الجمعة 29 ربيع الآخر 1446 . 1 نوفمبر 2024

الحلقة (498) - سورة الروم 56-60

{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الفاتحة:2] {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}[الفاتحة:3] {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}[الفاتحة:4]، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ}[الروم:55] {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ}[الروم:56] {فَيَوْمَئِذٍ لا يَنفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ}[الروم:57] {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ}[الروم:58] {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ}[الروم:59] {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ}[الروم:60]، يخبر -سبحانه وتعالى- أنه عندما تقوم الساعة يُقسِم المجرمون؛ فاعلوا الإجرام، ما لبثوا غير ساعة؛ أي في الدنيا، ويوم تقوم الساعة؛ هو يوم القيامة، سماه الله -تبارك وتعالى- لأن لها وقتًا محددًا تقوم فيه، حدد الله -تبارك وتعالى- لها وقت لابد أن تكون فيه، {يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ}، والمجرم؛ فاعل الإجرام، والجُرم هو الذنب العظيم، وأعظم الإجرام؛ الكفر بالله -تبارك وتعالى- والشرك به، {مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ}، هؤلاء الذين كانوا يُكذِّبون بيوم القيامة فيُقسِمون أنهم ما لبثوا؛ أي في الحياة غير ساعة، وهذا من كذبهم وإفكهم، قال الله -تبارك وتعالى- {كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ}، يعني كهذا الإفك وهو أن يُقلَبوا على رؤوسهم على هذا النحو ويكذبوا هذا الكذب، قد كانوا يكذبون في الدنيا نفس الكذب، ففي الدنيا كانوا يكذبون كذلك؛ فشركهم كذب، وتكذيبهم بالبعث والنشور كذب، وقد كانوا مُتَبعِين لهذا الإفك والكذب، فكأنهم مستمرون في الإفك والكذب حتى يوم القيامة بين يدي الله -تبارك وتعالى-.

{كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ}، يُقلَبون على رؤوسهم ويفهمون الأمر على غير معناه، والحال أن الله -تبارك وتعالى- قد أعمَّرَهم في هذه الدنيا ما ينبغي له التذكُّر، ليس ساعة وانتهت... لا، بل كما قال الله -تبارك وتعالى- {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ}، يعني أولم نُعمِّركم الوقت الذي يكفي للذكرى وللعقل، كل إنسان يريد أن يتذَكَّر، وأن يعقل، وأن يرجع إلى نفسه، وأن يُقلِّب الأمر على وجوهه ويعرف الحق من الباطل، وقت كافي؛ قد كانت الأمم قبل محمد -صل الله عليه وسلم- تعيش أعمارًا طويلة، بعضهم يمتد إلى الألف، وأعمار أمة محمد من وقت النبي -صل الله عليه وسلم- إلى يوم القيامة هذه الأمة؛ اللي هي أمة الدعوة، أعمارها ما بين الستين إلى السبعين؛ متوسط الأعمار في الناس، وهو وقت كافٍ في العادة لأن يتَذكَّر الإنسان، ولا حساب إلا بعد البلوغ، لا حساب عند الله -تبارك وتعالى- إلا بعد البلوغ، {لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ}، من بلَغَته هذه النذارة، والقلم مرفوع عن الإنسان حتى يعقل، فلا شك أنه بعد ذلك قد عُمِّر الوقت الكافي لأن ينظُر في أمره، لكن مضت حياته سريعًا ولم ينتبه إلا والموت قد فاجأه، وظن بعد ذلك أنها ساعة لم يكن هناك ثمَّ وقت للتفَكُّر والإتعاظ، والحال أن هذا كذب، {كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ}.

{وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ}، ردًّا على هؤلاء، {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ}، يرُدُّون على هؤلاء الكفار المجرمين، {لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ}، فيرُدُّوا عليهم، لقد لبثتم؛ أيها المكذِّبون المعاندون الكاذبون، في كتاب الله؛ فيما كتبه الله -تبارك وتعالى-، لأن الله قَدَّر لكل إنسان عمره، {إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ}، لبثتم؛ أي في الحياة الدنيا، لبثتم في قبوركم، بعثكم الله -تبارك وتعالى-، قال يوم البعث؛ أي الذي كنتم تكذِّبون به، كنتم تكذِّبون بهذا اليوم فهذا يوم البعث، {وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ}، ولكنكم؛ الحال أنكم كنتم في الدنيا لا تعلمون، وذلك بأنهم ألغوا هذا يوم البعث من قاموسهم، ولم يتذكَّروه ولم يعتبرون وسمعوا عنه ولكنهم لم يأبهوا له، فأصبح حالهم كحال الذي لا يعلم؛ كحال الذي لا يعلمه، وإلا فقد ذُكِّروا به، قد ذُكِّروا؛ ذكَّرتهم الرسل وأخبرتهم، وجائهم النذير وأخبرهم أن هناك يوم القيامة يقفون فيه بين يدي الله -تبارك وتعالى-، ولكنهم انشغلوا بما هم فيه من لهو هذه الدنيا عن هذا اليوم، {وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ}، أن هذا اليوم سيأتي، وأنه يوم حقيقي، وأنكم ستحاسبون على أعمالكم، لم تُقدِّروا كل هذا، {وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ}.

قال -جل وعلا- {فَيَوْمَئِذٍ لا يَنفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ ........}[الروم:57]، يومئذٍ؛ هذا اليوم، لا ينفع الذين ظلموا؛ كل من ظَلَم لا تنفع معذرتهم، {وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ}، الذين ظلموا؛ بالكفر والشرك، فهذا الذي لا يقبل الله -تبارك وتعالى- إقالته عن شركه وكفره أبدًا؛ بأي صورة من الصور، فما ينفع المعذرة، المعذرة هي أن يعتذر لله -تبارك وتعالى-، بالتوبة، والإنابة، والاستغفار، وطلب المسامحة عن هذا الأمر، كل ما يطلبه الكافر هو في هذا اليوم مغلق، يطلب أن يسامحه الله -تبارك وتعالى- في الذنب وأن يعفوا عنه فلا يُقبَل، لا شفاعة تشفع له عند الله –تبارك وتعالى-، فكل شفائهم وكل شركائهم يتبرأون منهم، كل من ظنوه أنه شفيع لهم؛ من الملائكة، أو من رسل، أو من أنبياء، أو من ما عبدوه، كلهم يتبرأوا منهم، لا فدية لو كان له مالًا؛ طبعًا ليس لأي أحد، كلٌ سيأتي ربه -سبحانه وتعالى- يوم القيامة ولا شيء في يده؛ ما معه شيء، إنكم تُحشَرون إلى الله -تبارك وتعالى- عراةً حُفاةً غُرلًا، لكن الله -تبارك وتعالى- يُبكِّتهم، فيقول «أرأيت لو كان لك مثل الأرض ذهبًا، أكنت تفتدي به؟ فيقول إي والله افتدي به»، كذلك هذا الأمر مو موجود؛ يعني أنه لن يكون، أنه لو كان لأحدهم ما كان من ذهب أو فدية يُقدِّمها ليتمنى الكافر بأن يفتدي بأي أحد، إيش أعز شيء عنده؟ أولاده، زوجته، إخوانه، الناس، العشيرة، كل شيء، {يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ}[المعارج:11] {وَصَاحِبَتِهِ ........}[المعارج:12]، زوجته، {........ وَأَخِيهِ}[المعارج:12] {وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ}[المعارج:13] {وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ}[المعارج:14]، يقال {كَلَّا إِنَّهَا لَظَى}[المعارج:15]، فلا فدية.

كذلك لا نهاية؛ ليس هناك وقت ينتهي إليه العذاب، فهو باقي؛ فلا خروج من هذا العذاب بموت ولا بقفل السجن، {إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُوصَدَةٌ}[الهمزة:8]، النار، {فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ}[الهمزة:9]، {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ}[الزخرف:77] {لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ}[الزخرف:78]، فالمُكث كذلك مُكث أبدي ولا موت، {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا}[طه:74]، فلا يموت موت يستريح به ولا يحيى حياة تنفعه، لا حياة ولا موت ويظل على هذا العذاب، {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ}[الرحمن:43] {يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ}[الرحمن:44]، يطوفون بينها؛ بين النار وبين حميم آن، فيركض من النار إلى ماء يشربه فإذا الماء هذا حميم يُقطِّع أمعائه، ثم يركض إلى النار مرة ثانية، ثم يركض إلى الحميم، وهكذا ...، {يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ}[الرحمن:44]، وهذا عذاب ليس له حد ينتهي إليه فيقال إنه والله أصبر فينتهي بعد ألف سنة، ألفين سنة، ثلاثة آلاف سنة، خمسة آلاف سنة، وينتهي الأمر، إن صَبَر فالنار لا يُصبَر عليها، مَن يَصبِر على النار؟ وإن صرخ فكذلك لا يُغاث، فيقال لهم نفس المقالة، {فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ}[فصلت:24]، فإن صبروا وسكتوا؛ النار مثوىً لهم، {........ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ}[فصلت:24]، فلا إقالة للذنب، {فَيَوْمَئِذٍ لا يَنفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ ........}[الروم:57]، طلبهم العُذر؛ أن يعذِرهم الله -تبارك وتعالى- مما ارتكبوه في هذه الدنيا، كذلك من الذي لا يُقبَل منهم كذلك طلبهم أن يُعطَّوا فرصة أخرى، يُرَدُّون مرة ثانية إلى الدنيا فيُصلِحوا ما كان من شأنهم وأنهم سيعودوا إلى الصلاح، {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ}[المؤمنون:107]، يعني إن عُدنا إلى الكفر والشرك مرة ثانية فإنَّا ظالمون، فيقال لهم {........ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ}[المؤمنون:108]، فلا مجال بالنسبة للكافر؛ قد قُفِلَت كل الأبواب التي يمكن أن يخرج منها من العذاب، عياذًا بالله من حاله، {فَيَوْمَئِذٍ}، هذا تحذير، {فَيَوْمَئِذٍ لا يَنفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ}[الروم:57]، يعني أنهم يُعاتبون فيُقبَل اعتذارهم عن الذنب، العتاب دائمًا يكون بين مَن يريدون الصُلح، والمتحابين، وبين ما بينهم مودَّة، كما يُعاتب الإنسان صديقه، يُعاتب حبيبه، تُعاتب المرأة زوجها، الرجل زوجته؛ لِما فعلت كذا ولِما فعلت كذا، فيقول اعذرني في هذا الأمر، كنت في هذا الوقت كذا وكنت كذا، فيقوم يَقبَل عُذره، فهذا العتاب وهو الطلب من الطرف المُخطئ أن يعترف بذنبه ليُقبَل عُذره؛ هذا كذلك لن يكون، {فَيَوْمَئِذٍ لا يَنفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ}[الروم:57].

ثم يخبر -سبحانه وتعالى- أنه قد مضى الوقت، وأن الله -تبارك وتعالى- قد أعذر إلى عباده -سبحانه وتعالى- فيما بلَّغهم به من إنزال هذا القرآن، قال {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ}، ضرب المثل هو قوله وإعطائه، وتصوير الأمور المعقولة بأمور حِسِّية مُشاهدة لتكون ظاهرة بيِّنة؛ يعني تقريب المعنى، المعنى المعقول قد يكون بعيد لأنه يحتاج إلى إعمال ذهن وإعمال فكر ليفهم، وبرهان، فيُضرَب له مثل بالأمور المحسوسة، الله -تبارك وتعالى- ضَرَب أمثال لكل شيء، ضَرَب مثل ليُفرِّق الناس بينه -سبحانه وتعالى-؛ الرب الإله الذي لا إله إلا هو، خالق السماوات والأرض، وبين ما يُعبَد من دونه، {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}[النحل:74] {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ}[النحل:75]، عَبد مملوك من عبيدكم لا يقدر على شيء، تصرُّفه بإذن مولاه؛ في أي تصرُّف، صغيرة وكبيرة، {وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا}، رجل حُر أعطاه الله -تبارك وتعالى- مال يتصرَّف فيه كيف يشاء، هل يستوي هذا وهذا؟ لا يستويان، فهذ مثل ضَرَبه الله -تبارك وتعالى- له، {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى}، أنه الرب الإله الخالق؛ الذي يتصرَّف في مُلكه -سبحانه وتعالى- كيف يشاء، وأن هؤلاء الشركاء الذين يدعونهم من دون الله -تبارك وتعالى- إنما هم عبيده، لا يتصرَّفون إلا بإذن خالقهم وإلههم ومولاهم -سبحانه وتعالى-، فكيف تجعلون هؤلاء العبيد؛ هؤلاء العباد، تجعلونهم في مصاف الرب الإله -سبحانه وتعالى-، تُعطونهم من الحقوق ومن الواجبات ومن التقديس ما تُعطونه للرب -تبارك وتعالى-.

{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهُّ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[النحل:76]، فهذا لا يستوي، فأمثال ضَرَبها الله -تبارك وتعالى- لبيان حقارة الشرك والكفر وعظمة توحيد الله -تبارك وتعالى-، مثل كذلك من هذه الأمثال في هذا الباب؛ ما ضَرَبه الله -تبارك وتعالى- من تَعزِّي المشركين بآلهتهم، وأنهم ينصرونهم، وأنهم مُعتزون بهم، {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ}[يس:74]، وكان أبو سفيان يقول "لنا العُزَّة ولا عُزَّ لكم"، يفتخر على المسلمين ويقول "من عَبَدَ العُزَّ اعتز"، فضرب الله -تبارك وتعالى- أمثال بمَن أهلكهم الله -تبارك وتعالى- من الأمم، ثم قال {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}[العنكبوت:41] {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[العنكبوت:42] {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ}[العنكبوت:43]، ومن الأمثال التي ضَرَبها الله -تبارك وتعالى- في القرآن مَثَل لمَن يُبدِّل دينه، بعد أن يكون في هذا الدين ويُحكِمه ويسير في هذا الدين شوط في الطاعة إلى الله -تبارك وتعالى- ثم يرتد بعد ذلك، فالله يقول للمسلمين، يقول للمؤمنين {وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ ........}[النحل:92]، {وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا}، فشبَّه مَن يرتد بعد إيمانه بالمرأة التي تغزل غزل تتعب فيه؛ تشقى فيه، صوف تأخذه، تغسله ثم تنفُشَه، ثم تجعله خيوط، ثم بعد هذه الخيوط تنسجه وتتعب فيه، ثم إذا وصل الأمر؛ أصبح نسيجها سَدُو قد أُحكِم، ثم تَكِرُّ عليه؛ فتفُلَّه من جديد، وتُقطِّعه إربًا إربًا وتُمزِّقه، فهذا حال مَن يعود إلى الكفر بسبب من الأسباب بعد أن كان في الإيمان؛ خرَّب شغله، أفسد عمله.

وهذا القرآن مليئ بالأمثال، ضرب الله -تبارك وتعالى- مثَل لهذه الدنيا وسرعة زوالها بأمر نُشاهده، وهو الربيع؛ نزول المطر من السماء على الأرض، ثم إذا بها تمتلئ بأنواع النبات، ثم لا يعدوا الأمر وقت قليل حتى يهيش هذا النبات؛ يصفَّر، تضربه الشمس، ثم يكون حُطامًا وينتهي الربيع وينتهي ما فيه، {........ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا}[الكهف:45]، {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}[يونس:24]، أمثال، خاطب الله -تبارك وتعالى- عباده في هذا القرآن بكل أنواع ...، لوَّن لهم -سبحانه وتعالى- الخطاب في مجال الإثبات بالبراهين الساطعة، في مجال تقريب البعيد؛ في ضرب الأمثال التي تُقرِّب المعنى وتُبيِّنه وتُفصِّله، في مجال الأمر بما يحُفَّ الله -تبارك وتعالى- هذا الأمر بالمواعظ العظيمة، أولًا ببيان نفع هذا الأمر وأثره وفائدته للمأمور؛ فائدته في الدنيا وفي الآخرة، ثم التحذير من فعله؛ إذا فعله يكون فيه هذه الأضرار الآتية، وكذلك في النهي والزجر؛ الله -تبارك وتعالى- ينهى عن الأمر ولا ينهى عنه مُجردًا، ولكن ينهى عنه مُقترنًا بالوعيد الذي يترتب على فعل هذا المنهي عنه، وكذلك بالفوائد العظيمة والمنافع العظيمة لمَن يفعل هذا، فالترغيب والترهيب، الترغيب والترهيب، وضرب الأمثال، والشرح، والبيان، وتنشيط الكسول، والدعوة إلى عزائم الأمور وإلى الهِمم؛ وإلى بعث الهِمَّة، فالله -تبارك وتعالى- خاطب عباده -سبحانه وتعالى- بكل خطاب.

وخطاب الله -تبارك وتعالى- للكافرين خطاب يأتيهم؛ خطاب رحمة، يُناديهم الله -تبارك وتعالى- نداء بعد نداء؛ أنه هو ربهم -سبحانه وتعالى-، وأنه يقبل منهم كل عُذر في هذه الدنيا عن أي ذنب يمكن أن يُذنبوه، {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}[الزمر:53] {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ}[الزمر:54] {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ}[الزمر:55] {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ}[الزمر:56] {أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}[الزمر:57] {أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}[الزمر:58]، فهذا تذكير منه -سبحانه وتعالى-؛ يعني يا أيها العبد سارع إلى التوبة إلى الله -تبارك وتعالى-، واعلم أن الله -تبارك وتعالى- يقبل عُذرك وتوبتك في أي ذنب كان منك؛ لو كان كفر وشرك، لو كان ممَن سبَّ الله وسبَّ رسوله، عادى دينه، وقاتل أوليائه، فتعالى أغفر لك، هذا الباب مفتوح، واخذر لأنه إذا اُغلق الباب لن يكون دخولٌ بعد ذلك، {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ}[الزمر:54]، خلاص إنتهى، لا مجال، {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ}[الزمر:55] {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ ........}[الزمر:56]، ما ينفع، يا حسرتا؛ يا حسرتاه، على ما فرَّطت في جنب الله؛ في الحياة الدنيا، ما عاد ينفع هذا؛ هذا لا ينفعك بعد ذلك، {أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}[الزمر:57]، فتلوم القدَر وتقول لو أن الله هداني لكنت من أهل الهداية، ما عاد ينفعك أيضًا هذا؛ التلُّوم بدفع اللوم على القدَر لا ينفعك، {أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}[الزمر:57] {أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}[الزمر:58]، يا ليت لي رجعة للدنيا مرة ثانية، فأكون من المحسنين؛ من المؤمنين الموحدين، قيل له خلاص، {بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ}[الزمر:59]، إنتهت؛ فعند ذلك خلاص إذا اُغلق الباب لن يكون.

الله يقول {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ}، أعذَر الله -تبارك وتعالى- إليهم، ثم يخبر -سبحانه وتعالى- بأن هؤلاء الكفار كفار، {........ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ}[الروم:58]، لئن جئتهم؛ يعني يا محمد -صل الله عليه وسلم-، بآية؛ مما يقترحونه، فقد اقترحوا؛ إفعل لنا هذه الآية ونحن نؤمن لك، {........ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ}[الروم:58]، يُقسِم الله -تبارك وتعالى- بأن الكفار ستقول للنبي أنت من أهل الباطل؛ حتى لو جائتهم هذه الآية كما يقترحونها، وعِلمًا أنهم قد اقترحوا آيات كثيرة على الله -تبارك وتعالى- وفق هواهم، {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا}[الإسراء:90] {أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا}[الإسراء:91] {أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا}[الإسراء:92] {أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُه قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا}[الإسراء:93]، فهؤلاء مُعاندون؛ أنه يطلبوا هذه الآيات عناد، ويخبر الله -تبارك وتعالى- بأنه لو جائتهم الآية التي يطلبونها فإن ردَّهم أنهم سيقولوا للرسول أنت مُبطِل، {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ}[الروم:58].

قال -جل وعلا- {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ}[الروم:59]، كذلك؛ كهذا الطبع وقفل القلوب والاستحكام في الكفر، الله يطبع على قلوب الذين لا يعلمون، والطبع على قلوبهم هو أن يُغلقها على هذا الكفر والضلال، ثم يُطبَع عليها، طبع؛ يُختَم عليها، فخلص يُصبح هذا الكفر كأنه مطبوع في القلب وثابت فيه، فطبع الشيء هو إثباته ونقشه ووضعه، مثل طبع الكتاب؛ نقول طبَعنا هذا الكتاب يعني أنه نُقِشَ فيه، فيُصبح الكفر منقوش وموجود في قلوبهم –عياذًا بالله- وذلك بكفرهم، {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ}[الروم:59]، الذين لا يعلمون الحق، ليس الذين لا يعلمون يعني الجاهلين... لا، وإنما لا يعلمون يعني لا يعلمون هذا الأمر على أنه حق لابد أن يكون، وإنما يأخذونه ويُكذِّبون به ويتركونه، فيكون حالهم حال الجاهل الذي لم يأتِه الأمر، ولكنهم أتاهم الأمر وجائهم وعلِموه، ثم تعاملوا معه كأنه باطل وكذب؛ ردُّوه وكذَّبوا به، فأصبحوا كأنهم لا يعلمونه، فالله -تبارك وتعالى- يطبَع على قلوبهم هذا الطبع ويحرمهم -سبحانه وتعالى- من الهداية.

ثم قال -جل وعلا- لرسوله {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ}، إذا كان الأمر على هذا النحو؛ على أن هؤلاء موتى على هذا النحو، مطبوع على قلوبهم على هذا النحو، ولا ينفع فيهم أي نوع من سُبل الهداية، فإذن اصبر على ما أنت فيه، فهم كما قال الله -تبارك وتعالى- {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ}[النمل:80] {وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ}[النمل:81]، فهذه بعد ضرب هذه الأمثال، وبعد بيان هذه الآيات، وبعد إقامة كل هذه البراهين، وبعد بيان أنهم خلاص اختاروا الكفر طريقًا لهم، اختار الكافر الكفر طريقًا له ومنهجًا، وثبت قلبه عليه، وأصرَّ عليه، عاقبه الله -تبارك وتعالى- بهذه العقوبة، {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ}[الروم:59] {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ}، وَعدُ الله -تبارك وتعالى-، الوعد هو الإخبار بما يسُّر، وقد أخبر الله -تبارك وتعالى- رسوله -صل الله عليه وسلم- بأخبار عظيمة مُبشِّرة، أولًا وعَدَه الله -تبارك وتعالى- بأن ينصره في هذه الدنيا، وأنه لابد أن يُديل الكفار وأن يُديله عليهم وأن يصر دينه، {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ........}[النور:55]، فهذا وَعد الله -تبارك وتعالى- أولًا لهم بالنصر والتمكين في هذه الدنيا؛ هذا موعود الله -تبارك وتعالى-، وَعَدَه الله -تبارك وتعالى- بأن يُثَبِّت نبيه على الحق، وأن يجعل معه هؤلاء المؤمنين الطيبين؛ يقومون معه بالأمر، وأن الله -تبارك وتعالى- مُلِّغ دينه ما بلغ الليل والنهار، كل هذه المواعيد؛ في النصر، والسند، والعز، والتمكين، وزوال الكفر، {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا}[الإسراء:81]، هذا وعد الله -تبارك وتعالى- لرسوله.

كذلك وعد الله -تبارك وتعالى- لرسوله -صل الله عليه وسلم- بما وَعَدَه الله -تبارك وتعالى- به في الدار الآخرة، من الجِنان، والفردوس، والنجاة، والشفاعة العظمى، مواعيد عظيمة، وعد عظيم وَعَدَ الله -تبارك وتعالى به رسوله، قال {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ}، إن وعد الله حق لك بالنصر، والتمكين، وعلو هذا الدين ونفاذه، أنه لابد أن يكون؛ فهذا حق، ثم قال -جل وعلا- {........ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ}[الروم:60]، يستخفنَّك؛ يطلبون خِفَّتَك، الخِفَّة هي الطيش والرعونة، والتصرُّف ليس بالثبات والعقل والرزانة وإنما يُقال هذا رجل خفيف طائش، يتصرَّف عند أول وهلة دون أن يتدبر الأمر وأن يتفكَّر فيه، فبمجرَّد أي استفزاز يُستَفَذ، يقول الله -تبارك وتعالى- {........ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ}[الروم:60]، الذين لا يوقنون؛ لا يؤمنون الإيمان اليقيني بموعود الله -تبارك وتعالى-، من هذا طبعًا الذين لا يوقنون من الكفار؛ كانوا يُحرِجوا النبي -صل الله عليه وسلم- ويريدون إحراجه، فيطلبوا العذاب الآن؛ يقولوا هات العذاب الآن الذي تتوعَّدُنا به، لِما لا تأتي بهذا الأمر؟ أين هذه المواعيد والوعيد الذي تتهددنا به؟ فليكُن وليأتي، أمره الله -تبارك وتعالى- بألا يستعجل لهم، لا تستعجِل لهم واعلم أن عذاب الله -تبارك وتعالى- سيأتيهم في الوقت الذي يشاءه الله -تبارك وتعالى-، وكذلك الذين لا يوقنون ممَن يستعجلون النصر ويريدوا أن ينتصر الرسول في يومٍ وليلة، الله -تبارك وتعالى- أخبر بأن هذا الوعد قادم، وأنه سيأتي في الوقت الذي حدده الله -تبارك وتعالى- تمامًا، فاصبر على الدين واعلم أن وعد الله حق؛ وعده لك بالنصر والتمكين لابد أن يكون، ولكنه سيأتي في الوقت الذي يريده الله -تبارك وتعالى-؛ لا تستعجل هذا، {........ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ}[الروم:60]، فتتبرَّم بالأمر، أو تيأس من نصر الله -تبارك وتعالى-، أو تعلم بأن موعوده لن يكون، بل موعوده سيكون، ولذلك كان النبي -صلوات الله وسلامه عليه- ثابتًا؛ مستقرًا، مطمئنًا إلى وعد الله -تبارك وتعالى- وأنه لابد أن يكون حتى في أحلك الأوقات، في كل الأوقات الحالكة كان يعلم بأن هذا الأمر لابد أن يكون، ولابد أن ينصره الله -تبارك وتعالى-، ولابد أن ينصر الله رسوله وأن يُعِزَّ دينه، {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ}[الروم:60].

والحمد لله رب العالمين، وبهذا تمت هذه السورة؛ سورة الروم، وصل الله وسلم على عبده ورسوله محمد.