الجمعة 25 شوّال 1445 . 3 مايو 2024

الحلقة (52) - سورة البقرة 180-184

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على عبد الله ورسوله الأمين. وعلى آلة وأصحابه، ومن اهتدى بهديه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد...

أيها الأخوة الكرام يقول الله -تبارك وتعالى-: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:180]

يخبر -سبحانه وتعالى-عباده أنه كتب عليهم الوصية إذا حضر أحدهم الموت وكان قد ترك خيرا، كُتِبَ عَلَيْكُمْ فُرض عليكم إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ يعني أسبابه، أسباب الموت، أو غلب على ظنه أن هذا هو مرضه الأخير وأن أجله قد دنا.

إِنْ تَرَكَ خَيْرًا يعني مالًا كثيًرا، الْوَصِيَّةُ الوصية كتب عليكم الوصية أن يوصي. لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ أن يوصي من هذا المال الذي سيتركه بعد وفاته بجزء منه لوالديه وللأقربين قال -جل وعلا-:{بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} بالمعروف دون أن يفضل بعضا على بعض، أو يجحف أو يعطي بعضا، ويحرم الآخرين وإنما يوصي لهم ويوزع هذا المال بالمعروف، ثم أخبر -تبارك وتعالى -:{حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ}يعني أن هذه الوصية على هذا النحو جعلها الله -تبارك وتعالى- حقا لازمة على المتقين، ولا شك أن هذا معناه على كل مؤمن لأنه لا يجوز أن يكون المؤمن غير متقٍ، بل المتقين هو وصف لكل مؤمن لا يجوز لمؤمن أن يقول لست من المتقين، بل كل مؤمن واجب عليه أن يتقي الله -تبارك وتعالى- فإذن هي واجبة على كل أحد وليست استحبابا.

قال -جل وعلا-: {فَمَنْ بَدَّلَهُ} من بدل الوصية بعدما ما سمعه، من بدل هذا الأمر الذي أوصى به الميت بعدما سمعه من الميت فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إثم هذا التبديل على المبدِل. إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ فالميت بعد ذلك قد برئت ساحته مادام أنه قد أدى ما أمره الله -تبارك وتعالى-به من التوصية لوالديه وأقاربه في المال، فأجره قد وقع على الله، وقد برئت ذمته وساحته ويبقى الإثم على المبدلين، فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ يوم القيامة على الذين يبدلونه إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لكل الأقوال، فقول الميت عندما تكلم الله سميع قد سمع قوله، وعلم ما وصى به عليم بهذا الأمر، وهذا فيه تهديد ووعيد من تبديل وصية الميت بعد موته.

 ثم قال –جل وعلا: -{فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} فمن خاف من موص إذا خاف من الموصي الجنف وهو الميل، أي يميل مع بعض الوالدين دون البعض، فيعطي مثلًا المال لأمه ويترك أباه، ويعطي أباه ويترك أمه، أو يعطي بعض الأقربين ويترك البعض الأخر ويميل مع البعض.  فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أي ميلا أو  إثما أنه يعني معصية لأمر الله -تبارك وتعالى- بهذا الأمر فيوصي المال في غير مكانه فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ سواء كان بحضرة الميت قبل أن يموت وصى الميت لما توصي بكذا وأعطي هذا مع هذا ونحو ذلك،  أو بعد وفاة الميت بأن سمع الوصية ولكنه رأى فيما أوصى به الميت نوعا من الميل والإثم، كأن يقول أعطى بعض أقاربه وحرم البعض الأخر، أعطي أبناءه وحرم بعضا، وأعطى أحد الوالدين وحرم الآخر، يجمع هؤلاء الورثة بعد موت مورثهم هذا، ويعدل في هذه الوصية بالتراضي فيما بينهم حتى يصلح هذا الخلل الذي وقع فيها وهو الجنف والإثم.

 قال -جل وعلا-: {فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} لا إثم على المبدل إن أراد به الإصلاح، فاللوم إنما هو في التبديل بقصد الإفساد، وإنما إذا كان ستُبدل هذه الوصية برضا الموصي لهم وبنوع من الإصلاح، فهذا قال -جل وعلا-: {فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} غفور للتوابين -سبحانه وتعالى-، والذي فعل هذا الفعل وإن كان فيه تبديل لكنه يعني مادام أنه أراد بهذا الإصلاح، فإن الله -تبارك وتعالى- يعني واسع الرحمة واسع المغفرة بل قد يأجره على فعله هذا ونيته هذا رحيم بعباده -سبحانه وتعالى-.

هذه الآيات نزلت قبل آيات الميراث والتي حدد الله -تبارك وتعالى- فيها ميراث كلٍ، أعطى الله -تبارك وتعالى- كل ذي حق حقه، نزل بعد ذلك قول الله -تبارك وتعالى-: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا}[النساء:11]

لما نزلت آيات الميراث في سورة النساء قال النبي –صلى الله عليه وآله وسلم-:« إن الله قد أعطى كل ذي حقٍ حقه  فلا وصية لوارث"، الوارث الذي له حق ونصيب مفروض يأخذه بالفرض، أو يأخذه بالتعصيب، فهذا انتهى لا يجوز أن يوصي له الميت بشيء زيادة على حقه الذي أحقه الله -تبارك وتعالى- له، وإنما تبقى الوصية بعد ذلك في غير الوارثين وقد حدد النبي –صلى الله عليه وسلم - الوصية في غير الوارثين بثلث المال فقط كما قال لسعد بن أبي وقاص لما ذهب النبي يعوده في مرضه كان قد اشتد به في مكة قال له يا رسول الله: «إني ذو مال ولا يرثني إلا ابنة لي أفأجعل مالي كله في سبيل الله؟ قال: الشطر فقال له النبي: لا. ثم قال له: الثلث. قال له النبي: الثلث والثلث كثير، ثم قال له يا سعد: إنك أن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس»، واعلم أنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله؛ إلا أجرت عليها حتى اللقمة تضعها في في امرأتك». فبين له النبي أولًا من هذا الحديث أنه لا يجوز أن يوصي في غير الوارثين إلا بالثلث، قال له النبي: الثلث والثلث كثير ثم بين له أنه إذا ترك يعني ورثته الذين يأخذون المال من بعده أغنياء خير من  أن يتركهم عالة، وأن هذه النفقة التي ينفقها في حياته على أبنائه وعلى زوجته وهذه نفقة واجبة بعقد النكاح مادام أنه يبتغي بها وجه الله، فله أجر عليها.

الشاهد الآن في حديث سعد بن أبي وقاس -رضي الله تعالى عنه- أن الوارث لا وصية له، وأن الوصية إنما تكون في الثلث وتكون في خارج الذين حق الله -تبارك وتعالى- لهم  حقا في الميراث،  لذلك قال أهل العلم بأن هذه الآية منسوخة بأية المواريث {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ }  الوالدان يرثان بالفرض والتعصيب، فلذلك هم ممن حق الله -تبارك وتعالى- لهم حقًا معلومًا في مال الميت فإذن لا وصية لهم، لا يدخلون هنا في الوصية؛  لذلك قال بعض أهل العلم إن هذه الآية إنما باقية فيمن لا يرث من الوالدين والأقربين، فإذا كان الوالدين لا يرثان كأن يكون للميت أب كافر،  أم كافرة على غير دينه،  فإذا كانت على غير دينه، فإنها لا ترث لأنه لا يرث المؤمن الكافر،  فهنا  يجوز أن يوصي أن يوصي للوالدين اللي هم الكافرين الذين لا يرثان لا يدخلان في الميراث،  وإنما يكون بهذه دية، وكذلك الأقربين من لا ميراث له فيجعل له كمن يوصي مثلا لابن الابن مع وجود الابن، فإن  الابن يحجب ابن الابن فهذا يعطى أو بما يسمى الآن بالوصية الواجبة وهي أبناء ابن الميت الذي توفي هذا أبوه توفي أبوهم في حال حياة أبيه، فهم الآن يرثون من جدهم، فيأخذون ميراث أبيهم لو كان حيًا، ميراث أبوهم لو كان حي يأخذونه فيوصى لهم،  وتسمى وصية واجبة لأن بعض أهل العلم رأي أنه يجب أن يوصى لهؤلاء ،فيجب على الميت إذا حضرته الوفاة وعنده أولاد له أولاد ولد له أبناء وله أبناء أبنائه ، أبناؤه يرثون منه أبناء الابن الذي مات في حياته لا يرثون يحجبون بأعمامهم، يحجبون بأبناء الميت، فهؤلاء يجب أن يوصي لهم أن يعطيهم على الأقل نصيب أبيهم لو كان موجودًا،  أو يعطيهم عطية في حدود الثلث لأنه لا يجوز الزيادة على الثلث.

 فإذن هذه الآية بقيت في غير الوارثين من الوالدين والأقربين، إذا وجد غير وارثين من الوالدين والأقربين فإن الآية بقيت فيهم، قال أهل العلم: بأنها بقيت فيهم، وبالتالي فهذه الآية يعني تبقى محكمة ولا تبقى منسوخة، أو يبقى الجانب المنسوخ منها هو جانب الوارثين، ومن ليس بوارث فإنه يبقى له هذا الحق.{كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }[البقرة:180- 182].

 

بعد آية الوصية هذه وجه الله -تبارك وتعالى- خطابه لعباده المؤمنين بفريضة عظيمة من فرائض الدين وهي فريضة الصوم، فقال -جل وعلا-:  {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:183-184] هذا نداء جديد من الله -تبارك وتعالى- في هذه السورة سورة البقرة لعباده المؤمنين يوجههم فيها بأنه قد كتب عليهم الصوم قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا نداء من الله للمؤمنين  كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كتب البناء للمجهول، والكاتب لا شك هو الله -تبارك وتعالى- أو كتب بناء لما لم  يُسم فاعله والفاعل هنا لاشك أن الذي كتب هذا وفرضه هو الرب -جل وعلا- .

كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ  الصيام في لغة العرب هو: الإمساك مطلقًا، فالإمساك عن الحركة الإنسان وقف يسمى أمسك، أمسك عن الحركة، ومن  وقف عن الكلام يقال أمسك عن الكلام، توقف عن الطعام والشراب يصير إمساكا، إمساك عن الطعام والشراب، فهذا الصيام في اللغة.

 وأما الصيام الذي كتبه الله -تبارك وتعالى- هنا فقد بينه يعني النبي -صلوات الله وسلامه عليه- وجاء هنا في الآية أنه صيام عن الطعام والشراب والجماع والاستقاءة هذه المفطرات الأربعة من ظهور الفجر الصادق إلى غروب الشمس، فهذا وقته فهذا هو الصيام الشرعي،  أما معنى الصيام أنه الإمساك مطلقًا فهذا الصيام عن الكلام مثلًا جاء في قوله الله -تبارك وتعالى-: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا}يعني صومًا عن الكلام، فهذا كان مشروعًا فيمن كان قبلنا يعني أن يصوموا التعبد عن الكلام هذا في شرع من قبلنا وليس في شريعتنا كما جاء في الحديث إن النبي رأى رجلًا لا يتكلم قد وقف في الشمس قائما فقال: ماله؟ قالوا: هو أبو إسرائيل. نذر ألا يتكلم وأن يقوم وأن يبقى في الشمس وأن يصوم. يصوم كذلك يعني الصيام الشرعي فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: مروه أن يتكلم، ولينتقل إلى الظل، وليجلس وليتم صومه، فالامتناع عن الكلام ليس يعني من شريعتنا.

  كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ  الصيام الشرعي الذي جاء في القرآن وهو قول الله -تبارك وتعالى-: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة :188] والصيام إلى الليل امتناع عن الطعام والشراب والجماع والاستقاءة، هذه أربعة مفطرات من وقت الفجر الصادق حتى مغيب الشمس.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ قال -جل وعلا-: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} يعني كما كتبه الله -تبارك وتعالى-أيضا على الذين من قبلكم، الذين من قبلكم الأمم السابقة فإن الله -تبارك وتعالى-قد كتب عليهم الصيام اليهود والنصارى.

 قال جل وعلا-:{لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}أي  كتب هذا لعلكم تتقون، التقوى مخافة الله -تبارك وتعالى- التي تبعث على أن يجعل العبد بينه وبين عقوبة الله وقاية وحماية، فهي العمل بطاعة الله -تبارك وتعالى- كل من عمل بطاعة الله آمن به واتقى عقابه هذا التقي، وهنا يربط هذا الأمر بالأمر الأول في القرآن {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[البقرة:21] فالعبادة مؤداها وغايتها أن يحصل عند العبد تقوى الله -تبارك وتعالى- ومخافته والصيام كذلك. هذا من العبادة لعلكم تتقون.

 {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }لعل للترجي، والترجي هنا ليس بحسب الرب -سبحانه وتعالى- وإنما بحسب العبد، وذلك أن الصوم سبب فمن اتخذ هذا السبب استفاد به وأداه على الوجه الأكمل؛ فإنه يبلغ به التقوى،  وكون الصيام يؤدي إلى التقوى ظاهر؛ وذلك أن الصوم من السر عمل بين العبد وبين الله -تبارك وتعالى-، فإن الإنسان ممكن أن يأكل ويشرب خلسة وخفية عن الآخرين عن الناس ولا يعلم بصيامه إلا الله -تبارك وتعالى-،  فإذا صام بالفعل مراقبا لله -تبارك وتعالى- في سره وفي عانيته إذن هنا تعلم خوف الله، وتعلم أن الله يراقبه فامتنع عن ذلك، فهذا بالفعل مع ممارسة هذا يصل إلى حقيقة التقوى، وهي مراقبة الله -تبارك وتعالى-.

بعد أن أعلن الله -تبارك وتعالى- للمؤمنين وأخبرهم بأنه فرض عليهم هذه الفريضة بدأ بتسهيلها لهم، وهذا من خصائص أسلوب القرآن وخطاب الله لعباده أن الأمر إذا كان فيه مشقة ربنا -سبحانه وتعالى- ييسره ويسهله للمسلم ليتقبله، وليعمل به.

 فقال أولًا ربنا -سبحانه وتعالى-: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} أياما معدودات يعني أن الصوم الذي فرضه الله -تبارك وتعالى- عليكم ليس كل الحياة، وإنما هو أيام معدودات هو شهر واحد من السنة كلها نسبة قليلة 1/12، فهو أيام معدودات وتنتهي، طبعا فيه تسهيل قبل هذا وهي قول الله -تبارك وتعالى-: {كمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} فلستم بدعا في هذه الفريضة الشاقة، وإنما قد كتبها الله عليكم هذا نوع كذلك من التسهيل لأن  التأسي بالآخرين يسهل الأمر إذا كان الأمر شاق واجد أن غيري قد قام به فإني أتأسى وأتحمل هذه المشاق في أني أعلم أن هناك غيري قد قام بهذا الأمر، هذه واحد ثم أيام معدودات.

 ثم تسهيل آخر قال -جل وعلا-:  {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} هذا تسهيل لأصحاب الأعذار  فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا المرض أو على سفر مسافر فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ عدة ما أفطره فليصمه من أيام أخر في بقية السنة، فهذا تسهيل من الله -تبارك وتعالى- وتخفيف أنه وضع وجوب الصوم عن المسافر وعن المريض ويكمل الأيام التي أفطرها في بقية أيام العام.

 تسهيل آخر قال -جل وعلا-:{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ أي  يتجشمونه لأن أقول هذا الأمر في طاقتي في بلوغ طاقتي في حدود طاقتي، والطاقة نهاية الجهد، يعني أنا أقول أنا أطيق أن أحمل هذا الوزن أحمل 50كجم، فهذه نهاية الجهد لكن لا أقول أنا أطيق أن أحمل كوبًا من الماء فإن العرب لا تقول هذا، ليس من كلام العرب أن يقول  أن أطيق هذا الأمر أطيق هذا الأمر وهذا أمر سهل لا يكلفني مشقة ولا تعب لا أقول أطيق أن أمشي خطوات ولكن أقول أطيق أن امشي 10كم فهذه نهاية الجهد.  وَعَلَى الَّذِينَ يطيقونه يتجشمونه يؤدونه ولكن بمشقة بنهاية الجهد بآخر جهدهم بآخر طاقاتهم فهذا يصوم يستطيع الصوم ولكن بآخر جهده على هذا الذين يتجشمونه قال -تبارك وتعالى- {فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} فليفطر وليفدي عن هذا الوجوب بأن يطعم مسكينًا وجبة واحدة يوم واحد.

قال -جل وعلا-: {فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ} التطوع هو الزيادة عن الفرض تطوع خيرا بأن أطعم مسكينين ثلاثة عن اليوم الذي أفطره فهو خير له هذا التطوع في الفدية، ثم قال -جل وعلا-:{وَأَنْ تَصُومُوا}أي مع التجشم والمشقة وبلوغ غاية الطاقة في الصوم فهو خير لكم وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ خير هنا بمعنى أخير هنا على التفضيل إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ، فالصوم مع المشقة خير من الفطر مع الإطاعة.

 هذه الآيات أولًا بين الله -تبارك وتعالى- فيها الفريضة اللي هو فريضة الصوم وبين -سبحانه وتعالى- أنها فريضة قديمة فرضها على من قبلنا للتسهيل، وأنها أيام معدودات ثم بين الله -تبارك وتعالى- أن أصحاب الأعذار قد تجاوز الله عنهم فلا يكلف المريض ولا يكلف المسافر لأن السفر قطعة من العذاب، السفر انتقال وعذاب فخفف الله -تبارك وتعالى- عن هؤلاء أن يفطروا ويصوموا في أيام أخر، ثم بين الله -تبارك وتعالى- أن الذين يتجشمونه ويشقوا عليهم ويبلغون في الصوم نهاية الجهد، فهؤلاء يفطرون ويطعمون مسكينا أن تطوعوا بمسكينين أو بثلاثة فهو خير لهم، والصوم مع ذلك هو خير لهم .

هذه الآيات قال أهل العلم بأنها نسخت بالآية التي تأتي بعدها، وهي قول الله -تبارك وتعالى-: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}[البقرة:185] فقول الله  فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ كل من جاءه شهر رمضان وهو حاضر مقيم في بلده سليم معافى فليصمه، ثم إن الله -تبارك وتعالى- لم يعذر بعد ذلك إلا المريض والمسافر وانتفت قضية وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ قالوا إن هذه الآية نسخت وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ نسخ هذا الجزء من الآية وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فدية طعام مسكين أن من قدر على الصوم وجب له أن يصوم ولا يجب أن يفطر،  وأن الصيام الأول هو التخيير هذا الذي كان إنما كان سنة واحدة ثم أنزل الله -تبارك وتعالى- شهر رمضان فأوجب على عباده كل قادر أن يصوم.

وقال ابن عباس: إن هذه الآية ليست منسوخة يعني جميع معناها وإنما نسخت في حق القادر، وبقيت في حق أربعة من الناس بقيت في حق الحامل، والمرضع، والشيخ الفاني هذه بقيت في حقه، والمريض الذي لا يرجى برؤه فهؤلاء الأربعة بقيت فيهم وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ.

فالشيخ الفاني سليم رجل سليم ليس مريضًا، وهو مقيم ولكنه كبير السن ولا يتحمل يعني مشقة الصوم إلا بصعوبة شديدة، فهذا يفطر ويطعم والمرضع التي تخاف على ولدها إذا صامت يجف مثلا لبنها، أو يقل ولا تستطيع أن تطعم وليدها فتفطر لهذا، والحامل التي يصعب عليها الصوم مع حملها وتخاف على جنينها فإنها تفطر وتطعم، وكذلك المريض مرضاً لا يرجى برؤه مرض طويل لا يرجى أنه يبرأ ويعيد هذه الأيام فإنه يفطر ويطعم بدلًا من ذلك.

 فبقي حكم هذه الآية وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ في هؤلاء الأربعة لأن هؤلاء يتجشمونه، وليس عندهم فرصة لأن يعيدوا ويقضوا الأيام التي أفطروها، فإن الحامل ممكن أن تفطر الشهر كله، والمرضع ممكن تفطر الشهر كله ويشق عليها ذلك فإنه خفف عنها بذلك.

لآيات الصوم مزيد من الشرح إن شاء الله وهذا في حلقة آتية إن شاء الله