إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد.. فإن خير الكلام؛ كلام الله -تعالى-، وخير الهدي؛ هدي محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار.
وبعد أيها الإخوة الكرام، يقول الله -تبارك وتعالى- {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}[البقرة:177]، هذه الآية الجامعة الفازة في القرآن الكريم جمع الله -تبارك وتعالى- فيها صفة المتقين، وبيَّن حقيقة التقوى وحقيقة البر، فأخبر -سبحانه وتعالى- أنه {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ}، أولًا البر هي كلمة جامعة لكل خصال الخير، فالبر يدخل فيها كل خصال الخير كلها من البر، فالصلاة والصيام والصدق والأمانة وصلة الوالدين وصلة الأرحام وكل ما أمر الله -تبارك وتعالى- به من البر، وفاعل البر هو البار، هذا من أسماء العبد، والله -تبارك وتعالى- هو البر الرحيم، لأن خصاله صفاته كلها خير -سبحانه وتعالى-، والله -تبارك وتعالى- إنما يريد بدينه وشريعته التي أنزلها على عباده أن يوجد الإنسان البار، الإنسان الصالح الكامل، فأخبر -سبحانه وتعالى- هنا قال: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ}، حصول الخيرية في الإنسان هو أن يكون بارًا، ليس بأن يكون موجهًا وجهه في صلاته نحو الشرق أو الغرب، فإن هذه الجهات كلها لله -تبارك وتعالى-، ولا يوصف الإنسان بأنه بار إلا إذا صلى إلى هذه الجهة، وتنفى عنه الخيرية إذا صلى لهذه الجهة، مادام أنه في صلاته أو في توجهه مأمور بأمر الله -تبارك وتعالى-، فإذا كان مُطيعًا لله في وجهة صلاتِه فإنه بارٌ، سواء كان للشرق أو الغرب أو للشمال أو الجنوب فإنه منفذٌ لأمر الله –تبارك وتعالى-، وهذه الجهاتُ كلها هي لله -تبارك وتعالى-، {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ........}[البقرة:115].
هذا توجيه من الله -تبارك وتعالى- أن أولًا فيه رد على كلام اليهود السابق، في أن توجه المسلمين من جهة إلى جهة في قبلتهم -تحويل قبلتهم- دليل على فساد أعمالهم، على أنهم ليسوا بثابتين في أمر الدين، وأنه قد هُدم دينهم السابق، وأنها تنتفي خيريتهم، فبيَّن الله -تبارك وتعالى- أن التوجه إلى جهة ما ليس من البر، وإلا فسهل أن يتوجه الإنسان إلى هنا وسهل أن يتوجه إلى هنا، فهذا شكل, وإنما البر الحقيقي إنما هو عمل حقيقي ومضمون، فقال -تبارك وتعالى- {وَلَكِنَّ الْبِرَّ}، على الحقيقة، {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ}، والإيمان بالله -تبارك وتعالى- واليوم الآخر عملٌ عظيم، لأن الإيمان بالله واليوم الآخر أولًا هو التصديق بالحق، وعملٌ بمقتضى هذا التصديق، وهذا الحق هو أعظم حق، أعظم حقيقة في هذا الوجود هو الله -تبارك وتعالى-، فإن الله هو خالق كل شيء، هو رب العالمين -سبحانه وتعالى-، ثم إن هذا الوجود كله مفتقر إليه -سبحانه وتعالى-، فالإيمان به؛ الإيمان بالرب الإله الخالق العظيم الذي بيده أمر العباد كلهم والمتصرف فيهم، والذي لا إله غيره ولا رب سواه -سبحانه وتعالى-، هذا هو الإيمان بأعظم حق، وعليه يتوقف الفوز والنجاح والفلاح للمؤمن، وفقْد الإيمان معناه الخسران الكامل لهذا العبد، الخسران في الدنيا والآخرة، وخسران الآخرة أن يخسر الإنسان نفسه في النار-عياذًا بالله-، فالإيمان بالله هذه أولى حقائق البر, الإيمان بالله واليوم الآخر، اليوم الآخر يوم القيامة، وسمي باليوم الآخر لأنه نهاية المطاف، هذي دار الإستقرار، أهل الجنة يستقرون فيها بلا خروجٍ ولا موت، ولا انصراف عنها، وأهل النار خلودٌ فلا موت، فهي آخر مراحل العمر ومراحل حياة الإنسان، فهو اليوم الآخر وهذا يومٌ عظيمٌ جدًا، مهول بأهواله وما فيه من الأمور الفظيعة العصيبة، وآخرها من صُرف إلى النار أصعبها وأعظمها -عياذًا بالله-، وفيه قبل هذا تهاويل كثيرة، فيتوقف كذلك على الإيمان بهذا اليوم استقامة العبد في الحياة، وذلك أن هذا يوم الله -تبارك وتعالى-، اليوم الذي يتجلى الله -تبارك وتعالى- فيه إلى عباده، ويلتقي كل العباد بالله -تبارك وتعالى- يحاسبهم حسابًا مباشرًا، فالله هو الذي يتولى حساب عباده -سبحانه وتعالى-، {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ}[الغاشية:25]، {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ}[الغاشية:26]، فهذا يومٌ عظيم.
فمن آمن بهذا اليوم وقدَّره لا شك أنه سيجعل حياته كلها منصبة ومتجهة إلى العمل لهذا اليوم، فهذا البر الحقيقي، هذا معنى أن هذا من البر، {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ}، ثم {وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ}، الملائكة عالم أخبرنا الله -تبارك وتعالى- عنه، جندٌ عظيم من جنود الله -تبارك وتعالى-، أقامهم أولًا في عبادة الرب -تبارك وتعالى-، {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}[التحريم:6]، خلقهم الله -تبارك وتعالى- من نور، كما جاء في الحديث «خُلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم»، والحديث عن صفاتهم وأعمالهم حديث طويلٌ طويل، وخلاصة ذلك أنهم خلق أشد وأعظم من الإنسان، قال -صلوات الله والسلام عليه- «أذن لي أن أُحَدِث عن ملك من حملة العرش، ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه تخفق الطير خمسمائة عام»، هذا جبريل -عليه السلام- يقول رآه النبي مرتين، مرة في مكة ومرة عند سدرة المنتهى، عندما عُرج به، يقول: {رأيته وله ستمائة جناح قد سد الأفق، أينما نظرت في الأفق وجدته أمامي}، جبريل رفع قرى لوط كلها بطرف جناحه، ثم أفكها على أهلها، ملك واحد يصيح صيحة في السماوات والأرض الموجودة فينفرط عِقدها، {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ}[الحاقة:13]، {وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً}[الحاقة:14]، {فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ}[الحاقة:15]، {وَانشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ}[الحاقة:16]، هذه نفخة ملك واحد من ملائكة الله -تبارك وتعالى-، صيحة واحدة أهلكت أمة بأكملها، قال ربنا في صاحب ياسين {وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُندٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ}[يس:28]، يعني لم يكن الأمر يستحق شيئًا من ذلك، {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ}[يس:29]، كل من كذَّب هؤلاء الرسل الثلاثة الذين أرسلهم الله -تبارك وتعالى- إلى أصحاب القرية، وقال الله -تبارك وتعالى- في ثمود {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ}[القمر:31]، صيحة واحدة من ملك، صوت أطلقه ملك فأهلك هذه الأمة، هذه القبيلة التي عمرت مساحة واسعة من الأرض في صيحة واحدة.
على كل حال الحديث عن الملائكة حديث يطول، قد فصَّل الله شيئًا عظيمًا منه في الكتاب، وجاءت السنَّة ببيان أمور عظيمة عن الملائكة، الإيمان بهؤلاء الملائكة كما وصفهم الله -تبارك وتعالى-، وكما وصفهم رسوله-–صلى الله عليه وسلم- من البر؛ لأن هؤلاء عالم جند من جند الله -تبارك وتعالى- أقامهم فيما أقامهم فيه فيؤمنون به، والإيمان بعظمتهم هو الإيمان بعظمة خالقهم عظمة الرب الإله –سبحانه وتعالى-.
{وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ}، الكتاب جنس الكتاب، وهي الكتب التي أنزلها الله -تبارك وتعالى- على أنبيائه ورسله، وقد أخبر –سبحانه وتعالى- أنه أنزل على إبراهيم وعلى موسى وعلى عيسى وعلى داود، وآخر كتب الله -تبارك وتعالى- إلى الأنبياء هو كتابه هذا، القرآن الذي بين أيدينا، هذا هو أعظم رسالة أنزلها الله -تبارك وتعالى- إلى أهل الأرض، على قلب النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه-، {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الشعراء:192]، {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ}[الشعراء:193]، {عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ}[الشعراء:194]،{بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ}[الشعراء:195]، أنزل الله هذا القرآن بهذا اللسان العربي المبين آية من آياته -تبارك وتعالى-، تحدى الله به الأولين والآخرين، أن يأتوا بسورة من مثل سوره، فالإيمان بهذه الكتب التي أنزلها الله -تبارك وتعالى- وفيها من رحمة الله ومن إحسانه الأمر العظيم جدًا؛ لأنها بيانٌ للطريق والمنهج، ووعظ من الله -تبارك وتعالى- لعباده أن يسلكوا الصراط، وتفصيل للأحكام، وهداية منه ونور وتثبيت، ففيها رحمات عظيمة، فالإيمان بكتب الله -تبارك وتعالى-؛ الإيمان بما تضمنته والعمل بمقتضى هذا، هذا من البر، هذا هو حقيقة البر، {وَالنَّبِيِّينَ}، الإيمان بالنبيين جمع نبي، والنبي هو المنبأ النبيءُ، المنبأ بالأنباء العظيمة، والنبي يأتي بأنباء عظيمة، والنبأ هو الخبر العظيم، فأخبار النبوة أخبار عظيمة، لأنهم يخبرون عن الله وعن رسالاته وعن غيبه وعن اليوم الآخر وعن الجنة وعن النار، هذه أنباء عظيمة جدًا، جاء بها النبيون من عند ربهم، نزلت عليهم من الله، سموا أنبياء لهذا؛ لأنهم يخبرون بهذه الأخبار العظيمة، فالإيمان بهذا؛ من آمن بهذه الغيوب وعمل بمقتضى هذا الإيمان، هذا هو البار على الحقيقة.
ثم {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ}، آتى أعطى، المال هو كل ما ينتفع به، كل ما يتمول وينتفع به هذا مال، الطعام والشراب والبناء والأثاث وكل ما ينتفع به في الأرض هذا مال، {آتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ}، على حبه الضمير هنا إما أن يعود على المال أي على حب المال، أي وهو يحب هذا المال, يعطيه هذه الأصناف التي ذكرها الله -تبارك وتعالى-، أو على حبه؛ على حب الإيتاء، أي يفعل وهو محبٌ لما يفعل من إعطاء المال وليس كارهًا، أما بالنسبة للأمر الأول فيدل عليه قول الله -تبارك وتعالى- {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ........}[آل عمران:92]، أي من الذي تحبونه من المال، وليس الذي تكرهونه، فإذا كان عند الإنسان مال يكرهه كطعام رديء لا يحبه، يعافه فيعطيه الفقراء لا، هذا ليس من البر، أو شيء خرج له من زرعه أو من ماشيته سيئا ثم يتصدق به على الفقراء لا يقبله الله -تبارك وتعالى-، إنما يتقبل الله –تبارك وتعالى- {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}[المائدة:27]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ ........}[البقرة:267]، الخبيث أي الرديء، فمن أنفق من الرديء لله لا يقبله الله -تبارك وتعالى-، وإنما البر الحقيقي أن ينفق من المال الذي يحب، من نفيس المال، كما فعل أبو طلحة -رضي الله تعالى عنه- عندما نزل قول الله {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ........}[آل عمران:92]، أتى إلى النبي وقال: "يا رسول الله إن الله يقول {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ........}[آل عمران:92]، وإن أنفس مالٍ عندي -أنفس مال يعني أكثر مال نفاسة يعني قيمة عندي- هي بيرحاء -بستان له كان قريبًا من مسجد النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكان فيه ماءٌ عذب، قال له هي بيرحاء هذي أنفس مال عندي-، وإني يا رسول الله, أشهدك أني جعلتها لله، فضعها يا رسول الله فيمن شئت -قال له أنت تصرف فيها فيمن شئت، فقال له النبي: مالٌ رابح -مال رابح-، وقال له أرى أن تجعلها في الأقربين -اجعلها في أقربائك-، فوضعها أبو طلحة -رضي الله تعالى عنه- بني قرابته، أما الطعام والشرب الذي تعافه النفس فإنه قد أُهدي يومًا إلى بيت النبي أضب، والنبي ما كان يأكل الضب -صلى الله عليه وسلم-، ولم يحرمه قال ليس بحرام ولكني ليس بأرض قومي ونفسي تعافه، فقيل أفلا نتصدق به؟ فقال النبي لا تطعموهم مما لا تأكلون، لا تطعموهم يعني لا تطعموا الفقراء مما لا تأكلون، إذا كانت نفسك لا تشتهي الطعام وتعافه فإنه لا يتصدق بمثل هذا، بل ينبغي أن يتصدق الإنسان وينفق مما يحب، وإذا أنفق الإنسان مما يحب هذا دليل البر.
الأمر الآخر أن يكون محبًا للإنفاق، {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ}، على حب الإنفاق، ولا يكون كارهًا لذلك، كارها للإنفاق لأن هذه صفة المنافقين، كما قال -تبارك وتعالى- في شأنهم {........ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ}[التوبة:54]، فأخبر الله -تبارك وتعالى- أن هذه الصفة من صفاتهم، وأنه لم يقبل نفقاتهم لهذا الأمر، {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ}[التوبة:54]، فإذا كان ينفق وهو كاره؛ كاره للإنفاق ويرى أن هذه نوع من الضريبة أو الجزية عليه، يجب أن يؤديها وهو كاره لهذا، فإن الله لا يقبل عمله بذلك، أما إذا كان يحب المال وينفق وليس كارهًا للإنفاق وإنما هو رجلً شحيح بخيل، ولكنه ينفق لله -تبارك وتعالى- فهذا أجره أعظم، كما سئل النبي -صلوات الله والسلام عليه- قيل له يا رسول الله أي الصدقات أعظم أجرا؟ لأن أجور الصدقات تتفاضل، فقال -صلى الله عليه وسلم- أن تنفق وأنت صحيح شحيح، تحب الغنى وتكره الفقر، ولا تنتظر حتى إذا بلغت الحلقوم، قلت لفلان كذا ولفلان كذا وقد كان لفلان، فأخبر النبي بأن أعظم الصدقات أجرا أن يتصدق الإنسان وهو في حال صحته، وهو يحب المال ويريده لحاجته، يأمل الغنى ويكره الفقر، وهو إذا كان مع هذا ويحب المال وينفقه في سبيل الله, هذا دليل إيمان، قال ولا تنتظر لا تسوِّف، فالإنفاق تقول ما وقته، حتى إذا بلغت الحلقوم يعني بلغت الروح الحلقوم، وأصبحت مشرفًا على الموت بدأ بعد ذلك ينفق ماله، فيقول أعطوا فلان وأعطوا فلان وقد كان لفلان في ذمتي كذا وكذا، أي كنت قد وعدت فلان أن أعطيه كذا ولم أعطه فأعطوه الآن، فتكون هذه أقل أجرًا.
