الجمعة 25 شوّال 1445 . 3 مايو 2024

الحلقة (51) - سورة البقرة 177-180

الحمد لله رب العالمين, وأصلي وأسلم على عبد الله ورسوله الأمين. وعلى آله وأصحابه, ومن اهتدى بهديه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد...

أيها الأخوة الكرام يقول الله –تبارك وتعالى- {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}[البقرة:177].

هذه الآية الجامعة الفاذة في القرآن الكريم بين الله -تبارك وتعالى- فيها حقيقة البر وصفة الإنسان البار, والبار هو القائم بكل أعمال الخير, والمتصف بصفات الخيرية, والمستحق لسكنى جنة الرب -تبارك وتعالى- والذي هو صادق في معنى إيمانه تقيٌ لله -تبارك وتعالى- أؤلئك الذين صدقوا و أؤلئك هم المتقون.

وأخبر -سبحانه وتعالى- أن البر ليس شكلًا, ليس بالتوجه إلى جهة معينة, فيكون بها الإنسان بارًا أي إذا صلى إلى هذه الجهة فيكون بارًا, وإذا صلى إلى جهة أخرى لا يكون بارًا, فإن الجهات كلها لله –تبارك وتعالى- ومن امتثل لأمر الله -تبارك وتعالى- فصلى إلى هذه الجهة كما أمره, وحوله إلى الجهة الثانية فصلى كما أمره, فهذا مطيع لله -تبارك وتعالى ولا ينتفي عنه الخيرية لأنه صلى على هذه الجهة أو صلى إلى هذه الجهة.

ما دام أنه قد أطاع الرب -تبارك وتعالى- وهذا كما ذكرنا أنما هو رد على اليهود الذين أرادوا أن يهدموا الدين كله بزعمهم بأن تحول النبي -صلى الله عليه وسلم-  من بيت المقدس القبلة الأولى إلى الكعبة أن هذا انتفاء, أنها بهذا قد انتفت عنهم الخيرية وانتفى عنهم الدين وجعلوه كنوع من الكفر والردة فأخبر -تبارك وتعالى- بأن الجهات كلها لله -تبارك وتعالى- {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ.......}[البقرة:115].

ثم هذا التوجيه للمسلمين أن الأمر إذا كان أمر من هذه الأمور الشكلية لا ينبغي التدقيق فيه, ولا الوقوف عنده لأن الخيرية الحقيقية هي هذا هي: { وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ........}[البقرة:177].

هذه أعمال قلبية, وأعمال مالية,  وأعمال بدنية, تدل على حقيقة الخير, أن هذه خيرية بالفعل, وليس كمجرد توجه الإنسان إلى هذه الجهة أو هذه الجهة.

 ثم قال -تبارك وتعالى- : {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا} قد بينا في الحلقة الماضية أن العهد, العهود التي يجب أن نوفي بها, أولًا العهد الذي بيننا وبين الله هو أعظم هذه العهود, وكل مسلم شهد أن لا اله إلا الله وأن محمدًا رسول الله, فقد عقد عقده مع الله -تبارك وتعالى- على الإيمان به, وعلى طاعته -سبحانه وتعالى-, فإذن يجب أن يوفي بما عاهد الله -تبارك وتعالى- عليه, ثم العهود التي تكون بين  المسلمين بعضهم مع بعض, بالتأكيد أعظم هذه العهود ما كان بين المسلمين وبين النبي, فمن عاهد النبي على أمر ما كان عاهده على الهجرة, عاهده على النصرة, كما عاهد الأنصار النبي -صلى الله عليه وسلم- على أن ينصروه يجب عليهم أن يوفوا بهذا, أصبح لازمًا في حقهم في حق الأنصار أن ينصروا النبي -صلوات الله وسلامه عليه-, من عاهدوا النبي على الموت في الحديبية 1400 كلهم عاقدوه وبايعوه على أن يقاتلوا, ولا يفروا إذا دخلوا معركة ما يفروا, إما أن ينتصروا أو يستشهدوا, فهؤلاء هم أهل بيعة الرضوان وظلوا على هذا العهد ليس في الموقعة وحدها, وإنما في كل المواقع, ولذلك لما فر الناس في غزوة هوازن ناداهم النبي -صلى الله عليه وسلم- قال للحارث بن عبد المطلب والعباس ناد قل: يا أصحاب الشجرة فنادى أصحاب الشجرة, فعلى الفور انعطفوا إليه, وذلك أنهم عاهدوا النبي تحت الشجرة بألا يفروا من قتال قط, فقد عاهدوا النبي على أن يقاتلوا ولا يفروا قال: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ........}[الفتح:18]

