الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده والرسول الأمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا}[الأحزاب:36] {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا}[الأحزاب:37] {مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا}[الأحزاب:38] {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا}[الأحزاب:39]، الآيات من سورة الأحزاب، يقول الله -تبارك وتعالى- {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ........}[الأحزاب:36]، يعني أنه لا ينبغي ولا يحِق أن يختار الرسول -صل الله عليه وسلم- أمرًا لأحد من أمته؛ رجلًا كان أو إمرأة، ثم بعد ذلك يختار هذا الرجل أو هذه المرأة أمرًا غير ما اختاره النبي -صلوات الله وسلامه عليه-، {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا}، وذلك أن قضاء الرسول -صل الله عليه وسلم- هو قضاء الله -تبارك وتعالى-؛ وأنه لا ينطق عن الهوى، فإذا أمر أحدًا بأن يتزوج، أو أن يُخرِج شيئًا من ماله، أو أن يقوم بأمر ما، فهذا لا يصبح أمر النبي -صلوات الله والسلام عليه- لهذا الرجل وإن كان في شأن من شئونه؛ زواج، أو طلاق، أو هبة، أو أي أمر من الأمور، يصبح ليس له أن يختار غير ما اختاره الله -تبارك وتعالى- واختاره له النبي -صلوات الله والسلام عليه-، وذلك أن النبي أولى بكل مؤمن ومؤمنة من نفسه، كما قال -تبارك وتعالى- {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ}، فالنبي أولى بكل أحدٍ من نفسه، أعرَف واعلَم وأحرَص على مصلحة العبد؛ ما يُصلِح هذا العبد في الدنيا والآخرة، من حرص الإنسان وعنايته بنفسه، هذا مقام النبي -صلوات الله والسلام عليه- في أمته، فهو أولى من كل مؤمن بنفسه، {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ}، -صلوات الله والسلام عليه-.
كانت من أسباب نزول هذه الآية أن النبي -صل الله عليه وسلم- خَطَب ابنة عمه؛ زينب بنت جحش الأسدي -رضي الله تعالى عنها-، إلى مولاه؛ زيد ابن حارثة -رضي الله تعالى عنه-، هذا مولى النبي؛ مُتبنَّاه، وكان النبي لمَّا تبنَّاه كان يُقال له قبل الإسلام زيد ابن محمد -صل الله عليه وسلم-، ثم أن النبي خَطَب له هذه المرأة القُرَشية؛ ابنة عمِّه، وتجتمع مع النبي -صلوات الله عليه وسلم- في عبد المُطَّلب؛ جدهما واحد، وكأنها نفست عليه ورأت أن زيد ليس كُفئًا لها، فقال لها النبي بلى؛ تتزوَّجينه، وأمرها النبي -صل الله عليه وسلم- بزواجه، فقبِلَت أمر النبي بعد ذلك -صلوات الله والسلام عليه-، ونزول هذه الآيات قيل بهذا السبب، {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ........}[الأحزاب:36]، لا يَحِل للمؤمن ولا ينبغي له أن يختار أمرًا غير أمر الله وأمر رسوله، إذا اختار النبي أمرًا وإن كان من شأن من الشئون الخاصة لهذا المؤمن والمؤمنة، فإنه يجب أن يُزعِن لأمر الله -تبارك وتعالى- ولأمر النبي -صلوات الله والسلام عليه-، وقد كان النبي يرى المصالح لبعض العباد فيأمر مثل ما أمر؛ لمَّا أرسل جُليبيب؛ الصحابي، خَطَب له النبي -صل الله عليه وسلم- إمرأة من الأنصار، فلمَّا كلَّم أباها ظنَّ أن النبي إنما طلب إبنته له؛ للنبي، قال نِعمَّ الأمر ووافق للنبي -صل الله عليه وسلم-، فقال لا أخطِبها لنفس وإنما أخطِبها لجُليبيب، فقال أستأمر أمها، فلمَّا ذهب الرجل الأنصاري يستأذن ويستأمر أم الفتاة قالت لها الله، يعني لا يمكن أن نُزوِّج ابنتنا لجُليبيب، فالفتاة سمعت مقالتهما وهفي في خِدرها، فقالت أتُريدون أن تردُّوا على رسول الله أمره، الأمر هذا صعب؛ يعني كيف ترودُّوا أمر النبي -صلوات الله والسلام عليه-؟! فكأنه سُريَ عنهما ورجع، فقال يا رسول الله ما تشاء؛ نُزوِّجها له، فزوَّجوها له، ثم كان من هذا الشأن الذي اختاره النبي، انظر بكرة اختيار النبي -صل الله عليه وسلم-؛ أن فزع المسلمون فقاموا للحرب، بعد أن انتهت الحرب وجِدَ جُليبيب مقتولًا وحوله سبعة من الكفار، قال قد قتلهم؛ قتلهم ثم قتلوه، فتأيَّمت زوجته من بعده، يقول أنس ((فما وجَدْتُ إمرأة في المدينة أو نفوقًا ورغبة في أن تتزوج من زوجة جُليبيب))، بارك الله -تبارك وتعالى- لها، تزوَّجَت هذا العبد الصالح؛ الذي أكرمه الله -تبارك وتعالى- بالشهادة، ثم لمَّا تأيَّمت عنده تقدَّم لها الخُطَّاب من كل جانب ليفوزوا بها؛ بابنة، أو زوجة، إمرأة على هذا النحو تصديق الله -تبارك وتعالى- ورسوله؛ والإزعان لأمرهم.