إذن هنا قول الله -تبارك وتعالى- {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ}، على حب المال وعلى حب الإنفاق، يُعطيه من؟ بدأ الله -تبارك وتعالى- بذوي القربي، ذوي أي أصحاب؛ أصحاب القربى، وأقرب القرابة الأم بالتأكيد، هي الأم أقرب القرابة ثم الأب ثم الإخوة الأشقاء ثم الإخوة لأم ثم الإخوة لأب وهكذا، بعد ذلك أدناك أدناك هم القرابة، فالإنفاق في القرابة أفضل من الإنفاق في الأبعدين، الذي أبعد منهم، وكلما كانت النفقة في أقرب القربى تكون أفضل عند الله -تبارك وتعالى-، وفيها كذلك صلة رحم، {وَالْيَتَامَى}، جمع يتيم، واليتيم من مات أبوه وهو دون البلوغ، وهو من أهل الحاجة وأهل الفقر، فإنفاق المال في هذا الباب، {وَالْمَسَاكِينَ}، المساكين جمع مسكين، والمسكين هو الذي أقعدته الفاقة والحاجة أسكنته، لأنه من المسكنة والسكون فكأنه متمسكن ذليل وذو سكون؛ لأن المال يحرك الشخص ويجعله يذهب ويجيء ويفعل، أما إذا كان فقيرًا من المال فيكون ديَّت، هذا سر التسمية بالمسكين، والمسكين جاء تعريفه في السنَّة بأنه ليس بهذا الطوَّاف، الذي يطوف على الناس يسألهم، وإنما هو الذي لا يجد غنىً يغنيه ولا يفطن له فيُتَصدق عليه، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- «ليس المسكين بهذا الطوَّاف الذي ترده اللقمة واللقمتان، ولكن المسكين رجلٌ لا يجد غنىً يغنيه، ولا يُفطن له فيُتَصدق عليه»، يفطن له أي لا يعرفه الناس وذلك أنه متعفف عن السؤال، كما في قول الله {لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا}[البقرة:273]، أي أنهم لا يسألون الناس حتى يُلحفون في مسألتهم، فهذا المسكين وجَّه الله -تبارك وتعالى- النظر إليه، وأخبر أن هذا من البر إعطاء المال هذا الصنف من الناس، {وَابْنَ السَّبِيلِ}، السبيل هو الطريق، وابن السبيل هنا نسبة إلى المسافر الذي مازال في طريقه، وانقطعت به النفقة وانقطعت به السبل, وإن كان غنيًا في بلده، لكنه إذا كان منقطعًا عن ماله وبعيدًا عنه أصبح محتاجا فقيرا، فهذا يُعطى كذلك، لأنه منقطع بعيد غريب عن أهله وعن ماله، {وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ}، من يسأل، من يسأل وقد يسأل لفقره وقد يسأل لتحمله حمالة، كالذي يتحمل حمالة إصلاح بين الناس فيتحمل ما بينهم من الدِّيات ومن المطالبات، يجعلها عليه يقول لهم عليَّ كل ديات القتلى والمطالبات التي تطالبون بها بشرط أن تصطلحوا، كونوا مع بعض وأنا علي أن أسدد هذا، فهذا قد يكون رجلا غنيا وقد تستنفذ هذه الحمالة ماله، فهذا له أن يسأل شُرع له أن يسأل حتى يجد هذا، ومن أصابته جائحة، قد يكون رجلا غنيا ولكن تصيبه جائحة ماله فهذا يحتاج أن يسأل حتى يجد قوامًا من عيشه، فالسائل كذلك له حق، هذا الذي يسأل كذلك له حق وهو من الوجوه التي يُدفع إليها المال، {وَفِي الرِّقَابِ}، الرقاب جمع رقبة، والرقبة هي العبد، سمي رقبة من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل، يسمى رقبة ورأس، ويسمى رقبة؛ لأن رقبته مرهونة بالرق، فيُدفع مال لعتق الرقاب وخاصة المكاتب، المكاتب هو العبد الذي يكاتب سيده على مبلغ من المال، يقول له أنا أدفع لك هذا المبلغ من المال وتعتقني، فيكاتبه ويعطيه فرصة هو يعمل حتى يجمع ما عليه فهذا له أن يسأل، وكذلك له أن يأخذ من بيت مال المسلمين وأن يأخذ من الزكاة، وأن يأخذ هنا من صدقات هؤلاء المتصدقين، {وَفِي الرِّقَابِ}، إذن هذي الصفة الثانية بعد الإيمان أن هذا الشخص ينفق المال في هذه الوجوه؛ وجوه الخير، ينفق المال على حبه للمال وعلى حبه للإنفاق، والمال كما يقال شقيق الروح شقيق النفس، فإذا كان يبذله على هذا النحو في هذه المصارف فهذا دليل بر، هذا من البر الحقيقي، هذا عملٌ حقيقي يسمى صاحبه بارًّا ويكون له المنزلة عن الله -تبارك وتعالى-.
ثم {وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ}، أقام الصلاة أقامها على وجهها الصحيح، فأداء الصلاة على وجهها الصحيح هو إقامتها، أما إذا أُديَّت على غير وجهها الصحيح بنقص في شروطها أو في أركانها أو بتضييع لها فتكون هذه مُضيعة لم تُقم، بل إن النبي قال للمسيء صلاته "ارجع فصل فإنك لم تصل"، وصلى ثلاث مرات كصلاته الأولى، وفي كل واحدة يقول له النبي لما يأتي هذا المسيء يسلم عليه يقول له النبي "ارجع فصل فإنك لم تصل"، فنفى عنه الصلاة علمًا أنه صلى من حيث الشكل، لكنه لما كان لا يطمئن في أركان الصلاة فإنه لم يجعل النبي صلاته صلاةً، كذلك إذا فقدت الصلاة شرطا من شروطها كالوضوء مثلًا، فإنها لا تقبل، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- «لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ»، فالوضوء شرط لصحة الصلاة، وهكذا للصلاة شروط من استقبال القبلة، من دخول الوقت، من ستر عورة، من هذا الوضوء، من النية الواجبة التي تحدد العمل، والنية التي تجعل العمل خالصا لله -تبارك وتعالى- ليس مرائيًا له، كل هذا يدخل في معنى إقام الصلاة، أقامها أداها على وجهها الصحيح، {وَآتَى الزَّكَاةَ}، آتى الزكاة أعطى الزكاة، والزكاة هنا هي هذا المقدار المفروض من المال في أموال مخصوصة, من مال المسلم لينفق في نفقته التي أمر الله -تبارك وتعالى- أن تنفق فيه، دائمًا تأتي الزكاة مقرونة بالصلاة في القرآن، طالما تأتي هذه مقترنة بهذه، وهذان الركنان الأعظمان بعد الشهادة، إقام الصلاة وإيتاء الزكاة.
ثم قال الله -تبارك وتعالى- {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا}، الوفاء هو فعل الشيء وافيًا، وافيًا أي كاملًا، ومعنى وفى بعهده؛ العقد هو الميثاق المؤكد، والعهود التي علينا عهود بيننا وبين الله -تبارك وتعالى-، عاهدنا الله -تبارك وتعالى- علينا، فإذا قلت أنت: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله، فقد قام بينك وبين الله -تبارك وتعالى- عهد على أنك شهدت هنا شهادة الحق، وأنك أسلمت لله -تبارك وتعالى-، ومضمون هذا أن تلتزم بما أمر الله -تبارك وتعالى-، تصدق بما يخبرك الله –تبارك وتعالى- به، تفعل ما أمرك الله -عز وجل- به، هذا عهد؛ هذا عهدٌ عهد الإسلام بين الرب الإله -سبحانه وتعالى- وبين عبده المؤمن، فهذه عهود ويدخل فيها كل أعمال الإسلام؛ يصبح هذا جزء من هذا العهد، فالوضوء، غسل الجنابة، هذا أمر غسل الجنابة أمر سري أن الإنسان قد يجنب ولا يطلع على هذا الأمر إلا الله -سبحانه وتعالى-، فقد يحتلم مثلًا في الليل وقد تحيض المرأة ولا يعرف أحد هذا إلا الرب –جل وعلا-، فغسل الجنابة هذا من جملة العهد، فالوفاء به عمله من جملة ما عاهد العبد عليه ربه -سبحانه وتعالى-، النوع الثاني من العهود هي العهود بين أهل الإيمان بعضهم مع بعض، أو بين أهل الإيمان وأهل الكفر، كل ما يعقده المسلم من شرط ويشترطه من شرط صالح يعقده من عقود وعهود بينه وبين أخيه، في تجارة بيع شراء مشاركة أي أمر مثل هذا، عقد الزواج هو أعظم هذه العقود بين الرجل والمرأة، وقد سماه الله ميثاقًا غليظا، {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا}[النساء:21]، فهذا النوع الثاني من العهود، {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا}.
لهذا -بإذن الله- مزيد تفصيل، في الحلقة الآتية -إن شاء الله-، نقف عند هذا، أستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد.