوجود من شيء هو الماء، فيأتيهم هذا الكنز العظيم، يُسكَن في الأرض، يجري فوقها، ينزل على التربة، يُخرج الزرع والكلأ، أمر كله بركات، فيستبشر الناس بنزول المطر، {إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ}، بشرى؛ المطر بشرى عظيمة بنزوله.
{وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ}[الروم:49]، وإن كان هؤلاء الناس الذي نزل عليهم المطر هذا من قبل أن يُنزَّل عليهم لمبلسين، يعني مُتَحيرين، يائيسين، قانطين، فالإبلاس هو الحيرة والقنوط واليأس من شدة الحال لمَّا تأخر عنهم المطر، فإذا تأخر المطر عن الناس وجفَّت الأرض كاد الزرع خلاص هلك الضَرع، ومات الزرع، واشتد الحال، يبقى الناس الذين في هذا القحط متحيرين، مبهوتين، مشفقين، {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ}[الروم:49] {فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ}، فانظر بعد ذلك إلى آثار رحمة الله؛ عندما أنزل المطر، {كَيْفَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا}، كيف تحيى هذه الأرض اللي كانت ميتة، صلبة، جافة، ليس فيها نبات، حيَت؛ الأرض نفسها أولًا تحيى، تتحرك وتربوا ثم تُنبت الزرع فتحيى في نفسها وتحيى بالزرع الذي ينبت عليها، {كَيْفَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا}، قال -جل وعلا- {إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى}، القادر على أن يصنع هذا الصنع ويفعل هذا الفعل العظيم، ويحول الأمر من الموت ومن اليأس والقنوط؛ من الموت إلى الحياة، ومن اليأس والقنوط إلى الفرح والاستبشار فيُغيِّر الأمور على هذا النحو، هو القادر -سبحانه وتعالى- على أن يُحيى الموتى بعد ذلك، {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، لا يُعجِزه شيء، فالذي أرسل الرياح وأثارت السحاب على هذا النحو، وحملته إلى السماء على هذا النحو، وجعلته كِسف؛ طبقات فوق طبقات، وتشكَّل هذا السحاب في طبقات الجو كما يشاء الله -تبارك وتعالى-، وأنزل به المطر على هذا النحو وأحيا به الأرض، عمل يراه الإنسان أمام عينه، فهذا قدرة الرب -تبارك وتعالى-، الذي صنع هذا الصنيع لا شك أنه قادر على أن يُخرج الناس من قبورهم، {إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، وأمر أخر في هذا؛ بيان قدرة الله -تبارك وتعالى- وسُنَّة الله -تبارك وتعالى- في أن يُغيِّر الأمر من الشدة إلى الرخاء، وأن بسط الرزق وتضييقه، وتبديل الحال بعد الحال، بلاء الناس بالخير والشر، كل هذا بيد الله -تبارك وتعالى-، {فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[الروم:50].
ثم قال -جل وعلا- {وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ}[الروم:51]، {وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا ........}[الروم:51]، لو أرسل الله -تبارك وتعالى- ريح فرأوه مُصفَّر، ريح مُصفَّر بما تحمله هذه الريح من الغبار ومن الرمال فتصفَّر، فهذا عذاب؛ هذا يكون عذاب لا رحمة، {وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ}[الروم:51]، لظلوا من بعد هذا الريح يكفرون، أي أن بعض الناس من عنادهم وكفرهم لا يرجعون إلى ربهم -سبحانه وتعالى-، لا حال الخير فيرجعون إليه -سبحانه وتعالى- أن هذه نعمته وهذا فضله وهذا إحسانه -سبحانه وتعالى-، وكذلك إذا عاقبهم بعض العقوبات الجزئية فيظلوا كذلك على كفرهم وعنادهم، لا يرجعون إلى ربهم -سبحانه وتعالى- ويستغفرونه ويتوبون إليه مما هم فيه، ويعلمون أن ما أصابهم لم يكن ليصيبهم إلا لذنوبهم... لا، برده يظلوا في كفرهم وعنادهم -عياذًا بالله-، {وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ}[الروم:51]، لظلوا من بعده يكفرون؛ من بعد هذا الريح يكفرون، أو بدَّل الله -تبارك وتعالى- هذا الحال بحال أخر؛ زال عنهم هذا العذاب الذي رأوه، العذاب الجزئي هذا وأبدلهم الله -تبارك وتعالى- نعمة، لظلوا كذلك في كفرهم وعنادهم عن طريق الرب -سبحانه وتعالى-.
قال -جل وعلا- {فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ}[الروم:52]، ما فيهم خير، هذا لا خير فيهم، هؤلاء موتى، فإن خطاب النبي -صل الله عليه وسلم- أنه بعد هذا الخطاب؛ ماذا بعد هذا الخطاب الإلهي للناس، وتفصيل الأمر على هذا النحو، وتعليمهم بربهم وإلههم وخالقهم وقدرته، وأن كل ما هم فيه من الخير، والنعيم، وإنزال المطر، وهذه الأمور التي يرونها، إنما هي منه -سبحانه وتعالى- ليس من غيره، وماذا بعد هذا النداء الكريم من الله وإقامة الآيات والبيِّنَات على هذا النحو، وخطاب الله -تبارك وتعالى- هذا للناس والمُنزَل على رسوله -صلوات الله والسلام عليه- كان مثله خطاب كذلك من الرسل لأقوامهم، لكن ما في فائدة؛ الكافر ميت، الميت يسمع؟ الميت يدرك؟ قال -جل وعلا- {فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى}، يعني هؤلاء الكفار والذين يصُدُّون هذا الصُدود عن سبيل الله -تبارك وتعالى- موتى؛ والميت لا يسمع، الميت لا يسمع، وكذلك هؤلاء موتى لا يسمعون، {فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ}[الروم:52]، صُم؛ الأصَمّ هو الذي لا سمع له، هذي أذن ما تسمع، أذن مغلقة، فهذا لو دعوته وناديته مهما ناديته أصَم؛ ما يسمع الكلام، وخاصة إذا ولَّى مُدبر؛ يعني أصَم ويركض إلى جهة بعيدة عنك، إيش لون تسمعه؟ كيف تُسمِعه؟ فهذا تصوير وتشبيه من الله -تبارك وتعالى- لحال الكفار أنهم موتى، حالهم كحال الموتى الذين لا يسمعون، وأنهم كذلك مثل الصُّم لأنهم قفلوا آذانهم عن الحق، وولَّوا مُدبرين؛ بعيدًا عنه، {فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ}[الروم:52].
{وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ}، وما أنت؛ أيها النبي، بهادي العُمي؛ أعمى، لن تستطيع أن تهديه عن ضلالته، فهذا أعمى؛ مهما تقول له الطريق أمامك هكذا، سير هكذا، لكنه أعمى، إيش لون يشوف طريقه؟ لا يرى طريقه، {وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ}، كفرهم وشركهم وتشبثهم بما هم عليه، عميان متشبثون بما هم عليه من العمى والكفر، {........ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ}[الروم:53]، هؤلاء الذي يُسمِعهم، إن تُسمِع؛ بالحصر، إن تُسمِع إلا مَن يؤمن بآياتنا؛ الذي يُصدِّق بآيات الله -تبارك وتعالى-، فهم مسلمون؛ منقادون مطيعون لربهم -سبحانه وتعالى-، فهذا الذي آمن بالله صدَّق كلمات الله -تبارك وتعالى-، وآمن بأن هذا منه، وأن هذا رسوله، هذا الذي آمن وصدَّق بما قامت عنده الأدلة على صدق النبي، وأن هذا كلام الله -تبارك وتعالى-، وسمع لهذا، فهذا هو الذي تُسمِعه وهذا الذي تنفعه الذكرى وتنفعه النذارة، {وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ}[الروم:53]، وهذه كأنها خاتمة لمَن سيستفيد بهذا الخطاب الإلهي، ومَن لا يستفيد به ولن يُقبل عليه.
ثم فاصل أخر من بيان قدرة الله -تبارك وتعالى- على عباده، وأنه الرب -سبحانه وتعالى- الذي بيده الأمر كله، بيده المُلك كله وبيده الأمر كله -سبحانه وتعالى-، قال -جل وعلا- {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ}[الروم:54]، هذا تذكير أخر، تذكير بعد تذكير في هذه السورة العظيمة؛ سورة الروم، تذكير من الله -تبارك وتعالى-؛ الله يُذكِّر عباده -سبحانه وتعالى- به، مَن هو الرب –سبحانه وتعالى-؟ ما صفته؟ ما موقع هذا الإنسان من ربه وإله وخالقه ومولاه؟ {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ}، الله -سبحانه وتعالى-؛ إسم عَلَم على ذات الرب -سبحانه وتعالى-، الله عندما يقال "الله" فهو يعني رب العباد -سبحانه وتعالى-، خالق السماوات والأرض، الذي كل ما سواه فهو مربوب له، {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ}، أيها المخاطبون، خلقكم من العدم فأخرجكم، خلقكم؛ سوَّاكم، {خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ}، بداية خَلق الإنسان من ضعف، الحيوان المنوي هذا ماذا يملك من القوة ومن العقل ومن الفهم ومن القدرة؟ ثم يكون في هذه الخلية الواحدة يشكِّل مع البويضة خلية واحدة قائمة، فانظر ضعف هذه بحيث أنها لو وقعت تحت أظفر لقتلها، ثم بعد ذلك ينشأ علقة، مضغة، جنين صغير فيه كل الضعف، لو جائه أي شيء ينتهي، ثم ينزل بعد ذلك من بطن أمه ضعيف لا حول له ولا قوة، وقوته جدًا ضعيفة، هذا كل قدرته أنه لا يستطيع طبعًا أن يدفع أي أذى عنه، أن يجلب أي خير له، فقط يهديه الله -تبارك وتعالى- إلى ثدي أمه فينشأ، هذا بداية خلق الإنسان.
{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً}، بعد هذا الضعف يكون قوة؛ قوى البدن، انظر بعد ذلك يشب وتبدأ هذه القوى تتكامل، تتكامل، إلى أن يصل إلى سن بعد المراهقة إلى الرجولة، فتتكامل قواه ويأخذ أشدَّه القوى البدنية، ثم تتكامل بعد ذلك القوى العقلية إلى أن يبلغ تمام العقل عند هذا الإنسان، {ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً}، القوى البدنية التي تكتمل في نحو الخامسة والعشرين، ثم بعد ذلك القوى العقلية التي تكتمل في نحو الأربعين، ثم بعد ذلك يبدأ إنحدار القوى، {ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً}، ضغف في البدن، تبدأ بعد ذلك القوى البدنية تتساقط؛ من الثلاثينات تبدأ تضعف، ثم تضعف، ثم تضعف، القوى العقلية بعد ذلك في الأربعينات، في الخمسينات، في الستينات تبدأ تضعف شيء، الذاكرة تضعف، قوة الحفظ تضعف، وهكذا تبدأ في الضعف القوى البدنية والقوى العقلية تضعف شيئًا فشيئًا، {ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً}، شيبة؛ يشيب الإنسان، فيتغير لون شعره من اللون الأسود إلى اللون الأبيض، وتبدأ العظام تَرِقّ، ويبدأ كل شيء فيما هو من الهَرَم والشيبة، مظاهر هذا تظهر في الإنسان في سائر بدنه وقواه، قال -جل وعلا- {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ}، هذا الخلق كله لله -تبارك وتعالى-، يخلق الله -تبارك وتعالى- ما يشاء كيف يشاء -سبحانه وتعالى-، فانظر هذا الإنسان كيف خلقه الله -تبارك وتعالى- مما يشاء، من اجتماع الذكر والأنثى على هذا النحو، ومن هذا الضعف، ومن هذا الانتقال وهذا التقدير على هذا النحو، هذا كله راجع إلى الله -تبارك وتعالى- مو باختيار الإنسان، الإنسان ليس مختارًا؛ لأن يختار شيئًا من هذا، بل هذا أمر قهري قدري يسير عليه بأمر الله -تبارك وتعالى-، ولا اختيار للإنسان في الوقت الذي يُخلَق فيه، في القوى التي ينتهي إليها، فيما يُعطاه من حظ ونصيب، في انهداد هذه القوى وتفتتها بعد ذلك إلى الهَرَم، قد يُعلِّم الله -تبارك وتعالى- الإنسان في أن يداوي بعض الأمراض التي تكون فيه، ثم يأتي مرض لا دواء له، كما قال النبي -صل الله عليه وسلم- «يا عباد الله تداووا، فإن الله ما خلق داءً إلى جعل له دواء إلا الهَرَم»، فالإنسان إذا هَرِم وكَبِر السن هذا خلاص، هذا مرض لا دواء له، لأن هذا تقدير الله -تبارك وتعالى-، {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ}، العليم؛ بكل خلقه -سبحانه وتعالى-، القدير؛ على هذا الخلق، قدرة الله -تبارك وتعالى- على هذا الخلق أن يخلقه حيث يشاء وحيث يريد -سبحانه وتعالى-، هذه الآية فيها تذكير من الله -تبارك وتعالى- للعباد أن هذه دورتك أيها الإنسان، هذه دورتك الحتمية؛ تبدأ هكذا من ضعف، ثم تشب إلى أن تبلغ هذه القوى، ثم إلى هذه؛ إلى خط النهاية، وأن هذه الدورة لابد أن تكون، إذن إعلم هذا، يعني إعلم هذا وأن لك دورة لابد أن تنتهي وأن تسقط في النهاية، وانظر ماذا يقول الكافر يوم القيامة.
قال -جل وعلا- {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ}[الروم:55]، ويوم تقوم الساعة؛ عندما تقوم الساعة، اللي هو يوم القيامة، سماه الله -تبارك وتعالى- بالساعة لأن لها وقت محدد تقوم فيه، {يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ}، يُقسِم؛ يحلف، المجرمون؛ فاعلوا الإجرام، هؤلاء الكفار؛ والكافر مجرم لأنه فاعل الإجرام، والجُرم هو الذنب العظيم، {يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ}، أي في الدنيا، يعني يحلفون بالله أن هذه الدنيا ما كانت غير ساعة من نهار، طبعًا هذا كذب وهو أنه لا شك أنه عمَّرهم الله –تبارك وتعالى- ما شاء أن يُعمِّرهم، فالبعض عُمِّر ستين وسبعين، أعمار هذه الأمة ما بين الستين والسبعين في الأعَّم الأغلب، وكان من كانوا قبلنا من الأمم كانوا يُعمَّرون أكثر من هذا، لكن هذا الذي عُمِّر ما عُمِّر في هذه الدنيا من الكفار يُقسم أن هذه الدنيا التي عاشوها ما كانت غير ساعة، قال -جل وعلا- {كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ}، هذا بكذبهم، فلا شك أنه قد عُمِّر وقت كافي من السنوات الكثيرة، لكنه يُقسم أنه ما لبث غير ساعة وهذا قَسَم كذب، وإن عنى أنها مضت كأنها ساعة من نهار... نعم، كما قال -جل وعلا- {........ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}[المؤمنون:114]، أنها مضت كأنها ساعة، وأنه فلت الزمان من يديه ولم يستفد به شيء، وخرج كأنه حُلم؛ طيف، كما قال -تبارك وتعالى- {........ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا}[طه:102] {يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا}[طه:103]، قال -جل وعلا- {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا}[طه:104]، يحلف، يُقسِم أفضل الكفار؛ يعني أمثلهم طريقة وعقل، اللي هم المُبَرَزين عندهم، يقولوا ما لبثنا إلا يوم، والله -تبارك وتعالى- يناديهم يوم القيامة، {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ}[المؤمنون:112] {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ}[المؤمنون:113]، قال -جل وعلا- {قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}[المؤمنون:114]، لا سك أن لٌبثَم كا كثير؛ سنين طويلة، لكنه قليل بالنسبة إلى الآخرة، {قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}[المؤمنون:114]، أن البقاء السرمدي الذي لا إنقطاع له هو يوم القيامة؛ هو بقاء الآخرة، أنا هذا البقاء في الدنيا فمهما كانت؛ لو كانت ألف سنة، لا شك أنها وقت قليل بالنسبة للآخرة، لكنهم عاشوا ساعة، أو عشرة أيام، أو يوم، كذَّابين؛ هذا لا شك أنه من الكذب، وإنما عاشوا سنين، ولكنهم لم يستفيدوا بهذه السنين ومضت عليهم وكأنها يوم واحد مضى، {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ ........}[الروم:55]، قال -جل وعلا- {كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ}، كذلك؛ كهذا الإفك وهذا الكذب الذي يكذبونه، ويحلفونه؛ يحلفون على الكذب يوم القيامة، {كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ}، يكذبون في هذه الدنيا، يُؤفكون؛ يُقلبون على رؤوسهم فلا يفقهون الحق، فيشركون بالله -تبارك وتعالى-، ويدعون التوحيد، ويظلون فيما هم فيه من الكذب والبُهتان الذي افتروه ويتركوا الحق المبين، {كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ}.
{وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ}[الروم:56]، أما الذين أتوا العلم؛ آتاهم الله العلم والإيمان، فإنهم يقولون {لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ}، لقد لبثتم؛ الوقت الذي لبثتوه، {فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ}، يعني هذا أنه قد مضت عليكم سنين طويلة وأنتم أحياء، وكذلك مضت سنين وهم في البرزخ، {فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ}، هذا اليوم الذي أحياهم الله -تبارك وتعالى- فيه هو يوم البعث، البعث هو الخروج من القبور، بعث الأجساد مرة ثانية للوقوف بين يدي الله -تبارك وتعالى-، {وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ}، ولكنكم؛ أيها الكفار، كنتم لا تعلمون؛ أن هناك يوم تقفون فيه بين يدي إلهكم وخالقكم ومولاكم -سبحانه وتعالى-، ولذلك لعبتم ما لعبتم، وفرطتم ما فرطتم، وتركتم ما تركتم، ثم جئتم يوم القيامة تُقسِمون بأن هذه الدنيا مضت وكأنها ساعة من نهار.
نقف عند هذا وإن شاء الله نكمل في الحلقة الآتية، استغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصل الله وسلم على عبده ورسوله محمد.