رضي الله -تبارك وتعالى- عنهم لما بايعوا النبي وكانت هذه البيعة على الموت وعلى ألا يفروا, هذا بالتأكيد أشرف العهود والعهد مع النبي عهد مع الله {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ........}[الفتح:10]

ثم بعد ذلك ما يعاقد كل مسلم مسلما عليه في أي أمر من الأمور, سواءً كان في أمر من أمور الدين, كالعقد -عقد البيعة بين الإمام والرعية-, ثم بعد عقود الدين عقود الدنيا, فكل عقد من عقود من الدنيا يعقده المسلم مع أخيه المسلم فهو واجب الوفاء, وهذه من العهود التي يجب الوفاء بها, أشرف هذه عقد الزواج وقد سماه الله ميثاقًا غليظًا, وذلك نهى الرجل أن يأخذ شيئًا مما أتى امرأته عند طلاقها قال:  {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا }[النساء:20-21] أخذن أي النساء الزوجات منكم أيها الأزواج ميثاقا غليظا ميثاقا غليظا أي عهدا مؤكدا.

بعد ذلك عهود عقود البيع, عقود التجارة, عقود الوكالة, كل اتفاق بين طرفين هذا عقد, ثم عقود المؤمنين مع الكفار كذلك إذا عاقدوهم فإنه لا يجوز لهم أن يخونوهم, بل يجب أن يوفوا عهدهم معهم كما في قول الله -تبارك وتعالى- : {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ}[الأنفال:58].

إن الله لا يحب الخائنين, من يعاقد ويغدر, والغدر هو نقض العهد, هذا شره عظيم, وفضيحته كبيرة يوم القيامة كما قال النبي: «لكل غادر لواء تحت استه يوم القيامة تكتب فيه غدرته ».

هذه غدرة فلان بن فلان يقرؤها أهل المشهد جميعا فهذا أمر عظيم, فالوفاء بالعهد من البر, فالبار هو الذي يوفي بعهده إذا عاهد, ما دام عاهد فإنه ملتزم بما عاهد عليه عاهد الله, عاهد الرسول, عاهد مسلما, يعاهد مسلما على أمر من أمور الدين, على أمر من أمور من أمور الدنيا, عاهد الكافر على أمر من الأمور, هناك عقد بينه فيه هدنة صلح فيجب أن يلتزم بها.

وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ صفة أخرى من صفات المتقين ومن صفات البارين, أهل البر, الصبر حبس النفس على المكروه دون تضجر ودون تألم ودون جزع. البأساء الشدة, والشدة يدخل فيها الفقر هذا من الشدة فيصبرون في وقت البؤس, والبأساء مبالغة في هذا, فيصبرون في هذا, والضراء وقت الضر, كالمرض ونحوه إذا أصابهم ضر من مرض أو فقد فيصبرون, وحين البأس حين الحرب؛ لأن الحرب بأس شديد, كما في قول الله -تبارك وتعالى-:وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ تقيكم بأسكم يعني شدتكم بعضكم على بعض أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ فالبأس الشدة والغلظة في الحرب, فالذي يصبر في وقت الحرب هذا من مواطن الصبر, فمن مواطن الصبر الصبر في البأساء الصبر في الضراء الصبر حين البأس, فهذا الصابر القوي المتين الذي تمر عليه هذه الأحداث, فيكون صابرا فيها, هذا دليل خيرية, دليل بر قال -جل وعلا-: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا أولئك الذين اتصفوا بهذه الصفات من الإيمان بالله -تبارك وتعالى- والإيمان بهذه الغيوب اليوم الآخر والملائكة والنبيين, وبعد ذلك يكون ممن يعطي المال محبًا للإعطاء, ومحبا للمال ولكن يبذله في هذه السبل, ثم هو مقيم للصلاة يؤتي الزكاة, ثم هو من الموفين بعهدهم إذا عاهدوا, ثم هو من الصابرين في البأساء والضراء, وحين البأس. هذا الذي يتصف بهذه الصفات قال -جل وعلا- أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا في معنى الإيمان في إيمانهم هذا الصادر ليس الذي قال قولا بلسانه, ولم يصدق قلبه وعمله هذا الأمر.

وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ أولئك هم أهل التقوى على الحقيقة, الذين يتصفون بهذه الصفات. هذه آية عظيمة تبين حقيقة المؤمن البار التقي الصادق في دعواه للإيمان على الحقيقة, وإذن مفهوم هذا أن الأمور التي هي شكلية لا يكون بها الإنسان بارًا, وأن هذه الأمور هذه حقائق القيام بهذه الحقائق هو يكون فعلا من أهل البر, بعد أن بين الله -تبارك وتعالى- حقيقة  البر, شرع الله -تبارك وتعالى- في بيان مجموعة من الأحكام لعباده المؤمنين, فبدأ ذلك بالقصاص فقال -جل وعلا-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[البقرة:178].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا  نداء من الله -تبارك وتعالى- لأهل الإيمان وهذا النداء يعقبه أنه يأمرهم, ينهاهم يوجههم إلى خير, ينهاهم عن شر, فهنا بين الله -تبارك وتعالى- هنا بأنه فرض عليهم فريضة قال: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى}  كتب: الكتابة تعني الفرض, أنه فرض عليكم هذا, كتب عليكم معاشر المؤمنين, القصاص في القتلى, القصاص هو المماثلة في العقوبة, وقيل: أنه جاء من القص أو المقص؛ لأن المقص لابد أن يؤدي عمله إلا إذا كان كل مفصل فيه مساوٍ للآخر, فالقصاص هو أن يؤخذ من الجاني بقدر جنايته بقدر الجناية, فأول شيء جاء القصاص هنا في القتلى, فالقصاص في القتلى أن يؤخذ من الجاني بقدر جنايته, فيقتل بالقتيل الذي قتله.

 قال جل وعلا-:  الْحُرُّ بِالْحُرِّ الحر بخلاف العبد, والحر هو غير الرقيق, وهذا يدخل فيه بالتأكيد الذكر والأنثى, يدخل فيه الذكر والأنثى, الحر بالحر كل ذكر وأنثى حر فهو يقتل به.

  وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ العبد بالعبد أن المساواة بين الرقيق, عبد بعبد, وَالأُنثَى بِالأُنثَى الأنثى تقتل بالأنثى, ولا شك أنه كذلك مفهوم بمنطوق بالتأكيد بمفهوم الأنثى بالأنثى أن الذكر يقتل بالذكر, ولكن هذا المفهوم قد غلب عليه المنطوق الأول الحر بالحر, فإن الحر يدخل فيه الذكر والأنثى, فإذن هو هنا لا مفهوم للأنثى بالأنثى, فإن الأنثى تقتل بالأنثى, وكذلك إذا قتلها ذكر يقتل بها كذلك, وقد جاءت السنة بذلك, جاءت السنة بأن يقتل الرجل بالمرة إذا قتل رجل امرأة فإنه يقتل بها.

قال -جل وعلا-: { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ } فمن عفي له من أخيه شيء, أولا الذي يطالب بالدم هم أولياء القتيل, وأولياء القتيل قد يكونون أكثر من واحد, قد يكون له أبناء مثلا, وإخوة, فهؤلاء إن اجتمعت كلمتهم على قتل القاتل, وجب أن يقتص به, أما إن عفوا عنه فلا شك أنه ينتقل من القصاص -وهو قتل القاتل-, إلى ما دون ذلك إن أرادوه, وهو الدية, إن عفوا عن الدية لهم كذلك أن يعفوا عن هذا, أما إن عفا بعضهم, وطالب بعضهم بالقصاص, وجب اتباع العفو هنا, فإذا كان للمقتول مجموعة مثلا من الأبناء, هؤلاء أولياء الدم, ثم جاء أحدهم فقال: أنا أعفو عن حقي أعفوا عن حقي في أبي, وجب على الإخوة الآخرين أن يتبعوا هذا.

 قال جل وعلا-: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} فكلهم ينبغي أن يتبعوا هذا, ولا يقتل القاتل إذا عفا عنه بعض أولياء الدم, ولا يشترط أن يعفو عنه كل أولياء الدم. وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ينبغي أن يؤدي بعد ذلك ما دام أنه قد عفوا عنه وطالبوا مثلا بالدية ولم يطالبوا بالقصاص, فيجب أن يؤدوا إلى الدية أولياء الدم بإحسان بدون مطالبة بدون مماطلة.

قال جل وعلا-:{ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} ذلك الإشارة هنا إلى أنه يجوز لأولياء الدم أن يعفوا عن قاتل وليهم, ويقبلوا بالدية فهذا تخفيف من الله -تبارك وتعالى- أنه لم يحتِّم القصاص ويجعل هذا حقا له, رضي عفا أولياء الدم, أو لم يعفوا, بل إن الله -تبارك وتعالى- جعل من حق أولياء الدم أن يعفوا, وإذا عفوا عن القصاص يعفى كذلك عن القاتل, فلا يقتل فقال: هذا تخفيف الله يقول ذلك تخفيف من ربكم ورحمة ورحمة منه -سبحانه وتعالى- أنه لم يجعل قتل القاتل حتما إذا قتل, وأن هذا حق لا يجوز لأحد أن يتنازل عنه, كما في بعض الحدود فإن الله -تبارك وتعالى- جعلها حقا لله -تبارك وتعالى- ولا يجوز ولا يحل للمعتدى عليه, ولا لأحد أن يتنازل عن هذا الحق كالسرقة مثلاً, مَن سرق من شخص ثم رفع الأمر للسلطان, فإذا جاء المسروق منه وقال: عفوت عن السارق لا تقطعوا يده, لا يقبل كلامه, ليس له أن يعفو؛ لأنه أصبح إذا وصل الأمر إلى الحاكم ملزما أن يطبق فيه حكم الله –تبارك وتعالى-, لأنه حد من حدود الله لا يجوز للحاكم ولا لأحد أن يشفع فيه, ولا أن يسقطه بل يجب تنفيذه كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لأسامة: {تشفع في حد من حدود الله} وذلك في السرقة لما سرقت المرأة المخزومية, فالسرقة من الحدود التي لا يجوز التنازل فيها, وأما القصاص فإن الله -تبارك وتعالى- جعل من حق أولياء الدم أن يتنازلوا عن حقهم في ذلك.

 قال الله -تبارك وتعالى-: {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} فمن اعتدى بعد ذلك, بعد ذلك إشارة إلى قبولهم الدية, قد قبلنا الدية, ثم بعد ذلك قاموا واعتدوا على القاتل وقتلوه.

قال -تبارك وتعالى-:{فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} قال بعض أهل العلم: له عذاب أليم بالقتل, أن من اعتدى فقَتل القاتل بعد أن عفا عنه, فلا يقبل منه إلا القتل, يجب أن يقتل, وقال بعض أهل العلم: هنا فله عذاب أليم أي في الآخرة, وإلا فكذلك إذا عفي عنه فيعفا عنه كذلك, شأنه شأن أي نوع من أنواع القتل.

ثم قال -تبارك وتعالى- بعد أن بين هذا: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[البقرة:179]. آية عظيمة يوجه فيها الله -تبارك وتعالى- عباده المؤمنين إلى أن قيامهم بالقصاص وهو قتل القاتل, والأخذ منه بقدر جنايته, هذا فيه حياة, وحياة لفظ نكرة ويراد به هنا التعظيم حياة عظيمة, ثم بين أن هذا لأولي الألباب, لأهل العقول التي تدركها, ومعنى أن فيه حياة, أمور كثيرة منها: أن القاتل إذا علم أنه سيقتل ويُقتص منه بالقتل أحجم عن قتله, فهذا أول أمر, وإحجام القاتل عن القتل إنقاذٌ لنفس القتيل, ثم إنقاذٌ لنفسه هو من القصاص, فهذه واحدة,. ثانياً رؤية القاتل وهو يقتل ويُقتص منه, عندما يرى كثير من الناس هذا الأمر؛ فإنهم ينزجرون ويرتدعون, ومن يفكر منهم بالقتل يفكر في هذا المصير, يفكر أن مصيره سيكون كمصير هذا القاتل الذي يقتل فيرتدع, إنما يتعلمون بهذا وينزجرون, فالحدود زواجر, أمر ثالث: إذا قُتل القاتل فإنه تحسم مادة الشر بين المتقاتلين, وذلك؛ لأنه أخذ أولياء الدم حقهم وقُتِل قاتل وليهم وانحسم الشر, فلا يفكرون في الثأر, ولا أن يأخذوا حقهم بأيديهم؛ وذلك أنه إذا لم يطبق القصاص, وترك الناس بدون هذا الأمر؛ فإن كل أولياء الدم لابد أن يفكروا في قتل قاتل وليهم, قاتل أبيهم أو قاتل أخيهم فيقَتلون, وقد يقتلون قريبا له شخصا ليس له هو القاتل, قد يكون لم يرض بالقتل, ثم يقتلون من الآخرين, ثم يتسلسل القتل والأخذ بالثأر, فتكثر الدماء, فإذا قتل القاتل انحسم الأمر, يصبح نفسا واحدة قد قتلت, وانحسم الأمر, حسمت مادة الشر, وأوقفنا القتل كما قيل: القتل أنفى القتل, كما كانت تقول العرب القتل أنفى القتل, إذا قتلنا القاتل فإن هذا ينفي تعدد القتل بعد ذلك.

هذه كلها من معاني القصاص, فالقصاص وهو قتل القاتل يؤدي إلى هذه المنافع العظيمة, وأما ترك القصاص؛ فإنه يؤدي إلى كثرة القتل, فبدلا من أن نكون بالقصاص قتلنا نفسا واحدة, -لو تركنا قتل هذه النفس القاتلة, فإنه يمكن أن يقتل عشرات بسبب قتل نفس واحدة- بهذا التسلسل مع ما فيه من تقرير هذه العقوبة من الزجر ومن تخويف الآخرين ومن تعليمهم, فعند ذلك يصبح المجتمع تندر فيه وقوع هذه الجريمة الكبيرة وهي القتل, وهي من أعظم الجرائم ومن أبغضها إلى الله -تبارك وتعالى- بعد الشرك بالله -جل وعلا-, فقول الله: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} استبقاء لنفوس كثيرة بقتل نفس واحدة, يا أولي الألباب يا أهل العقول, الألباب جمع اللب وهو العقل داخل هذا الإنسان.

  {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} لعلكم بهذا تتقون الله -تبارك وتعالى- وتخافونه, ومن تقوى الله -عز وجل- تنفيذ أمره؛ لأن تنفيذ أمر الله -تبارك وتعالى- أبعد لكم من عقوبته, أما تضييع أمر الله -تبارك وتعالى- فهذا موجب لعقوبته -جل وعلا- لعلكم تتقون.

بعد هذا حكم آخر من الأحكام, قال -جل وعلا-: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ}[البقرة:180]. كُتِبَ عليكم بالبناء للمجهول, ولا شك أن الذي يفْرض هو الله -سبحانه وتعالى-, فلا يوجب على عباده إلا هو سبحانه وتعالى-.

{كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} الموت نائب فاعل, أي يحضر الموت, وحضور الموت هنا ليس هو أن يموت الإنسان, وإنما حضور أسبابه, أي أن يكون الإنسان قد حضره سبب أكيد, أن من جاءه هذا السبب مات بعد ذلك, كمرض معلوم أنه يفضي للموت غالبا كالسرطان الآن, أو طاعون أو غيره أو من مرض عضال, قد عهد الناس أن مثله إذا جاء لا يكاد ينجو الشخص, أو كان الإنسان في مرض الموت, مشهور أنه بلغ نهاية عمره, وظهرت عليه إمارات وعلامات الموت.

  {إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا} إن ترك خيرا بعد وفاته, وخيرا هنا أي مالا كثيرا, خير وهو معروف هذا التعبير في لغة الناس العامة يخلف عنده خير بمعنى أن عنده مال كثير.

{إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} أي كتبت عليكم الوصية, كتب الله -تبارك وتعالى- فرض عليكم أيها العباد أنه في حال دنو أجل أحدكم, وتحققه أو غلبة ظنه أنه قد دنا أجله وعنده مال كثير, عليه أن يوصي بشيء من هذا المال للوالدين والأقربين بالمعروف.

{حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} هذه الوصية حال كونها حقا حقها الله -تبارك وتعالى- للمتقين, كل مؤمن لابد أن يتقى الله -تبارك وتعالى-, هذه الآية الوصية للوالدين بأن يوصي, أن هذا الجزء من هذه التركة لأمه, جزء هذه التركة, لأقربائه, إخوانه, بني إخوانه, أبناء أبنائه, نزلت هذه الآية قبل نزول آيات المواريث التي نزلت في سورة النساء وستأتي إن شاء الله. {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ}[النساء:11] وأيضا رتب الله -تبارك وتعالى- نصيب كل واحد, وجعل للوالدين نصيبا قال: {........ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء:11]  إلى آخر الآية وضع الله –تبارك وتعالى- لكل واحد من الوالدين, وكذلك الأقربين إخوة وأخوات, وممن بعدهم أعطى الله -تبارك وتعالى- كل وارث حقه من الميراث, وقد قال النبي -صلوات الله وسلامه عليه-:«إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث». لا وصية بعد ذلك لوارث, بل كل وارث فإنه يأخذ حقه من الميراث, هذه الوصية له, وتبقى الوصية بعد ذلك فيمن ليس بوارث, ممن لا يرث, كأن يكون لهذا الميت أبناء أبناء, عنده أبناء أبناءه, فيوصي بأبناء أبنائه, فأولاده وارثون, فالأبناء يحجبون ابن الابن, فيوصي لابن ابنه, أو يكون له أب وله جد, فيعطي جده يوصي له.

على كل حال لهذه الآية مزيد إن شاء الله من التفصيل والشرح في حلقة آتية, إن شاء الله أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد.