الجمعة 29 ربيع الآخر 1446 . 1 نوفمبر 2024

الحلقة (503) - سورة لقمان 27-31

{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الفاتحة:2] {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}[الفاتحة:3] {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}[الفاتحة:4]، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله أصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}[لقمان:26] {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[لقمان:27] {مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ}[لقمان:28] {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}[لقمان:29] {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}[لقمان:30]، هذه مجموعة من الآيات يُبيِّن الله -تبارك وتعالى- فيها عظمته وكبريائه وصفاته الحسنى -سبحانه وتعالى-؛ ومعاني أسمائه، فيقول لهؤلاء المشركين {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}[لقمان:26]، لله؛ لا لغيره -سبحانه وتعالى-، ما في السماوات؛ كل ما في السماوات من عوالم ومن خلْق كلها لله -تبارك وتعالى-، والأرض؛ كل ما في الأرض من بشر، من يابسة، من ماء، من مخلوقات، كلها لله -تبارك وتعالى-، {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}، الغني؛ عن كل ما سواه، خلَق هذا الخلْق وهو مستغنٍ عنه،؛ هو يُقيمه وهو الذي يُدبِّر شأنه -سبحانه وتعالى-، وليس من خلْقه مُعينٌ له ومشارك له -سبحانه وتعالى-، فهو الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يُوَلد، وهو الحي القيوم -سبحانه وتعالى-؛ المُقيم لغيره، الغني بنفسه -سبحانه وتعالى- عمَّا سواه، فكل خلْقه -سبحانه وتعالى- مُحتاج إليه، وهو لا يحتاج إلى شيءٍ من خلقْه -سبحانه وتعالى-، وهو الغني الحميد؛ المحمود، المحمود؛ تحمَده كل مخلوقاته -سبحانه وتعالى- قالًا وحالًا، وهو الذي حَمِدَ نفسه -سبحانه وتعالى- بمحامد لا يبلغ أحدًا من خلقْه أن يحمد الله -تبارك وتعالى- كما حَمِدَ الله -تبارك وتعالى- نفسه وكما أثنى على نفسه، إذ لا يعلم الله على الحقيقة إلا الله -سبحانه وتعالى-، ولا يُحيط أحدٌ علمًا بالله -تبارك وتعالى-.

ثم بيَّن الله -تبارك وتعالى- مَثَل لتقريب معاني عِلمه -سبحانه وتعالى-، قال -جل وعلا- {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ}، لو تحوَّلت أشجار الأرض كلها إلى أقلام؛ بُريَّت هذه الأشجار وصنع منها أقلام، {وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ}، ليكون مِدادًا لتُكتَب بها، فتُكتَب بكل هذه الأقلام ويكون المِداد كل هذه البحار، بحر إذا نفذ يَمدُّه بحر إلى سبعة أبحر، قال -جل وعلا- {مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ}، تنفد هذه البحار، تنتهي هذه الأقلام، ولا تنفد كلمات الله -تبارك وتعالى-، فإن الله -تبارك وتعالى- قد أحاط عِلمه بكل شيء -سبحانه وتعالى-؛ قد أحاط بكل شيءٍ عِلمًا، ولا شك أن كل شيء من مخلوقات الله -تبارك وتعالى- ولو كان صغيرًا فإن تحته من العلوم والآثار شيء كبير جدًا، ولذلك نجد مثلًا أن البشر قد تخصص أحدهم في جزئية واحدة من جزئية الخلْق، فهذا الكائن الإنساني البشري؛ جسم الإنسان شيء واحد، ولكن فيه من الأجهزة المتعددة، وكل جهاز تحته من هذه العلوم ما لو أفنى واحد من البشر أو أكثر؛ مجموعة من البشر، أعمارهم كلها ليعرفوا كل ما حول هذا العضو فإنهم لا يستطيعون، فإنه قد يتخصص إنسان في العين ولكنه يُفني عمره ولا يصل إلى كل ما أودعه الله -تبارك وتعالى- من علوم وأسرار في هذا الحلْق، إنسان يتخصص في سِنٍ واحدة، في شعر، في الجلد، في البشرة، في القلب، في البنكرياس، في عضو من هذه الأعضاء ويُفني عمره، فكيف بسائر المخلوقات؟ كيف بما في السماوات وما في الأرض؟ فهذه كلها قد بناها الله -تبارك وتعالى- وصنعها بعِلمه -سبحانه وتعالى- وأحاط عِلمًا بها، وذخر كل جزئية من هذه الجزئيات بأسرار تحتها، من الأسرار والعلوم وتصنيف الخلْق ما يعلمه إلا خالقه -سبحانه وتعالى-، فالخلية الواحدة؛ خلية الإنسان، والإنسان فيه أكثر من ستين مليار خلية، في كل خلية من هذه الخلايا عالم كامل من العجائب ومن الأسرار ومن عظيم صنع الله -تبارك وتعالى- وخلْقه، فكيف يمكن أن تُحيط البحار لو كتَبَت عِلم الله -تبارك وتعالى- أن تكتُبَ هذا العلم؟ {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ........}[لقمان:27]، غالب، لا يغلبه شيء -سبحانه وتعالى-، حكيم؛ يضع كل أمرٍ في نِصابه.

ثم قال -جل وعلا- في سهولة الأمر عليه؛ سهول الخلْق عليه وإعادته، قال {مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ}[لقمان:28]، انظر إلى كل هذا الخلْق الذي خلقه الله -تبارك وتعالى-، منذ أن خلَق أبا البشرية؛ آدم -عليه السلام-، وإلى آخر أحد، كم من هذه الأجيال وكم من هذه الأعداد التي لا يُحصي عدَّها إلا الله -سبحانه وتعالى-، كم منها؟ كم، كم ...، هذه خلْقها كلها وبعثها كذلك عندما يُريد الله -تبارك وتعالى- كنفس واحدة؛ كما يخلْق نفس واحدة وكما يبعث نفسًا واحدة، فهي ليست بمُستصعبة على الله -تبارك وتعالى-، وذلك أن أمر الله -تبارك وتعالى- للشيء إذا أراد شيئًا أن يقول له كُن فيكون، فما في أمر بمستصعب على الله -تبارك وتعالى-، أن يكون هذا العدد الكبير من الناس يُثقِل الله -تبارك وتعالى- خلْقه؛ أو يُتعبه ويُكرثه، تعالى الله عن ذلك، وكذلك إذا أراد الله -تبارك وتعالى- أن يبعثه بعثه، كما قال الله في البعث {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ}[النازعات:13] {فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ}[النازعات:14]، زجرة واحدة؛ نفخة واحدة من الصور، فإذا كل هذا الخلْق بالساهرة، انظر كل هذه ملايين الملايين الملايين ...، الأعداد التي لا يُحصيها إلا الله -تبارك وتعالى-، اختلط بالأرض منهم، مَن احترق منهم، مَن أكلته الأسماك، ومنهم مَن نهشته الطير، ومنهم من توزَّعت ذرَّاتهم ولحومهم في أماكن شتَّى من الأرض، ثم اختلطت بعضها ببعض، وزلزلت الأرض زلزالها وكل هذا اختلط، ولكن في لمح البصر عندما يُريد الله -تبارك وتعالى- أن يبعث هذا الخلْق تلتئم كل ذرَّات مخلوق إلى بعضها البعض، وينبُت الناس كأنهم ينبُتون نباتًا واحدًا في وقت واحد، هذا أمر يخبر الله -تبارك وتعالى- بأنه ليس بمستصعب عليه، وأنه -سبحانه وتعالى- في مقدوره، وأنه مُيسَّر له -سبحانه وتعالى-.

{مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ ........}[لقمان:28]، بكل خلْقه، لكل خلْقه -سبحانه وتعالى-، بصير؛ بكل خلْقه -سبحانه وتعالى-، ليس في وقت من أوقاتهم وإنما في كل الأوقات وكل الأزمان، فلا يغيب شيء عن بصر الله -تبارك وتعالى-، ولا يغيب صوت عن سمْع الله -تبارك وتعالى-، في كل الأوقات وفي الأزمان أحصى الله -تبارك وتعالى- أعمال خلْقه، وأحصاهم عدًّا -سبحانه وتعالى-، ولا يغيب عنه ذرَّة من هذا الخلْق، وقد مضى في هذه السورة {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ}[لقمان:16]، في كل الأوقات، {........ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}[الأنعام:59]، فسبحان من أحصى خلْقه -سبحانه وتعالى- عددًا، ولم يغب عن سمعه وعن بصره شيء من أعمال خلْقه -سبحانه وتعالى-، مهما كانت هذه؛ أعمال إراية لعقلاء أو أعمال لا إرادية لجمادات وغيرها، فكل هذه الأعمال، كل هذه الحركات كل تحريكة، وكل تسكينة في هذا الوجود، إنما هي بسمع الله وبصره -سبحانه وتعالى-، {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ}.

ثم قال -جل وعلا- {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}[لقمان:29]، هنا يُرشِد الله -تبارك وتعالى- إلى آية من آياته -تبارك وتعالى-، نراها في كل يوم؛ في كل أربع وعشرين ساعة نراها مرتين، {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ}، الإيلاج؛ الإدخال، {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ}، نوعين من الإيلاج؛ إيلاج هذا في زمن هذا، الليل يدخل في زمن النهار، فإن كلًا منهم يأكل من الأخر صيفًا وشتاءً حسب الفصول، يمتد الليل فيأخذ وقت من النهار وهذا في الشتاء، ويمتد النهار في الصيف فيأكل من وقت الليل، فيولج الليل في النهار؛ يولج هذا في وقت هذا، النوع الثاني من الإيلاج؛ في المكان، هذا يدخل في مكان هذا، يكون الآن هذا مكان النهار، ثم إذا به الليل يأتي ويحتل مكانه، فهم في تعَاقُب على هذه الأرض على مدى اليوم والليلة، كلٌ يركض حول الأخر، فيولج الليل في النهار؛ يعني يولج الليل في مكان النهار والنهار في مكان الليل، {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى}، التسخير؛ التذليل، هذه الشمس العظيمة؛ بحجمها الهائل، بنيرانها المُتَّقِدة، بانفجاراتها الدائمة، بضوئها اللامع، بأسرارها التي لا يُحيط بها إلا الله -تبارك وتعالى-، هي كذلك مسخَّرة مذلَّلة؛ يعني أنها تسير بحسبان في نظام بديع أحكمه الله -تبارك وتعالى-، وضبطها على هذا النحو، وسخَّر الشمس والقمر كذلك؛ هذا كوكبنا الذي يتبع هذه الأرض، ويدور حولها مرة كل شهر عربي، هذا القمر كذلك سخَّره الله -تبارك وتعالى-، وقد علمنا من آثار تسخيره حولنا آثار عظيمة؛ فهو أهلَّة يعرف الناس مواقيتهم، ويعرفوا أوقات عباداتهم، كما قال -جل وعلا- {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ}، يعني أن الله -تبارك وتعالى- جعلها مواقيت للناس، وجعلها مواقيت للحج، الذي هو هذه العبادة العظيمة؛ التي شرعها الله -تبارك وتعالى- لعباده، وقد علمنا من هذا كذلك أنه له حركة عظيمة في الأرض؛ في تحريك الماء في هذه اليابسة، مدًّا؛ يمدُّ في جذب هذا الماء ناحية أن يكون القمر وجزرًا، وهذا المد والجزر يعمل عمل هائل جدًا في بحار هذه الأرض ومحيطاتها؛ من هذا التنظيف ومن هذه الحركة، أمور عظيمة جدًا من هذا الخلْق، تسخير؛ وهذا تسخير وتذليل، أين لنا كنَّا لنحرك مياه البحر مدًا وجزرًا حتى يتم مغسلة هذه الأرض، وتتم هذه الحركة في هذه المياه، ويتم بالمد والجزر من المنافع العظيمة، هذا أمر لا أحد من البشر له طوق أن يصنع شيئًا من هذا، الله -تبارك وتعالى- سخَّره لعباده في هذه الأرض.

{وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى}، كلٌّ؛ أي من الشمس والقمر، {يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى}، إلى أجل مُسمَّى ينتهي عنده هذا الجريان؛ وهو يوم القيامة، {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ}[التكوير:1] {وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ}[التكوير:2] {وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ}[التكوير:3] {وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ}[التكوير:4]، هذا الوقت الذي قد أذن الله -تبارك وتعالى- بأن ينتهي هذا، {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ}[الحاقة:13] {وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً}[الحاقة:14] {فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ}[الحاقة:15]، وهذا الوقت الذي يجتمع فيه الشمس والقمر وينفرط عِقد هذا النظام، {إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ}[الانفطار:1] {وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ}[الانفطار:2] {وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ}[الانفطار:3] {وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ}[الانفطار:4] {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ}[الانفطار:5]، كلٌّ يجري أجل؛ وقت مُحدَّد، مُسمَّى؛ معلوم، سمَّاه الله -تبارك وتعالى-؛ يعني حدَّده، وهذا تحديده عند الله -تبارك وتعالى-، لم يُطلِع الله -جل وعلا- أحدًا من خلْقه على هذا الميعاد، {وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}، هذا خطاب للبشر كلهم وللمُكذِّبين؛ أن الله بما تعملون خبير، يعني بكل ما بكل ما تعملونه -سبحانه وتعالى- خبير، الخبرة هي أدق العلم، يعني أن عملكم الذي يُظَن أنه يخفى وأنكم تصنعونه في الخفاء الله خبير به؛ يعني عليم به، عليم بأسراركم -سبحانه وتعالى-.

