الجمعة 21 جمادى الأولى 1446 . 22 نوفمبر 2024

الحلقة (504) - سورة لقمان 32-33

{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الفاتحة:2] {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}[الفاتحة:3] {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}[الفاتحة:4]، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ}[لقمان:32] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ}[لقمان:33] {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}[لقمان:34]، يخبر -سبحانه وتعالى- عن إنعامه وإفضاله على عباده -سبحانه وتعالى-، وموقف بعض العباد من هذه النعم وهذا الإفضال، قال -جل وعلا- {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ ........}[لقمان:31]، الفلك؛ السفن، {تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ}، وهو الذي يسَّر للإنسان أن يصنع السفن وأن تجري في البحر بأمر الله -تبارك وتعالى-، فهذه ما يُسمى بقانون الطفو؛ طفوا هذه الأجسام المسطحة على ظهر هذه الأرض، وحَمل المياه لهذه الأثقال العظيمة التي توضع عليه وتسييرها، وجعل -تبارك وتعالى- الرياح لتحرِّك هذه السفن؛ يَمنَةً ويسرة، شمالًا وجنوبًا، كل هذا بأمر الله -تبارك وتعالى- ومشيئته وخلقْه، {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ}[لقمان:31]، وذلك ما يعتوِّر حركة الإنسان على البحر؛ ما يعتريه من مشقات أحيانً، من وقوف للريح أحيانًا، من تعرُّض أحيانًا لإغتلام البحر وغيره، فيصبر هنا؛ مقام الصبر في مقام الابتلاء، ومقام الشُكر في مقام الإنعام والإفضال.

قال -جل وعلا- عن الناس {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ}، غشيهم؛ غطَّاهم، موج كالظلل؛ هي الموجة التي ترتفع عاليًا ثم بعد ذلك يسقط الماء من فوقها، فتُغطِّي مَن تحتها كما تُغطِّي الظُلَّة مَن تحتها، فيُغطيهم الموج على هذا النحو؛ وهذا أخطر أنواع الموج، {دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}، توجهوا لله -تبارك وتعالى- بإخلاص في أن يدعوه وحده لا شريك له، {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ}، منهم مقتصد؛ يعني أنه يقوم بحق شكر الله -تبارك وتعالى-، ويذكُر هذه النعمة وهذا الإفضال لله -تبارك وتعالى-؛ أن أنجاهم من هذه المهلكة، ثم قال -جل وعلا- {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ}، لا يجحد بهذه الآيات؛ بنعمة ما سخَّره الله -تبارك وتعالى- من البحر، وبنعمة الإنجاء لهذا المضطر الذي دعى الله -تبارك وتعالى- في وقت الشدة فأنجاه الله -تبارك وتعالى-، إلا كل ختَّار؛ مكَّار، الختر؛ المكر، وهذا الذي يظن أنه قد خدع الله -تبارك وتعالى-، وأنه قد دعاه في وقت الشدة حتى يُخرجه، وأنه لمَّا أخرجه خلاص نسي هذا وترك هذا وكأنه خدَعَ الرب -تبارك وتعالى-، فهذا الختَّار الكفور يجحد بآيات الله -تبارك وتعالى-، ويظن بهذا أنه ذكاء عنده؛ يعني كأنه خدَعَ الرب -تبارك وتعالى-.

بعد هذا وجَّه الله -تبارك وتعالى- في آخر هذه السورة؛ سورة لقمان، دعوة إلى عباده -سبحانه وتعالى- بأن يتَّقوه، وأن يحذروا من ذلك اليوم العظيم الذي لا تملك نفس لنفس في هذا اليوم نفع ولو كان أقرب الأقربين، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ}، نداء من الله -تبارك وتعالى- إلى كل الناس؛ إلى كل خلْقه -سبحانه وتعالى- من البشر، اتقوا ربكم؛ خافوا ربكم -سبحانه وتعالى-، ربكم؛ سيدكم، وخالقكم، ومُربِّيكم، وموجدكم -سبحانه وتعالى-، فمعاني الربوبية هي السيادة؛ فهو السيد -سبحانه وتعالى-، الذي بيده أمر العباد -جل وعلا-، وهو خالقهم -سبحانه وتعالى-، وهو مُدبِّرهم؛ متولي شئونهم -جل وعلا-، اتقوه؛ خافوه، ولا يكون الإنسان مُتَّقيًا لله -تبارك وتعالى- إلا بالإيمان به وتنفيذ أمره -جل وعلا-، فيأتمر بأمره وينتهي عن نهيه -سبحانه وتعالى-، وذلك أن الله -تبارك وتعالى- يؤاخذ بالذنب ويُعاقِب به، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ}، اجعلوا وقاية بينكم وبين عذاب ربكم -سبحانه وتعالى-، واتقوه؛ خافوه، لأني اتَّقيت الأمر بمعنى جعلت بين وبينَه حماية، يعني اجعلوا بينكم وبين غضب الله -تبارك وتعالى- وبين عذاب الله حماية، احموا أنفسكم من غضب ربكم -سبحانه وتعالى- ومن عقوبته -جل وعلا-، {اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا}، الخشية؛ عظيم الخوف والتعظيم، اخشوا يومًا؛ هذا اليوم قال -جل وعلا- وصفه هنا قال {لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ}، لا يستطيع والد أن يجزي عن ولده شيئًا، ومعنى يجزي عنه؛ يعني يُفيده، ينفعه، يقوم في الشر مقامه، يحمل عنه الشر أو يُعطيه شيء من الخير، لا يجزيه؛ لا بأن ينفعه، ولا بأن يرفع عنه شيء من الضُّر، {لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ}، مهما كان هذا الولد حبيب إلى قلب أبيه لكن خلاص؛ ما أحد هناك في هذا اليوم يحمل همَّ أخر، ولا يُعطيه من حسناته، ولا يحمل عنه من سيئاته، {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ}[المدثر:38]، {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}، فكل إنسان سيتحمَّل همَّه ووزره بنفسه.

{وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا}، كذلك المولود لا يستطيع أن يجزي عن والده؛ عن أمه، عن أبيه شيء، بل الكل يقول نفسي نفسي، فأحب الناس إليه؛ لو أمه، لو أبيه، كما قال -جل وعلا- {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ}[عبس:34] {وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ}[عبس:35] {وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ}[عبس:36] {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ}[عبس:37]، فكل إنسان في هذا اليوم العصيب مُهتم بشأن نفسه فقط ولا يفكر في هموم الأخرين، لأن عنده من الهم والغم والحِمل ما ينوء به؛ فهو لا يفكر في الأخرين، {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ}[عبس:37]، {لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ}، يخبر -سبحانه وتعالى- الله يقول اتَّقول ربكم واخشوا هذا اليوم واعلموا أن وعد الله حق، وعْد الله -تبارك وتعالى-؛ وعْده بأن يكون هذا اليوم، وأن تُجزى كل نفس بما كسبت، وأن يتحمَّل كل إنسان نتيجة عمله؛ فأهل الخير يأخذون جزائهم، وأهل الشر ينالون عقابهم، هذا أمر ما وعَدَ الله -تبارك وتعالى- به العباد في هذا حق؛ يعني ثابت، لا يمكن أن يتغيَّر ولا يتبدَّل، لا يُبدِّل الله -تبارك وتعالى- قوله -سبحانه وتعالى-، ولا يغيِّر وعْده وعهده -جل وعلا-، {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ}، أي قدِّروا هذا؛ واعلموا أن هذا اليوم حق، هذا اليوم الذي يُخيفكم الله -تبارك وتعالى- منه، ويقول لكم اتَّقوه هذا حق لابد أن يكون، لا مجال لأن يصرفه الله -تبارك وتعالى-، لا يُصرَف والله -تبارك وتعالى- لا يسقط كلامه، وإذا قال لابد أن ينفذ أمره -سبحانه وتعالى-.

قال -جل وعلا- {فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا}، إذا كان الأمر على هذا النحو، ويخبركم الله على هذا النحو، فلا تغرنَّكم الحياة الدنيا، الحياة الدنيا هي هذه الحياة، سُمِّيت الدنيا لأنها هي القريبة، وكذلك هي الدنيئة بالنسبة إلى الآخرة، وتغرنَّكم أي تلتهوا بها، تلتهوا بها، وتلجأوا إليها، وتأخذ وقتكم وجهدكم ولبَّكم وهمَّكم، فتنشغلوا بها انشغالًا يقطعكم عن هذا اليوم، ولا تجعلكم تفكرون فيه وفي هذا المآل، فتنقطعون بهذه الدنيا عن الآخرة؛ وهذا هو التغرير، التغرير هو أن يتلهى الإنسان بالشيء التافه الحقير عن الشيء العظيم، يتلهى بمتعة قليلة وورائه عذاب عظيم جدًا، هذا مُغرَّر به، ونسمِّي الطفل غرير لأنه ممكن أن يُخدَع، بشيء من القول يخدعه مَن هو أكبر منه ومَن هو أعلم منه، فالدنيا تخدعكم؛ تركنون إليها، وتستجيبون لشهواتها، وتنشغلون بمباهجها وملذَّاتها، وتركنون إلى هذا الأمر، وتنسون أن هناك يومًا عظيمًا، {........ يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ}[لقمان:33]، {وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ}، الغرور؛ الشيطان، وهنا الغرور فعول؛ من كثرة تغريره، فإن هذا عمله وشغله، هذا عمل الشيطان وشغله في التغرير وفي الإيقاع بابن آدم ليصل به إلى النار، ويغرُّه بالله بمعنى أنه يخبر هذا الإنسان عن الله -تبارك وتعالى- أخبار غير حقيقية؛ غير صحيحة، فيخبره مثلًا أن الله -تبارك وتعالى- يُمكن ما يكون هناك يوم قيامة، لا يستطيع الرب -تبارك وتعالى- أن يُعيد الأجساد مرة ثانية، هذا كله من وحي الشيطان لهؤلاء المشركين، يمكن أنه كيف يُحطِّم هذا الكون العظيم الذي فعله؟ يقول له كيف يقوم الله بتحطيم هذا الكون مرة ثانية؟ كما يعتقده كثير من هؤلاء الذين غرَّهم الشيطان، إن كان فيه يوم قيامة لا شك أن أحوال الناس ستكون كما كانت هي أحوالهم في هذه الدنيا، فالذي آتاه الله مال وأعطاه غنى وأعطاه نحو ذلك سيُعطيه كذلك في الآخرة، كما كان يقول مَن يقول من الكفار، وما يقوله مَن بعدهم إلى يومنا هذا، {وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى}، تغرير بعض أهل الإيمان كذلك؛ يكون مؤمن بالله لكنه يُغرَّر بأن الله -تبارك وتعالى- سيدخله الجنة ولو لم يعمل، ولو لم يؤمن بالله حق الإيمان، ولو وقع منه كفرٌ بالله -تبارك وتعالى- وصدٌ عن سبيله، كل ما أعطاه الشيطان من كذب على الله -تبارك وتعالى- إنما هو التغرير ببني آدم.

من تغريره كذلك أن يوهِم مَن أوهمهم من الناس أنه يشفع عند الله -تبارك وتعالى-؛ فالملائكة يشفعون، والرسل يشفعون، تغريره بالذين تعلَّقوا بعيسى ابن مريم -عليه السلام-، وعبدوه من دون الرب -تبارك وتعالى-، وأنه منجِّيهم، وأنه مُدخِلهم ملكوت الرب -تبارك وتعالى- بمجرد أن يؤمنوا بأنه قد كان هو المُخلِّص، أنه هو الذي أنزَله أبوه في زعمهم ليُصلَب في الأرض ويتحمَّل عن البشر كل خطيئاتهم، فكل الخطايا التي أخطأوها يتحمَّلها عنهم وبالتالي لا إثم عليهم في ذلك، وأنه لمجرد الإيمان بأنه مُخلِّص فإنه يحمل عنهم خطاياهم ويُدخِلهم ملكوت الرب –جل وعلا-، كل هذا من التغرير؛ كل هذا من التغرير الذي غرَّر به الشيطان أوليائه، فالذين وقعوا في الشرك، ووقعوا في الكفر، وأنكروا البعث، كلهم إنما كان من وراء ذلك الشيطان؛ الذي غرَّرهم وأدخلهم في هذه العقائد الباطلة، وأخبرهم عن الله -تبارك وتعالى- أخبارًا كاذبة؛ فأضلَّهم بهذا، وجعلهم لا يُقدِّرون الله -تبارك وتعالى- حق قدره، ولا يعلمون أن الله -تبارك وتعالى- هو الذي أرسل رسله، وأنزَل كتبه، وأن له صراط مستقيم في هذه الدنيا، وأنه له شِرعة وله منهاج، وأنه يأمر -سبحانه وتعالى-؛ يأمر ليُطاع، {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ}، يؤاخذ بالذنب ويُعاقِب به، وأن من أتى الله -تبارك وتعالى- كافرًا فإن له جههم لا يموت فيها ولا يحيى؛ هذا وعيده، وأنه لن يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، وأن هذه النفس المؤمنة لابد أن تؤمن بالإيمان كما وضَّحَه الله -تبارك وتعالى- وكما أنزَله الله -تبارك وتعالى-، كما أخبر الله عن نفسه وأخبر عن غيبه -جل وعلا-، {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ ........}[الشورى:13]، {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ}، فهذا دين الله؛ الشيطان أضلَّ الناس عن هذا، أضلَّ الناس عن هذا وصرفهم عن طريق الرب -سبحانه وتعالى-، وأعطاهم الأخبار الكاذبة والعلوم الكاذبة ليفتروا على الله -تبارك وتعالى-، ويتصوَّروا ويتخيَّلوا الرب -تبارك وتعالى- على غير حقيقته -سبحانه وتعالى-؛ وعلى غير صفاته، وبالتالي ذهبوا يَمنةً ويَسرة وفرَّطوا في أمرهم، وفرَّطوا في جنب الله -تبارك وتعالى-، وفرَّطوا في ذلك اليوم الذي ينتظرهم؛ يحاسبهم الله -تبارك وتعالى- عليه، فالله يُحذِّر عباده، يقول لهم {فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا}، فتنشغلوا بها وتركنوا إليها وتنسوا الآخرة، {وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ}، الشيطان الكذوب؛ الذي يكذب على الله -تبارك وتعالى-، وقد غرَّر كل من تَبِعَه في هذا السبيل؛ فنشر فيهم الشرك، والكفر، ونسيان يوم القيامة، ووصف الله -تبارك وتعالى- بما لم يتصف به، وبالتالي بظنونهم هذه وباعتقاداتهم الباطلة في الله -تبارك وتعالى- كان مسلكهم السيء؛ الذي أبعدهم عن طريق الرب -جل وعلا-، {وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ}.

ثم قال -جل وعلا- {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ}، اعلموا هذا عن الله -تبارك وتعالى-؛ هذا العلم الحقيقي بالله، أولًا {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ}، إذن في ساعة؛ وهو يوم قيامة، والله -تبارك وتعالى- وحده هو الذي عنده علم بها، فإذن هذا رد على تغرير الشيطان؛ فاعلموا هذا، هذا من اليقين الذي يجب أن يؤمَن به؛ أن الله -تبارك وتعالى- حق، وأن علم الساعة عنده، وعنده وليس عند غيره من كل خلْقه، فإن الله -تبارك وتعالى- أخفى يوم الساعة؛ الساعة التي تقوم فيها الساعة، أخفاها عن كل خلْقه -سبحانه وتعالى-، ولم يُطلع عليها؛ لا ملك من ملائكته، ولا رسول من رسله، ولا نبي من أنبيائه، ولا ولي من أوليائه، بأي صورة من صور الإعلام؛ بوحي، بإلهام، برؤية، بحساب، بأي صورة من صور العلم، فإن الله -تبارك وتعالى- قد جعل علم الساعة عنده -سبحانه وتعالى- لا عند غيره، فالله يُحذِّر عباده ويقول لهم اعلموا أن الله عنده علم الساعة، إذن في يوم قيامة وهذا علمه عند الله -تبارك وتعالى-، ولا يمكن الله -تبارك وتعالى- أن يكشفها ولن يُجلِّيها لوقتها إلا هو، وأنه لن يُخبر به ولا قبل ثانية من وقوعها أحد، بل الملَك الذي ينفخ في الصور ليكون انفراط هذا الكون المتناسق؛ الذي ترتبط جزئياته كلها بعضها ببعض، بهذا النظام البديع؛ الشموس، والنجوم، وهذه المجرات، وهذا الأقمار، وهذا الأرض، انفراط هذا العِقد الذي يكون بنفخة واحدة من ملَك؛ هذا الملَك لا يعلم الوقت الذي يقوم به، ولا يخبره الله -تبارك وتعالى- قبل هذا ولا بثانية، ولا بأنه يوم أو يومين يقول له اعلم أنه سآمرك بأن تنفخ في الصور في الوقت الفلاني... لا، {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً ........}[الأعراف:187]، لا تأتيكم أيها الناس إلى بغتة؛ تبهت الناس، لأنهم يرون أن الأمر هذا وإن كان كل شيء على سكونه وعلى نظامه؛ الشمس في مكانها، الأرض في مكانها، الكواكب في مكانها، ثم فجأة يجدون أن هذا الأمر كله ينفرط في غمضة عين، في لحظة واحد ينفرط فيصعقون؛ ينفرط هذا العِقد، فهذا كله علم هذا عند الله -تبارك وتعالى-.

فالله يُحذِّر عباده أن الساعة حق، وأن علمها عند الله -تبارك وتعالى-، وأنها لديه وحده وليس عند أحدٍ من خلْقه، {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ}، هذا كذلك من علم الغيب الذي استأثر الله -تبارك وتعالى- به، الله يُنزِّل الغيث؛ من صفاته -جل وعلا-، والغيث هو المطر، سُمي غيث لأنه يُغيث الناس، الناس يستجيرون؛ يطلبون ربهم -سبحانه وتعالى- فيُغيثهم، إغاثة الله -تبارك وتعالى- عباده بالمطر، وفي هذا آية من آيات الله -تبارك وتعالى-، وإنزال الغيث أولًا من حيث العلم بوقته كذلك لله -تبارك وتعالى-، فإن الله هو الذي يُنشئه، {أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ}، فإنشاء هذا الأمر؛ إثارة الرياح للسُحُب، حملها إلى طبقات الجو، توزيعها في جنبات الأرض، التأليف بين هذه السُحُب، إنزال المطر بعد ذلك، كله إلى الله -تبارك وتعالى-؛ فعله وتيسيره، كذلك وقت مجيء المطر لا يعلمه إلا الله -تبارك وتعالى-، فلا يعلم وقت مجيء المطر على الحقيقة إلا الله -تبارك وتعالى-، الله جعل أمور قد تكون مُعتادة؛ من أنه هذا مطر دائم في هذا المكان طول العام، هذا مطر في الصيف، هذا مطر في الشتاء، هذا مطر في الخريف، فوزَّع هذا أمر معتاد، لكنه جعل الوقت الذي يأتي فيه المطر في هذه الأوقات عند الله -تبارك وتعالى-، كذلك قد يأتي قحط وقد يأتي سنة من سنوات الخِصب وسنة من سنوات القحط، هذا كله إلى الله -تبارك وتعالى-، علمه وتقديره وتيسيره إلى الله -تبارك وتعالى-، ولا يعلم متى يأتي الغيث على الحقيقة عندما ينقطع المطر ويلجأ الناس إلى ربهم؛ لا يعلم الوقت الذي يأتي فيه الغيث إلا الله.

{وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ}، أيضًا مما إختص الله -تبارك وتعالى- به نفسه -سبحانه وتعالى-، وهذا من علمه -سبحانه وتعالى-؛ أنه يعلم ما في الأرحام، الأرحام جمع الرحم، والرحم هو منبت الولد، وسُمي هذا العضو بالرحم؛ اللي هو منبت الولد، الذي يكون فيه تكوُّن الجنين بالرحم؛ أن الله -تبارك وتعالى- إشتق هذا الإسم من الرحمة، رحم حتى يُذكِّر العباد أن كل من يشتركون في رحم واحدة يجب أن يتراحم بعضهم مع بعض، فالولد يجب أن يرحم أمه، أن تكون هناك رحمة لأنه نشأ في رحمها؛ في هذا العضو الذي سمَّاه الله -تبارك وتعالى- بالرحم، كما جاء في الحديث «أنا الرحمن، خلقت الرحم، وشققت لها إسمًا من إسمي»، فشقَّ الله -تبارك وتعالى- لها إسم من إسم الله -تبارك وتعالى-، «فمَن وصلها وصلته، ومَن قطعها قطعته»، كذلك الإخوة الذين يلتقون في هذا، كذلك كل من يلتقوا حول رحم واحدة؛ أُمِروا بأن يرحم بعضهم بعضًا، فالعلم الذي في الأرحام أمور كثيرة؛ هذا في الأرحام، أولًا من حياة أو موت؛ الجنين حي أو ميت، سيكون تامًا أو خِداجًا، سيمكث المدة التي جعلها الله مُعتادة في الحمل بالنسبة لأنثى الإنسان؛ تسعة أشهر، أم أنه يدفعه الرحم قبل ذلك، هل سيولد حيًا أو يولد ميتًا؟ هل سيكون ذكرًا أم أنثى؟ هل سيكون صالح أو غير صالح؟ كما جاء في الحديث «إذا مر على النطفة في الرحم أربعون يومًا أتاها ملَك»، ملَك وكَّله الله -تبارك وتعالى- بالأرحام، «فيقول أي ربي ذكر أم أنثى؟»، فالملَلك ما كان يعلم؛ الذي هو موكَّل بهذه الأرحام، «ما عمله؟ ما أجله؟ شقي أو سعيد؟»، أربعة أمور من مقادير هذا المخلوق ومن صفته تُكتَب في هذا اليوم؛ يُكتَب في هذا، هذا كتابة بعد كتابة؛ المقادير، فكونه ذكر أو أنثى، وعمله عمل صالح ولا فاسد، وأجله؛ ما الأجل الذي سيموت فيه، ما رزقه الذي سيرزقه؛ مجموع هذا الرزق، فهذي أربعة فيُكتَب هذا، فيقول النبي -صل الله عليه وسلم- «فوالذي نفس محمدٍ بيده إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدوا للناس وهو من أهل النار، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار فيما يبدوا للناس وهو من أهل الجنة»، وذلك هذا مكتوب؛ مكتوب من هذا اليوم أنه شقي أو سعيد.

{اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ ........}[الرعد:8]، تغيض؛ الغيض هو النقص، وما تزداد؛ يعني عن الوقت، فقد يتأخر الوضع إلى أيام أو أكثر ، أسابيع، بعد الوقت الافتراضي والمعتاد للحمل، وقد ينقص عن ذلك، كل هذا العلم بما في الأرحام لله -تبارك وتعالى-، هذا من علم الله -تبارك وتعالى-، ولا يعلم الخلْق من هذا إلا ما يُعلِمه الله -تبارك وتعالى-، فالملك لا يعلم حقيقة هذا إلا إذا أعلمه الله -تبارك وتعالى-، والبشر لا يعلمون من هذا إلا ما يُطلِعهم الله -تبارك وتعالى-، كأن يصبح الأمر حسِّي ظاهر؛ فقبل أن تتشكل هذه المُضغة وتصبح جنين، ويبدأ هذا الجنين بتشكُّل أطرافه، عند ذلك يعلمون؛ ممكن يعلمون الآن بأجهزتهم التي تنقل لهم صورة هذا الجنين أنه كامل الخلْق ولا ناقص الخلْق، فقد يرونه بلا رأس، بلا أطراف، أو يرونه كامل، وقد تنقل لهم الصورة هل هو ذكر أم أنثى؛ خلاص هنا أصبح معلوم، أصبح معلوم والبشر الآن يستطيعون أن يصوِّروه، إذا كان مثلًا قبل الأجهزة التي تنقل الصورة فربما البشر ما يستطيعون الرؤية؛ يصبح هذا من الغيب الإضافي، في غيب إضافي وفي غيب لا يعلمه إلا الله -تبارك وتعالى-، الغيب الإضافي هو أن يكون الشيء في مكان موجود ولكنه غائب، مَن عند هذا الشيء يراه؛ فهو بالنسبة إليه شهادة، ومَن هو غائب عنه فهو غيب بالنسبة إليه، مثل الإنسان والإنسان الأخر؛ فما في صدر إنسان بالنسبة إلى الإنسان الأخر غيب، وما في جيبه كذلك غيب، عِلمًا أنه موجود؛ هو من الأمور الموجودة، لكن هذا غيب إضافي، ما وراء هذا الجدار لا أعلمه، لكن يعلمه مَن هو مُشاهِد له، وكذلك البعيد عني لا يعلم ما عندي وأنا أعلم ما عندي وما حولي؛ فهذا الغيب الإضافي، وهناك غيب استأثر الله -تبارك وتعالى- به؛ لا يعلمه إلا هو -سبحانه وتعالى-، ما يعلمه أحدًا من الخلْق، فهذه الأمر هي من مفاتيح الغيب الخمس التي لا يعلَمَهُنَّ إلى الله -سبحانه وتعالى-، فعلم الساعة لا يعلمه إلا الله -تبارك وتعالى-، ما في الأرحام قبل أن يكون فيها بالصورة والحِس هذا لا يعلمه إلا الرب -تبارك وتعالى-، إذا أصبح شيء موجود يصبح من الغيب الإضافي، يصبح من الغيب الإضافي كأن يكون الجنين موجود في بطن أمه، فإذا كان لا وسيلة لمعرفة ما بداخل الرحم فيصبح هذا من الغيب الإضافي، إذا أمكن الإنسان بآلة تشاهد الداخل؛ فتعرف هو أنه ناقص أم كامل، خلاص لا يصبح من الغيب؛ يصبح من الشهادة، يتحوَّل من كونه كان غائبًا عن الإنسان، مُغلَّف بهذه الأغلفة التي هو فيها؛ بالمشيمة، وبالرحم، وبجدار البطن، فهذا غيب إضافي وصلنا بآلة إلى أن نعرفه؛ هنا أصبح من الشهادة.

فكون هذا من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله -تبارك وتعالى- قبل الخلْق، فالمُضغة قبل أن يخلُقها الله -تبارك وتعالى- ويُشكِّلها لتكون ذكر أو أنثى، أو تكون صحة أو خِداش، هذا أمره إلى الله -تبارك وتعالى-، والملَك الذي يُشكِّل هذا والموكَّل بالأرحام لا يدري ماذا سيكون، هل هذا ذكر أم أنثى؟ ما عمره؟ ما أجله؟ ما رزقه؟ كل هذا من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله -تبارك وتعالى-، فهذه المسألة الثانية من مسائل الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، على كل حال سنعود إلى هذه الآية مرة ثانية -إن شاء الله-، استغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصل الله وسلم على عبده ورسوله محمد.