الجمعة 29 ربيع الآخر 1446 . 1 نوفمبر 2024

الحلقة (510) - سورة الأحزاب 1-6

{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الفاتحة:2] {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}[الفاتحة:3] {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}[الفاتحة:4]، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- بسم الله الرحمن الرحيم {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا}[الأحزاب:1] {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}[الأحزاب:2] {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا}[الأحزاب:3] {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ}[الأحزاب:4] {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}[الأحزاب:5]، هذه الآيات مطلع سورة الأحزاب، وهذه السورة من القرآن المدني؛ الذي نزَل على النبي -صل الله عليه وسلم- بعد هجرته إلى المدينة.

بدأ الله -تبارك وتعالى- هذه السورة بتوجيه الخطاب إلى نبيه الكريم -صل الله عليه وسلم-، قال -جل وعلا- {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا}[الأحزاب:1]، {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ}، أولًا لم يوجِّه الله -تبارك وتعالى- في القرآن خطابًا للنبي إلا وخطاب بالوصف؛ ما ناداه الله -تبارك وتعالى- بإسمه في القرآن قط، وإنما دائمًا يا أيها النبي، يا أيها الرسول، يا أيها المدَّثِر، يا أيها المزَّمِل، ولم يقل يا محمد كما جاء في يا موسى، يا عيسى، فالأنبياء كلهم ناداهم الله -تبارك وتعالى- بأسمائهم إلا أن النبي ناداه بوصفه -صلوات الله والسلام عليه-، وهذا من تكريمه وإعزازه -صلوات الله والسلام عليه-، النبي هو النبي المنبأ؛ المُخبَر بالأخبار العظيمة من الله -تبارك وتعالى-، {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ}، خطاب من الله -تبارك وتعالى- لعبده ورسوله محمد -صلوات الله والسلام عليه-، الذي نبأه الله؛ أي أخبره بأخبار الغيب، ونبأه وأرسله -سبحانه وتعالى- إلى العباد، {اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ}، أمر من الله -تبارك وتعالى- لنبيه بتقوى الله، وإذا كان العبد في الأساس من أهل تقوى الله -تبارك وتعالى- فيكون أمر الله -تبارك وتعالى- له بملازمة التقوى والثبات عليها، فهنا الأمر للنبي -صل الله عليه وسلم- بملازمته للتقوى والثبات عليها حتى يلقى الله -تبارك وتعالى-، ومعنى اتَّقي الله؛ خَفْهُ، لأن تقوى الله -تبارك وتعالى- هي مخافته؛ التي تبعث على اجتناب عذابه -سبحانه وتعالى-، وهذا لا يكون إلا بالتزام أمره -سبحانه وتعالى- واجتناب نواهيه، الخطاب الموجَّه إلى النبي -صلوات الله والسلام عليه- لا شك أنه خطاب إلى عموم المؤمنين، وأحيانًا يكون النبي داخل في هذا الخطاب وأحيانًا يكون النبي -صل الله عليه وسلم- يُخاطَب وهو خارج عن هذا الخطاب، فإذا كان المؤمنين داخلين كما في قول الله -عز وجل- {يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ}، وأحيانًا يكون موجَّه للنبي -صلوات الله والسلام عليه- وحكمه هو خاص به، يعني لا يدخل النبي في هذا الخطاب كقول الله -تبارك وتعالى- {........ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا}[الإسراء:23] {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}[الإسراء:24]، فلا شك أن هذا الخطاب موجَّه إلى النبي والمعني غيره، لأن أبوي النبي قد ماتا قبل ذلك، وإذا وُجِّه الخطاب على هذا النحو يكون من باب تشريف الخطاب، إذا كان النبي يُوجَّه له هذا فلا شك أن غيره من باب الأولى، تشريف للخطاب وبيان أن يجب العناية والإحسان إلى الوالدين مهما كان.

{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ ........}[الأحزاب:1]، نهي من الله -تبارك وتعالى- لنبيه ألا يُطيع الكافرين والمنافقين، الكافر هو الجاحد بآيات الله -تبارك وتعالى-، الذي علم آيات الله -تبارك وتعالى- ودُعيَ إلى الله وجحد هذا وأنكره، والمنافق هو الكافر الذي أظهر الإسلام وأبطن النفاق، فهو كافر على الحقيقة لكنه مُظهِر الإسلام، وهو أخطر كذلك من الكفار، وعذابه أشر من عذاب الكافر، كما قال -تبارك وتعالى- {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا}[النساء:145]، {........ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا}[الأحزاب:1]، إخبار من الله -تبارك وتعالى- الذي أمر بهذه الأوامر، عليم؛ بكل عباده -سبحانه وتعالى-، حكيم؛ يضع كل أمرٍ في نِصابه، فكل أمر من أوامر الله -تبارك وتعالى- حق وهو موضوعة في نِصابها -جل وعلا-، والله هو العليم الحكيم، العليم بأحوال عباده -سبحانه وتعالى-، الحكيم الذي يضع كل أمر في مكانه الصحيح.

{وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}[الأحزاب:2]، أمر من الله -تبارك وتعالى- لرسوله أن يتَّبِع ما أوحاه الله -عز وجل- إليه، {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ}، واتِّباعه هو الإيمان به وتنفيذه كما أمر الله -تبارك وتعالى-، ما يوحى إليك؛ بالبناء لِما لم يُسمى فاعله يوحيه، والوحي هو الإخبار بطريق خفي؛ الإعلام بطريق خفي، وكان الله -تبارك وتعالى- يُعلِم رسوله بما يشاء؛ بما يُنزِل عليه من الآيات، عن طريق هذا الوحي؛ عن طريق جبريل، الذي يأتيه فيسمع النبي صوته ويكون أحيانًا مثل صلصلة الجرس، وأحيانًا يُتمثَّل له الملَك رجلًا يراه النبي ولا يراه غيره فيكلِّمه -صل الله عليه وسلم-، {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ}، يعني كل الأوامر والنواهي التي يوحيها الله -تبارك وتعالى- إليك، من ربك؛ الله -سبحانه وتعالى-، وربك؛ إلهك، ومولاك، وخالقك -سبحانه وتعالى-، {........ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}[الأحزاب:2]، بيان أن الله -تبارك وتعالى- خبير، الخبرة هي أدق العلم بما يعمله الخلْق -سبحانه وتعالى-.

{وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا}[الأحزاب:3]، التوكُّل على الله -تبارك وتعالى-؛ تسليم الأمر إليه، وتعلُّق القلب بما عنده -سبحانه وتعالى-، وبيان أن ما شاء كان وأن ما لم يشأ لم يكن، وأن الأمور كلها بيديه -سبحانه وتعالى-، فيقوم العبد بما أمره الله -تبارك وتعالى- به ويكِل بعد ذلك نتائج ذلك إلى الله -سبحانه وتعالى-، هو الذي بيده الأمر كله وإليه يرجع الأمر كله، توكَّل عليه؛ سلِّم أمورك كلها إليه -سبحانه وتعالى-، واعلم أن أمر العباد إليه كله -جل وعلا-، {........ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا}[الأحزاب:3]، كفى به وكيلًا؛ متوكِّلًا بكل خلْقه -سبحانه وتعالى-، وإذا توكَّلت عليه يكفيك؛ فيكفيك الله -تبارك وتعالى- من كل ما أهمَّك، كفى به؛ لا تحتاج مع الله -تبارك وتعالى- إلى غيره لتنال خيرًا أو تدفع مكروهًا، بل الله يكفيك، الله -تبارك وتعالى- هو حسب المؤمن وهو كافيه، {........ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا}[الأحزاب:3]، -سبحانه وتعالى- إذا توكَّلت عليه فكفى به أن يكون هو القائم بكل الشئون -سبحانه وتعالى-، هذه مُقدِّمة لهذه الصورة وكلها فتحت بتوجيه الخطاب إلى النبي -صلوات الله والسلام عليه- في هذه الثلاث آيات، في الآية الأولى الأمر بتقوى الله، وعدم طاعة الكفار والمنافقين، وفي الثانية باتِّباع ما أنزَلَه الله -تبارك وتعالى-، والآية الثالثة في تسليم النتائج كلها إلى الله -تبارك وتعالى- والتوكُّل عليه.

ثم قال -جل وعلا- {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ}[الأحزاب:4]، هذه ثلاثة أمور من الباطل والكذب كان يقولها الناس، الله -تبارك وتعالى- نفاها وأخبر بأنها من الكذب والزور، قال {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ}، كما كان يزعم بعض الناس أن هناك من الناس مَن له قلبين يفكر بهما، وبالتالي الذي يحمل قلبين كما كان يقول بعضهم أنا لي قلبين؛ يعني قلب واحد يفهم به أكثر ما يفهم به محمد -صلوات الله والسلام عليه-، وكما كان يُقال أن رجلًا من العرب يُقال أن له قلبين؛ من سِعة إدراكه، وسِعة حافظته، فهذا الرجل شهد بدرًا، ثم أنه كان من الفارين يوم بدر، فالتقى بأبي سفيان الذي كان قد انحاز بإبله وقافلته، وَجَده أبو سفيان فار وراجع، ووَجَد أن أحد نعليه في رجله والنعل الأخر في يده، حامل نعل واحدة في يده والنعل الأخر في رجله وهو فار، جاي وصل إلى أبي سفيان، فقال له أبو سفيان ما شأن الناس؟ فقال هم بين مقتول وهارب، يعني واحد مقتول في بدر وواحد هارب؛ اللي هم الكفار، فقال له فما شأننا عليك؟ يعني نعل بيدك ونعل برجلك، قال له إيش فيهم؟ قال له والله ما ظننت إلى أنهما في رِجلَّي، قال له كنت أَفكَّر الإثنين في رِجلَّي، فهذا زاهل عن نعليه ما يعرفها، فهذا من الذي كان يقول بأن لي قلبين أو لي قلبان، فمن الكذب والزور أن يُقال بأن لرجلًا قلبين، {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ}، بل خلَق الله -تبارك وتعالى- كل خلْقه وكل إنسان له قلب واحد، والقلب هو محل التفكير.

قول الله {مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ}، القلب لا يكون إلا في الجوف لكن هذا من باب التأكيد، كما قال -تبارك وتعالى- {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}، فقال القلوب التي في الصدور؛ والقلب يكون في الصدر، وإنما تأكيد هذا، {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ}، القلب هو محل العقل، وبالتالي يكون له عقلان يدرك بهما؛ فيكون أوسع من الناس وأعلى من الناس فهمًا، فهذه واحدة من الزور والباطل الذي يقوله الناس وليس له حقيقة، {وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ}، هذي كذلك أمر من الباطل كان يفعله العرب؛ وهو لا حقيقة له، وهو أن الزوج إذا كره زوجته ولم يردها يقول أنتي علي كظهر أمي؛ يعني ظهر أمي حرام، وبالتالي كان عندهم من أعظم الزور أن يعلوا الإنسان ظهر أمه، المقصود أن يفترشها كا تُفترَش الزوجة، قيل أنه كان يُعَبَّر بالظهر عن البطن، كانوا يستقبحون أن يقول أنتي علي كبطن أمي؛ لقرب الفرج من البطن، فيقول أنتي علي كظهر أمي، ولأن الظهر هو عمود البطن، والمعنى أنكي حرام علي كحرمة أمي علي، فهذا القول كذلك الله -تبارك وتعالى- أخبر أنه من الزور والبُهتان؛ أنه لا يمكن أن تكون الزوجة كالأم، فالأم هذا أمر في النَسَب وحرَّمها الله -تبارك وتعالى-؛ يعني الحُرمة بها بحُرمة النَسَب، وأمَّا الزوجة فإن الله -تبارك وتعالى- قد أحلَّها، الزوجة غير الأم؛ هذه تختلف عن هذه، فالذي يجعل زوجته وهي زوجته يجعلها بعد ذلك؛ بعد أن تكون هي زوجته وقد كانت هي فراشه، يجعلها بعد ذلك أنها في الحُرمة مثل أمه، كلام؛ أخرج كلام بهذا، وأن هذا الكلام لا يُغيِّر الحقائق، قال -جل وعلا- {وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ}، ومعنى تُظاهرون منهنَّ يعني تُحرِّمونهنَّ؛ ويقول الشخص لزوجته أنتي علي كظهر أمي، أمهاتكم؛ لا تكون أمًّا بهذه الكلمة، لا تخرج من كونها زوجة لتكون أمًّا بهذه الكلمة؛ فهذه الثانية.

والثالثة؛ قال -جل وعلا- {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ}، {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ}، أدعياءكم جمع دَعِي، والدَعِي هو الذي يُدَّعى؛ فيقول الإنسان أن هذا ابني ولي بابنه، وكانت العرب تستلحق بها غير أبنائها بطرق كثيرة، منها أن الشخص إذا وجد ولدًا فيه صفات النجابة والحُسن والجمال يستلحقه، يسلتحقه؛ يُعطيه إسمه، ويستحلقه به، وكذلك كانت العرب يُغيِر بعضهم على بعض ويسْبُون، وإذا جاء بمثل هذا السَّبي كان أحيانًا يأخذونه سَبيًا، ثم أحيانًا يمُنون عليه بالحرية، ثم يُلحِقونه ويقولون هذا فلان ابن فلان، وهم يعلمون أنه ليس ابنه ولكن يُعطيه إسمه، كزيد ابن حارثة -رضي الله تعالى عنه- فإنه قد سُرِق؛ كان في غارات المشركين قبل البعثة، وهو يرجع إلى قبيلة كلب، اشتراه حكيم ابن حزام -رضي الله تعالى عنه-، وأهداه إلى عمته خديجة بنت خويلد -رضي الله تعالى عنها-، ثم أن خديجة -رضي الله تعالى عنها- أهدت زيد إلى النبي -صلوات الله والسلام عليه-، كان النبي يَكْبره بنحو عشر سنين، فلمَّا جاء أبوه يبحث عنه وجَده عند النبي -صل الله عليه وسلم-؛ وجَده في مكة، بقي يبحث عنه، ابنه سُرِق منه، ووجَده أنه قد بيع في مكة، وسأل عنه حتى عرف أنه قد أصبح في دار النبي -صل الله عليه وسلم-؛ وهذا قبل البعثة، فلمَّا جاء إلى النبي يطلب ابنه فالنبي قال له خَيِّر؛ إن اختارك فخذه، فزيد -رضي الله تعالى عنه- لم يختره، وإنما اختار أن يبقى مع النبي -صل الله عليه وسلم-، وهذا لِما جعل الله له من الكرامة، فبَقي في حِجر النبي -صل الله عليه وسلم-، وكان الناس يُطلِقوا عليه زيد ابن محمد؛ بَقي على هذا النحو، لمَّا هاجر النبي ما كانوا يعرفون إلا أن زيد هو ابن النبي -صلوات الله والسلام عليه-، والحال أنه ليس ابنه وأبوه معروف، هو زيد ابن حارثة وهذه قصته، فكانوا يدعونه على الشأن الذي كان في الجاهلية؛ المُتبنَّى يطلق عليه إسم من يتَبنَّاه فيقولون فلان ابن فلان، فقال -جل وعلا- {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ}، ما جعل الدَّعِي الذي تدَّعي فيه أنه ابنك وهو ليس بابنك؛ اللي هو المُتبنَّى، {ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ}، ذلكم؛ هذا، قولكم بأفواهكم؛ هذا قول بالفم، فقول الإنسان أن هذا ابني لا يُغيِّر الحقيقة من أن له أب غيره، وكذلك قول الرجل لزوجته أنتي علي كظهر أمي؛ قول، لكن هذا القول لا يُغيِّر الحقيقة؛ أن الزوجة غير الأم، {ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ}، وبالتالي يأمركم بالصدق، وأن يكون كل قول مِقُولًا على حقيقته، {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ}، هو يرشد إلى السبيل؛ السبيل الصحيح، السبيل؛ الطريق المستقيم، الذي هو طريق الله -تبارك وتعالى-، {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ}، اللي هو سبيل النجاة وسبيل الخير، أمَّا هذه السبُل؛ سبُل الضلال، من أن يكون فيها قول الزور؛ قول الباطل، وتبديل الحقائق بمجرد كلام يخرج من الفم، فهذا غير سبيل الله -تبارك وتعالى-، {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ}.

ثم أرشَد الله بعد ذلك إلى الحق في هذه الأمور، فقال {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ}، ادعوهم لآبائهم؛ ادعوا هؤلاء الأدعياء لآبائهم، فالولد يُدعى إلى أبيه في النَسَبْ وليس إلى أبيه في الدَّعوة والتبنِّي، {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ}، هذه دعوة الولد إلى آبائه في النَسَب هو أقسط عند الله؛ هو أعدل، هذا الأعدل والأَولى عند الله -تبارك وتعالى- في ميزان الله -تبارك وتعالى-؛ أن يُدعى كل إنسان إلى أبيه الحقيقي، {فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ}، {فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ}، كان قد أُخذ لقيطًا لا يُعرَف له أب، ألقته أمه، أو كان في الغزو وترك الناس أولادهم وفَرُّوا يمينًا وشمالًا؛ ثم أُخذ هؤلاء الأولاد، أو كان ضائعًا تائهًا وأُخذ وهو صغير فتبنَّاه من تبنَّاه بعد ذلك، ففي هناك حالات كثيرة ممكن أن يُلتَقَط فيها ويؤخَذ فيها الذُريَّة الصغار قبل أن يعرفوا آبائهم، ودون أن يعرف أحد من المُحيطين بهم هذا الولد اللقيط ابن مَن، {فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ}، فيكون أخوكم في الدين، مسلم؛ نشأ مع المسلمين فيكون أخ لكم في الدين، فنقول فلان مَولى بني فلان أن أخ بني فلان، {وَمَوَالِيكُمْ}، المَولى هو الذي يقوم بينك وبينه عهد أو عقد يجعله يواليك وأنت تواليه، والمَولى؛ الناصر، والمُحِب، والصديق، والعرب تُطلِق على الخادم؛ يعني على عبيدهم وأرقَّائهم، وتُطلِق المَولى على السيد فيكون هو مَولى القوم؛ يعني سيدهم، ومَولى بني فلان؛ اللي هو عبدهم وخادمهم، والمَولى؛ الحليف، هؤلاء مَوَالي بني فلان، والعلاقة بين هذه أن كل مَن قامت بينك وبينه علاقة تجعله يواليك وأنت تواليه؛ هذا مَولى، فمَوَاليكم يعني يكونوا هؤلاء الذين كانوا في باب العبيد والأرقَّاء، أو هم في باب مَن تبَنَّيتموهم؛ هم مَولى، فإذن يُقال فلان مَولى فلان، أول أخو فلان، أو أخو بني فلان.

قال -جل وعلا- {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ}، هذا رفع من الله -تبارك وتعالى- للإثم وللحَرَج في وقوع الخطأ في هذا، {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ}، من نسبة الشخص إلى غير آبائه ونحو ذلك، لأن الأمور هذه سيُحكَم فيها بالظاهر، وأمَّا الحقائق فإن عِلمها إلى الله -تبارك وتعالى-، فإذا وقع الخطأ في هذا فإنه عند الله -تبارك وتعالى- مغفور، {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ}، الجُناح هو الإثم، والعقوبة، والمؤاخذة، {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ}، لكن؛ يؤاخذكم الله، ويكون عليكم جُناح هنا؛ فيما تعمَّدت قلوبكم أن تقولوا الزُّور، تَعَمَّدت قلوبكم؛ تعلم أن هذا الغلام ليس أبوه هذا المنسوب إليه، ثم تنسبونه وأنتم تعلمون أنكم تكذبون في هذا؛ وأن هذا ليس الحقيقة، {وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}، وكان الله غفورًا رحيمًا؛ لا يؤاخذكم فيما أخطأتم به، ولا يؤاخذكم فيما سلَف، ويعفوا ويغفر -سبحانه وتعالى-، هذا من عفوِّه ومغفرته -سبحانه وتعالى-، وأصل المغفرة هو الستر والتغطية، يعني غفور؛ يستر العيوب -سبحانه وتعالى-، رحيم بعباده -سبحانه وتعالى-؛ لا يؤاخذهم بما أخطأوا فيه.

ثم قال -جل وعلا- {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا}[الأحزاب:6]، النبي؛ رسول الله -صل الله عليه وسلم-، محمد ابن عبد الله، أولَى بالمؤمنين؛ جميعهم، من أنفسهم؛ يعني أولَى من كل إنسان بنفسه، يجب أن يكون أحب إلى كل مؤمن من نفسه، ثم إنه أولَى من كل مؤمن من نفسه؛ أحرص على منفعة كل مؤمن من نفسه التي بين جنبيه -صلوات الله والسلام عليه-، {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}[التوبة:128]، فالنبي أولَى من كل مؤمن بنفسه، يعني أحق وأجدر في كل نفس بما يحصل لها من الخير وما يدفع عنها من الشر، أكثر من حرص الإنسان على منفعته لنفسه بنفسه، الإنسان يُحب نفسه ويسعى في مصالحها؛ في جلب الخير لها ودفع الضُّر عنها، النبي أحرص عليك منك على نفسك؛ هذه واحدة، وكذلك النبي أولَى بالمؤمنين من أنفسهم؛ يعني محبة، يعني محبة وتقديمًا، يجب على كل مؤمن أن يُقدِّم النبي على كل أحد؛ حتى على نفسه التي بين جنبيه، لأنه ما من خير أتاه إلى من طريق هذا النبي -صلوات الله والسلام عليه-، الله جعله هو مصدر الخير لعباده المؤمنين، وكذلك دفع كل الشر عنهم، فلذلك يجب أن يكون هو أولَى بالمحبة من كل أحد؛ حتى من نفس الإنسان، وفي الحديث «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده، ووالده، والناس أجمعين»، وقال عمر ابن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- ((والله يا رسول الله إني لأحبكم أكثر من الناس كلهم إلا من نفسي، فقال له لا يا عمر، فقال له إنك لأحب إلىَّ من نفسي، فقال الآن يا عمر))، فهذي مقالة الله -تبارك وتعالى-، قول الله -عز وجل- {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ}، يعني عند نفس الإنسان يجب أن يُحب النبي أولَى من كل أحد؛ حتى من نفسه التي بين جنبيه، وكذلك حال الرسول -صلوات الله عليه وسلم-؛ فإن النبي أحرص على منفعة كل أحد من نفسه التي بين جنبيه.

{النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ}، قرأ بعض أقوال الصحابة "النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أبٌ لهم"، يعني هو بمنزِلة الأب لهم -صلوات الله والسلام عليه-؛ احترامًا، وتقديرًا، وتقديسًا، ومكانةً -صلوات الله والسلام عليه-، {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ}، أزواجه؛ زوجات النبي -صل الله عليه وسلم- هم بالنسبة لعموم المؤمنين أمهات المؤمنين؛ في الاحترام، والتقدير، والتقديس، والمكانة، ومن أجل ذلك حرَّم الله -تبارك وتعالى- على المؤمنين أن يتزوَّجوا نساء النبي بعد وفاته، أو بعد طلاقه لإحداهن -صل الله عليه وسلم-، فإذا طلَّق النبي إمرأة أو إذا توفي عنها فإنها لا تَحِل لأحدٍ من المؤمنين بعده -صلوات الله والسلام عليه-، كما سيأتي في السورة {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا}، لأنهن في المكان حُرمَتهن كحُرمة الأمهات، بل أعظم من حُرمة أمهات النَسَب، {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ}، ثم قال -جل وعلا- {وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ}، أولوا الأرحام؛ أهل القرابة، أولوا؛ أصحاب، الأرحام اللي هم أهل القرابة؛ الذين يلتقون عند رحم واحدة، والرحم؛ مَنبت الولد، فمَن يلتقون في رحم واحدة -وإن تباعدوا- فبالتالي يكونون من أولوا الأرحام، فأولوا الأرحام بعضهم أولَى ببعض، {فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ}، بعضهم أولَى ببعض وبهذا ينتقل الميراث، كان الميراث إنما هو الميراث للحليف، وللمُتبنَّى، ولمَن يختاره الإنسان ليكون صديقًا ووليًّا له، لكن الله -تبارك وتعالى- أبطل هذا وجعل الميراث لأولوا الأرحام؛ في الأبناء، والآباء، وفي الإخوة، وفي مَن بعدهم من العصَبَة وأولوا الأرحام، {وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ}، أكثر ولاية بعضهم ببعض، في الولاية؛ في المحبة والنًصرَة، ثم الله جعل الميراث بعد ذلك فيهم، {فِي كِتَابِ اللَّهِ}، في كتاب الله؛ ما كتَبَه الله -تبارك وتعالى- في دينه وشرعه -سبحانه وتعالى-، أولَى من المؤمنين والمُهاجرين وكان النبي يؤاخذي بين المُهاجر والأنصاري، وبين المُهاجرين بعضهم مع بعض، وبين المُهاجر والأنصاري حتى تكون بينهم لُحمة وتعاون وموالاة بينهم، وكانوا يتوارثون بهذا العقد؛ عقد الموالاة، والله -تبارك وتعالى- بعد ذلك أبطل التوارث بهذا العقد؛ وأبقى الموالاة والمحبة به، قال {إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا}، إلا أن يفعل الإنسان إلى وليِّه؛ يعني مُعاهده والذي تآخى معهم، معروفًا؛ غير الميراث، {كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا}، كان الله -تبارك وتعالى- قد كتب هذا في كتابه.

نعود -إن شاء الله- إلى هذه الآية في الحلقة الآتية، استغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصل الله وسلم على عبده ورسوله محمد.