{ذَلِكَ}، بيان هذه الآيات من الله -تبارك وتعالى- {بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ}، الله -سبحانه وتعالى- بأسمائه، وصفاته، وأفعاله، هو الحق الثابت الذي لا يمكن أن يتغير ولا يتبدل؛ فهذا حقٌ ثابت، فالحق هو الثابت، والباطل هو الزائل، {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ}، هو الحق؛ هو إله العالمين، هو رب العالمين -سبحانه وتعالى-، هو العليم بخلْقه، هو الذي خلَق هذا الخلْق، فكل ما قاله الله -تبارك وتعالى- وبيَّنه من صفاته هو الحق، {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ}، وأن الذي يدعونه من دونه من آلهة باطل؛ كذب، فكل ما يُقال فيهم بأن لهم شركة مع الله -تبارك وتعالى- وأنهم آلهة مع الله -عز وجل- باطل، هذا كله كذب، فإدِّعاء الألوهية أو الربوبية للملائكة أو لبعض البشر؛ عيسى -عليه السلام-، أو الأنبياء، أو المرسلين، أو الصالحين، أو لبعض المخلوقات الدنيا أو العليا؛ العليا كالشمس، والقمر، والنجوم؛ وقد عُبدَت من دون الله، والدنيا كبعض الحيوانات؛ من الأبقار، والقرود، وغيرها ممَن عبَدَه من يعبده من الناس، كل هذا باطل، كل هذا كذب وزور وباطل، إدِّعاء الربوبية؛ من إدُّعيت له الربوبية، كفرعون الذي قال {........ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى}[النازعات:24]، أو الأُلوهية؛ كالآلهة التي قال فيها المشركون {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}، أو أن هناك مَن شارك الله -تبارك وتعالى- في خلْق شيئٍ من هذه المخلوقات، أو في إيجاد شيء، أو في التصريف في شيء، كل هذا باطل، {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ}، الباطل؛ بالألف واللام، الباطل الحق؛ كذب، وزور، وبُهتان، وإفك، وقول بالظنون، وكل هذا من الباطل.

{وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}، وأن الله هو العلي؛ على كل مخلوقاته -سبحانه وتعالى-، فهو المستوي فوق عرشه؛ وعرشه هو سقف مخلوقاته، هذه أرض، وسماوات طِباق، وكرسي، وعرش، الله -تبارك وتعالى- مستوٍ على عرشه، فهو العلي على كل مخلوقاته -سبحانه وتعالى-، العلي مكانًا ومكانة؛ فمكانة الله -تبارك وتعالى- فوق كل مخلوقاته -سبحانه وتعالى-، الله لا يُدانيه أحد، ولا يساويه أحد، ولا يُشابهه أحد، تعالى الله عن ذلك، بل كل خلْقه تحت قهره وتحت أمره، بأمره خُلِقوا، وبأمره الكوني القدري يسيرون فيما أقامهم الله -تبارك وتعالى- فيه، ولا أحد من خلْق الله -تبارك وتعالى- له أمر مع الله ولا فعل مع الله -تبارك وتعالى- من أفعال الله -تبارك وتعالى-؛ من الخلْق أو التدبير، بل كله تحت قهره وتحت أمره -سبحانه وتعالى-، فالله هو العلي على كل مخلوقاته -سبحانه وتعالى-، الكبير؛ الذي هو أكبر من كل مخلوقاته، كل مخلوقات الله -تبارك وتعالى- أصغر منه؛ والله هو الكبير -سبحانه وتعالى-، فهذه السماوات كلها والأرض كلها في كف الرحمن كخردلة في يد أحدكم، كما قال ابن عباس((ما السماوات السبع والأراضين إلا كخردلة في يد أحدك))، وهذا له حكم المرفوع، وهذا من معاني قول الله -تبارك وتعالى- {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ........}[الزمر:67]، كل هذه السماوات يطويها الله -تبارك وتعالى- ويأخذها بيمينه -جل وعلا-، {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}، سبحان؛ تنزيهًا له -سبحانه وتعالى- عما يشركون، فطويها بيمينه يعني أنها هي صغيرة حقيرة بالنسبة إلى الله -تبارك وتعالى-؛ العلي العظيم -سبحانه وتعالى-، {الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}، الله أكبر من كل مخلوقاته -سبحانه وتعالى-، وهو العلي فوقها -سبحانه وتعالى- فهو القاهر فوق عباده، فالله -سبحانه وتعالى- {وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}.

ثم قال -تبارك وتعالى- {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ}[لقمان:31]، هذي آية أخرى من آيات الله -تبارك وتعالى- يُذكِّر الله -تبارك وتعالى- بها عباده، ألم ترَ؛ قد علمتم، {أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ}، الفُلك؛ السفن، وهذه اللفظة تطلق على الجمع والمفرد، فالسفينة الواحد يقال فُلك والسفن فُلك، {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ}، بنعمة الله لأنه هو الذي خلَق البحر، وهو الذي سخَّره على هذا النحو، وهو الذي جعل هذا القانون؛ قانون الطفو هذا، أن هذه الأجسام المسطحة لها نظام مُعيَّن تطفوا على سطح الماء، جعل طفوها على هذا النحو ليمكن للإنسان أن يركب في هذه السفن، ويتحرك بها يَمنةً، ويَسرة، شمالًا، وجنوبًا؛ تحمله، فهذا تسخير البحر على هذا النحو وتيسيره إنما هو بالله -سبحانه وتعالى- وبأمره، {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ}، هذا من إنعام الله -تبارك وتعالى- وإفضاله على العباد، قال -جل وعلا- {لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ}، ليُريكم من آياته؛ البحر آية من آيات الله -تبارك وتعالى-، ووضع السفن عليه التي تحمل هذه الأحمال العظيمة، وبعضها يكون كالطود وكالجبل العظيم؛ يحمل كل هذه، ثم تجري في يُسر وسهولة على صفحة الماء هنا وهناك، هذا كله من آيات الله -تبارك وتعالى- وقدرته وعظيم شأنه -سبحانه وتعالى-؛ أن سخَّر لنا هذا التسخير.

{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ}، إن في ذلك لآيات؛ علامات ودلالات واضحات، أن الله -سبحانه وتعالى- هو الذي خلَق هذا، والذي أودَع فيه أسراره، والذي جعل فيه نظمه وقوانينه على هذا النحو، والذي جعل فيه هذا التيسير وهذه الرحمة للبشر، {لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ}، الصبَّار اللي هي كثير الصبر، والشكور؛ كثير الشكر، الصبر اللي هو حبس النفس على المكروه، وفي الانتقال في البحر والحَمْل هذا لا شك أنه يتعرض الإنسان في هذا إلى أنواع من الابتلاءات، وكذلك إلى تيسير الله -تبارك وتعالى- ورحمته، من الابتلاءات مثلًا في البحر هو وقت هيجانه، فإن البحر تأتيه أوقات يكون هادئ؛ ساكن، ويكن الانتقال فيه بسهولة عالية، وأحيانًا يغتلم ويصبح هائجًا مُغتلِمًا، فتضطرب أمواج، ويعلوا هذا الموج، ويضرب بعضه بعض، ويصبح الإنسان فيه في حالة الضرورة والاضطرار، وقد يتعرض إلى تحطيم سفينته وكسرها، فالبحر بحالتيه هذه، كذلك فالبحر عندما كان الإنسان يدفع سفنه بشراع يحتاج إلى الهواء الذي يدفع هذه السفينة، قد تأتي الريح مواتية وفي الجهة التي يُريدها الإنسان؛ فيكون انطلاق بسهولة ويُسر، وهذا يحتاج إلى شُكر المُنعِم -سبحانه وتعالى-، {رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ ........}[الإسراء:66]، يُزجيها؛ يُحرِّكها ويدفعها -سبحانه وتعالى- بالرياح، وأحيانًا تسكن الرياح فلا يوجد طاقة، فكان في هذا الوقت الذي لم يخترع الإنسان آلة لا وسيلة عنده ليدقع سفينته؛ فيضطر إلى أن يصبر، بعض الأوقات تسكن الريح شهر، شهرين، لها موسم مُعيَّن تسكن فيه ثم تتحوَّل بعد ذلك، فيضطر الناس إلى أن ينتظروا حتى تأتي الرياح من جديد، فمجيء الريح وسكونها وأن يكون الأمر مواتٍ والريح مواتية يحتاج إلى شُكر، وعندما تسكن إلى صبر، وكذلك قد تأتي الريح مواتية ورُخاء، وقد تأتي الريح قاصفة وعاصفة فتكون مصيبة، فعند هذا وهذا يحتاج العبد إلى أن يكون صبَّارًا شكورًا، فهذه نِعَم ولكن قد يتخلَّلها أحيانًا أنواع من الابتلاءات، فأخبر -سبحانه وتعالى- أنه فعل هذا ليصل الإنسان إلى حالتي الصبر والشكر، الصبر والشكر لأن ابتلاء الله -تبارك وتعالى- للعباد في هذه الدنيا بالخير والشر، {........ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}[الأنبياء:35]، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ}، في تسخير البحر على هذا النحو للعباد، آيات؛ علامات ودلالات واضحات، لك صبَّار على الابتلاءات والفتن، وشكور لنِعَم الله -تبارك وتعالى-، والعبد المؤمن ينبغي أن يكون على هذا النحو؛ يُحقِّق مقام الصبر ويُحقِّق مقام الشكر، مقام الصبر في وقت الشدة، ومقام الشكر في وقت الرخاء والنعمة.

ثم قال -جل وعلا- {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ}[لقمان:32]، {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ}، هذا في حال اغتلام البحر، وغشيهم؛ غطَّاهم، موج كالظُلل؛ كالظُلَّة يعني كالغطاء، يعلوا الموجة حتى يصبح بعد ذلك عندما تسقط الموجة تصبح كأنها غاشية وغطاء يُغطِّي السفينة بأكملها؛ وهذا أشر أنواع الأمواج، أشرها الذي يعلوا ثم بعد ذلك يصب الماء، فأحيانًا تكون السفينة تحت الموجة وتُغطيها الموجة، {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ}، هذا أشر أنواع الأمواج وأقواها، {دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}، عند ذلك كان المشركون يُخلِصون دينهم لله -تبارك وتعالى-؛ ولا يدعون إلا له، وينسون ما كانوا يشركون به ربهم -تبارك وتعالى- في البحر، {دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}، أي يدعونه ولا يدعون أحدًا، ويجعلون كل همُّهم وكل دعاؤهم إلى الله -تبارك وتعالى- وينسون ما يشركونه، الله -تبارك وتعالى- من صفاته -سبحانه وتعالى- أنه يُجيب المضطر إذا دعاه، كما قال -تبارك وتعالى- {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ ........}[النمل:62]، {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ}، يعني استجاب الله –تبارك وتعالى- دعائهم، وصرَف عنهم هذا الموج العظيم، ونجَّاهم من هذه الُّلجَّة المُدمِّرة، {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ}، وصلوا إلى اليابسة والبر واطمئنوا أنهم نجوا، الله يقول {فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ}، فمنهم؛ من هؤلاء الناس، مُقتصِد؛ مُقتصِد يعني أنه مُعتدِل، يعني أنه يقوم بأمر الله -تبارك وتعالى-، يشكر الله -تبارك وتعالى- على هذا الأمر، ويحمَده ويُثني عليه، ويبقى على دعائه لله -تبارك وتعالى-، ويتذكَر نعمة الله -جل وعلا- الذي أنقذه من المحنة التي كان فيها، ثم أخبر -سبحانه وتعالى- قال {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ}، هناك ناس أخرون من أهل الشرك وأهل المكر والخُبث، فإنه ما يكاد يصل إلى البر حتى ينسى ربه -تبارك وتعالى-، والختَّار هو كثير المكر والكيد، كفور؛ جاحد للنِعَم، فهذا جاحد للنِعَم ختَّار، فكأنه فعله؛ تذلُّله في وقت المحنة لله -تبارك وتعالى-، وهو لا يُريد أن يستقيم على أمر الله -تبارك وتعالى-، ولا يدعوه إلى في وقت الشدة فقط، فإذا ذهب ورجع إلى البر ونجَّاه الله -تبارك وتعالى- إذا به ينسى هذا الأمر، وكأنه من باب أن يظن أنه قد خدَع الله -تبارك وتعالى-، وقد دعاه في وقت الشدة ليُنجيه، ثم لمَّا أنجاه كأنه فاز بالأمر، وأنه كذَب على الله -تبارك وتعالى-، وانطلت حيلته على الله -تبارك وتعالى-، والحال لا شك أن هذا قد ضرَّ نفسه ولكنه يظن هذا؛ يظن أنه قد خدَع الرب -تبارك وتعالى-، والله لا يُخدَع.

نقف هنا وسنعود -إن شاء الله- إلى هذه الآية في الحلقة الآتية، استغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصل الله وسلم على عبده ورسوله محمد.