الجمعة 21 جمادى الأولى 1446 . 22 نوفمبر 2024

الحلقة (511) - سورة الأحزاب 7-8

{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الفاتحة:2] {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}[الفاتحة:3] {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}[الفاتحة:4]، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا}[الأحزاب:7] {لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا}[الأحزاب:8] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا}[الأحزاب:9] {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا}[الأحزاب:10] {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا}[الأحزاب:11]، قول الله -تبارك وتعالى- {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا}[الأحزاب:7]، تذكير من الله -تبارك وتعالى- وبيان لرسوله -صل الله عليه وسلم-؛ أنه قد أخذ ميثاق الأنبياء، والنبي أول مَن ذكَر الله -تبارك وتعالى- في هذه الآية، {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ}، النبييين؛ كل الأنبياء والمرسلين، وسُمُّوا بالنبيين مفردهم نبي؛ أنه المُنبأ بالأخبار العظيمة، وكل ما نزَل على الرسل من الأخبار العظيمة، كالإيمان بالله -تبارك وتعالى-؛ مسائل الإيمان بالله -تبارك وتعالى-، وأسمائه، وصفاته، وما من أجله خلَق هذا الخلْق، وما أعدَّ لعباده المؤمنين في الآخرة، وما أعدَّ للكافرين من العذاب والنكال، أخبار عظيمة جدًا؛ هذه أنباء، فهؤلاء الأنبياء الله -تبارك وتعالى- أخبر بأنه قد أخذ ميثاقهم؛ العهد المؤكَّد منهم، وهذا الميثاق هو أن يؤمنوا به، وأن يقوموا بالدعوة إلى طريق الله -تبارك وتعالى- ويتحملوا هذه الرسالة بالبلاغ، كما قال الله -تبارك وتعالى- لرسوله -صل الله عليه وسلم- {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ}[المدثر:1] {قُمْ فَأَنذِرْ}[المدثر:2] {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ}[المدثر:3] {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ}[المدثر:4]، هذا كان أول أمر أُنزِل على النبي -صل الله عليه وسلم- بحمله لهذه الرسالة، {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ........}[المائدة:67]، فكل نبي وكل رسول أخذ الله -تبارك وتعالى- عهده الموثَّق والغليظ؛ على أن يقوم بما أمره الله -تبارك وتعالى- به من الدعوة والبلاغ، وأن يصبر على ما يناله من الأذى في هذا السبيل.

{وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ}، عهدهم المؤكَّد، {وَمِنْكَ}، بدأ الله -تبارك وتعالى- بالتخصيص بعد التعميم، فالنبيين هذا الإسم العام لكل من نبأهم الله –تبارك وتعالى-، وحمَّلهم أمانة الدعوة، وحمَّلهم رسالته -سبحانه وتعالى- إلى الناس، بدأ بالتخصيص؛ خصَّ الله -تبارك وتعالى- هنا بالذِكْر خمسة من الأنبياء المرسلين، وهم أشرف الأنبياء وأعلاهم درجة من كل مَن أرسل الله -تبارك وتعالى-، فبدأ بالنبي محمد -صلوات الله والسلام عليه-؛ هو خاتمهم، وهو سيدهم، هو أشرف الأنبياء والمرسلين -صلوات الله والسلام عليه-، قال -جل وعلا- {وَمِنْكَ}، هو داخل في مُجمَل النبييين؛ لكن هنا إنما ذِكر للخاص بعد العام، {وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ}، هذا أولهم؛ أول رسول أرسله الله -تبارك وتعالى- إلى أهل الأرض، {وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى}، إبراهيم؛ خليل الله، وموسى بني إسرائيل؛ الذي أرسله الله -تبارك وتعالى- في بني إسرائيل، وعيسى؛ آخر أنبياء بني إسرائيل، وليس بينه وبين النبي رسول ولا نبي، {وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ}، يُنسَب إلى أمه؛ وذلك أن الله -تبارك وتعالى- قد خلَقه من أمه بلا ذَكَر، أمه؛ العذراء البتول -عليها السلام-، خلَق الله -تبارك وتعالى- عيسى آية، جعله الله -تبارك وتعالى- آية؛ فيُنسَب دائمًا إلى أمه، {وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا}، {وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا}، موثِقًا؛ عهدًا مؤكَّدًا، غليظًا؛ غِلَظُهُ في الآثار التي تترتب عليه، فلو أن رسول من هؤلاء الرسل قصَّر في رسالته أو لم يقم بها فيكون له أمر عظيم جدًا؛ عقوبة شديدة من الله –تبارك وتعالى-، فهو مُكلَّف بأمر عظيم؛ بأن يقوم برسالة الله –تبارك وتعالى-، ويُبلِّغ من الله –جل وعلا-، ويصبر على ما يناله من الأذى في هذا السبيل.

كانت هذه الآية هي ختام هذا الفاصل من هذه السورة؛ سورة الأحزاب، التي بدأها الله -تبارك وتعالى- بخطاب للنبي -صل الله عليه وسلم-، {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا}[الأحزاب:1] {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}[الأحزاب:2] {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا}[الأحزاب:3]، ثم ذكَر الله -تبارك وتعالى- مجموعة من الأحكام الخاصة بشأن النبي -صلوات الله والسلام عليه-، ثم ختم الله -تبارك وتعالى- هذه المقدِّمة وهذا الفاصل من السورة بقوله {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا}[الأحزاب:7]، يدخل كذلك في هذا الميثاق أن الله -تبارك وتعالى- قد أخذ على كل نبي أن يؤمن بمحمد -صلوات الله والسلام عليه-، {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ}[آل عمران:81]، فقد أخذ الله -تبارك وتعالى- الميثاق والعهد على كل نبي أرسله قبل محمد -صلوات الله والسلام عليه-؛ أنه إذا بُعِث النبي وهو حي أن يؤمن به وأن يتَّبِعه، ولذلك قال النبي -صل الله عليه وسلم- «والله لو أن موسى حيًا لَما وَسِعَه إلا أن يتَّبِعني»، وذلك أنه مأمور باتِّباع النبي لو أن محمد -صلوات الله والسلام عليه- كان موجودًا، في أي وقت يكون فيه هذا الرسول لابد لكل نبي ورسول أن يتَّبِع محمدًا -صلوات الله والسلام عليه-.

قال -جل وعلا- {لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا}[الأحزاب:8]، {لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ}، يعني أن الله -تبارك وتعالى- أخذ هذا العهد الموثَّق عليهم ليكون هناك بين يديه -سبحانه وتعالى- سؤال للصادقين عن صدقهم، وكل هؤلاء الرسل من أهل الصدق والتصديق، فقد صدَّقوا ما جائهم من الله -تبارك وتعالى- بالوحي والرسالة، وكانوا صادقين في دعوة الخلْق إلى طريق الرب -تبارك وتعالى-، والله يسألهم كما قال -جل وعلا- {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ}[الأعراف:6] {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ}[الأعراف:7]، فيُسأل المرسلين؛ سؤال الله -تبارك وتعالى- للمرسلين يوم القيامة، هل بلَّغتم؟ كما قال -تبارك وتعالى- {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ}[المائدة:109]، يُسلِّمون الأمر لله -تبارك وتعالى-، ومن أجل ذلك قال النبي -صل الله عليه وسلم- في ختام رسالته وفي ختام أيامه -صلوات الله والسلام عليه-؛ في حِجة الوداع، قال لهم ألا هل بلَّغت؟ وهو يُشير إلى هذه الجموع التي اجتمعت، وكان أعظم جموع اجتمعت للنبي في هذا الوقت؛ في حِجته -صل الله عليه وسلم-، اجتمع له أكثر من مائتي ألف من المسلمين، فقال لهم النبي ألا هل بلَّغت؟ فقالوا اللهم نعم، فقال اللهم أشهد وهو يرفع أُصبُعه إلى السماء ثلاثًا؛ اللهم أشهد، اللهم أشهد، اللهم أشهد، يعني قد بلَّغتهم، فهذا لبيان التكليف الإلهي وليأخذ النبي الحُجَّة على هؤلاء؛ أنه بلَّغهم رسالة الله -تبارك وتعالى-، وقد بلَّغ النبي رسالة الله كاملة، فقول الله {لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ ........}[الأحزاب:8]، هذا يوم القيامة؛ يُسأل أهل الصدق عن صدقهم، والله -تبارك وتعالى- اعلم بما أجابوا وما قالوا، هل بلَّغوا أم لم يُبلِّغوا؟ ولكن هذا سؤال للجميع ليتم إقرار هذا أمام الجميع، وبعد ذلك تقوم حُجَّة الله -تبارك وتعالى- على المُعاندين والمكذَّبين، {وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا}، أعدَّ للكافرين؛ من هؤلاء الذين كذَّبوا الرسل، ولم يؤمنوا بهم، ولم يُطيعوهم، أعدَّ الله -تبارك وتعالى- لهم عذابًا أليمًا، فإن الله -تبارك وتعالى- كلَّف الرسل بالبلاغ فقط، قال {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ}، وقال لنبيه {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ}، وبعد ذلك الذين بُلِّغوا يكونوا أمام المسئولية يوم القيامة، فإذا لم يمتثلوا أمر الله -تبارك وتعالى- كانوا كما قال الله -تبارك وتعالى- {وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا}.

بعد هذا الفاصل وهذه الآيات المُتَّبِعَة في هذا الموضوع من هذه السورة، شرَعَ الله -تبارك وتعالى- يُذكِّر أهل الإيمان بنعمته عليهم؛ في أن أنجاهم ونصرهم في أصعب وأسوأ مِحنة تعرَّضوا إليها في حياة النبي -صلوات الله والسلام عليه- وهي غزوة الأحزاب، قال -جل وعلا- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا}[الأحزاب:9] {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا}[الأحزاب:10] {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا}[الأحزاب:11]، هذه الآيات وما يأتي يَتبَعُها إلى قول الله -تبارك وتعالى- {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا}[الأحزاب:26] {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا}[الأحزاب:27]، هذه الآيات هي التي تُبيِّن أولًا غزوة الأحزاب، ثم غزوة بني قُريظة التي تلتها وكانت معها تمامًا، وخلاصة هذا الأمر أن ثلاثة من اليهود الذين أجلاهم النبي -صلوات الله والسلام عليه- وهم؛ سلام ابن مِشكَم، وسلام ابن أبي الحقيق، وكِنان ابن الربيع، هؤلاء الثلاثة كانوا من الذين أجلاهم النبي -صلوات الله والسلام عليه-، النبي أجلى طائفتين من اليهود وهم؛ بنوا قين قاع، وشفَعَ فيهم عبد الله ابن أُبي وأجلاهم النبي عن المدينة؛ وكان هذا بعد بدر، وبني النضير؛ وقد أجلاهم النبي -صل الله عليه وسلم- عنها بعد أن خانوا عهده، وأرادوا أن يقتلوا النبي -صلوات الله والسلام عليه-، وأُجلوا عن المدينة وكان هذا في السنة الثالثة من هجرة النبي؛ بعد أُحُد.

هؤلاء من الذين أُجلوا كان هؤلاء الثلاثة الذين ذكَرناهم ذهبوا ليُؤلِّبوا على النبي -صلوات الله والسلام عليه-، فذهبوا إلى قريش وبدأوا يُحرِّكونهم في أن يأتوا إلى حرب النبي -صل الله عليه وسلم- في المدينة، وأنهم سيكونون معهم وسينصرونهم إذا أتوا إلى حرب النبي -صلوات الله والسلام عليه-، وقالوا لهم بأن النبي في بدر قتل منهم، وأنه لما جائوا في أُحُد وإن كان المشركون قد انتصروا وقتلوا من المسلمين مَن قتلوا؛ سبعين شخص، إلا أنهم لم يؤثِّروا فيهم ومازالت قوة النبي تتعاظم، وضَمِنوا لهم بأنهم سيكونون معهم، وستكون بني قُريظة، وكذلك سيكون اليهود الباقين في المدينة معهم، ثم ذهب هؤلاء الثلاثة كذلك من اليهود إلى غَطَفان؛ وأغروهم بأن يأتوا إلى حرب النبي -صلوات الله والسلام عليه-، وأغروهم بأنهم إن انتصروا على النبي وعلى الأوس والخزرج معه من أهل الإيمان فإنهم سيُعطوهم شِطر من ثمار المدينة، وأن قريش أيضًا ستأتي وتكون معهم، فتحرَّكت غَطَفان وعلى على رأسهم عُييِّنَة ابن حِصن الفزاري وأتوا، وتحرَّكت قريش كذلك وجائت وعلى رأسها أبو سُفيان ابن حرب، وجائوا نزَلوا في شرق المدينة ونزَل بعض الناس منهم في أعالي المدينة، والنبي لما علِم بهذا الأمر وأنه تحرَّك نحو عشرة آلاف من المقاتلين استشار أصحابه -صلوات الله والسلام عليه-، فأشير عليه بحفر خندق حول المدينة، وقيل أن الذي أشار بهذا هو سالمان الفارسي -رضي الله تعالى عنه-، فشرَعَ المسلمون مجتهدين في حفر الخندق؛ في جهة شرق المدينة وشمالها، والنبي -صل الله عليه وسلم- جعل ظهره إلى جبل سِلَّة، وأصبح هذا الخندق ليس فيه ماء، وأصبح هذا الخندق حائل يحول بين المسلمين وبين خيل المشركين، والنساء والأطفال وُضِعوا في الأُطُم؛ الحصون المتناثرة في المدينة وُضِعوا فيهم، والجيش بقي في هذا المكان مُتَحصِّن بالجبل من خلفه وبالخندق من أمامه.

اشتدَّ الخطْب كذلك بأن ذهب حُيي ابن أخطب النضري؛ وهذا من الذين أُجلوا من بني النضير، ذهب إلى بني قُريظة، وكان بين بني قُريظة وبين النبي عهد بالموادعة، وأنه إن أتى عدو يُريد المدينة اشتركوا في حربه ودفعه، فظل حُيي ابن أخطب يقول لهم لقد أتيتكم بعِز الدهر، يقول لسيد ومُقَدَّم بني قُريظة وهو كعب ابن أسد؛ يقول له لقد أتيتك بعِز الدهر، أتيت بغَطَفان وأتيت بقريش لنستأصل الرسول والمسلمين، ومعنى نستأصلهم يعني نُبيدهم إبادة، فقال له كعب ابن أسد والله لقد أتيتني بذُل الدهر، وتوَجَّس من أن هذا الجمع الذي اجتمع على النبي أنه سيتفرَّق، وذلك أنهم كانوا يؤمنون بأن هذا بالفعل هو رسول من الله -تبارك وتعالى-، وأن دينه لابد أن ينتصر، ومن العجب أن حُيي ابن أخطب من أكثر الناس إيقانًا من أن محمد ابن عبد الله هو رسول الله حقًا وصدقًا، كما في حديث صفية أم المؤمنين -رضي الله تعالى عنها- أنها قالت بأن النبي لمَّا نزَل أول ما نزَل في قباء؛ مهاجرًا من مكة إلى قباء، تقول قال أبي اللي هو حُيي ابن أخطب؛ فهي صفية بنت حُيي ابن أخطب، فقال أبي لعمي ما رأيك في أن نذهب إلى هذا الرجل الذي نزَل في قباء؟ تقول فذهبا؛ فمكثا طيلة النهار، وجائا في آخر النهار؛ تقول رجعا مُنكَسِرين، تقول كنت أنا مُحبَّبة إلى أبي وعمي، وكانا إذا رأوني هشَّا لي وبشَّا وحملاني وقبَّلاني، تقول والله ما انتبه أحدٌ منهم إلي، جئت كما العادة؛ طفلة تأتي إلى أبيها وعمها، تقول والله ما فطَنَ أحدٌ منهم إلي، ولكن سمعت عمي يقول لأبي أهو هو؟ فقال إي والله هو، يعني حُيي ابن أخطب يقول هو، قال فما عملك معه أو فعلك به؟ فقال والله عداوته ما بقيت، هذا كلام حُيي؛ قال والله عداوته ما بقيت، طالما أنا موجود أعادي هذا الرجل عِلمًا أنه يعمل أنه هو رسول الله -صلوات الله والسلام عليه-.

وبالفعل ظلَّ حُيي ابن أخطب على عداوته، فبعد مؤامرته على النبي لقتله في بني النضير وحصار النبي لهم وإجلائهم من المدينة، رجع بعد ذلك يؤلِّب على النبي -صلوات الله والسلام عليه-، وكان هو الذي ذهب إلى بني قُريظة وبدأ في تحريضهم في أن ينقضوا عهدهم مع النبي -صلوات الله والسلام عليه-، كعب ابن أسد توَجَّس خيفة من أن ينقض عهده مع النبي -صل الله عليه وسلم-، ولكن ظلَّ هذا يفتِن له كما يُقال في غاربه حتى نقض عهده مع النبي، وأعلن دخوله الحرب مع الأحزاب ضد النبي -صلوات الله والسلام عليه-، وهنا اشتدَّ الكرب على المسلمين؛ فإن الأعداء قد اجتمعوا لهم من كل جانب، قريش جائت بكل أحابيشها؛ بالأحابيش المُلحَقين الذين ليسوا فيها، وجائت بمَن معها ممَّا حول مكة، جائوا كلهم لقتال النبي -صلوات الله والسلام عليه-، وغطَفَان جائت لقتال النبي وهم قوم أشدَّاء؛ أهل قتال، وقُريظة نقضت عهدها وكذلك اجتمعوا الجميع على حرب النبي -صلوات الله والسلام عليه-، يعني أحاطوا بالمدينة كما يُقال أحاط السوار بالمعصم، أحاطوا من كل مكان وأصبح المسلمون محصورين في هذا المكان الذي حُصِروا فيه؛ في الخندق من جهة ليحميهم وظهرهم إلى الجبل، ونسائهم وأطفالهم بعيدًا عنهم؛ وضعوهم في حصرون، وجعلوا على هذه الحصون بعض النساء تتحصَّن ببعض الأحجار وكذا وكذا؛ ليحموا أنفسهم وهم مُتفرِّقين في هذه الحصون، كل مجموعة من أسر المسلمين في حِصن من هذه الحصون، فاشتدَّ الكرب شدَّة هائلة جدًا على النبي -صلوات الله والسلام عليه- وعلى المسلمين.

يُذكِّر الله -تبارك وتعالى- عباده المؤمنين بهذه المحنة التي كانت والتفَّت بهم على هذا النحو، قال -جل وعلا- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا}[الأحزاب:9]، كان من شأن الله -تبارك وتعالى- بعد أن تحزَّب الأحزاب على هذا النحو حول النبي -صلوات الله والسلام عليه- وأصحابه؛ وقد أتوا في هذه المرة للاستئصال، وأنها ستكون حربهم حرب استئصال لإنهاء وجود المسلمين قاطبة، فحاصروا المسلمين على هذا النحو شهر كامل والمسلمون محصورون؛ وكان هذا في وقت برد شديد، ومن ضيق المسلمين أن أصابهم جوع شديد -صلوات الله والسلام عليه-، وكان المسلمون يذهبون ليحفِروا في الخندق في أيام باردة شديدة، كما جاء في الحديث «أن النبي خرج يومًا يحفر في الخندق في غَداة باردة، والمسلمون والأنصار يحملون التراب، والنبي يحمل على كتفه التراب كما يحملون، بينما هم كذلك إذ عرَضَت لهم كودية»، كودية هي عبارة عن كتلة كبيرة من الصخر في الجبل، «عالجها المسلمون فلم يستطيعوا، فنادوا النبي -صل الله عليه وسلم- إليها، فأخذ النبي المِعوَل وسمَّى الله وضربها فتحوَّلت إلى كثيب مهيل»، كأنها رمل يُجرَف ويُبعَد، وكان النبي يقول «اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة»، اللهم لا عيش؛ يعني عيشًا على الحقيقة هو عيش الآخرة، وأمَّا الدنيا فإن تسميتها بالعيش إنما هو عيشة، لكنها إسم ليس موضوع؛ ما هي العيشة الحقيقية، «اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة»، كان النبي يقول هذا فيُجيبه المسلمون ويقولون «نحن الذين بايعوا محمدًا على الجهاد ما بقينا أبدًا»، رجْزُهم؛ يرتجِزون بهذا الشِعر، ويقولون «نحن الذين بايعوا محمدًا على الجهاد ما بقينا أبدًا».

بعد هذا الشهر من الكرب والمِحنة الشديدة جائهم نصر الله -تبارك وتعالى- وفرجه؛ بأن أرسل -سبحانه وتعالى- الريح على القوم، فأظلَمَت الدنيا نهارًا وليلًا؛ كان أحدهم إذا أخرَج يده لا يكاد يراها، وجاء البرد الشديد، وظلَّت هذه الريح تسفي عليهم لا تترك لهم خيمة إلا وقلعتها، طُنُب إلا ومزَّقته، نار إلا وأطفأتها، قِدر إلا وقلبته، فأصبحوا في ريح مُحمَّلة بالتراب وبالحصى يضرب وجوههم وأدبارهم؛ وبقوا على هذا الحال مدة، ثم إن الله -تبارك وتعالى- أوقع الرعب في قلوبهم، وجاء رجل من غطَفَان وهو نُعيم ابن مسعود -رضي لله تعالى عنه- وأخبر النبي بأنه قد أسلم؛ دخل في الإسلام، فقال له النبي هل علِم أحدٌ بإسلامك؟ فقال له لا، فقال له اذهب فخزِّل عنَّا، فذهب نُعيم ابن مسعود وصنع صنيعًا عظيمًا جدًا في القوم، فإنه ذهب أولًا إلى قُريظة وهم يعلمونه أنه هذا غطَفَاني، ذهب أولًا إلى قومه بني غطَفَان وقال لهم أنا علمت أن بني قُريظة قد نقضوا عهدهم، وأنهم راجعون إلى النبي وأنهم في المدينة مع رسول الله، وأنهم علموا أنكم ستذهبون وترجعون، وأنهم نقضوا عهدهم مع النبي -صلوات الله والسلام عليه-، وأنهم نقضوا عهدهم معكم وسيكونوا مع النبي -صل الله عليه وسلم-، طبعَا قال سيكونوا مع محمد -صلوات الله والسلام عليه-، ثم ذهب إلى بني قُريظة وقال لهم إن غطَفَان سترجع، وستترككهم، وستلاقون أنتم المصير السيء عندما يتحول النبي إلى حربكم، وأنا ناصح لكم؛ فاطلبوا منهم رهائن يكونون عندكم حتى لا يرجعوا، ويستمروا في البقاء إلى أن تُحاربوا النبي، فقالت قُريظة والله هو الرأي؛ هذا هو الرأي.

بعد ذلك جاء وفود من غطَفَان إلى بني قُريظة وقالوا لهم إنَّا سمعنا أنكم ستنقضون عهدكم معنا وترجعون مع محمد، وقالت قُريظة نحن نخاف أن تتركونا وحدنا وتنشَمِروا، فحتى نكون معكم اعطونا رهائن يكونون معنا منكم حتى لا ترجعوا، فعند ذلك تيقَّنت غطَفَان أنه بالفعل قد نقضت قُريظة عهدها، وكذلك علمت قُريظة بأن غطَفَان سيرجعوا ويتركوهم، فعل هذا خلخلة كبيرة في صفوف العدو، ثم إن قريش لمَّا مكثت هذا المُكث ولم تجد سبيلًا إلى هذا الأمر فكرت بعد ذلك في أن ترجع وأن تترك الحرب، لم ينشب في هذا الوقت قتال إلا فقط عمرو ابن وُد العامري؛ هو الذي اقتحم الخندق مع جماعة منه، فعند ذلك النبي ندَبَ له مَن يُبارزه؛ طلب مَن يُبارزه، فندَبَ له النبي علي ابن أبي طالب -رضي الله تعالى عنه-، فبارزه فقتله؛ قتل عمرو ابن وُد العامرين؛ وكان هذا الرجل يُقدَّر بألف في الجيش، وجوده كألف في الجيش فقتله علي ابن أبي طالب -رضي الله تعالى عنه-، وكان هذا هو القتال الوحيد الذي دام في هذا.

على كل حال سنعود -إن شاء الله- إلى تفصيل هذه الغزوة، ونسير بعد ذلك مع ما أنزَله الله -تبارك وتعالى- بشأنها، استغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصل الله وسلم على عبده ورسوله محمد.