{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ........}[الأحزاب:36]، لا يَحِل ولا ينبغي ولا يصِح أن يختار المؤمن والمؤمنة أمرًا غير ما اختاره الله -تبارك وتعالى- ورسوله، {أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}، وهو من أمرهم؛ من شأنهم، ما يختار لنفسه شيئًا غير ما اختاره الله -تبارك وتعالى- واختاره رسوله -صل الله عليه وسلم-، ثم قال -جل وعلا- مُحذِّرًا {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا}، ضمَّ الله -تبارك وتعالى- رسوله إليه في هذا، وذلك أن أمر النبي -صل الله عليه وسلم-، ونهي النبي، وعصيان النبي؛ عصيان لله -تبارك وتعالى-، طاعة النبي؛ طاعة الله، وعصيان النبي؛ معصية الله -تبارك وتعالى-، {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا}، ضلَّ ضلالًا مُبينًا؛ وهذا يدل على أن شأن النبي في الأمر والنهي ليس في أمر الدين فقط، بل في الشأن الخاص من الأمور المُباحة؛ كالزواج، كذلك أمر النبي -صل الله عليه وسلم- واجب الاتِّباع، ومعصيته في الشأن الخاص كذلك هي معصية لله -سبحانه وتعالى-، {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا}، ضلال واضح بيِّن، كيف يعصي أمر النبي -صل الله عليه وسلم-؟ الذي هو أمر الله -سبحانه وتعالى-.
ثم قال -جل وعلا- {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا}[الأحزاب:37]، وإذ تقول؛ اذكُر، {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ}، وهو زيد ابن حارثة -رضي الله تعالى عنه-، أنعم الله -تبارك وتعالى- عليه بنِعَم عظيمة جدًا، من هذه النِعَم أن الله هيَّأ له أن يكون في بيت النبي -صل الله عليه وسلم-؛ فيكون هذا إرهاص وتهيئة، لمَّا نزَل الوحي على النبي ونُبِّئ النبي -صل الله عليه وسلم- وأُرسِل إلى الناس كان زيد ابن حارثه مولاه ومُتبنَّاه عنده، ولذلك كان من أسبق الناس إلى الإسلام، فنعمة الله -تبارك وتعالى- أنه أُخِذَ غُلامًا مسروقًا ثم ساقته الأقدار ليعيش في بيت النبي –صل الله عليه وسلم- قبل أن يُبعَث، ويكون هذا خير له؛ تهيئة له، خيرٌ من أن يكون قد بقي في بيت أبيه وهو حُر عزيز... لا، مجيئه وإن كان عبدًا ومسروقًا تدور به الأمور؛ يُشترى، يوهَب لخديجة -رضي الله تعالى عنها-، خديجة تهبَه للنبي -صل الله عليه وسلم-، يجعله النبي في بيته، نعمة عظيمة؛ هذه الأقدار التي مرَّت به هذه كانت من نِعَم الله -تبارك وتعالى- على هذا العبد، ثم نعمة الإسلام بعد ذلك، ثم نعمة مُصاحبة النبي -صل الله عليه وسلم- بعد ذلك، والنشأة في بيت النبي -صل الله عليه وسلم-، وإكرام النبي له الإكرام الزائد حتى إنه اختاره وهو غلام على أبيه الحقيقي؛ اختار البقاء عند النبي، لمَّا جاء حارثة يبحث عن ابنه وين راح، وجاء مكة ثم دُلَّ عليه وأنه قد أصبح في بيت محمد -صل الله عليه وسلم-؛ قيل له في بيت محمد، جاء وأراد أن يأخذ ابنه، قال له النبي إن اختارك فخذه، فلم يختر أباه وإنما بقي عند النبي -صل الله عليه وسلم-، فهذا من إكرام النبي له؛ أن النبي أكرمه، نشَّأه، أعتقه، وكان يُحِبه حُبًا عظيمًا، كان يُسمَّى الحِب؛ أيه أنه حِب النبي -صل الله عليه وسلم-، ثم لمَّا النبي زوَّجه بعد ذلك وولِد له أسامة كان هذا كذلك أسامة حِب رسول الله -صل الله عليه وسلم-.
{وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ}، بعد ذلك زوَّجه النبي -صل الله عليه وسلم- بزينب بنت جحش الأسدية -رضي الله تعالى عنها-، تمنَّعَت في أول الأمر ثم عاشت معه مدة، ثم بعد ذلك كان زيد يذهب إلى النبي -صل الله عليه وسلم- ويشكوها؛ يشكوا حِدَّتها ونفاستها عليه، فكان النبي -صل الله عليه وسلم- يعظه ويقول له أمسك عليك زوجك، اتَّقي الله ولا تُطلِّقها، وكان دائمًا يستأذن النبي في أنه يُريد طلاقها ويُريد فراقها، فالنبي يقول له أمسك عليك زوجك واتقي الله، {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ}، وهو زيد -رضي الله تعالى عنه-، {وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ}، اللي هي زينب بنت جحش الأسدية -رضي الله تعالى عنها-، {وَاتَّقِ اللَّهَ}، قال -جل وعلا- لرسوله {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ}، الذي أخفاه النبي في نفسه -صل الله عليه وسلم- أن الله –تبارك وتعالى- قد أخبَره بأن زيد في النهاية سيُطلِّق زينب؛ وأن النبي سيتزوجها، والنبي -صل الله عليه وسلم- كأنه كره أن يتَقوَّل الناس ويتكلم الناس عليه -صلوات الله عليه وسلم-، ويقولون تزوج محمد رسول الله -صل الله عليه وسلم- مُطلَّقَة مُتبنَّاه ومُطلَّقة ابنه؛ عند الناس أنه كان ابنه، إن هذا أمر عظيم في العرب؛ أن الإنسان يتزوج مُطلَّقة أو أرملة مُتبنَّاه، فأخفى النبي هذه عِلمًا أن الله -تبارك وتعالى- أخبَره أنه سيكون، هذا هو الصحيح من أقوال السلف في هذه الآية أن الذي أخفاه النبي -صل الله عليه وسلم- هو الذي أبداه الله -تبارك وتعالى-، والذي أبداه الله -تبارك وتعالى- بأن أمر نبيه أن يتزوج بزينب -رضي الله تعالى عنها-، وتُخفي في نفسك ما الله مُبدية؛ يعني ما الله سيُبديه -سبحانه وتعالى-، والذي أبداه الله -تبارك وتعالى- أن يأمر الله نبيه بزواج زينب، ويعقِد الله ويُزَوِّجه الله -تبارك وتعالى- إياها من السماء، {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ}، أي أن يتكلموا على النبي -صل الله عليه وسلم-، {وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ}، وعظ من الله -تبارك وتعالى- لرسوله أنه ينبغي أن يفعل ما يأمره الله -تبارك وتعالى- به ولا ينظر إلى كلام الناس في هذا، {وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ}.
قال -جل وعلا- {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا}، {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا}، الوطَر هو الرغبة يعني الإربة، وقد عاشت عنده سنة، قال -جل وعلا- {زَوَّجْنَاكَهَا}، الله هو الذي زوَّجه -سبحانه وتعالى-، زوَّجناكها وهذا بأمر الله -تبارك وتعالى-، قال -جل وعلا- {لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا}، ليهدم الله -تبارك وتعالى- هذه النظرة والعادة التي كانت في الجاهلية وهو تأثيم وتحريم واستقباح أن يتزوج الإنسان زوجة مُتبنَّاه، فأراد الله -تبارك وتعالى- أن يهدم هذه العادة ويكون أول مَن يفعل هذا هو رسوله -صل الله عليه وسلم-، لكي لا يكون على المؤمنين حَرَج؛ ضيق وإثم، في أزاج أدعيائهم إذا قضوا منهُنَّ وَطَرًا؛ أي وطلَّقوهُن، {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا}، وكان أمر الله -سبحانه وتعالى- مفعولًا، أمره الذي يُريده كونًا وقدرًا لابد أن يُفعَل ولابد أن يكون، وهذا قد قضاه الله -تبارك وتعالى- وقدَّره ولابد أن يكون، {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا}.
ثم أخبَر بأن النبي لِما يتخوَّف من كلام الناس في هذا، {مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ}، ما كان على النبي من حَرَج؛ من ضيق ومشقَّة أو شيء، {فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ}، ما دام أن الله -تبارك وتعالى- هو الذي فرض هذا الأمر فلا حَرَج عليه في ذلك لأن الله هو الذي يُبيح، فالله هو الذي له الإباحة وله التحريم؛ الحُكم كله له -سبحانه وتعالى-، {مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ ........}[الأحزاب:38]، سُنَّة الله؛ طريقة الله -تبارك وتعالى-، وحُكمه، وشرْعُه، في الذين خَلَوا من قبل؛ من الرسل والأنبياء، {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا}، وكان أمر الله -سبحانه وتعالى-؛ أمر الكوني القدري، قدر مقدور؛ مُحدَّد ولابد أن يكون، وكلٌ في وقته؛ في زمانه، بهيئته وكيفيته التي قضاها الله -تبارك وتعالى-، {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا}.
{الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا}[الأحزاب:39]، {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ}، هذي سُنَّة الله في الذين سبقوا من الرسل، وهي أمره وسُنَّته في النبي -صلوات الله والسلام عليه-، أثنى الله -تبارك وتعالى- على هؤلاء الأنبياء والرسل فقال {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ}، فإذا كان الله -تبارك وتعالى- قد أباح لهم وشرَّع لهم؛ أباح لهم أمر، وأمرهم بأمر، هذا هو أمر الله -تبارك وتعالى- لهم، وأنهم قائمون بطاعة الله -تبارك وتعالى-، وتبليغ رسالات الله -تبارك وتعالى-، فما يشرَعه الله لهم، ما يُعطيهم الله -تبارك وتعال-، ما يكرمهم الله -تبارك وتعالى- به في هذه الدنيا؛ إنما هو من إكرامه -سبحانه وتعالى-، وهم جديرون بما يُعطيهم الله -تبارك وتعالى-، فإنهم هم {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ}، يخافونه وحده -سبحانه وتعالى-، {وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ}، لا يخشون خشية تعظيم وفَرَق إلا من ربهم -سبحانه وتعالى-، {........ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا}[الأحزاب:39]، كفى بالله حسيبًا؛ وحده -سبحانه وتعالى-، يعني أنه لا يُحتاج معه إلا حاسب يحسب، بل هو يكفي الجميع؛ مُحاسِب لكل أحدٍ -سبحانه وتعالى-؛ ولا يساعده أحد، وليس معه أحد ليُحاسِب خلْقَه وعباده -سبحانه وتعالى-، بل هو الحسيب على كل عباده -سبحانه وتعالى-، {وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا}.
ثم قال -جل وعلا- {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ}، فمحمد الذي كان يقول الناس هذا زيد ابن محمد فلم يولَد للنبي ولد بلغ الحُلُم قط، بل كل أولاده الذكور ماتوا أطفالًا قبل أن يبلغوا الحُلُم، {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ}، ما عاش للنبي -صل الله عليه وسلم- ولدٌ ذكَر من أولاده فبلغ الحُلُم قط، فالقاسم ابنه الأكبر والطاهر أو عبد الله من زوجه خديجه -رضي الله تعالى عنها- توفُّوا كذلك قبل الحُلُم؛ وهم أطفال، وإبراهيم من ماريا القبطية توفي كذلك وهو طفل صغير في المهد، هؤلاء هم الأولاد الذكور الذين ولِدوا للنبي -صلوات الله والسلام عليه-، وأمَّ الإناث فقد كان للنبي أربع من زوجته خديجة -رضي الله تعالى عنها-، وهي زينب، ورُقية، وأم كُلثوم، وفاطمة -عليهم السلام جميعًا-، وأمَّا زينب تزوَّجَت سعيد ابن العاص، وأمَّ رُقية وأم كُلثوم فقد تزوجهما عثمان ابن عفان -رضي الله تعالى عنه- واحدة بعد الأخرى، كانت عنده رُقية ثم توفيت عنده، ثم زوَّجَه النبي -صل الله عليه وسلم- بأم كُلثوم؛ وتوفيت عنده كذلك، وأمَّ فاطمة -عليها السلام- فإن النبي زوَّجها ابن عمه؛ علي ابن أبي طالب -رضي الله تعالى عنه-، ومكثت عنده وتوفي النبي -صل الله عليه وسلم- وهي موجودة، ثم توفيت بعد ستة أشهر من وفاة النبي -صل الله عليه وسلم-، وكانت أول أهله لُحُوقًا به -صل الله عليه وسلم-، فالنبي -صل الله عليه وسلم- هؤلاء أولاده؛ لم يكن له من أولاده مَن بلغ مبلغ الرجال، {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ}، من الرجال.
{وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ}، هذا وصف النبي -صلوات الله والسلام عليه-، ولكن الله –تبارك وتعالى- جعل محمد عبده –صل الله عليه وسلم- رسول الله؛ هو رسول الله -صلوات الله والسلام عليه-، رسوله الذي اختاره الله -تبارك وتعالى- يُرسِله بهذه الرسالة إلى العالمين، وخاتم النبيين؛ ختم الله -تبارك وتعالى- به النبيين، فلا نبي بعده إلى يوم القيامة، لا نبي بعد رسول الله -صل الله عليه وسلم-، والختم هو النهاية، وذلك أنه كان إذا انتهى الأمر يُختَم؛ بمعنى يوضع عليه ختم، خلاص هذا قُفِل، فقُفِلَت النبوَّة كلها ببعثة النبي -صل الله عليه وسلم-، وجُعِلَ النبي محمد هو خاتم ونهاية هؤلاء الأنبياء، كما جاء في الحديث «إن مثَلي ومثَل الأنبياء من قبلي كمثَل رجلًا بنى بيتًا فأكمله إلا موضِع لَبِنَة، فكان الناس يطوفون به ويقولون ما أحسن هذا البناء إلا موضِع هذه اللَبِنَة، فقال النبي فأنا هذه الَبِنَة، خُتِمَ بي النبيون؛ فلا نبي بعدي»، فهذي نهاية هذا البناء؛ بناء النبوَّة، خُتِمَ بالنبي محمد -صلوات الله والسلام عليه-، لا نبي بعد رسولنا -صلوات الله والسلام عليه-، وقال -صل الله عليه وسلم- «لم يبق من النبوَّة إلا المُبشِّرات، قيل وما المُبشِّرات يا رسول الله؟ قال الرؤيا الصالحة، يراها الرجل الصالح أو تُرى له»، لأن الرؤيا يعني كما قال النبي «الرؤيا الصالحة جزء من ست وأربعين جزءًا من النبوَّة»، فالنبوَّة وحي، ورؤية للملائكة، وسماعٌ لصوته، وإلهام، ورؤيا صادقة، هذي كلها ما اختصَّت به النبوَّة؛ وصول الوحي من الله -تبارك وتعالى- لرسوله -صلوات الله والسلام عليه-، والجزء الذي يبقى من النبوَّة هو المُبشِّرات، «قيل وما المُبشِّرات يا رسول الله؟ قال الرؤيا الصالحة، يراها الرجل الصالح أو تُرى له»، يعني أن الرؤيا الصالحة قد يكون فيها إخبار بأمر سيكون في المستقبل؛ من أمور الغيب، فهذا الذي بقي فقط أمَّا ما سوى ذلك فإنه قد انتهى، لا نبوَّة بعد النبي -صل الله عليه وسلم-، وفي الحديث «فُضِّلت على الأنبياء بست»، وذكر النبي من هذه الست وقال «خُتِمَ بي النبيون فلا نبي بعدي».
فالنبي محمد -صل الله عليه وسلم- هو خاتم الأنبياء والمرسَلين، ولذلك كل مَن ادَّعى النبوَّة من بعده فهو كاذب؛ دون النظر في أن عنده دليل أو غير دليل، لا يمكن أن يأتي نبي بعده -صلوات الله والسلام عليه-، كذَّابون؛ يخرج في كل عصر وفي كل وقت كذَّابون ليوم القيامة مَن يدَّعي النبوَّة، لكن لابد أن يفضحهم الله -تبارك وتعالى- ويُظهِر كذبهم، مهما ظهر على أيديهم من بعض المخاريق، وبعض خوارق العادات، وغير ذلك؛ إلا لابد وأن يُظهَر كذبهم، كما ظهر على الأسود العنسي الذي تنبأ باليمن، ومُسيلَمَة الكذَّاب الذي تنبأ في نجد؛ في بني حنيفة، والسجاح كذلك، والمختار ابن أبي عُبيد الله الثَّقفي، وهذا ابن الصيَّاد، وغيرهم في حياة النبي وبعد حياة النبي -صل الله عليه وسلم-، لا يمضي وقت إلا وهناك مَن يدَّعي النبوَّة، لكن لابد أن يُظهِر الله -تبارك وتعالى- كذبه، لا نبي من الله -تبارك وتعالى-؛ أنه يأتي نبي من الله -تبارك وتعالى- بعد محمد -صلوات الله والسلام عليه-... لا، وهذا من علامات نبوَّة النبي -صل الله عليه وسلم-؛ عدم وجود نبي من الوقت الذي توفي فيه النبي -صل الله عليه وسلم- إلى وقتنا هذا، مضت ألف وأربعمائة ونيف من السنين ولم يأتي نبي، وهذا دليل من أعظم الأدلة على أن النبي محمد -صل الله عليه وسلم- نبي الله حقًا وصدقًا -صلوات الله والسلام عليه-.
{مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا}[الأحزاب:40]، وكان الله -تبارك وتعالى- بكل شيء عليم، كل شيء؛ أي شيء، كل ما يُطلَق عليه شيء في السماوات والأرض عليمٌ به -سبحانه وتعالى-، عليمٌ به في خلْقه وفي تصريفه؛ يعني في الخلْق والتصريف، كل تصريف في المخلوقات الله عليم به، عليم بهذا التصريف كذلك مهما كان هذا الخلْق، خذ أي قطاع من قطاعات الخلْق؛ يعني الإنسان مثَلًا، الإنسان يبدأ وجوده بهذه البذرَة التي تُبذَر فيه؛ الحيوان المنوي، بويضة أمه، ثم يقع على هذه من المراحل والتخليق والسلاسل إلى أن يُصبح طفلًا، في كل هذا هو بعِلم الله -تبارك وتعالى- وبخلْق الله -جل وعلا-، ثم كذلك يولَد فيعيش، فيشب، فيكبر، فيكسب، إلى أن يموت، يمُر في هذه المراحل بأنواع هائلة جدًا من التصريف، يمر عليه الفرح، والحزن، والهم، والغم، والسرور، يمر عليه أعمال متواصلة، يمر به خطَرَات قلبه؛ فعل القلب الذي يتقلَّب في كل لحظة من اللحظات، تمر به أفكار ووساوس، وأفكار ووساوس، وخطَرَات، وأفكار، ووساوس، وعزْم، ونقض للعزْم، أعمال، لو أن الإنسان حوَّل خَطَرات القلب إلى كتابة يكتب كل ما فيها لكتب في كل يوم سجِّل مد البصر من التغيُّرات التي تنشأ بالقلب، فما بالك بالتغيُّرات التي تنشأ في كل ذرَّة من ذرَّات وجود هذا الإنسان، الله -تبارك وتعالى- كل هذا إنما يكون بعِلمه -سبحانه وتعالى-، لا شيء من هذا إلا بعِلمه، فلو أخذنا فقط خَطَرات قلب الإنسان فإن الله -تبارك وتعالى- مع كل قلب؛ يعلم هذا بعِلم دقيق يقيني، {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ ........}[البقرة:284].
قال الله في ذنوب العباد {........ أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}[المجادلة:6]، فالله شاهد على كل ذرَّات خلْقه -سبحانه وتعالى-، لا تسقط ورقة إلا بعِلمه، ولا حبة قطرة ماء من السماء تنزِل إلا بعلمه؛ ولا تتحوَّل إلا بعلمه -سبحانه وتعالى-، {وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا}، بكل شيء؛ ليس أعمال خلْقه فقط، وإنما بكل شيء من خلْقه فالله -تبارك وتعالى- عليم به، قد أحاط عِلمًا بكل الأشياء -جل وعلا-، {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا}[الأحزاب:40]، ثم قال -جل وعلا- بعد هذا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا}[الأحزاب:41] {وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا}[الأحزاب:42] {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا}[الأحزاب:43].
هذا -إن شاء الله- موعدنا مع هذه الآيات الحلقة الآتية -إن شاء الله-، اللهم صلي وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد.