الجمعة 29 ربيع الآخر 1446 . 1 نوفمبر 2024

الحلقة (513) - سورة الأحزاب 20-25

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله الأمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}[الأحزاب:21] {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا}[الأحزاب:22] {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا}[الأحزاب:23] {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا}[الأحزاب:24] {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا}[الأحزاب:25] {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا}[الأحزاب:26] {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا}[الأحزاب:27]، يخبر -سبحانه وتعالى- عن عبده ورسوله محمد -صلوات الله والسلام عليه-، وعن موقفه العظيم، وصبره، وإيمانه بنصر الله -تبارك وتعالى-، وجهاده ومعاناته مع المسلمين؛ أنه قد كان في موقفه في الأحزاب أُسبوة حسنة، في موقفه هذا أُسوة حسنة لأهل الإيمان، قال {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}، لقد كان لكم؛ أيها المؤمنون، في رسول الله -صل الله عليه وسلم- أُسوة حسنة؛ قدوة طيبة، {........ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}[الأحزاب:21]، فإن النبي -صلوات الله والسلام عليه- في الأحزاب كان رابط الجأش، واثقًا من نصر الله -تبارك وتعالى-، ثابتًا لم يتزعزع مع مجيء هؤلاء الأحزاب جميعًا وإعلانهم هدفهم وغايتهم؛ في قتل النبي، واستئصال أهل الإسلام، وإحاطتهم بالمدينة على هذا النحو، ثم أن النبي -صلوات الله عليه وسلم- عاش مع المؤمنين في الخندق كما يعيشون، كان يحفر معهم -صل الله عليه وسلم- كما يحفرون، ويحمل التراب على عاتقه -صل الله عليه وسلم-، ويجوع كما يجوعون، وقد حصل للنبي -صل الله عليه وسلم- قصص معه ومع أصحابه أمر عظيم جدًا؛ فجاع كما جاعوا، وتحمَّل كما تحمَّلوا، وصبر معهم -صلوات الله والسلام عليه-، وكان مثالًا لهم؛ في الصبر، والثبات، والإيمان بالله -تبارك وتعالى-، وأنه لم يتزعزع شيئًا، وما جعل لنفسه مكانًا اعتزل فيه وبقي وحده، بل كان مع أهل الإيمان.

{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}، في صبره، وإيمانه، وثباته -صلوات الله وسلامه عليه-، وتحمُّله مع إخوانه، وتشجيعه لهم -صل الله عليه وسلم-، وهذا لمَن كان يرجوا الله واليوم الآخر، فمَن كان يرجوا الله -تبارك وتعالى- وما عنده ويرجوا اليوم الآخر والثواب فيأتسي برسول الله -صل الله عليه وسلم-؛ فليكن مثله، فإن في هذا الأجر العظيم والمثوبة العظيمة عند الله -تبارك وتعالى-، {وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}، في هذا الوقت وفي هذه المحنة، فإن ذِكر الله -تبارك وتعالى- أعظم تثبيت في هذه الأوقات العصيبة، ولذلك أمر الله -تبارك وتعالى- بذِكره في وقت المِحن والشدائد، كما قال -تبارك وتعالى- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا ........}[الأنفال:45]، فالثبات؛ صبر، وذِكر الله -تبارك وتعالى- هو أعظم حامل للمؤمن أن يثبُت وأن يحتسب، وذلك أنه إذا ذكَرَ الله -تبارك وتعالى- ذكَرَ أنه القوي العزيز؛ الذي لا يمكن أن يُضام، ولا أن يُنتهَك أمره، ولا أن يُهزَم –سبحانه وتعالى-، فهذا الرب –سبحانه وتعالى- العزيز، الذي بيده ملكوت كل شيء -سبحانه وتعالى-، ثم بذِكر الله -تبارك وتعالى- يعلم المؤمن بأن ما عند الله -تبارك وتعالى- خيرٌ له من هذه الدنيا، فيستهين بالأمر؛ يستهين بالدنيا، تُصبح الدنيا قليلة في عينه وفي نظره إذا نظر إلى ما أعدَّه الله -تبارك وتعالى- لأهل الإيمان، كذلك إذا علم ما يترتب على الجُبن والفرار من العقوبة الشديدة، ويعلم عقوبة الله -تبارك وتعالى-، فإن هذا كذلك يكون واعظًا له من أن يضعُف، أو يخور، أو ينهزم، {وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}.

{وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا}[الأحزاب:22]، {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ}، لما رأى المؤمنون؛ الصادقون، الثابتون في إيمانهم، الأحزاب؛ هذه الجماعات التي تحزَّبت واجتمعت حول المدينة لاستئصال المسلمين ولقتلهم، {قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ}، هذه الشدة، وهذه المِحنة، وهذا البلاء العظيم، هو الذي وعَدَنا الله -تبارك وتعالى- به ورسوله، لأن الله -تبارك وتعالى- وعَدَهم في القرآن أن لا دخول للجنة إلا أن يُصيبهم مثل ما أصاب الذين من قبلهم، قال لهم الله -تبارك وتعالى- {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ}[البقرة:214]، فإن الله -تبارك وتعالى- قد أخبر أهل الإيمان أنه لا دخول للجنة إلا بعد مِحن شديدة تُصيبهم، وبعد أن يصبروا على هذه المِحن، وأن هذه سُنَّة الله؛ فقد أصاب الذين من قبلهم مثل هذه الشدائد، {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ}، لم يأتي بعد، {وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا}، حتى أنهم في مثل هذه المِحن {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ}، مستبطئين نصر الله -تبارك وتعالى-، {أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ}، فالمؤمنون عندما رأوا الأحزاب قالوا بس؛ هذا هو، هذا الذي وعَدَنا الله -تبارك وتعالى- به، وصدق الله ورسوله؛ في أنه لابد من مِحن وشدة ثم يأتي الفرج والنصر، وأن الله –تبارك وتعالى- صادق في وعْده، وأنه لابد أن يُنفِذ وعْده -سبحانه وتعالى-، {وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ}، في أن ما وعَدَنا به من النصر والتمكين حق، وأنه لابد أن يأتي قبل هذا من الشدة ولا يأتي نصر الله إلا بعد ذلك، فهذه الشدة هي التي وعَدَنا الله؛ إذن النصر في إثرها -إن شاء الله-، {وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا}، ما زادتهم هذه الشدة إلا إيمانًا وتسلميًا، إيمانًا بالله -تبارك وتعالى- وتسلميًا لأمره، تسليم للنتائج وأنها إلى الله -سبحانه وتعالى-، وأن الله -تبارك وتعالى- لابد أنه مُنفِذ وعْدَه -جل وعلا-.

ثم أثنى الله -تبارك وتعالى- على عباده المؤمنين؛ الذين صمدوا وصبروا مع النبي -صل الله عليه وسلم- في هذه الغزوة الشديد، قال {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا}[الأحزاب:23]، {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ}، الوصف بالرجولة هنا لأنهم قد حازوا معانيها؛ التي هي معاني الرجولة الحقَّة، وكذلك رجال لأنهم هم الذين يُقاتلون، قتال الكفار مكتوب على الرجال دون النساء، {صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ}، من أن يموتوا في سبيله، وأن يقاتلوا في سبيله، وأنهم لا يفرُّوا حتى وإن كان الموت؛ فإنهم لا يفرُّوا، {صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ}، من أن ينصروا الله -تبارك وتعالى-، وينصروا رسوله، ويجاهدوا بأموالهم وأنفسهم، وألا يفرُّوا، وألا يضعفوا، وألا يستكينوا أمام الكفار، {........ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا}[الأحزاب:23]، فُسِر مَن قضى نحبه؛ أي بالموت، {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ}، يعني مات وهو موفٍ لأمر الله -تبارك وتعالى-، {وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ}، يعني في سُوح القتال وفي ميادينه ينتظر أن يأتيه الموت وهو على ذلك؛ مُقاتِل، مُقبِل، مُجاهِد في سبيل الله -تبارك وتعالى-.

فُسِّر أيضًا كذلك {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ}، قضى عهده؛ يعني أوفى بعهده مع الله -تبارك وتعالى-، {وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ}، فإنه ينتظر أن تأتي المعارك فيؤدي عهده مع الله -تبارك وتعالى-، كما كان يفعل مثل أنس ابن النضر -رضي الله تعالى عنه- وهو عم أنس ابن مالك -رضي الله تعالى عنه-؛ أن يقول أنس ابن مالك غاب عمي أنس ابن النضر عن غزوة بدر، فتلوَّم من هذا وقال غِبت عن أول مشهد قاتل فيه رسول الله الكفار، يتلوَّم على هذا؛ يقول لئن أشهَدَني الله -تبارك وتعالى- قتال الكفار ليرينَّ ماذا اصنع، يقول إذا ربنا -سبحانه وتعالى- أمدَّ في عُمري وأشهَدَني قتال الكفار فسأُري الله ماذا اصنع، فكان يوم أُحُد؛ حضر المعركة في يوم أُحُد وكان فيها ما كان، كان النصر للمؤمنين في أولها، ثم بعد ذلك كانت الهزيمة عندما دار خالد ابن الوليد بالقطة التي كانت معه من الجيش خلف الرُماة؛ بعد أن ترك الرُماة أماكنهم، وجاء فاجأ المسلمين من ظهرهم، فوجَدَ المسلمون أن العدو أصبح يأتيهم من الخلف، رجعوا للخلف ليُحاربوا فرجع الكفار الذين كانوا قد فرُّوا وحُصِر المسلمون، وبدأ يضرب بعضهم في بعض، وفرُّوا مَن فر، وصاح إبليس في القوم أن قُتِل رسول الله فأوهن هذا من عزم المسلمين، وتفرَّقوا عن النبي -صلوات الله والسلام عليه-، ولم يبق حول النبي يُقاتِل إلا بِضعة عشرة رجل، حوالي إثنى عشرة رجل بينهم امرأة هي نُسَيبة بنت كعب الأنصارية -رضي الله تعالى عنها-.

أنس ابن النضر رأى هذا الأمر وتفرُّق الناس على هذا النحو، فوقف فقال اللهم إني أبرأ إليك ممَّا صنع هؤلاء؛ يعني الكفار، وأعتذر إليك ممَّ صنع هؤلاء؛ يعني إخوانه المؤمنين، ثم استقبل القوم؛ يعني الكفار يُحارِبهم، فلقاه سعد ابن مُعاذ -رضي الله تعالى عنه-؛ شاف سعد من الذين يفرُّون، قال له يا سعد؛ إلى أين؟ وين رايح؟ فقال قُتِلَ رسول الله، فقال له وما تصنع بالحياة بعده؟ إيش تُفيدك الحياة بعده؟ إذا كان النبي قد قُتِل؛ فإيش تُفيدك الحياة بعده؟ ثم قال له الجنة ورب الكعبة إني لأجد ريحها من دون أُحُد، قال له أنا أشم ريح الجنة من دون أُحُد، ثم استقبل القوم فظل يُقاتِل حتى قُتِل ومُثِّل بجسده، يقول أنس ابن مالك لم يعرفه أحدٌ منَّا إلى أخته؛ عَلِمته بنانه، يقول كنا نظن أن هذه الآية نزلَت فيه وفي إخوانه الذين كانوا على هذا النحو، {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا}[الأحزاب:23]، فهذا صدق ما عاهد الله عليه، قال لئن أشهَدَني الله -تبارك وتعالى- قتال الكفار ليرينَّ ماذا اصنع، وبالفعل قد قام ونفَّذ عهده مع الله -تبارك وتعالى-، وقد صنع ما لم يستطع غيره حتى من أشدَّاء الصحابة أن يصنعوا مثل هذا الصنيع؛ وهو أن يُقاتِل على هذا النحو، يقول أنس ابن مالك وجدنا في جسده نحو من بضع وثمانين ما بين طعنة برمح، أو ضربة بسيف، أو رمية بسهم، وجدنا أنه قد مُثِّل به تمثيلًا شديدًا؛ لم تعرفه إلا اخته ببنانه، {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا}[الأحزاب:23].

قال -جل وعلا- {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ}، يعني أن الله -تبارك وتعالى- يبتلي المؤمنين بهذه الابتلاءات حتى يجزي الصادقين بصدقهم، ليكون هناك جزاء عند الله -تبارك وتعالى-؛ جزاء عظيم، الجنة ودرجاتها التي أعدَّها الله -تبارك وتعالى- للمُجاهدين في سبيله، كما في الحديث «إن في الجنة مائة درجة أعدَّها الله -تبارك وتعالى- للمُجاهدين في سبيله، ما بين الدرجة والدرجة كما بين السماء والأرض»، {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ........}[الأحزاب:24]، {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ}، المنافقين الذين نافقوا وقالوا هذه المقالات العظيمة جدًا في الكفر، وكانوا كدرجات كما أخبر الله -تبارك وتعالى- منهم مَن قال {يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا}، ومنهم مَن كان يستأذن النبي؛ هذا عنده حياء فيسأذن النبي ليهرب، وذاك الأخر كان يقول علانية وصراحة دون استئذان من النبي يلا نرجع؛ ما في مجال لا لنصر ولا لتمكِّين، ومنهم مَن يُعلِن الكفر علانية فيقول {مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا}، فهم درجات؛ فمنهم مَن هو ضعيف الإيمان، ومَن فيه شك، ومنهم الفاجر الكافر، فهؤلاء المنافقين أرجع الله -تبارك وتعالى- أمرهم إليه -جل وعلا- فيعذِّب منهم مَن شاء ، أو يتوب منهم على مَن شاء -سبحانه وتعالى-، قال {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ}، فأمرهم ها دول إلى الله -تبارك وتعالى-، إما أن يتوب الله -تبارك وتعالى- عليهم فيعودوا إلى الدين مرة ثانية، ويؤمنوا، ويحسُن إيمانهم، ويصمدوا بعد ذلك في ما يأتي من حروب، ومن فتَّن، ومن ابتلاءات، وإما أن يرتد منهم مَن يرتد، ويبقى على الرِدَّة، ويبقى على الكفر، ويبقى على النفاق حتى يُتوَفَّى على هذا النحو، فالأمر راجع إلى الله -تبارك وتعالى-، {........ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا}[الأحزاب:24]، وهذا منه -سبحانه وتعالى- ختام الآية على هذا النحو، بأن الله -تبارك وتعالى- قد قدَّم مغفرته ورحمته -سبحانه وتعالى-؛ في أن يُقيل عثرة هؤلاء وأن يمحوا ذنبهم، ولا شك أن هذا فتح لباب رحماته –سبحانه وتعالى- على مَن وقع منهم ما وقع في وقت هذه الشدة الشديدة؛ وهي غزوة الخندق.

غزوة الخندق بهذه الصورة كانت في أمر جدًا شديد، وهذا حُذيفة ابن اليمان -رضي الله تعالى عنه- يلقاه شاب من أهل الكوفة، يقول له أصحبتم رسول الله -صل الله عليه وسلم-؟ قال له نعم، قال وجاهدتم معه؟ قال نعم، قال له هل كنتم تتركونه يمشي على الأرض؟ يقول أنا واحد من الناس لو كنت مع النبي -صل الله عليه وسلم-؛ لو عشنا مع النبي لحملناه على أكتافنا وما تركناه يمشي على الأرض، فقال له يا ابن أخي؛ طبعً غلام هذا، ولم يطَّلِع ويعلم الشدة الشديدة التي كان عليها المسلمون مع النبي -صلوات الله عليه وسلم-، فقال له والله يا ابن أخي لقد كُنَّا نجهَد، ثم قال له رأيتني اليوم مع النبي -صل الله عليه وسلم-؛ وهذا اليوم هو يوم الخندق، والناس في برد شديد، وفي خوف شديد، وفي جوع شديد، فيقول النبي -صلوات الله والسلام عليه- مَن يأتيني بخبر القوم وأضمن له الجنة؟ يضمن له رسول الله أن يعود، يقول النبي وهو في الخندق؛ وهو محصور مع المؤمنين، يقول مَن يأتيني بخبر القوم؟ يروح إلى خارج الخندق؛ إلى خارج عسكر المسلمين، يذهب في عسكر الكفار ويشوف ما هي أخبار القوم، يقول يضمن له رسول الله أن يعود؛ يعني أنه سيعود بإذن الله، هذا رسول الله يضمن له المجيء وهذا ضمانة من الله، لأن الرسول عندما يُعطي عهدًا بهذا إنما يُعطي عهد الله -تبارك وتعالى-، يقول النبي أضمن له الجنة، قال فوالله ما قام أحد، يقول حُذيفة فوالله ما قام أحد -أي من المؤمنين-؛ من شدة الخوف والجوع والبرد الشديد فكرر النبي، يقول فصلى النبي جزءًا من الليل، وكان النبي إذا حزَبَه أمر -صل الله عليه وسلم- فزَعَ إلى الصلاة، فالنبي عاد يصلي؛ صلى جزء كذلك من الليل، ثم قال مَن يأتيني بخبر القوم؟ يضمن له رسول الله أن يعود ويكون رفيقي في الجنة، أو أدعوا الله أن يكون رفيقي في الجنة، فهذه هنا جائزة كبرى أن يكون رفيق النبي في الجنة، رُفقة في الجنة وفي منزِلة النبي -صل الله عليه وسلم-، ويضمن له النبي هذا، وهذي ضمانة، وكذلك سيعود؛ لن يُقتَل في ذهابه هذا، قال فوالله ما قام أحد، يقول حُذيفة فوالله ما قام أحد، ثم قال النبي أفيكم حُذيفة؟ فقلت نعم يا رسول الله، فقال اذهب فأتني بخبر القوم، فقال فما كان من طاعة رسول الله بُد، خلاص هذا أصبح أمر متوَجِّب علي، الرسول قد انتدبني لهذا الأمر، يقول فما كان من طاعة رسول الله بُد، يقول فخرجت وكان علي مِرطٌ لامرأتي لا يصل إلا إلى ركبتيّ، يقول حتى لمَّا جاء النبي -صل الله عليه وسلم- ويُناديني لم أستطع أن أقوم من شدة البرد وأنا تحت هذا المِرط، فقال له قُم فأتني بخبر القوم، يقول فذهبت، يقول فوالله ما إن انطلقت إلا وشعُرْت كأني في حمام؛ كأنه جائه الدفء.

يقول ذهبت إلى عسكر المشركين؛ ظلمة شديد، ورأيت أن الريح تفعل في بأعداء الله -تبارك وتعالى- ما تفعل؛ لا تترك لهم طُنُبًا إلى قلعته، ولا قدِرًا إلى أكفَأته، يقول وإذا بأبي سفيان قائم ليس بيني وبينه شيء، يقول فأردت أن أأخذ سهمًا من كنانتي فأضربه به، ولكني تذكَّرت أن النبي قال له ولا تُحدِث حدَثًا حتى تؤتني بخبر القوم، ولا تُحدِث حدَثًا حتى تأتني؛ لا تعمل أي شيء حتى ترجع إلي، يقول وإذا بأبي سفيان يقول للناس ليأخذ كلٌ منكم بيد صاحبه، يعني أراد أن يُخبرهم خبر وأراد أن لا يكون هناك جواسيس مُندَّسين؛ فأخذت بيد مَن جواري، طبعًا ظُلمة في الليل ما أحد يرى الأخر، وسألته عن إسمه؛ حتى يطمئن الأخر إلى أنه واحد منهم، ثم إن أبا سفيان قال لهم إن قُريظة نقضت العهد وإني مُرتحِل فارتحِلوا، قال لهم لا مُقام لنا وإني مُرتحِل فارتحِلوا، يقول والله بعد أن قال هذه المقالة قفز على ناقته وهي مُعقَّلة ثم ضربها فقامت، فقامت على ثلاثة أرجل ورجلها مُعقَّلة فما حلَّ عِقالها إلا وهو على ظهرها ثم انطلقوا، يقول أتيت النبي -صلوات الله والسلام عليه- فما شعرت بالبرد حتى جئت إلى النبي -صل الله عليه وسلم-، لمَّا وصل إلى مكان النبي يقول شعرت بالبرد، والوقت هذا كله حماه الله -تبارك وتعالى- وجعله في دفء وفي أمن حتى رجع، وذلك هذه ضمانة؛ ضمانة النبي ضمانة من الله -تبارك وتعالى-، يقول فلمَّا جئت وشعرت بالبرد والنبي قائم يصلي أشار إلي، فدخلت في مِرط كان النبي يلتحِف به، دخلت بين رجليه وظللت في المِرط حتى ركع النبي وسجد وأنهى صلاته، ثم أخبرته بخبر القوم، هذا يقوله حُذيفة -رضي الله تعالى عنه- لهذا الشاب؛ الذي هو يعتبر لسة ما درى ما تعرَّض له المسلمون من الشدة الشديدة، وحديث حُذيفة هذا يُبيِّن الشدة الشديدة التي عاناها المسلمون في هذه الغزوة؛ والأمر العظيم الذي تحملوه، فقال الله -تبارك وتعالى- {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا}[الأحزاب:24].

ثم قال -جل وعلا- {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ}، ردَّ الله الذين كفروا؛ من قريش ومن غطَفَان، بغيظهم يعني مُغتاظين؛ أنهم أنفقوا ما أنفقوا من المال، وجائوا، وتغرَّبوا، وجائو بهذه، وحملة طويلة، وشهر كامل وهم مُحاصِرون ولم ينالوا شيء من الذي أمَّلوه وأراوه من قتل النبي واستئصال المسلمين... لا، خسروا أموالهم، خسروا جهدهم، ووقتهم، وجائوا لهذا، وغزوة أنفقت منهم وأكلت منهم ما أكلت، ثم رجعوا مُغتاظين؛ أنهم لم يُحقِّقوا هدفهم، {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا}، أي خير ما نالوه؛ لا طبعًا أجر ومثوبة على هذا السعي، لو كان سعي مؤمنين كان فيه أجر ومثوبة، ما في أجر ومثوبة عند الله -تبارك وتعالى- ولا خير كذلك من خير الدنيا، وإنما لقوا الشدة والخزلان، {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ}، كفاهم الله -تبارك وتعالى-؛ أن الله قاتل عنهم -سبحانه وتعالى-، كفى الله المؤمنين القتال؛ يعني ربنا قال لهم لا تقاتلوا أنا سأقاتل، فالله -تبارك وتعالى- قاتل عن عباده المؤمنين -سبحانه وتعالى-؛ فأرسل هذه الريح، وأرسل عليهم الملائكة الذين يُقاتلون، فتولى الله -تبارك وتعالى- القتال بنفسه -سبحانه وتعالى- وبهذه الأسباب التي أقامها دون المؤمنين، {........ وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا}[الأحزاب:25]، كان الله قويًا -سبحانه وتعالى-، لا أحد يُدانيه ويُقاربه -سبحانه وتعالى- في قوته، فهو القوي؛ أقوى من كل قوي -سبحانه وتعالى-، بل قوة كل قوي إنما هي مُستمدَّة ومأخوذة من قوته -سبحانه وتعالى-، فالله له القوة كلها -سبحانه وتعالى-، عزيزًا؛ غالب، لا يغلبه أحد، الله العزيز هو الغالب الذي لا يغلبه أحد؛ وكان منه هذا، وأصبح هذا الأمر نشيد للمسلمين ينشدونه ما بقي الدهر، الله أكبر، الله أكبر، نصر عبده، وأعزَّ جنده، وهزم الأحزاب وحده، فهذا أصبح نشيد أهل الإسلام ينشدونه في يوم فرحهم دائمًا؛ في عيد الفِطر، وفي عيد الأضحى، وعلى الصفا وعلى المروة في الحج يُنشِدون هذا النشيد، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله وحده، صدق وعْدَه، ونصر عبده، وأعزَّ جنده، وهزم الأحزاب وحده، فالله -تبارك وتعالى- هو الذي هزم الأحزاب وحده -سبحانه وتعالى- دون مدد من غيره، بل الله -تبارك وتعالى- هو القوي العزيز، هو الذي كفى أهل الإيمان الحرب وهزم الأحزاب وحده -سبحانه وتعالى-، وقد دعى النبي -صل الله عليه وسلم- على الأحزاب «اللهم مُجري السحاب ومُنزِل الكتاب اهزمهم وانصرنا عليهم»، فهزمهم الله -تبارك وتعالى-، ونصر الله -تبارك وتعالى- أهل الإسلام، {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا}[الأحزاب:25].

ثم قال -جل وعلا- {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا}[الأحزاب:26] {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا}[الأحزاب:27]، بقيت الحية الرقطاء؛ بنوا قُريظة، اليهود الذين نقضوا عهدهم مع النبي -صل الله عليه وسلم-، والذين عاهدهم النبي وأكرمهم، وكان معهم في وفاء منهم، ولكنهم استغلوا فرصة مجيء قريش وغطَفَان على المدينة لحرب المسلمين، ظنوا أن الفرصة الآن سانحة وأن استئصال الإسلام قد أصبح قريبًا ودخلوا في نقض عهد وفي مُمالئة لهؤلاء الكفار، لمَّا جاء حُذيفة -رضي الله تعالى عنه- بالخبر إلى النبي -صل الله عليه وسلم-؛ أنه انشمر أبو سفيان مع قومه إلى مكة راجعين، وقريش إلى نجد راجعين، وأصبح النبي -صل الله عليه وسلم- خلاص أشرقت المدينة بإشراق الشمس وطلعت، فإذا بالمنظر كله؛ منظر الكرب، والهم، والأحزاب المُتألِّبة، يتغير المنظر وتشرق الدنيا ويعود الأمن إلى المسلمين، فيرجعون ليُذهِبوا عنهم عناء هذه الغزوة الشديدة فرحين بنصر الله -تبارك وتعالى-، ولكن النبي -صل الله عليه وسلم- ما كاد يدخل بيته إلا وسمع طارقًا يطرق بشدة؛ فخرج النبي -صل الله عليه وسلم-، فإذا جبريل -عليه السلام- قال له أخلعتم لباس الحرب؟ يقول له أنا ما عُدتُّ إلى الساعة من ظهور القوم، يقول له أنا كنت في ظهور القوم؛ يطردهم إلى حيث يرجعوا إلى أماكنهم، ثم يقول له إن ربك أن تخرج، قال إلى أين؟ قال إلى بني قُريظة، إلى بني قُريظة وذلك ليتم أمر الله -تبارك وتعالى- فيهم، هؤلاء الذي نقضوا عهدهم مع النبي -صلوات الله والسلام عليه-.

نعود -إن شاء الله- إلى هذه الآيات في الحلقة الآتية، استغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصل الله وسلم على عبده ورسوله محمد.