الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده والرسول الأمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- بسم الله الرحمن الرحيم، {الم}[لقمان:1] {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ}[لقمان:2] {هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ}[لقمان:3] {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ}[لقمان:4] {أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[لقمان:5] {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ}[لقمان:6] {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}[لقمان:7] {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ}[لقمان:8] {خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[لقمان:9]، هذه الآيات ابتداء سورة لقمان، وهذه السورة مكية بتمامها، بدأ الله -تبارك وتعالى- هذه السورة بهذه الحروف الثلاثة المقطَّعة؛ الألف، واللام، والميم، {الم}[لقمان:1]، وقد مضى في الحلقات الماضية بيان أقوال أهل العلم في معاني هذه الحروف المقطَّعة.
ثم أشار الله -تبارك وتعالى- إلى هذا القرآن، فقال {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ}[لقمان:2]، تلك؛ إشارة، آيات جمع آية، والآية هي العلامة في لغة العرب، وكل آية من آيات القرآن علامة على أنها من الله -تبارك وتعالى-، فبرهانها قائم أنها من الله لأن هذا القرآن كله مصوغ وإن كان باللسان العربي، إلا أنه لا يستطيع أحد من فصحاء العرب وبلغائهم مهما كانوا، من البشر كلهم، أن يصوغ كلامًا مثل هذا القرآن، {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ ........}[لقمان:2]، اللي هو القرآن، وصفه وإسمه بالكتاب وبالقرآن، بالكتاب لأنه مكتوب؛ كُتب في السماء قبل أن ينزل إلى الأرض، ويقرأه أهل السماء، وعندما نزل إلى الأرض على قلب نبينا محمد -صلوات الله والسلام عليه- بقراءة جبريل عليه، {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ}[الشعراء:193] {عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ}[الشعراء:194] {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ}[الشعراء:195]، كان النبي يقرأه على الناس، ويُقرأ، ويُكتَب، ثم جُمع بعد ذلك في كتاب واحد، هذا الكتاب بين أيدي المسلمين بين دفتين، مبدوءًا بالفاتحة ومختومًا بسورة الناس، هذا كتاب الله -تبارك وتعالى- الذي شاء الله -تبارك وتعالى- حِفظَه، كلامه -سبحانه وتعالى- المُعجِز المُنزَّل على عبده ورسوله محمد -صلوات الله والسلام عليه-، آخر رسالة من الله -تبارك وتعالى- إلى أهل الأرض، الكتاب الخاتم، {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ}[لقمان:2]، وصف الله -تبارك وتعالى- هذا الكتاب بأنه حكيم؛ وذلك أن هذا الكتاب يضع كل أمر في نِصابه، الحكمة هي العلم التام الذي يضع كل أمر في نِصابه، فكل أمر هنا في هذا القرآن موضوع في نِصابه تمامًا، فهو كتاب حكيم، نزل بالحكمة، ويدعوا إلى الحكمة، أخباره كلها صدق، وأحكامه كلها عدل، وكل آية موضوعة في مكانها الصحيح، وتُرشِد إلى الإرشاد الصحيح، فهو كتاب حكيم بكل معاني الحكمة؛ حامل للحكمة، {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ}[لقمان:2].
{هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ}[لقمان:3]، هذا الكتاب هدى ورحمة، هدى خاص، الهدى يعني إثنان؛ هدى بمعنى الإرشاد والبيان، والقرآن فيه الإرشاد والبيان للناس كلهم، وهدى بمعنى التوفيق، وهذه تكون لأهل الإيمان؛ للمصدِّقين به، فالذين يصدِّقون به ويؤمنون به الله -تبارك وتعالى- يجعل هذا القرآن نور يهديهم إلى الصراط، فهذا هدى؛ القرآن هدى، ورحمة؛ رحمة من الله -تبارك وتعالى- يرحمهم به، أولًا يُخرجهم بهذا القرآن من الظلمات إلى النور، يُبصِّرهم من العمى، يُمسِّكهم بكلامه، يُرشدهم، يَحثُّهم على الفعل بكل أنواع الحث فيأخذوه، ويحذِّرهم من الشر فيجتنبوه، فهو رحمة لهم لأنه قائد لهم إلى كل خير، ومُبعِد لهم عن كل شر، وبالتالي القيادة في النهاية يقودهم هذا القرآن إلى جنة الله -تبارك وتعالى- ورضوانه، القرآن حُجَّة لك أو عليك، فلأهل الإحسان، للمحسنين؛ لأهل الإحسان، وأهل الإحسان هم الذين أخذوا هذا الكلام على أنه كلام الله، فآمنوا به، واعتقدوه، وعملوا بما فيه، هذا الإحسان في هذا، فقد أحسنوا عندما تناولوا هذا القرآن وجائهم هذا القرآن؛ فآمنوا به، وصدَّقوه، وعملوا بأحكامه، وعرفوا أنه من الله -تبارك وتعالى-، وقدَّروا نعمة الله -تبارك وتعالى- عليهم، فهؤلاء المحسنون هذا القرآن هو هدًى ورحمةً لهم، وأمَّا غير المحسنين فإنهم لم يستفيدوا به.
ذكَرَ الله -تبارك وتعالى- هؤلاء المحسنين؛ وصفهم، قال {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ}[لقمان:4]، {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ}، هذه أثر من آثار إيمانهم بالله -تبارك وتعالى-؛ أنهم يُقيموا الصلاة، وإقامتها؛ أنهم يؤدونها على وجهها الأكمل، لأن الإقامة بمعنى الاستقامة، يؤدونها على وجهها الأكمل من استكمال شروطها التي اشترطها الله -تبارك وتعالى- بها، استكمال أركانها، أدائها على الصورة التي شرعها الله -تبارك وتعالى- وبيَّنها النبي، «صلوا كما رأيتموني أصلي»، فهذا كله من معاني إقامتهم للصلاة، الصلاة ذات الخشوع لله -تبارك وتعالى-، قال {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ}[المؤمنون:1] {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ}[المؤمنون:2]، فهذا من إقامة الصلاة، ويؤتون الزكاة؛ يُعطونها، والزكاة هي هذا الجزء من المال الذي فَرَضَه الله -تبارك وتعالى- في أموال المؤمنين؛ ليُخرِجوه في مصارف محددة، سُمي زكاة لأنه طُهرةٌ للنفس؛ عن الشُّح، عن البخل، تعليم لها بالعطف؛ أنه يُنفق في هذه في وجوه الخير، يعلم أن هذا المال مال الله -تبارك وتعالى-، فالمُزكِّي يعلم أن هذا مال الله، وعندما يُزكِّي يعلم أن الله -تبارك وتعالى- قد أمره بهذا، فتزكوا نفسه بها، وهي كذلك إخراج هذا المال زكاة للمال، زكاة للمال؛ طهارة له، لأن المال المشتمل على حق الله -تبارك وتعالى- الذي لا يُخرَج؛ ما خرَجَ منه حق الله -تبارك وتعالى-، يتنجس هذا المال، يصبح مال نجس، يصبح شر على صاحبه ويُحاسب عليه يوم القيامة، فإذا أُخرج منه هذا الحق طَهُرَ المال، المال الباقي يكون طاهر، فقبل إخراج الزكاة المال يَنجُس لأن فيه أمر مُحرَّم؛ فيه حقوق لله -تبارك وتعالى- لم تخرج، فهو يؤتون الزكاة؛ الزكاة التي فرضها الله –تبارك وتعالى- في أموالهم، زكاة لنفوسهم وزكاة لأموالهم.
{وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ}، وهم؛ هؤلاء المحسنون، بالآخرة هم يُقِنون؛ تأكيدًا للمعنى، وهم؛ المحسنون هؤلاء، بالآخرة؛ يوم القيامة، سُمي بالآخرة لأنه هو نهاية المطاف؛ هذا عندما يلقى كل إنسان عصا التسيار، ((الدنيا معبَّر، والقبر مزار، والآخر استقرار))، الدنيا دار عبور يبقى في الإنسان؛ يعبرها كأنه مُسافر، والقبر يزوره زيارة، {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ}[التكاثر:1] {حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ}[التكاثر:2]، زُرتموها خلاص؛ تقعد في المقابر كأنك زائر لمدة معينة، ثم تنتقل بعد هذا، ولذلك قيل إن الزائر لا يُقيم، الزائر لا يُقيم لذلك أهل القبور لا يُقيمون، يزورونها ثم يقومون بعد ذلك إلى يوم القيامة، هي الآخرة؛ هي الآخرة لأنها نهاية المطاف، يا جنة يا نار، ولا موت بعدها، ولا انتقال بعدها، ولا برزخ بعدها، خلاص هي دار النُقلة الأخيرة؛ التي ليس بعدها شيء، {وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ}، هم؛ بإعادة الضمير مرة ثانية، ليكون هنا الجملة الإسمية المتمكنة في الخبرية، هم يُوقنون؛ يعني هؤلاء هم يُوقنون، اليقين هو القطع والجزم؛ نهاية الأمر، وهذا نهاية العلم، العلم يبدأ بالشك، فالظن، فالعلم، فاليقين، فأمر يقيني؛ اللي هو خلاص يصبح علم معلوم مقطوع به، يصبح المعقول فيه كالمحسوس، فهم بهذه الآخرة وإن كانوا لا يرونها لكن يُوقنون؛ هي عندهم كالمحسوس، فكأنها رأي العين؛ فكأنهم يرون الآخرة رأي العين، ليس فقط بأن يصدِّقوا بوقوعها مجرد التصديق الخبري، بل يُوقنون بها يعني أصبحت عندهم من اليقين كما يعرفون الأمر المحسوس؛ الذي يقع تحت حِسِّهم، فهم مؤقنون بالآخرة وأنها لابد أن تكون.
{أُوْلَئِكَ}، يعني هؤلاء المحسنين؛ الذين هذا القرآن هدًى ورحمةً لهم، {عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ}، على هدى؛ قيل هنا على هدى كأنهم متمكنون من هذا الهدى، لأن على تُفيد الاستعلاء، على هدى من ربهم؛ يعني كأنهم متمكنون من هذا الهدى تمكن مَن يكون عالي على الشيء، {عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ}، وهدًى من ربهم؛ هداية من الله -سبحانه وتعالى-، وقول الله –تبارك وتعالى- {مِنْ رَبِّهِمْ}، دليل على القُرب من الله -تبارك وتعالى-، أنه ربهم الذي مكَّنهم الله -تبارك وتعالى- من هذا الهدى ومكَّنهم فيه، {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}، إشادة من الله -تبارك وتعالى-، أولئك؛ بالإشارة للبعيد، هم المفلحون؛ هم من جملة الناس المفلحون، المُفلِح هو مَن فاز بمطلوبه الأكبر، وين نجح النجاح العظيم، فاز الفوز الذي ليس بعده فوز، والفلاح في ميزان الرب -تبارك وتعالى- هو النجاة من النار ودخول الجنة، الجنة دار الفالحين؛ دار الفائزين، ليس بعده شيء لأنها دار مُستقَر، وأنها جُمعَت فيها كل أنواع السرور والحبور لأهلها، ونُحِّي عنهم كل ما يُكدِّر الخاطر ولو كان شيء صغير، أي شيء يُكدِّر خاطرهم أو يُقلل من متعتهم غير موجود، {لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً}[الغاشية:11]، لا يبولون، لا يتخوطون، لا يمتخطون، رشحهم المسك، لهم فيها كل ما يشتهون، كل الذي يشتهونه بل ويدَّعونه كله موجود، فهذا الفلاح الأكبر، ثم بعد ذلك رضوان من الله -تبارك وتعالى-، الله -تبارك وتعالى- رب السماوات والأرض، رب العالمين، قد رضي عنهم وأمَّنهم، يقول لهم الرب -تبارك وتعالى- «أحلِل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدًا»، فهذا المُفلِح، فهؤلاء هم المفلحون؛ الذين كان هذا حالهم، الذين أخذوا هذا القرآن فكان هذا القرآن لهم هدًى ورحمة، {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ}[لقمان:4] {أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[لقمان:5]، هذا فريق؛ هذا الفريق الأول المؤمن بهذا القرآن.
فريق ثاني من الناس، قال -جل وعلا- {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ}، أين الفريق الأول؟! وأين هذا الفريق الثاني؟! ومن الناس؛ أي ناسًا، {مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ}، يشتريه؛ يأخذه، شرى؛ باع، واشترى؛ أخذ، {يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ}، شوف يستبدل القرآن؛ كلام الله -تبارك وتعالى-، {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ}[لقمان:2]، بلهو الحديث؛ الحديث الذي يُلهي، يُلهي لأنه يُضيِّع الوقت، ويصرف فيه الإنسان وقته في غير نفع، لا نفع فيه، ولا ثمرة من ورائه، بل هو يُلهيك؛ يُلهيك عن منافعك، ويُلهيك عن مضرَّة ستأتيك يجعلك تلهوا فيها، تلهوا فيما أنت فيه حتى يلحقك العدو ويأخذك، فهذا لهو الحديث، {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ........}[لقمان:6]، فهذا يشتري هذا؛ يأخذ هذا ويسير في هذا، {لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ}، يَشغِل الناس بهذه الأحاديث الفارغة، الكاذبة، البائرة، التي تُلهي عن الإيمان بالله -تبارك وتعالى- ويوم الآخرة، وأن يعمل الإنسان لخلوده وجنته بهذا اللهو الفارغ، {لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا}، ويتخذها؛ يعني هذا الدين، آيات الله -تبارك وتعالى-، يتخذ آيات الله هزوًا؛ استهزاء، أنه يستهزئ بها استهزاء، إذا علم شيء من آيات الله -تبارك وتعالى- فإنه يستهزئ بها ولا يأخذ بها، قال -جل وعلا- {أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ}، تهديد من الله -تبارك وتعالى- وتوعُّد، أولئك؛ يعني هؤلاء المجرمون، الذين استبدلوا، اشتروا بهذا لهو الحديث، {لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ}، عذاب في يوم القيامة فيه إهانة؛ يُهان، العذاب؛ ما يشقى به الإنسان ويتألم به، كل ما يتألم به الإنسان ويشعر بالآلام فهذا عذاب، ممكن يتألم ولا يُهان، ولكن هذا يتألم ويُهان في نفس الوقت؛ ألم وإهانة، فلا يوضع في النار هكذا وإنما يُهان بوضعه في النار، يُهان أولًا بأنه يُخزى أمام العالمين كلهم؛ أن هذا أمام الكل، ثم أنه يُدفَع إلى النار دفع فيه إهانة، ثم يُسحَب على وجهه، ثم يُصَب فوق رأسه الحميم، ثم يُهان بالكلام ويُبكَّت، {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ}[الدخان:49]، فله عذاب يُهينه في كل وقت من كل جهة، يُضرَب على وجهه وظَهرُه، {فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ}[محمد:27]، فهذه كل أنواع الإهانة، والإهانة التي ليست كمثلها إهانة يُهانها هذا الذي كان هذا موقفه وهذا فعله مع آيات الله -تبارك وتعالى-.
قال -جل وعلا- {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا ........}[لقمان:7]، {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ}، تتلى عليه؛ تُقرأ عليه، {آيَاتُنَا}، والله يقول آياتنا؛ كلام الله -تبارك وتعالى-، هذا القرآن كلام الله، الله ينسب القرآن لنفسه فيقول آياتنا تتلى عليه، هذا المفروض أن يَخِر ساجد لله -تبارك وتعالى-، ويقول الله -سبحانه وتعالى- يخاطبني، ويأتي هذا الخطاب من الله -تبارك وتعالى- فيُقدِّره، فإنه لو جاء أي إنسان خطاب من ملك ومن ذي سلطان في هذه الدنيا يُقدِّره، ويقوم له، ويقعد له، وأن يأتيك خطاب الله -تبارك وتعالى-، لكن هذا إذا تتلى عليه آياتنا؛ آيات الله، {وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا}، ولَّى؛ التولية أنه هرَب بعيدًا، مستكبرًا؛ مستأنفًا أن يسمع هذا الكلام، ويزعن له، ويقبله، كأن لم يسمعه؛ كأنه لم يسمع هذه الآيات، والحال أنها طرقت أذنه وقيل له هذا كلام الله -تبارك وتعالى-، لكنه عمل نفسه كأنه لم يسمع هذه الآيات قط، ولم يناد بنداء الرب -تبارك وتعالى-، ولم يخاطب بخطاب الله -سبحانه وتعالى-، {كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا}، الوقر؛ الثُقل، يعني كأن فيه ثُقل قفل الأذنين فلا تسمع، قال -جل وعلا- {فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}، بشِّره؛ البشارة هي الإخبار بما يسُر، وعندما تأتي إذا كانت إخبار بما يسوء يكون لاستهزاء؛ يكون هنا للاستهزاء به، {فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}، ومَن الذي يُعذِّب؟ الله -تبارك وتعالى-، ومَن الذي ينذر هذا الإنذار؟ الله -تبارك وتعالى-، يقول الله -تبارك وتعالى- للنبي فبشِّر هذا المجرم الذي هذا صنيعه مع آيات الله -عز وجل- بعذاب أليم، قيل أيضًا أن كان من المشركين مَن يفعل هذا؛ هو النضر ابن الحارث، كان يسمع أن النبي -صل الله عليه وسلم- يقرأ هذا القرآن، وفيه قصَّ الله -تبارك وتعالى- في القرآن أحاديث الغابرين؛ من الأمم التي كذَّبت رسلها، وكيف كان صنيع الله -تبارك وتعالى- بها، ومن الرسل الذين أرسلهم الله -تبارك وتعالى-، وحكاياتهم وسيرتهم مع المؤمنين ومع المُعذَّبين، فكان هذا الخبيث؛ النضر، يذهب إلى الحيرة ويشتري بعض الكتب، يسمع من القصص المؤلفة عن الفرس؛ وكذلك ما ألَّفَه وافتراه الرومان، فيأتي من هذا؛ يعرف القراءة ويعرف الكتابة، ثم يأتي لقريش ويقول أنا أحدِّثكم بأحاديث مثل ما يحدِّثكم محمد، عِندي أحاديث؛ فيقرأ لهم بقى قصص الفرس، وكسرى، وإسفنديار، وما عَلِمَه من بعض حكاوى الرومان؛ يقصُّه، ثم يقول للناس أحديثي خير أم أحاديث محمد؟ أيهما أعزب حديثًا وأعزب قصص؟ عِندي قصص أفضل من القصص التي يأتي بها النبي، {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ}[لقمان:6] {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}[لقمان:7].
ثم عاد الحديث بعد إلى أهل الإيمان؛ وما أعدَّ الله -تبارك وتعالى- لهم، قال {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ}[لقمان:8]، ها دول أهل الإيمان؛ الذين عملوا الصالحات، آمنوا بهذا الكتاب، عملوا بما فيه، {لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ}، جنات؛ بساتين، النعيم؛ التنعُّم الكامل، يتنعَّمون بكل أنواع النِّعم؛ من طعام فائق، وأنهار جارية، وحورية حسناء، وبهجة وسرور، وصَحبٍ، وشَربٍ، يجتمعون على المحبة والمودة وأنواع السرور، {يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ}[الطور:23]، كل أنواع السرور والحبور هم فيها، فهي جنات نعيم؛ تنعُّم بكل ألوان النعِّم، ما عرفوه؛ عَرَفوا أمثاله في الدنيا، وما لم يعرفوه، {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا}، {........ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[البقرة:25]، فهؤلاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات هذا مآلهم.
{خَالِدِينَ فِيهَا}، ماكثين فيها مكثًا لا ينقطع، {وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا}، هذا وعد، وهذا وعد الله، والله لا يمكن أن يُخلِف الميعاد -سبحانه وتعالى-، حقًا؛ يعني هذا ثابت لابد أن يكون، لأنه وعد الله والله -سبحانه وتعالى- لا يمكن أن يُخلِف وعده -سبحانه وتعالى-، {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}، العزيز؛ الغالب، الذي لا يغلبه أحد، ما في أمور ممكن تحدث تغلب الله -تبارك وتعالى-، شيء يصرفه -سبحانه وتعالى- عن وعده، تعالى الله عن ذلك، فالله هو العزيز؛ الغالب، الذي لا يغلبه أحد، أخبر بأن يوم القيامة لابد أن يكون، وأن وعده في عباده المؤمنين أن يُدخلهم الجنة؛ إذن لابد أن يكون، وكذلك وعيده في الكفار أن يدخلهم النار؛ لابد أن يكون، لأن الله هو العزيز؛ الغالب، الذي لا يغلبه شيء، لا يغلبه أحد -سبحانه وتعالى-، الحكيم؛ الذين يضع كل أمر في نِصابه، كل شيء في وقته وكل شيء في نِصابه؛ لابد أن يكون، {........ وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[لقمان:9].
{خَلَقَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ}[لقمان:10]، هذا من آيات الله -تبارك وتعالى-، بعدما أخبر الله -تبارك وتعالى- أنه هو العزيز الحكيم، شرع -سبحانه وتعالى- يُبيِّن لنا بعض آثار عِزَّته وقدرته وحكمته -سبحانه وتعالى-؛ هذا في الخلق، {خَلَقَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ}، فهذا خلق الله، السماوات؛ التي فوقنا، لا نعرف من أبعاد هذه السماوات شيئًا كثيرًا؛ نعرف شيء قليل منها، فإن الله -تبارك وتعالى- قد بناها بقوة، وقد وسَّعها توسعة تفوق عقل الإنسان وقدراته أن يصل إلى نهاية لها، {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ}[الذاريات:47]، {فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ} {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ}[الملك:4]، أي نهاية لها؟ سبع سماوات طِباقًا؛ طبقات بعضها فوق بعض، لا نعرف كيفياتها على ما هي، ولا هيئاتها، ولكن أخبرنا الله -تبارك وتعالى- بأعدادها، وأنها مشدودة شدَّة عظيمة، وأنه قد زيَّن هذه السماء الدنيا؛ القريبة لنا بمصابيح، وأنه جعل هذه المصابيح منها رجومًا للشياطين، هذا صناعة الله -تبارك وتعالى-؛ خلق الله -عز وجل- العظيم، فرفع الله -تبارك وتعالى- هذه السماوات هذا الرفع بغير عَمَد، عَمَد جمع عمود، يعني يقوموا عليها كما يقوم السقف عندنا على عمود، فإننا لا نستطيع أن نحصر سقوفًا إلا أن تقوم على أعمدة، كسقوف البيت؛ فإننا نبنى أعمدة الأول، ثم نضع السقف فوقها، السماء سقف، {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ}[الأنبياء:32]، السماء سقف فوقنا لكنها قائمة بغير عَمَد؛ بغير عَمَد تكون عليه، {خَلَقَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا}، إذا وقفنا عند بغير عَمَد هنا، وتكون ترونها جملة مستأنفة، فتكون ترونها كذلك؛ يعني أنتم ترونها أيها العباد كذلك، في أن الله –تبارك وتعالى- قد خلقها بغير عَمَد؛ وها أنتم ترونها على هذا النحو، أو تكون ترونها صفة لجملة؛ تكون في موضع جر صفة لهذا العَمَد، يعني أنها بأعمدة لكن لا ترون هذه الأعمدة، يعني أن الله -تبارك وتعالى- خلقها قائمة على أعمدة، لكن هذه أعمدة لا ترونها.
{خَلَقَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ}، ألقى في الأرض رواسي؛ هي الجبال، أن تميد بكم؛ الميد هو الميل والحركة الجانحة، أن تميد بكم؛ يعني أن الله -تبارك وتعالى- أرسى هذه الأرض بالجبال التي وضعها في نواحيها وأماكنها حتى تتزن، وتكون متزنة فيها، فمثل الجبال كمثل الأجنحة بالنسبة للطير أو للطائرة والذيل الذي لها، ممكن الطائرة إذا كانت بجناح مكسور أو بذيل منحرف فإنها تميل ولا تستقر في مكانها، لابد أن توضع لها موازين تزنها، حتى إذا سارت تسير متزنة، فالله -تبارك وتعالى- جعل هذه الأرض طائرتنا التي نركب عليها، وتحمل كل هذه الأثقال التي عليها محمولة، والله -تبارك وتعالى- وازن هذه المركبة العظيمة، التي يعيش عليها كل هؤلاء الناس؛ هذه الأرض، بهذه الموازين التي وضعها الله -تبارك وتعالى-، {وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ}، رواسي؛ الجبل راسي له جذر في الأرض، كما ترسى الخيمة بالطُنُب فكذلك أرسى الله -تبارك وتعالى- الأرض بهذه الجبال.
{وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ}، بثَّ؛نشر، فيها؛ في الأرض، من كل دابة؛ دواب كثيرة، الدابة؛ كل ما يدُب على الأرض فهو دابة، من النملة والذرَّة الصغيرة إلى الفيل الكبير؛ كل هذه دواب، هذه الدواب من كل دابة، لا يمكن حصر المخلوقات التي خلقها الله -تبارك وتعالى- على هذه الأرض؛ من الطيور، والحيوانات، والوحوش، والحشرات، فإن الله -تبارك وتعالى- زرأ الأرض، وبث فيها في نواحيها من كل الدواب؛ مختلفة الصفات، والأشكال، والجماعات، ونظم الحياة، وطرق المعايش، وهذا التنوُّع العظيم دليل على قدرة الرب -تبارك وتعالى- على الخلق، وعلى علمه بمخلوقاته -سبحانه وتعالى-، لأنه ما من دابة من هذه الدواب إلا وعلى الله رزقها، ويعلم مُستَقَرها ومُستودعها -سبحانه وتعالى-، فالخالق العظيم الذي خلق هذا، كل شيء في منتهى الإحكام، يعني النملة الصغيرة مخلوق لكنه في منتهى الإحكام؛ له عقل، وله تفكير، وله نظام، وله حياة، وأمم، ولها لغات، ولها طرق معايش تسير فيها، وهي بهذا الحجم الصغير ومع ذلك فيها كل هذه القدرات العظيمة، فخلق الله -تبارك وتعالى- المحكم على هذا النحو؛ هذا الخلق، وأن يبُثَّ الله -تبارك وتعالى- في الأرض من كل دابة؛ من دلائل قدرته وعظمته -سبحانه وتعالى-.
ثم قال -جل وعلا- {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ}، هذا كذلك من فعله -سبحانه وتعالى-، أنزل من السماء؛ من السحاب، والسحاب في السماء، ماءً؛ اللي هو ماء المطر، فأنبتنا فيها؛ في هذه الأرض، {مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ}، الزوج هو كل ما له نظير من جنسه؛ كل ما له نظير من جنسه زوج، كما نقول الرجل زوج والمرأة زوجة، هذا زوجه وهذا زوجه؛ لأن هذه نظيره، هذه نظيره والمرأة نظير الرجل والرجل نظير المرأة، وكذلك إذا أخذنا أي أنواع من الفواكه، من، من، من، من هذه المخلوقات ...، كل شيء له نظيره، من كل زوج؛ من النبات، كريم؛ نفيس، الكرم هنا بمعنى النفَاسة، كما نقول حجر كريم أي نفيس؛ عظيم، انظر ألوان الورود، والزهور، وأنواع الفواكه، وأنواع، وأنواع ...، من هذه النباتات التي هي بهجة للنظر، لذَّة في الطعم، فائدة في الغذاء، غذاء، دواء، شراب، {مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ}، من هذه النباتات التي أخرجها الله -تبارك وتعالى- لعباده.
نقف هنا ونكمل -إن شاء الله- في الحلقة الآتية، استغفر الله لي ولكم من كل ذنب، والحمد لله رب العالمين.