الجمعة 21 جمادى الأولى 1446 . 22 نوفمبر 2024

الحلقة (512) - سورة الأحزاب 9-20

{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الفاتحة:2] {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}[الفاتحة:3] {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}[الفاتحة:4]، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا}[الأحزاب:9] {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا}[الأحزاب:10] {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا}[الأحزاب:11] {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا}[الأحزاب:12] {وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا}[الأحزاب:13] {وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا}[الأحزاب:14]، يُنادي الله -تبارك وتعالى- عباده المؤمنين مُذكِّرًا إياهم -جل وعلا-؛ في أن نصرهم مؤزَّر في غزوة الأحزاب، قال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ}، اذكروها؛ استحضروها في أذهانكم، ولِتظل دائمًا على ذِكر منكم، {نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ}، وهذه الجنود هم قريش التي أتت بحدِّها وحديدها وأحابيشها في شوال؛ في السنة الخامسة من هجرة النبي -صلوات الله والسلام عليه-، وجائت غَطَفان كذلك، وكذلك قامت قُريظة فنقضت عهدها مع النبي -صلوات الله والسلام عليه-، واجتمع على المسلمين نحو عشر آلاف من هؤلاء يُريدون استئصال أهل الإسلام؛ قتل النبي واستئصال أهل الإسلام جميعًا، فهذي جنود جائت مُتحزِّبه مُتجنِدة كلها على المسلمين، وكان السبب هو سعاية اليهود بأن جمَّعوا هذه الأحزاب لاستئصال أهل الإسلام.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا ........}[الأحزاب:9]، بعد شهر من الحصار الشديد للمسلمين أرسل الله -تبارك وتعالى- على هؤلاء الأحزاب ريح؛ لم تدع لهم خيمة إلا ودلَعَتها، ولا نار إلا وأطفأتها، ولا قِدْر إلا وكفأته، وكانت تسفي في وجوههم وتضربهم بالحصباء، {وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا}، الملائكة؛ أرسل الله -تبارك وتعالى- جنود من الملائكة لم يراها المؤمنون، ولكنها فعلت فعلها في القوم؛ رعبًا في قلوبهم، وإضجارًا لهم، وضربًا خفيًا فيهم، حتى نزعتهم من أمكانهم وشتَّتهم؛ كلٌ ذهب إلى دياره بعد ذلك، {وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا}، أرسلهم الله؛ هم الملائكة، وكان على رأس هؤلاء الجنود جبريل -عليه السلام-، {وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا}، هذا فيه تطمين وتبشير لأهل الإيمان، الذي ابلوا في هذه الغزوة بلاءً حسنًا؛ من الصبر، والصمود، والقيام بما أمر الله -تبارك وتعالى-، وأن الله -تبارك وتعالى- كان بصيرًا بهم -سبحانه وتعالى-، كذلك {وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا}، فيه تثبيت لأهل الإيمان؛ أن الله مُبصِر، كان الله -تبارك وتعالى- معكم بصير بعملكم إذن لا تخافوا، فإنكم كنتم مع الرب -تبارك وتعالى- الذي لا تغيبون عن بصره -جل وعلا-، فهذا فيه بيان ضمانة؛ إن قدَّمت شيئًا إعلم أن الله -تبارك وتعالى- بصير بما فعلته، وكذلك إعلموا أيها المؤمنون أن الله -تبارك وتعالى- بصير بكم، عليم بكم -سبحانه وتعالى-؛ فهو معكم -جل وعلا-، {........ إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى}[طه:46]، {وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا}.

{إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ}، جاؤهم من فوقهم؛ وهم قريش وغَطَفان، ومن أسفل منهم؛ وهم قُريظة، {وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ}، زياغ الأبصار هي ألا تثبت عند شيء من الخوف؛ تتلفَّت يَمنة ويَسرة، {وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ}، ترتفع القلوب من دق القلب من الخوف تبلغ إلى كأن القلب يرتفع في الصدر إلى أن يصل إلى الحنجرة؛ من شدة الكرب، وشدة الخوف، وارتفاع دقات قلب الإنسان حتى يشعر أن قلبه يكاد أن يخرج من فمه، {وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا}، وتظنون بالله الظنون؛ تقع منهم الظنون السيئة، كما وقع من كثير منهم أنهم ظنوا الظنون السيئة؛ بأن هذه نهاية الإسلام، وأن هذه آخره، وأن النبي كان ممكن أن يُقتَل، وممكن أن يُستأصل الإسلام، وأنه سينتهي الأمر، وبالتالي هذه ظنون سيئة بالله –تبارك وتعالى-؛ لأن الله مُنفِذ أمره، وقد أرسل نبيه ورسوله ليُظهِره على الدين كله ولو كره المشركون، فيظنون بأن دين الله -تبارك وتعالى- لا ينتصر، وأن هذه هي النهاية، {وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا}.

{هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ ........}[الأحزاب:11]، هنالك؛ في هذا الوقت العصيب، اُبتُلي المؤمنون؛ يعني ابتلى الله -تبارك وتعالى- المؤمنين بهذه الشدة الشديدة والأمر العصيب، {........ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا}[الأحزاب:11]، الزلزلة؛ الحركة الشديدة، يعني هذا كأنهم حُرِّكوا، الزلزلة هنا زلزلة قلوب، وزلزلة أفئدتهم، وما ينتابهم من القلق الشديد والمحنة الشديدة، {........ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا}[الأحزاب:11]، فهذا بالنسبة لأهل الإيمان، وأمَّا بالنسبة للمنافقين قال -جل وعلا- {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا}[الأحزاب:12]، هذا أهل النفاق أظهَروا نفاقهم وكفرهم علانية، أظهروا كفرهم علانية الذي كانوا يُضمِرونه في القلب، {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ........}[الأحزاب:12]، مرض الشك، فهذا أدنى من المنافق، في منافق كامل النفاق، مطموس قلبه، كافر، ولكنه مُظهِر الإيمان، وفي أخر دونه وفيه مرض الشك؛ فهو تارة يكون فيه إيمان وتارة يكون فيه شك، {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ}، ومن دونهم {........ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا}[الأحزاب:12]، بالحصر؛ كل مواعيد الله لنا كانت تغرير، يعني أن الله غرَّر بنا؛ وأخبرنا بأنه سينصر دينه، سيُعِز كتابه ورسوله، وأن دينه سيبلغ الآفاق، وستُفتَح كنز كِسرى وقيصر، وسيكون، وسيكون ...، لكن كل هذا كان تغريرًا بنا، حتى نُلاقي هذا المصير الذي نلاقيه الآن؛ وهو أننا نُلاقي الآن بعد أن اجتمعت علينا الجموع من كل مكان، وهذا خلاص إظهار؛ فالذي يقول بأن وعْد الله -تبارك وتعالى- لنا إنما كان تغريرًا قد أظهر الكفر علانية، {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا}[الأحزاب:12].

{وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا}، وإذ قالت طائفة منهم؛ من هؤلاء المنافقين، يا أهل يثرب؛ ويثرب هي المدينة، سُمِّيَت بذلك في الجاهلية، قيل أن رجل من العماليق الذين سكنوها كان إسمه يثرب؛ فسُمِّيَت بإسمه، على كل حال لا يهُمنا التسمية، لكن هؤلاء النبي -صل الله عليه وسلم- سمَّاها المدينة، وسمَّاها طابا، وهؤلاء عدلوا عن تسمية النبي -صلوات الله والسلام عليه- إلى إسم الجاهلية؛ فرجعوا من المدينة إلى إسم الجاهلية، {يَا أَهْلَ يَثْرِبَ}، وهنا نادوهم أهل يثرب؛ يشمل طبعًا هذا الأوس والخزرج، {لا مُقَامَ لَكُمْ}، لماذا تبقون هنا في أرض المعركة وفي هذا الخندق؟ {فَارْجِعُوا}، يعني ارجعوا إلى بيوتكم وإلى أهلكم، {لا مُقَامَ لَكُمْ}، يعني أن المُقام في هذا لا فائدة تُرجى منه، فإن القتل قادم، والاستئصال قادم، وانتهى الدين، {لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا}، هذا طائفة من التي أظهرت الكفر علنًا، طائفة أخرى أقل منهم؛ قال -جل وعل- {وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ}، ناس منهم أقل إظهارًا لهذا الكفر وإعلانًا له، يعتذرون؛ يبدأوا هنا حتى يرجعوا يقوم يستأذنون النبي، ها دول مازال للنبي عندهم مكانة وخاطر؛ فيستأذنونه في الذهاب، أمَّا أولئك لا؛ يقولون لا مُقام لكم فارجعوا من عندكم، ارجعوا ولا هناك استئذان للنبي -صلوات الله والسلام عليه-، لأنه خلاص لم يعُد عندهم الأمر يتعَّلق بالنبي انتهى؛ يعني كأنهم فصلوا علاقتهم مع النبي -صلوات الله والسلام عليه- ومع الإسلام، أخرون أقل منهم {وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ}، يكذبون، يعني يقولون يا رسول الله ذلَّنا أن نخرج من الغزوة ونرجع، فإن بيوتنا عورة؛ بيوتنا مكشوفة، العورة هنا أنها مكشوفة؛ وأنها ليست مُحصَّنة، وأن بنوا قُريظة قد نقضوا العهد، وأنه يمكن أن يغيروا على نسائنا وعلى أطفالنا فيأخذوهم، فهي بيوتنا مكشوفة للعدو، قال -جل وعلا- {وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ}، يعني ليست بيوتهم بعورة ومكشوفة، وإنما هم أهلهم في حصون تحميهم، قال -جل وعلا- {إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا}، فقط يُريدون أن يفرُّوا بأنفسهم من أرض المعركة، لأنهم خلاص أصبحوا موقنين بأن الاستئصال والقتل قد دنا منهم.

قال -جل وعلا- عنهم {وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا}[الأحزاب:14]، ولو دُخِلت عليهم؛ أي المدينة، من أقطارها؛ من نواحيها، من هذا القُطر وهذا القُطر؛ يعني دخلت بنوا قُريظة من ناحيتهم، وغَطَفان من ناحيتهم، وقريش من ناحيتهم، ودخل الأحزاب كلهم من نواحيهم إلى المدينة، ثم سُئلوا الفتنة؛ يعني الرجوع عن الدين، أنه خلاص انتهي الإسلام، وانتهى محمد قتل، وانتهى الإسلام، على طول كانوا لا يمكثون وقتًا قليلًا، لآتوها؛ الفتنة هنا، الرجوع إلى الكفر، قال -جل وعلا- {وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا}، ولا ينتظرون وقت إلا وقت يسير حتى يُعطوا الكفار ما أرادوا من الكفر والرجوع عن الدين.

قال -جل وعلا- {وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا}[الأحزاب:15]، يقول هؤلاء الذين هذه صفتهم الآن وهذا حالهم قبل هذا قد عاهدوا الله -تبارك وتعالى- من قبل لا يوَلّون الأدبار، عاهدوا الله على الإيمان به، وعلى أنهم يُقاتلوا في سبيله ولا يولّوا الأدبار، يُقاتلوا؛ إن قُتلوا يُقتَلوا مُقبِلين غير مُدبِرين، ولا يوَلّوا دُبرَهم إلى العدو، {وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ}، عهدهم مع الله من قبل؛ من قبل هذه المِحنة، {لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ}، قال -جل وعلا- {وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا}، أن عهدهم الذي عاهدوه مع الله وكل عهد مع الله لابد أن يُسأل عنه صاحبه، لابد أن يسألهم الله -تبارك وتعالى- يوم القيامة عن هذا العهد الذي عقدوه مع الله -تبارك وتعالى-؛ بأنهم مؤمنون به، وأنهم سيُقاتلوا في سبيله ولو ماتوا في ذلك، وأنهم لن يوَلّوا الأدبار.

قال -جل وعلا- {قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا}[الأحزاب:16]، ما الذي ينفعكم به الفرار؟ {قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ}، لن؛ بنفي الفعل للمستقبل، لن ينفعكم الفرار إذا فررتم من هناك، {قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ ........}[الأحزاب:16]، لأنه لابد من الموت؛ فإما أن تموت وإما أن  تُقتَل، {وَإِذًا لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا}، يعني فقط إذا فررت من الموت أو القتل؛ أولًا لابد أن يكون هناك نهاية للحياة، حياتك لابد أن تنتهي إما بموت وإما بقتل، ثم إن فررت الآن ثم لحقك الموت بعد ذلك أو القتل بعد ذلك ستبقى وقت قليل، وإذًا لا تُمُتَعون؛ أي في الدنيا، إلا قليلًا؛ إلا وقت قليل، ممكن يبقى من عمرك بعد ذلك سنة، سنتين، ثلاثة، أربعة، عشرة، عشرين، لكنه سيظل وقت قليل وفي إثره العذاب والعقوبة من الله -تبارك وتعالى-، فإذن ما استفدت شيء؛ ليست هذه فائدة، فلِما تهرب والحال أنك لابد أن تموت إن لم يكن اليوم فغدًا، لكن الموت لابد أن يكون، وستموت إما أيضًا بقتل أخر؛ قد تُقتَل بأمر أخر، وقد تموت بقبض الروح دون قتل، فإذن الموت حاصل لا محالة، والفرار الآن لو أنه سيعصمك من الموت اللي هو في الوقت الحاضر فإنك لن تُعمَّر إلا وقتًا قليلًا، ما قيمة هذا إذا كان بعده العقوبة والنار؟! إذن لا نفع للفرار؛ لا نفع له، {قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا}[الأحزاب:16].

ثم قال -جل وعلا- {قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا}[الأحزاب:17]، موعظة عظيمة جدًا من الله -تبارك وتعالى- لهؤلاء الذين أرادوا أن يفرُّوا من المعركة والنبي معهم -صلوات الله والسلام عليه-، وصالحوا المؤمنين معهم، ماذا تصنع؟ تترك النبي وتترك الجهاد والإسلام وتفِر عنهم، {قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ}، من الذي يعصمكم؛ يمنعكم من الله، {إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً}، فإن الله -تبارك وتعالى- هو الذي بيده نفعكم وضرُّكم، الخير والضُّر كله إنما هو بيده -سبحانه وتعالى-، هل هناك لك حماية من دون الله -تبارك وتعالى-؟ مَن الذي يمنعك من الله -تبارك وتعالى-؟ {إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا}، لابد أن ينفُذ، ولا يمكن أن تكون هناك قوة تَحُول بين إرادة الله -تبارك وتعالى- وبين ما يُريد الله -تبارك وتعالى-، فإذا أراد الله بكم سوء فلن تقوم قوة بأن تحميكم من هذا، {قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً ........}[الأحزاب:17]، كذلك إذا أراد الله -تبارك وتعالى- بكم رحمة فإنه لا يوجد هناك أي قوة تستطيع أن تمنع هذه الرحمة عنكم، قال -جل وعلا- {وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا}، ولا يجدون لهم؛ الجميع، من دون الله؛ غير الله -تبارك وتعالى- ولي أو نصير ينصرهم من الله، ولي يواليهم ويحبهم، أو نصير ينصرهم من الرب -تبارك وتعالى-، إذن أنت مؤمن فسلِّم أمرك لله -تبارك وتعالى-، واعلم أن ما يُصيبك هو الذي سيُصيبك بالفعل، وأن الله -تبارك وتعالى- هو الذي بيده نفعك وضرُّك.

ثم قال -جل وعلا- {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا}[الأحزاب:18]، هذا تحذير من الله -تبارك وتعالى- {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ}، قد هنا للتحقيق؛ لتحقيق الأمر، {يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ}، يعني إن الله -تبارك وتعالى- يعلم المُعَوِّقين منكم، المُعَوِّق هو المُعَطِّل، يعني الذي يُعطِّل إخوانه على الجهاد، ويقول لهم لا تُجاهِدوا، وين تروح؟ تُقتَل، تُرمَّل امرأتك، يُيتَّم أطفالك، لا فائدة في القتال الآن والكفار كُثُر ونحو ذلك، {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ}، أي المُعطِّلين لإخوانهم الذي يذهبون، والمؤخرين لهم، والمُخزِّلين لهم، {........ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا}[الأحزاب:18]، والقائلين لإخوانهم؛ مَن على شاكلتهم، هلُمَّ إلينا؛ إلى القعود، هلُمَّ إلى الظلال، والثمار، والسِلم، والراحة، والأمن، والدِّعة، ليش توَرِّط نفسك؟ يعني لِما توَرِّط نفسك في هذا الجهاد؟ خلُّوكم معنا، قال -جل وعلا- {وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا}، لا يأتون البأس؛ البأس اللي هو الحرب، إلا قليلًا؛ يعني لا يأتونه إلا مجيئًا قليلًا من بعيد لبعيد، فهؤلاء اللي هم أهل الدِّعة وأهل الراحة يدعون إلى السِلم، ويدعون إلى الظِلال، وإلى الثمار، وإلى الراحة، والأمن، والدِّعة، ولا يُحِبون أن يأتوا البأس، {وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا}.

قال -جل وعلا- {أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ}، الشحيح هو البخيل، وهؤلاء أشِحَّة بالجهاد وأشِحَّة بالمال، أشِحَّة بكل شيء، أشِحَّة عليكم؛ أيها المؤمنون، فلا يمكن أن يضع كتفه في كتف المؤمن يُقاتل معه ويُجاهد معه؛ فهو شحيح بنفسه، وكذلك ليسوا من أهل البذل وأهل العطاء في الجهاد في سبيل الله، {أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ}، أشِحَّة مُطلقًا، {فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ}، فإذا جاء الخوف؛ أي خوف، رأيتهم؛ رأيت هؤلاء أهل الدِّعة، وأهل الراحة، وأهل الظِلال والثمار، {يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ}، عينيه زائغة، تدور أعينهم يعني في محجَّرها تدور؛ تزيغ، وذلك من شدة الرعب والخوف، الله يقول {كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ}، يُغشى عليه؛ الذي يأتيه سكرات الموت ويُغشى عليه، عينه خلاص تزوغ وتبدأ تدور لأنه مغشي عليه، {كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ}، اللي هي آخر حاجة ديَّت، والذي يُغشى عليه من الموت هذا هو أكثر إنسان يحصل مع دوران العين في هذه اللحظات الأخيرة من الحياة، {فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ}، انظر حاله عند الخوف؛ حاله مثل الذي جائه الموت وبدأت تدور عينه، ولكن إذا ذهب الخوف وأصبح في أمن إذا به ينطلق لسانه، سلقوكم من السلق؛ اللي هو العيب والشدة، وكذلك الفخر بأنفسهم ونقد الأخرين، بألسنة حِداد؛ لسانه حديد في النقد اللاذع، وبيان قوته وشجاعته، وبيان بذله وعطائه.

قال -جل وعلا- {أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ}، هؤلاء الذين لا ينطقون ولا تطول ألسنتهم إلا في وقت السِلم، وفي وقت الخوف يخرسون وتدون أعينهم على هذا النحو؛ هم أشِحَّة على الخير، هذا حالهم؛ أنهم أشِحَّة على الخير، على أي خير؛ لا خير باللسان، ولا خير بالمال، ولا خير بالجهاد، فهم مجردون من كل أنواع الخير، {أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ}، حتى لسان طيب ليس عندهم لإخوانهم المؤمنين، قال -جل وعلا- {أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا}، أولئك؛ يعني هؤلاء المذكورين بالإشارة هنا لهم بالبعيد، لم يؤمنوا؛ لأنهم لو كانوا من أهل الإيمان لتغيَّرت هذه الأخلاق تمامًا، لو كانوا من أهل الإيمان لكانوا من أهل الجهاد والصبر، وكانوا من أهل البذل والتضحية، وكانوا كذلك من أهل عذر إخوانهم المؤمنين؛ لا يستطيلون عليهم بألسنتهم، فهم مجردون من الإيمان ولذلك تخلَّقوا بضد أخلاق الإيمان؛ من الجبن، والبخل، ومن سلاطة اللسان على أهل الإيمان، {أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا}، قال -جل وعلا- {فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ}، أحبطها؛ أتلفها وأهلكها، وأصل الحبَطْ هذا داء يُصيب الإبل، تنتفخ بطونها ويظن الرائي أنها من السِمَن، ولكنها داء في الجوف ثم تموت بعد ذلك، فهذا المعنى مأخوذ لعمل الكافر، عمل المنافق ينتفخ، وينتفش، ويعلوا، ولكنه داء فيه فيهلك، {فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ}، يعني أتلفها، وأذهبها، ولا ينتفعون بأي عمل لهم، وذلك أنه عمل نفاق، وعلى رياء، وعلى كفر بالله -تبارك وتعالى-، {وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا}، أن يُحبِط الله -تبارك وتعالى- أعمالهم، ولا يقبل منهم هذا العمل الذي هو مؤسَّس على الكفر وعلى النفاق.

ثم قال -جل وعلا- {يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا}، يخافون في وقت الخوف، وكذلك في وقت الأمن هم يخافون؛ مُتوجِّسين الشر، قال -جل وعلا- {يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا}، الأحزاب أذهبهم الله -تبارك وتعالى- بهذه الريح التي أذهبتهم، وأطارتهم كل مطار وذهبوا، هذا أبو سفيان ركب على بعيره، يقول حُذيفة ابن يمان -رضي الله تعالى عنه- والله ما فك عِقاله إلا بعد أن أقامه، يقول ضربه وأقامه وفك عِقاله وهو راكب عليه، وقال إني ذاهبٌ فارتحِلوا؛ فارتحَلوا، وذهبوا، وانكشف الأمر، في الصباح رأى المسلمون إذا بالمدينة قد انكشف الأحزاب عنها، غطَفَان رجعت إلى مكانها، وقريش رجعت، وهؤلاء كلٌ عاد إلى مكانه، لكن المنافقين بقوا على الرعب، هؤلاء بقوا على رعبهم وظنوا أن هذه خُطَّة، وأنه كما يُقال تكتيك، وأن الأحزاب سيعودون، أنهم فقط انكشفوا هكذا وأنهم سيعودون للقتال مرة ثانية، قال -جل وعلا- {يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ}، يقولوا لو جاء الأحزاب كما يظنون مرة ثانية لحصارهم، يتمنى هؤلاء أنهم ما كانوا في المدينة أصلًا، ولا كانوا من أهل المدينة، ولا دخلوها، ولا سكنوها، تمنوا لو كانوا بادون في الأعراب؛ من أهل البادية، في الأعراب هناك بعيد عن هذه المدينة لِما فيها من هذه المشاكل، أصبح فيها الرسول، وأصبح فيها المؤمنين، وأصبح فيها كذا، والناس يتألَّبوا عليم من كل مكان، فيتمنوا لو أنهم لم يكونوا من أهل المدينة أصلًا، وأنهم يكونوا في هذه البوادي البعيدة؛ بعيدًا عن المدينة، وبعيدًا عن مشاكِلها.

{يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا}[الأحزاب:20]، {يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ}، يعني أنهم يكون فقط بادون في الأعراب يسألون عن أنباء المؤمنين، بس فقط يعرفوا أخبار الناس اللي هنا؛ ما هي أخبارهم وهم بعيدون عنهم، والله يقول {وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا}، لو كانوا فيكم وحضروا هذه الغزوة، ما قاتلوا إلى قليلًا؛ إلا قليلًا منهم، أو ما قاتلوا إلا قتالاً قليلًا، وهذا بيان من الله -تبارك وتعالى- لهؤلاء المنافقين ضعاف الإيمان أن الرعب أصبح ساكن في قلوبهم، سواء بالأمر الذي يُرعِب حقيقة مثل وجود الأحزاب حول المؤمنين، أو التوجُّس مجرد التوجُّس أنه والله ممكن أن يأتين الأحزاب مرة ثانية وأن يحاربونا، {يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا}[الأحزاب:20]، بعد أن بيَّن الله -تبارك وتعالى- حال هؤلاء المنافقين كيف كانوا، بدأ الله -تبارك وتعالى- هنا يُبيِّن حال أهل الإيمان؛ وعلى رأسهم رسول الله -صل الله عليه وسلم-، فقال {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}[الأحزاب:21] {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا}[الأحزاب:22].

هذا نعود إليه -إن شاء الله- في الحلقة الآتية، أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصل الله وسلم على عبده ورسوله محمد.