الجمعة 29 ربيع الآخر 1446 . 1 نوفمبر 2024

الحلقة (501) - سورة لقمان 18-21

{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الفاتحة:2] {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}[الفاتحة:3] {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}[الفاتحة:4]، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ}[لقمان:17] {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ}[لقمان:18] {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ}[لقمان:19]، هذا من تتمة وصية لقمان؛ الذي آتاه الله -تبارك وتعالى- الحكمة لابنه، أوصاه أولًا بألا يُشرك بالله، قال {........ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}[لقمان:13]، ثم بيَّن له عِلم الله -تبارك وتعالى-؛ سمعه وبصره -سبحانه وتعالى- بكل شيء، قال له {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ}[لقمان:16]، ثم قال له {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ}، وقد ذكَرنا في الدرس السابق أن الله -تبارك وتعالى- أوصى عباده -سبحانه وتعالى- بالوالدين بعد الإيمان به -سبحانه وتعالى-، قال {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ}[لقمان:14]، وذكَرنا أن هذا من كلام الله -تبارك وتعالى-، وجعله الله -تبارك وتعالى- ضِمن هذه الوصية، ليُبيِّن -سبحانه وتعالى- أن حق الوالدين يأتي بعد حقِّه -سبحانه وتعالى-، لقمان لم يوصي ابنه بالوالدين حتى لا يكون هذا وصية بنفسه؛ يأمره بأن يُطيعه، وألا يعصاه، وأن يَبَرَّه ونحو ذلك، حتى تكون كأن وصيته لابنه خالية من الغرض، وقد وضعها الله -تبارك وتعالى- هنا لتكون وصية كاملة للناس جميعًا، أنه حق الله -تبارك وتعالى-، ثم حق الوالدين، ثم ماذا يصنع الإنسان إذا كان والديه على غير الدين.

ثم تتمة كلام لقمان -عليه السلام-؛ قال {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ}، أي أدِّها على وجهها الأكمل، {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ}، إمَّا في سبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكَر؛ فإن هذا لابد أن يؤذى من يتعرَّض لذلك، واصبر على ما أصابك في كل الأمور، سواءً كان من جرَّاء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكَر، أو ما أصابك من أي مصيبة تكون من الأحداث التي يُجريها الله -تبارك وتعالى- على العباد، {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً}، أو اصبر على ما أصابك من أي ضُر، أي مشقَّة، أي عمل، أي تكليف فيه لله -تبارك وتعالى- أمر، يجب أن تصبر على كل ما يَعتوِرُك ومما يُصيبك، {........ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ}[لقمان:17]، من عزم الأمور؛ من الأمور المعزومة، يعني التي عزمها الله -تبارك وتعالى-؛ بمعنى أوجبها الله -عز وجل-.

ثم قال له {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ}، الصَّعر أصله مرض يُصيب الإبل، يأتيها مرض في العنق يقوم يلتوي عنق البعير ويُصبح يسير بناحية واحدة، فتُصعِّر خدَّك للناس؛ تُمِله، تُمِله كِبرًا وعُجبًا، هذا فعل المتكبِّر؛ فإنه يشيح بوجهه ويميل بوجهه عن الناس ازدارءً أو احتقارًا لهم واستصغارًا لهم، {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ}، تُمِله كِبرًا وتعاليًا عليهم، {........ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ}[لقمان:18]، {وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا}، المَرِح؛ المُختال بنفسه، المُعجَب بنفسه، فمشية المتكبِّر المُعجَب بنفسه والله –تبارك وتعالى- يكره هذا؛ يكره الكِبر، كما جاء في الحديث «بينما رجل ممَن كان قبلكم يمشي مُرجِّلًا رأسه، مُسبِلًا إزاره، تُعجِبه نفسه، إذ خسف الله به الأرض؛ فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة»، فالكِبر والعُجْب؛ عُجْب الإنسان بنفسه وما لديه، إمَّا بجماله، أو بشعره، أو بلباسه، أو نحو ذلك مما يتكَّبَر به الناس ويفتخر به الناس أمر لا يحبه الله، لا يحب الله -تبارك وتعالى- أهل العُجْب، ولا يحب أهل الكِبر على الأخرين، بْطر الحق وغمْط الناس؛ احتقارهم، قال له {وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ}، في نفسه أو في مشيته، فخور؛ بنفسه وما لديه.

ثم قال له {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ}، المشي يجب أن يكون قصد، القصد هو الاعتدال، يعني ليكن مشيك مُعتدلًا، يعني لا تسير بسرعة سير الخفيف السفيه، ولا تسير متماوتًا متباطئًا مشية الثقيل المتماوت، بل ليكن مشيك مُعتدلًا، وقد وُصفَت مشية النبي -صل الله عليه وسلم- فقال كان يمشي كأنه يتقلَّعت تقلُعًا، وينْصَب في مشيته؛ يحني ظهر وينْصَب، يقول بعض الصحابة كنا نجهد؛ عندما يجاروا النبي في المشي -صلوات الله والسلام عليه-، {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ ........}[لقمان:19]، الغض؛ التنقيص، يعني أنقص من صوتك، لا تجهر عاليًا بصوتك، أُغضض من صوتك، {إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ}، صوت الحمار؛ نهيقه مزعج، أزعج الأصوات التي تنبعث من أي شيء هو صوت الحمار، وهو صوت في إزعاجه ونكارته من علوِّه، فقال له لا تتشبَّه به، يعني كأن الذي يرفع صوته على هذا النحو فيزعج مَن حوله من غير داعٍ كأنه تشبَّه بهذا الصوت المنكر من هذا الحيوان، وصية عظيمة جدًا التي أوصى بها لقمان ابنه، وبتدرجها على هذا النحو؛ حق الله -تبارك وتعالى- أولًا، ومراقبته -سبحانه وتعالى-، والعلم أنه لا يخفى عليه شيء، والنهي عن كل شرك، وهذا خلاص بالخروج من الشرك تكون النجاة من أعظم الشرور، وبتوحيد الله -تبارك وتعالى- والإيمان به وحده -سبحانه وتعالى- وعبادته وحده يكون الإنسان قد حصَّل وقد أدرك أشرف وأفضل الغايات والأهداف، ثم بعد ذلك بالعناية بالوالدين وصحبتهم صحبة طيبة، وتقديم الأمر في حُسن الصحبة على الأب لِما لها؛ هذا يأتي بعد ذلك أمر عظيم جدًا، ثم بعد ذلك إقامة الصلاة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والصبر على الأحداث، ثم البعد عن الكِبر، والعُجب، والاختيال، والفخر، وكذلك أن يكون الإنسان حسنًا في مشيته، حسنًا في كلامه، هذا بهذا الشمول كأنه أهداه صفوة الأخلاف الفاضلة، وأعطاه منهج الطريق السليم؛ الصراط المستقيم إلى الله -تبارك وتعالى-، بهذه الكلمات المعدودات التي تتجلى فيها الحكمة التي أعطاها الله -تبارك وتعالى- لهذا العبد الصالح.

جائت هنا وصية لقمان لابنه {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ}، في معرض بيان الله -تبارك وتعالى- ألوهيته -سبحانه وتعالى- وربوبيته، وأنه وحده المُستحِق للعبادة لا ما يُعبَد من دون الله -تبارك وتعالى-، {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ}، بعد أن ذكَر الله -تبارك وتعالى- آياته في الكون، {خَلَقَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ}[لقمان:10] {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ ........}[لقمان:11]، ممَن تعبدونهم من دون الله، قال -جل وعلا- {بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}، ثم ذكَر الله -تبارك وتعالى- وصية لقمان.

ثم بعد ذلك عَود إلى بيان آيات الله -تبارك وتعالى- في الكون، وموقف الكافر من هذه الآيات، قال -جل وعلا- {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ}[لقمان:20]، ألم تروا؛ يعني أيها المخاطبون، {أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ}، وذلك أنها من خلْقه -سبحانه وتعالى-، والتسخير؛ التذليل، فتسخير ما في السماوات من سحبا يمر مسخَّر مذلَّل، {وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ}، ذلَّله الله -تبارك وتعالى-، فالله -تبارك وتعالى- هو الذي يثيره بالرياح، وهذه الرياح تحمله وتوزعه على هذه الأرض ويسقط به المطر، أمر لا يتكلَّفه الناس وإنما هذا من تسخير الله ولا قدرة لأحد على أن يصنع هذا، ما في أحد في الوجود كله إلا الله -سبحانه وتعالى- هو الذي له القدرة على أن يفعل هذا الفعل؛ ويسخِّر لنا السحاب في السماء على هذا النحو، ثم ما بعد هذا؛ سخَّر لنا هذه الشمس العظيمة، التي تُشرِق علينا، بها حياتنا، سخَّر لنا القمر، فهذه ما في السماوات من هذه الأجرام، النجوم، السحاب المسخَّر بين السماء والأرض، كل هذا الله -تبارك وتعالى- هذا بتسخيره -سبحانه وتعالى-، ثم في أمور نعلمها وأمور لا نعلمها، الآن علم البشر من هذا التسخير أن هناك في هذا الغلاف الذي يُغلِّف هذه الأرض غلاف واقي، حِصن واقي لهذه الأرض؛ يمنعها من اختراق الأشعة التي تسير في هذا الكون، وهذه الأشعة لو أنها تنفذ إلى هذه الأرض لأحرقت ودمرت من فيها، بل هذا الغلاف الذي يسمُّونه بغلاف الأوزون لو أنه ثُقِبَ منه مثل رأس الدبوس فقط ليدخل منه هذه الأشعة الكونية؛ لأتلفت على الناس معايشهم، ولَما استطاع الناس أن يعيشوا في هذه الأرض، هذا تسخير؛ الله -تبارك وتعالى- سخَّر هذا، سخَّر هذا الغلاف كذلك حِصن للأرض من هذه الشُهب التي تأتيها، لننظر إلى أي كوكب من هذه الكواكب الموجودة حولنا، من مجموعتنا نحن؛ المجموعة الشمسية، ونرى كم عليها من نزول الشُهب، وكم فيها من فوَّهات البراكين، ما في بقعة إلا وفيها شهاب ساقط، ونيزك ساقط عليها، لو أن الأرض على هذا النحو وهي من نفس هذه المجموعة لكان ما بقيَّ عليها؛ يعني مما على ظهرها أحد الآن باقي، فهذا من تسخير الله -تبارك وتعالى- وتذليله.

{أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ}، مُسخَّر؛ مُذلَّل، هذا البحر الذي هو ثلاثة أرباع اليابسة سخَّره الله -تبارك وتعالى- للإنسان، سخَّره أولاً هذه مزرعته؛ مزرعة الطعام، أكبر مزرعة كبرى للطعام في الأرض كلها هذا البحر، الذي يأخذ الإنسان منه أكثر من ثلثي طعامه، طعام الإنسان من هذه الأسماك موجودة فيه، لا نرعاها وإنما فقط ننتشلها ونأكلها، تسخير؛ هذا تسخير وتذليل من الله -تبارك وتعالى-، تسخير البحر في أن يحمل سفننا ومراكبنا عليه من مكان إلى مكان، فهذا كما قال -جل وعلا- {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا}، سخَّره؛ ذلَّله، وضعه بهذا المكان، وضع له هذه القوانين، ليكون مُذِل لهذا الإنسان، {........ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}[النحل:14]، فهذا تذليل وتسخير البحر، اليابسة سخَّرها الله -تبارك وتعالى- وذلَّلها، انظر هذه الأرض مُسخَّرة، مُسخَّرة؛ مُذلَّلة، فهي أولًا ممهدة لحياة الإنسان، {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا}[المرسلات:25] {أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا}[المرسلات:26]، تكفِتَكم؛ ترعاكم، أحياء تكفِتنا، هي أمنا الرؤوم، نختبئ فيها، نبني فيها مساكننا، نعمل فيها، نجلس فيها، ثم إذا متنا كذلك تحتضننا، الأرض عندما نموت أمنا؛ تحتضننا، وتعيد أجسامنا إلى حالتها الأولى مرة ثانية، ولو أنها تلفِظنا، لو كانت الأرض تُلفِظ الموتى؛ لا تقبلهم، لكان الآن انظر هذه الأموات الذين ماتوا كل هذه المدة متكدسون على ظهر هذه الأرض، ولا تقبلهم الأرض، لَمَا كانت هناك حياة في هذه الأرض، فالله سخَّر الأرض، وقال منها حياتكم، {........ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى}[طه:55]، سخَّر الأرض كذلك، فالله هو الذي جعل ذلك، {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا}[المرسلات:25]، كِفاتًا لكم، {أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا}[المرسلات:26] {وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ ........}[المرسلات:27]، هذا تسخير من الله -تبارك وتعالى-؛ أن يأتي بهذه الجبال ويضعها في أماكنها على هذا النحو، لتشتد بها الأرض وتسير سيرها في سكون وفي هدوء لا يُحَس، ضع أمامك في أي مكان في الأرض كوب من الماء، انظر هل يهتز؟ يميل مع هذه السرعة الهائلة التي تسير بها الأرض؟.

{وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ}[النمل:88]، فهذا فعل الله -تبارك وتعالى-، تسخير؛ تسخير الجبال، تسخير الأرض لتُخرِج لنا هذا الزرع، الله سخَّرها على هذا النحو؛ ينزل عليها المطر، تهتز، تربوا، تُخرِج هذا، تسخير؛ سخَّر لنا ما في الأرض من هذا الحيوان، بهيمة الأنعام مُسخَّرة، لو كان الأمر جعل الله هذه بهائم الأنعام وحشيَّة لكانت حياتنا في غاية الصعوبة، أي أين لنا أن نصطاد الثيران المتوحشة؟ والجمل إذا كان متوحشًا؟ والغنم إذا كانت متوحشة؟ تُصبح حياتنا شقاء، لكن الله -تبارك وتعالى- ذلَّلها لنا، ترى هذا الجمل بجسمه العظيم يأخذه طفل صغير ثم يُنيخه على الصخر، وينيخ، ويركبه، ويقوم به، ويضربه بعصاه، ويُسيِّره، ويضع النَّاف على رقبته، ويُسخِّره جيئة وذهاب، يكون طفل صغير جنب هذا البعير الكبير ويسقي به الماء، تسخير عظيم جدًا، ويقتاده الإنسان، البعير يشوف في المجزَّر وفي المسلَّخ إخوانه وأخواته يُذبَحون ويبقى ذليل، ويصرخ فقط لمجرد رؤية السكين، ويُذبَح، هذا تسخير من الله -تبارك وتعالى-، فهذا تسخير؛ تسخير هذه الأنعام للإنسان، ليصنع بها هذا الصنيع، ويفعل بها هذا، ويأكل لحمها، ويشرب حليبها، انظر تأتي البقرة مُسخَّرة؛ مُذلَّلة، هذا الحيوان إن كان وحشيِّ، أنَّا لنا أن نحصل على كوب من حليبها إذا كانت متوحشة؟ لكن الله -تبارك وتعالى- ذلَّلها لنا، نقودها، نأتي إليها بالدَّر؛ نحلبها، يأتي العامل يضع ماكينة الدَّر فيها وهي صامدة، ساكنة، هادئة، بل الآن أصبحت تقف بالسِرَة؛ تقف في الطابور، بقرة وراء بقرة، وراء بقرة، وراء بقرة ...، عامل واحد يوقِّفهم مائة مائتين بقرة يوقَّفها، ثم يُدخِلها إلى الآلة لتحلبها، ثم إذا انتهت من هذا تخرج بنفسها؛ تذليل.

{أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ........}[لقمان:20]، الشيء السابغ هو التام الذي لا يترك خلل، أسبغ عليكم نعمه؛ يعني أنه أتمَّها من جميع الجوانب، من كل ناحية، نِعَمَه؛ إنعامه وإفضاله -سبحانه وتعالى-، بركاته وخيراته -سبحانه وتعالى-، ظاهرة؛ لكم، وباطنة؛ لا تعلموها، فنِعَم ظاهرة تظهر ونعلمها، وفي نِعَم خفية باطنة وهذي لا يمكن عدُّها ولا حصرها؛ لا حصر النِعَم الظاهرة، ولا حصر النِعَم الباطنة، هذا جسم الإنسان؛ في نِعَم في هذا الإنسان تقوم عنه، مُنظِّم للقلب يُنظِّمه، عمل للخلايا؛ تعمل وتشتغل، عمل للأمعاء والمعِدة والبطن؛ تعمل وتشتغل، عمل للكِلى؛ تعمل وتُصَفي، والإنسان في النوم وكذلك الإنسان في اليقظة لا يُنظِّم شيئًا من ذلك، ما يعمل الإنسان شيئًا من ذلك، تُهاجمة الجراثيم والأعداء وهناك جهاز مناعة؛ جيش كامل مستعد، يلتقي بهؤلاء الأعداء ويُصارِع فيهم، ثم إذا جائت شحنة أكبر وعدد أكبر من الأعداء يقوم هناك تداعي في هذا النظام؛ الذي يخلُق جنود جُدد ليهاجم المرض، أمور عظيمة جدًا لا تسعها مجلَّدات من النِعَم الباطنة، في كل جزئية من جزئيات هذه الحياة نِعَم من نِعَم الله -تبارك وتعالى- أنعم بها على خلْقه، {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً}.

