الجمعة 29 ربيع الآخر 1446 . 1 نوفمبر 2024

الحلقة (505) - سورة لقمان 33-34

{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الفاتحة:2] {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}[الفاتحة:3] {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}[الفاتحة:4]، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحاب ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- في ختام سورة لقمان {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ}[لقمان:33] {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}[لقمان:34]، هذه موعظة عظيمة من مواعظ القرآن، بدأ الله -تبارك وتعالى- بتوجيه هذه الموعظة إلى كل الناس، نداء من الله -تبارك وتعالى- إلى الناس جميعًا، وقد أرسل الله -تبارك وتعالى- عبده ورسوله محمد -صل الله عليه وسلم- بهذا القرآن للناس كلهم، {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا}[الفرقان:1]، فقول الله {يَا أَيُّهَا النَّاسُ}، نداء إلى كل مَن في الأرض؛ من وقت النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه- إلى آخر نسمة تكون في هذه الأرض، نداء ودعاء من الله -تبارك وتعالى- إلى الناس {يَا أَيُّهَا النَّاسُ}، اتَّقوا ربكم؛ خافوه، التقوى هي المُحازرة، اتَّقيت هذا الأمر بمعنى حاذرته، وأخذت الحماية لنفسي منه، كما تقول اتَّقيت المطر مثلًا بمظلتي أو البر بمعطفي، واتَّقوا الله؛ يعني إحذروه -سبحانه وتعالى-، إتخذوا لكم وقاية وحماية تحميكم من عقوبته، وذلك أنه الرب الملك الذي بيده كل شيء، والذي يأمر ليُطاع، ويؤاخذ بالمعصية ويُعاقِب عليها، وليس هناك من يُعاقِب كما يُعاقِب الله -تبارك وتعالى-؛ فعقابه أليم وأخذه شديد، فالله -تبارك وتعالى- يأمر عباده جميعًا أن يتَّقوه؛ وهذه أكبر المواعظ، أكبر موعظة أن يأمر الله -تبارك وتعالى- عباده بخشيته، والخوف منه، وتقواه، وأن عذابه عذاب أليم –سبحانه وتعالى-، {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}[الحجر:49] {وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ}[الحجر:50].

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ}، ربكم؛ خالقكم، رازقكم، متولي شئونكم، هو الذي أوجدكم من العدم، هو الذي لا سيد لكم غيره -سبحانه وتعالى- فهو ربكم، {وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ}، هذا يوم الله؛ يوم القيامة، اخشوا؛ عظِّموا هذا الأمر، الخشية؛ خوف وتعظيم، عظِّموا أمر هذا اليوم، {وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا}، وهذا أصعب أمر؛ أن يكون الناس في غمٍّ وهمٍّ وكُربة، لا ينشغل الإنسان ولا يهتم في هذا اليوم إلا بنفسه وينسى أعز المقرَّبين وأقرب المقرَّبين إليه، فالوالد لا يستطيع أن يدفع عن أبنائه شيء، ولا يُجزي عنهم؛ لا بدفع مضرَّة ولا بجلب منفعة، فما يُجزي شيء، {لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا}، والمولود كذلك؛ اللي هو الابن، لا يستطيع أن يجزي عن والده شيئًا، وهذا المولود يدخل طبعًا فيه الذكر والأنثى؛ فالولد كل ما يولد، كل ما وُلِدَ لك فهو ولد؛ فالأنثى والذكر ولد، فلا يستطيع والد أن يجزي عن ولده شيء ولا مولودٌ هو جازٍ عن والده شيئًا، وذلك أن كل واحدٍ في هذا الوقت لا همَّ له إلا نفسه، {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ}[عبس:37]، {........ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ}[المعارج:11] {وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ}[المعارج:12] {وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ}[المعارج:13] {وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ}[المعارج:14]، فهذا حال المجرم؛ يود أن يُدخِل النار كل مَن حوله من أقرب المقرَّبين إليه أن يُقدمهم إلى النار وينجوا هو، أمَّا كل إنسان فإنه يفر من عزيزه، كل عزيز يفر من عزيزه، {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ}[عبس:34] {وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ}[عبس:35] {وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ}[عبس:36] {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ}[عبس:37]، كل رجل وكل إنسان في هذا الوقت، كل أمرئ في هذا اليوم له شأن يُغنيه عن غيره؛ فلا ينظر إلى غيره.

{وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا}، من هول هذا اليوم، وتهاويله العظيمة، ومصاعبه الجمَّة، وأن كل إنسان يبقى معلَّق بنفسه فقط، {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ}، تأكيد من الله -تبارك وتعالى- أن وعد الله بقيام هذا اليوم حق، وقد وَعَدَ الله -تبارك وتعالى- عباده بهذا اليوم وأنه قائم لا محالة، وأقسم الله -تبارك وتعالى- على هذا الأمر، {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ}[يونس:53]، يقول الله {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ}، أجمعين، {........ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا}[مريم:68] {ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا}[مريم:69] {ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا}[مريم:70]، فهذا يوم لابد أن يكون؛ وعَدَ الله -تبارك وتعالى- به عباده، وأن هذا اليوم حق ولابد أن يُقيمه الله -تبارك وتعالى- لتُجزى كل نفس بما تسعى، ليأخذ كل إنسان جزائه، فالله يقول {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا}، التغرير هو أن تشغلكم؛ تتلهوا بها، هو التلهِّي وترك الأمر العظيم انشغالًا بالأمر الحقير، فهذا من الغرور والتغرير؛ أن يأخذ الإنسان الشيء الحقير ويترك الأمر العظيم، أن يكون ورائه خطر هائل جدًا ثم ينشغل بمنفعة تافهة؛ هذا من الغرور، {فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا}، أي فتنشغلوا بها، وتركنوا إليها، وتأخذ همَّكم وكل عزمكم وقلوبكم وعملكم، وتفرحوا بما فيها وتنسوا هذا اليوم؛ يكون هذا غرور، {فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ}، لا يُغرِّركم بالله الشيطان، الغرور هو الشيطان، وهذا عمله وصناعته مع الإنسان؛ أنه يُغرِّر به، يكذب عليه، يضلِّله، يوهمه بالكذب والزور والبُهتان، كما قال الله -تبارك وتعالى- في شأن وسوسته لآدم قال {فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ}، فدلَّاهما؛ يعني أنزلهما من طاعة الله -تبارك وتعالى- إلى معصيته بأن أكلا من الشجرة، بغرور؛ غرور كذب، {......... قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى}[طه:120]، تغرير، يقول له أنا أدلُّك على شجرة إذا أكلت منها أصبحت من الخالدين؛ لا تموت، ومُلك لا يبْلى، قال -جل وعلا- {فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ}، كان كل هذا كذب؛ كذَبَهما، وقاسمهما بالله؛ حلف لهما بالله {........ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ}[الأعراف:21].

فالشيطان يُغرِّر، ويُغرِّر الناس بالله، بأن يوهمهم مثل هذه مقالات الكفار، أولًا بأن الله لن يُقيم هذا اليوم، إمَّا لعجزه عن إحياء الموتى كما يقول لهم وكما كان هذا اعتقاد المشركين، فإن الله -تبارك وتعالى- عندهم يعْجَز أن يُحيي هذه الأجساد مرة ثانية؛ فيُغرِّرهم بالله -تبارك وتعالى-، ومع إيمانهم بأنه هو رب العالمين، وخالق الأرض، وملكهم، والمتصرِّف فيهم، إلا أنهم يعتقدون أنه لا يمكن أن يُعيد هذه الأجساد، {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ}[الصافات:16] {أَوَآبَاؤُنَا الأَوَّلُونَ}[الصافات:17]، هذا أمر يستبعدونه مع تصديقهم وإيمانهم بأن الله -تبارك وتعالى- خالقهم وخالق السماوات والأرض؛ وهذا من تناقضهم، فالشيطان جرَّهم لهذا وغرَّهم بالله -تبارك وتعالى- أنه لا يبعثهم مرة ثانية، أو أنه إذا بعثهم فإنهم سيكونون من أهل النعمة، كما أنعم عليهم في الدنيا فسيُنعِم عليهم في الآخرة، {وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى}، مقالة الكافر؛ فكان يقول {وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً}، الساعة ما أظن أن تقوم، {وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى}، قال -جل وعلا- {فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ}، فهذا من تغرير الشيطان بالناس، كذلك من تغريره بهم كل هذه العقائد الباطلة التي غرَّرهم بها، بشفاعة من يشفعهم؛ علَّقهم بشفاعات موهومة كاذبة؛ لا تنفع عند الله -تبارك وتعالى-، يقولك شفاعة الملائكة، علَّقهم ببشر؛ أن لهم حظوة عند الله ومكانة، يُدخلون الجنة، يُخرِجون من النار، يقبل الله -تبارك وتعالى- شفاعتهم وإن لم يكن راضيًا عنها وراضيًا عن المشفوع، أمور عظيمة جدًا من أقوال الكفر والشرك؛ غرَّر بها الشيطان أوليائه، قال -جل وعلا- {فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ}، تُريدون أن تعرفوا الله -تبارك وتعالى-، فالله كما يُحدِّث عن نفسه -سبحانه وتعالى- لا كما يحكي الشيطان وأولياؤه عن الله -تبارك وتعالى-.

ثم أخبر الله -تبارك وتعالى- عن أمور خمسة لا يعلمهن إلا هو -سبحانه وتعالى-، ليُبيِّن أن الأمر كله له -سبحانه وتعالى-، وأن مصائر العباد بيديه -جل وعلا-، فقال -جل وعلا- {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}[لقمان:34]، هذه خمس من أمور الغيب لا يعلمهن إلا الله، وقد قال النبي -صل الله عليه وسلم- «مفاتيح الغيب خمس لا يعملهن إلا الله؛ لا يعلم متى الساعة إلى الله، ولا يعلم متى يأتي المطر إلا الله، ولا يعلم ما في الأرحام إلى الله، وما تدري نفس ماذا تكسب غدًا إلا الله -سبحانه وتعالى-، وما تدري نفس بأي أرض تموت إلا الله»، فهذه خمسة أمور من الغيب، هذه مفاتيح الغيب التي لا يعلمها إلا الله، على كل حال الغيب غيبان، هناك غيب يسميه العلماء الغيب الإضافي؛ وهو الموجود عند قوم ومعدوم وبعيدٌ وغائب على قوم، فهذا الغيب الإضافي هو بالنسبة إلى الناس غيب، أو بالنسبة إلى بعض الخلْق غيب، وبالنسبة إلى بعض الخلْق شهادة، فالملائكة من الغيب؛ جبريل بالنسبة إلينا وكل الملائكة غيب، لكن جبريل عند نفسه والملائكة عند أنفسهم ليسوا غيب، هؤلاء من الشهادة لأنهم حضور، شهود، موجودون، وكذلك أسرار بعض الناس هي غيب على البعض الأخرين، فسرك أنت تعلمه؛ هو شهادة عندك، ولكن بالنسبة إلى غيرك هذا غيب، فهذا الغيب الإضافي الذي يعلمه بعض الناس؛ يعمله مَن يعلمه بالنسبة إليه شهادة، الذي يكون شهادة عند قوم وغيب عند قوم لا شك أن الله -تبارك وتعالى- ليس عنده غيب قط، ما في شيء من هذه الموجودات هي غيب عن الله -تبارك وتعالى-، الله على كل شيء شهيد، {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}، فكل هذه الموجودات هي عند الله -تبارك وتعالى- شهادة، {........ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}[يونس:61]، فالله لا يغيب عن علمه شيء من كل الموجودات، كل هذه الموجودات منذ وُجِدَت وإلى أن توجد كلها بعلم الله -تبارك وتعالى-، وكل تصرُّف لهذه الموجودات هو بعلم الله، أي تصرُّف؛ سواء كان تصرُّف لموجودات تتصرَّف تصرُّف بإرادتها، وبعقلها؛ كالإنسان والملائكة، أو تتصرَّف تصرُّفات الجماد؛ التي هي تصرُّفات بغير إرادة، سقوط ورقة من شجرة، إنهدام الجدار، سقوط صخرة من علٍ، صخرة تسقط من الجبل، أي حركة، أي سكون، سقوط قطرة ماء من السماء، فهذا أمر لا إرادي؛ لا تريد قطرة الماء أن تكوِّن نفسها داخل السحاب ثم تنزل، كل هذه الموجودات بحركاته وتصرُّفها لا تكون ولا تقع إلا بعلم الله -تبارك وتعالى-، {........ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}[الأنعام:59]، فكل هذا بعلم الله -تبارك وتعالى-، لا يمكن يكون هناك في حركة في هذا الكون أو سكون فيه إلا وهو بعلم الله -تبارك وتعالى-، فهذا الغيب من حيث هو هذا الذي يُسمى بالغيب الإضافي؛ هو شهادة عند الله -تبارك وتعالى-.

في غيب أخر؛ الذي لا يعلمه إلا الله، في غيب استأثر الله -تبارك وتعالى- بعلمه، لا يعلمه إلا هو -سبحانه وتعالى- أو مَن يُطلِعه على هذا الأمر؛ مَن يُطلِعه الله -تبارك وتعالى- أنه سيكون كذا وسيكون كذا، وهذا الغيب الذي لا يعلمه إلا الله -تبارك وتعالى-؛ اللي هو ليس بغيب إضافي بالنسبة لبعض الناس عن بعض، ولكن لا يعمله إلا الرب -جل وعلا- هم خمس؛ خمس أشياء هي مفاتيح الغيب لا يعلمهنَّ إلا الله -تبارك وتعالى-، فأول هذه هي الساعة؛ يوم القيامة، يوم القيامة الله -تبارك وتعالى- أخفى علمه عن كل خلْقه؛ عن ملائكته، حملة عرشه، عن رسله، عن أنبيائه، عن المؤمنين، لا تأتي لأحد ولا يعلمها أحد قط إلا الله -تبارك وتعالى-، {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا}، متى ترسوا وتقع؟ {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً}، بغتة تبغت الناس، فالناس الذين يكونون على ظهر هذه الأرض تأتيهم الساعة وهم في أعمالهم؛ هذا يسقي إبله، وهذا يطْعَم طعامه؛ يأكل طعامه فلا يرفع اللقمة إلى فمه، وهذا قد أخذ غَنَمَه يريد بها المدينة ليبيعها فيها، كل الناس في عملهم وليس هناك أحد في هذه الأرض يكون عنده علم بأن هذا اليوم تقوم فيه الساعة؛ أو هذه ساعة يوم القيامة.

وقد قال الله -تبارك وتعالى- لموسى {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى}[طه:15] {فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى}[طه:16]، فهذا علم الساعة الذي هو لله وحده -سبحانه وتعالى-، ولم يُطلِع الله -تبارك وتعالى- عليها قط أحدًا من خلْقه، فهذي أول هذه الغيوب، {وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ}، الغيث؛ المطر، سُميَ بالغيث لأن الله -تبارك وتعالى- يُغيث به الناس، والغيث الله -تبارك وتعالى- وزَّعه على هذه الأرض توزيع يعمله الناس، من أن هذا المكان ينزل المطر إبَّان زمانه؛ هذا الموسم في الشتاء، وهذي أمطار في الصيف، وهذي أمطار طوال العام، وهذي أمطار تأتي في الخريف، هذا يعلمه الناس إبَّان وقت وفترة نزول المطر عندهم، وكذلك الله -تبارك وتعالى- جعل للمطر مُقدِّمات يُعرَف بها، كما قال -جل وعلا- {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ}، مُبشِّرات بقرب المطر، قد تأتي قبل يوم أو يومين تهُب الريح من جهة معينة؛ يعلم الناس أن هذه ريح المطر، وأنها يأتي في إثرها السحاب، ثم يأتي بعدها المطر، فهذا ممَّا خلْقه الله -تبارك وتعالى- لمعرفة وقت أو قُرب هطول المطر، لكن الجَدْب، والخِصب، ومتى يأتي المطر على الحقيقة؛ هذا عِلمه عند الله -تبارك وتعالى-، فقد تأتي سنوات من الجَدْب والقحط وقد تأتي سنوات من الخِصب؛ والله -تبارك وتعالى- يُنزِل فيها المطر، وقد يكون الناس في وقت الجَدْب يائسين؛ قانطين، وقد يكون المطر قريب لهم؛ ليس هناك أي إشارة بقُرب نزوله، كما في الحديث «ينظر الله -تبارك وتعالى- إلى عباده يائيسين؛ قانطين، فيظل يضحك؛ يعلم أن فرجهم قريب»، فهم في حالة يأس وحالة قنوط من أن يأتيهم المطر، ويعلم الله -تبارك وتعالى- أن مطرهم قريب؛ قد يكون بعد أيام قليلة، ويأتيهم غيث الله -تبارك وتعالى-، فلا يعلم وقت مجيء المطر؛ اللي هو مجيء المطر ليس بمُقدِّماته إلا الله -سبحانه وتعالى-.

{وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ}، الأرحام جمع رحم، والرحم هي منبت الولد، والله -تبارك وتعالى- هو الذي يُقِر في الأرحام ما يشاء، كما جاء في الحديث «إذا مر على النُطفة أربعون يومًا أتاها ملِك، فيقول أي ربي ما رزقه؟ ما أجله؟ ما عمله؟ أشقي أو سعيد؟ ذكر أو أنثى؟»، فهذه كلمات تُكتَب لهذا الذي يُنفَخ فيه الروح قبل أن تُنفَخ فيه الروح، قال فتُنفَخ فيه الروح يؤمر بأربع كلمات؛ تُنفَخ فيه الروح تكون نفس هذه، تصبح نفس بشرية بعد أن كانت مشروع إنسان بهذه الويضة التي لُقِحَت بحيوان الرجل، بعد أربعين يوم تُنفَخ فيه الروح فيُكتَب هذه المقادير، والملَك الموكَّل بهذه الأرحام لا يدري ما مستقبل هذا الإنسان، فمستقبله، رزقه، أجله الذي سينتهي إليه، عمله صالح أم فاسد، كذلك ذكر أم أنثى، وبعد ذلك خاتمته؛ شقي أم سعيد، هل سيُختَم له بخاتمة حسنة فيكون من أهل الإيمان؟ أم سيُختَم له بخاتمة سيئة؟ ويقول النبي في هذا الحديث «إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة في ما يبدوا للناس وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار في ما يبدوا للناس وهو من أهل الجنة»، فهذه أمور تُكتَب في هذا، فلا يعلم هذه الأمر الأربعة؛ التي هي مستقبل هذا الإنسان إلا الله -سبحانه وتعالى-، كونه ذكر أو أنثى يُحدَّد في هذا الوقت، يعني يُحدِّده الله -تبارك وتعالى- في هذا الوقت؛ عند نفخ الروح، أما بعد أن يبدأ أطراف هذا الإنسان؛ المُضغة هذه تتخلَّق وتصبح أطراف هذا الإنسان تُخلَق وتكون، ويتشكَّل الإنسان بصورته؛ فمن هذا التشكُّل يُعرَف الذكر والأنثى، ويُصبح هنا الذي في الأرحام هذا من كونه كان غيبًا لا يعلمه إلا الله -تبارك وتعالى- من الغيب؛ إلى الغيب الذي يُسمَّى بالغيب الإضافي، فإذا استطاع الإنسان أن يُصوِّر صورة هذا الجنين وينقلها، ويعرف أذكر هو أم أنثى؛ أصبح هنا من الغيب الإضافي، فإذا ملَكَ وسيلة لمعرفة هذا الأمر الذي كان غائبًا عن بصره وعن حواسه، فهذا انتقل إلى الغيب الإضافي الذي يعلمه مَن يعلمه ممَن يطَّلع عليه، وأما {وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ}، من هذا المستقبل الذي لا يعلمه إلا الله -تبارك وتعالى-، كذلك مما يعلمه الله -تبارك وتعالى- من علم الله -تبارك وتعالى- المختص به في الأرحام؛ اللي هو الزيادة والنُقصان، {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ}[الرعد:8]، تغيض؛ تنقص، تزداد؛ يزداد، سواءً في الحمل، وكذلك ما يعلمه الله -تبارك وتعالى- مما يكون هذا؛ أن يكون كاملًا أو أن يكون خَدَاجًا، كل هذا بعلم الله -تبارك وتعالى-، {وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ}.

{وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا}، {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ}، نفس؛ أي نفس، وهذا يُطلَق على كل أحد؛ على الجن، والإنس، والملائكة، ما تعلم ما الذي تكسبه غدًا، الكسب من خير أو شر؛ فالإنسان يكسب الخير ويكسب الشر، فلا تعلم نفس قط ما الذي ستكسبه من خير أو شر، غدًا؛ في المستقبل، يعني بعد لحظة التكلُّم لا يستطيع الإنسان أن يعلم شيء، هذا كذلك استأثر الله -تبارك وتعالى- بعلمه، استأثر الله -تبارك وتعالى- بعلمه ولا يُطلِع من هذا الغيب؛ اللي هو الغيب المستقبلي، إلا مَن شاء الله -تبارك وتعالى- أن يُطلِعه من عباده، كما قال -جل وعلا- {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا}[الجن:26] {إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا}[الجن:27] {لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا}[الجن:28].

{........ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}[لقمان:34]، وما تدري نفس؛ كذلك وقد ذكرنا أن نفس تعُم كل نفس، بأي أرض تموت؛ في أي أرص سوف تُقبضُ منها الروح، وهذا أمر لا شك أنه مُشاهَد للجميع، ومعلوم للجميع أنه مهما أُخذ من الحيطة والحذر فإن الإنسان لا يدري متى يأتيه ملَك الموت ليقبِض روحه، طبعًا هذا من مفاتيح الغيب التي لا يعلمها إلا الله، ومعنى قول النبي أنها من مفاتيح الغيب لأن هذه مسألة واحدة؛ اللي هي العلم بمكان قبض روح كل نفس، وهذا يدخل فيه ملايين الملايين الملايين من مفردات هذا الغيب، يعني مفردات هذا الأمر وهو المكان الذي ستموت فيه كل نفس؛ هذا علمه إلى الله -تبارك وتعالى-، فهذا يندرج فيه كل نفس منفوسة أين تموت وفي أي مكان؛ هذا علمه إلى الله -تبارك وتعالى- على التفصيل وليس على الإجمال، وكل نفس في ذاتها لا تعلم أين سيكون قبض روحها في ذاتها، وكذلك بالنسبة لغيرها لا يمكن لنفس أن تعلم متى أو في أي مكان ستقبض روح فلان؟ أو فلان، أو فلان ...، وكل هذا علمه عند الله -تبارك وتعالى-، عندما يكون الأمر على هذا النحو، وهذه مفاتيح الغيب؛ هذي الخمس التي لا يعملها إلى الله -تبارك وتعالى-، يصبح الله -تبارك وتعالى- هو الذي بيده الأمر كله، وإليه يرجع كل مصائر الخلْق بيديه –سبحانه وتعالى-، فهو الذي يُصرِّف الأمور، هو مالك المُلك، هو الذي عنده علم الساعة، وأن هذا وعد حق ولابد أن يكون، وأن الإنسان لا يعلم لنفسه فقط؛ ما الذي سيكسبه غدًا لا يعلمه، وفي أرض يموت؛ لا يعلم هذا، إذن يجب أن يستسلم لربه -سبحانه وتعالى-، وأن يعود إلى ربه -جل وعلا-، وأن يُقدِّر هذا اليوم الذي يُحذِّر الله -تبارك وتعالى- منه، {وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا}، إن الله عليم؛ بكل خلْقه -سبحانه وتعالى- خبير بهم؛ والخبرة أدق من العلم، يعني بأسرارهم؛ عليم بكل أعمالهم، خبير بكل أسرارهم -سبحانه وتعالى-.

بهذا نأتي إلى ختام هذه السورة، استغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصل الله وسلم على عبده ورسوله محمد.