ثم قال -جل وعلا- {وَمِنَ النَّاسِ}، أي ناسًا، {مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ}، {يُجَادِلُ فِي اللَّهِ}، يُجادل حتى في وجوده؛ يقول لا وجود لإله خارج هذا العالم المُشاهَد، هذا العالم أوجَد نفسه لنفسه بنفسه؛ دون هدف ودون غاية، أمر خارج عن أي منطوق عقلي، كيف يكون هذا العالم دقيق الصنع؛ المُحكَم، قد أوجَد نفسه بغير موجِد؟ بنفسه، لا موجِد، كيف يكون هذا؟ أمر مستحيل أن توجد ذرَّة بدون موجِد، بيضة؛ كيف توجد هذه بدون موجِد؟ بدون هذا النظام المُحكَم في كل ذرَّة من ذرات هذا الوجود؟ فأولًا يُجادلون في وجود الله؛ يؤمنون ببعض صفات الله ويكفرون بالبعض الأخر، بعض الناس يؤمن بوجوده ولكنه يُعطِّله -سبحانه وتعالى- عن صفاته، يُعطِّله عن سمع وعن بصره، يُعطِّله عن تشريعه؛ أنه -سبحانه وتعالى- لا يُشرَّع ولا يرتضي لعباده ما يشاء، بل العباد هم أحرار في أن يصنعوا لأنفسهم ما يشاؤون، وأن يأخذو ما يشاؤون ويتركوا ما يشاؤون، سبحان الله يخلُق الله -تبارك وتعالى- هذا الخلْق ويُخلِّيه، وكل إنسان -حتى من أعدائه- يقوم يفعل ما يشاء ويشرَع ما يشاء، ثم لا يكون لهذا الرب -سبحانه وتعالى- فعل، ثم الله يخلُق هذا الخلْق ولا إرادة له، ولا غاية له، ولا هدف له من هذا الخلْق إلا أن يُخلِّيه ويُسيِّبه على هذا النحو، تعالى الله عن ذلك، {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ}[المؤمنون:115] {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ}[المؤمنون:116] {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ}[المؤمنون:117]، يستحيل أن يكون هناك الرب الذي خلَق هذا الخلْق يُخلِّيه على هذا النحو.

كذلك من الناس مَن يُجادل في الله، يؤمن بأن الله -تبارك وتعالى- هو خالق السماوات والأرض، خالق الخلْق، لكن لا بعث ولا نشور، ولا يستطيع أن يُعيد هذه الأجساد إذا فنيَّت وبليَّت في هذه الأرض مرة ثانية، كما كان مشركوا العرب يعتقدون هذا ومَن يُماثلهم ممَن يسمُّونهم بالدهريين؛ الذين يؤمنون بأنه دهر، يقول ما هي إلا أرحام تدفع وأرض تبلع، ما في غير رحِم يدفع الجنين خارجًا؛ هذه ولادة، وأرض تبلع هذا، والإنسان بينها يفعل ما يشاء ويدع ما يشاء، لا حساب ولا حكومة ولا رب قد خلَق هذا ودبَّره، تعالى الله -سبحانه وتعالى- عن ذلك علوًا كبيرًا، فمن الناس من يُجادل في الله بغير علم؛ لا علم له بهذا، ولا هدى؛ هداية، ولا كتاب منير، لا عنده علم بهذا الذي يقوله، وإنما يقوله بالظن والتخمين والحُكم، يقولك نظرنا ولم نر الله إذن هو غير موجود؛ سبحان الله؛ أنت الموجود من الوجود الحَسِّي القائم لا نعلمه، بل فيه وجود أقرب لنا من كل شيء لا نعلمه؛ وجود الروح التي فينا، والتي بها حياتنا، وقيامنا، وكذا ...، لا نعلم كيف وجوده، كيف نُنكِر مَن لا نراه؟ الروح لا نراها؛ نُنكِرها، كل يوم نرى أبعاد أخرى من هذا الكون لا نراها، فكم ناس حتى في هذه الدائرة التي نحن فيها أنكروا وجود كواكب أخرى، ثم يكتشفون أن هناك كواكب أخرى، مجرد الجهل لا يكون عِلمًا، الجهل بالوجود ليس بعلم، فهؤلاء يُجادلون في الله بغير علم، ولا هدى؛ ما عندهم هداية، وإنما هم في الضلال ويعتقدون هذا، ولا كتاب منير؛ كتاب يحمل العلم والهدى، منير؛ واضح بيِّن، يكون كتاب من الله -تبارك وتعالى-، فهم إنما يحكمون بالظنون والتخاريف، لا علم لهم ويُجادلون في الله -سبحانه وتعالى-.

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ}، إذا قيل؛ لهؤلاء المُجادلين بغير علم، ولا هدى، ولا كتاب منير، اتَّبعوا ما أنزل الله؛ والذي أنزَله الله هو هذا الكتاب المنير، وهذا العلم، وهذا الذي قامت أدلته، {اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا}، أن ما عندهم جواب في رفض الطريق المستنير؛ ما أنزَلَه الله -تبارك وتعالى-، والكتاب المُستَبِين، إلا أن يقولوا لا؛ نتَّبِع ما وجدنا عليه آبائنا، قال -جل وعلا- {أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ}، مجرد أن يكون هذا الفعل قد سبَق إليه الآباء وفعلوه ليس علمًا، وليس هُدىً، ممكن أن يكونوا هؤلاء الآباء على ضلال؛ ضالين، فكيف يُتَّبَع الأب إذا كان في ضلال؟ لا يُتَّبَع الآباء إلا إذا كانوا على هدى، وعلى نور، وعلى بيان، قال -جل وعلا- {أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ}، يعني فيتَّبِعونه، هذه دعوة شيطان؛ الآباء كانوا على دين الشيطان الذي دعاهم إلى الشرك والكفر، فاتَّبَعوه وسار الآباء على هذا النحو، لا تتَّبِع الآباء لأن الآباء هم مُتَّبِعون للشيطان، فأنت إذا سرت وراء هؤلاء الآباء فأنت في النهاية تابع للشيطان، والشيطان إنما يدعوا مَن يدعوه إلى عذاب السعير، هذي خُطة الشيطان؛ خُطته من البداية، وعزمه من البداية على هذا الإنسان أن يُضِلَّه، وأن يأتي به إلى النار التي يعلم أنها مصيره، والتي لا يُريد أن يدخلها وحده؛ يريد أن يُدخِل ما يستطيع من ذرِّية آدم، وقد قال لله -تبارك وتعالى- {........ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا}[الإسراء:62] {قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا}[الإسراء:63] {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا}[الإسراء:64] {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ........}[الإسراء:65]، قال {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا}[الكهف:50]، فالشيطان عدو وهو  يدعوا حزبه ليكونوا من أصحاب السعير، فالله يقول لهؤلاء الذين قالوا بس إحنا نتَّبِع ما عليه آبائنا، قال -جل وعلا- {أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ}، آباؤكم كانوا تابعين للشيطان، مُلَّتهم وكفرهم وشركهم الذي كانوا فيه إنما هم كانوا فيه تبَع للشيطان، الشيطان قائدهم؛ فإذا كان الشيطان قد قاد آبائهم وأنتم سرتم خلف هؤلاء الآباء، فإنكم بالضرورة سائرون خلف الشيطان، وإلى أين؟ إلى عذاب السعير؛ العذاب المُشتعِل الذي لا يخبوا قط، بل يظل مُشتعِلًا إشتعالًا لا نهاية له.

نسأل الله -تبارك وتعالى- العفو والعافية، نقف هنا وصل الله وسلم على عبده ورسوله محمد.