{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الفاتحة:2] {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}[الفاتحة:3] {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}[الفاتحة:4]، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا}[الأحزاب:69] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا}[الأحزاب:70] {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا}[الأحزاب:71] {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا}[الأحزاب:72] {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}[الأحزاب:73]، هذه الآيات الأخيرة من سورة الأحزاب، وقد جائت هذه المواعظ الإلهية من الله -تبارك وتعالى- لعباده المؤمنين متناسبة مع ما ذُكِرَ في هذه السورة، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}، نداء من الله -تبارك وتعالى- وخطابًا منه -جل وعلا- لعباده المؤمنين واصفًا إياهم بوصف الإيمان؛ الذي هو أعلى وأشرف الأوصاف، وذلك لتهييجهم على الفعل وكذلك إلزامًا بما يأمرهم به -سبحانه وتعالى-، يا أيها المؤمن افعل، أنت مؤمن؛ إذن امتثِل أمر الله -تبارك وتعالى- في ما يأمرك به، {لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى}، نهي من الله -تبارك وتعالى- لعباده المؤمنين ألا يكونوا كالذين آذوا موسى، موسى بنوا إسرائيل -عليه وعلى نبينا السلام- قد آذاه الكثير من قومه أذىً بليغًا، وقد ذكَرَ الله -تبارك وتعالى- في القرآن أنواع من هذا الأذى الذي وقع من قومه عليه؛ إما أذى في شخصه، وإما في ما فعلوه من الأمور العظيمة؛ كعبادتهم العجل عندما تركهم، قولهم {يَا مُوسَى اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} عندما مروا على بعض الأصنام، ذكرَت أيضًا التوراة كثير مما أذى به قوم موسى موسى -عليه السلام-؛ كأنهم اتهموه بأنه قتل أخاه هارون، عندما كان هو وهارون في الجبل ورجع موسى وحده وكان قد مات هناك فدفنه هناك؛ فلمَّا رجع اتهموه بقتله، قولهم في التوراة تكرر هذا كثيرًا أنهم دائمًا كانوا يتلوَّمون عليه وهم في التيه؛ لما أخرجتنا الآن من مصر؟ كنَّا الآن بجوار القِدور وفيها اللحم، وعندنا، وعندنا ...، كما ذكَرَ الله -تبارك وتعالى- هذا في القرآن {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ}، هذا كذلك من الأذى وإعناته، وأنه لِما أخرجهم من مصر؟ أمور عظيمة لاقاها موسى -عليه السلام من قومه.
كذلك أخبر نبينا -صلوات الله والسلام عليه- بأن موسى كان رجلًا حييًا سِتيرًا، وكان لا يُري أحد من قومه بدنه، وجاء في مرة من المرات قال بنوا إسرائيل بعضهم لبعض إن موسى لا يغتسل معنا ويستحِم معنا لأنه آدر، والأدرة؛ مرض في الخصيتين، وأراد الله -تبارك وتعالى- أن يُظهِر لهم كذبهم في هذا؛ وما رموا به وما قبَّحوا به نبيهم -صلوات الله والسلام عليه-، فنزَل موسى يغتسل يومًا في النهر ووضع ثيابه على الشاطئ، ثم جاء الحجر الذي وضع عليه الثياب؛ أخذ الحجر ثيابه وولَّى، فخرج موسى يركُض في إثره وهو يقول ثوبي يا حجر، ثوبي يا حجر، ومرَّ على ملأ من بني إسرائيل فرأوه كأحسن صورة من صور الخلْق، فقالوا والله ما بموسى بأس، فهذا أيضًا مما أخبر به النبي وفسَّر به النبي هذه الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى ........}[الأحزاب:69]، وهم قومه الذين آذوه، فقد وقع لموسى من الأذى كثير من قومه؛ هذا منه الذي ذكَرَه النبي -صلوات الله والسلام عليه- تفسيرًا لهذه الآية، وما ذكَرَه الله -تبارك وتعالى- في القرآن عن إغضابهم وإعناتهم رسولهم -صل الله عليه وسلم-، كالذي ذكرنا من قولهم {لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ}، وكذلك قولهم {اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ}، وعبادتهم العِجل من بعده، وفعل السامري به، واتهامهم له بما اتهموه، التوراة مليئة بالتلوُّم الكثير الذي صنعته بنوا إسرائيل بموسى، لم يضعوه في مكانه الصحيح بأنه عبد الله ورسوله، ومن هذا ما ذكَرَه القرآن في قولهم {أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا}، يعني مجيئك ما حصلت لنا به نُقلة ولا تخليص لنا مما فيه، قالوا {أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا}، أي من بني إسرائيل هذا قبل أن يُنجيهم الله -تبارك وتعالى- ويُخرِجهم، {........ وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ}[الأعراف:129]، أنواع كثيرة من الأذى وقعت على موسى -عليه السلام-.
وكان النبي -صل الله عليه وسلم- عندما يقع عليه شيء من الأذى يتمثَّل به، فقد جاء النبي -صل الله عليه وسلم- مال فقسمه بين بعض أصحابه وألَّف به بعض القلوب، فجاء مَن قال هذه قسمة ما أُريد بها وجه الله، قال والله ما أراد النبي بهذه القسمة وجه الله والدار الآخرة، فتلوَّن وجه النبي وغضب غضبًا شديدًا -صلوات الله والسلام عليه-، ثم كان يقول «رحم الله موسى؛ لقد أوذي بأكثر من هذا فصَبَر، رحم الله موسى؛ فقد أوذي بأكثر من هذا فصَبَر»، فاتهام النبي بأن هسمته هذي ما أُريد بها وجه الله أمر عظيم، وأما أذى نبينا -صلوات الله والسلام عليه- من المنافقين فقد كان سلسلة طويلة من الأذى، فقد آذوه في عِرضِه -صل الله عليه وسلم-، قالوا {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ}، وقالوا إن محمدًا سمَّاع، {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ}، ثم الأذى كذلك من بعض الجُهَّال؛ الذي كانوا يأتون فيصرخون يا محمد اخرج لنا، {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ}[الحجرات:4]، فهؤلاء جُهَّال، وكذلك الأذى الذي كان يحصل له من بعض الأجلاف من الأعراب، كما ذكَرَ حديث أنس ابن مالك -رضي الله تعالى عنه- يقول «كان النبي في سفر ثم رجل أعرابي فجبَذَه من خلفه بردائه جذبة شديدة؛ حتى رأيت حاشية الرداء وقد أثَّرت في عنق النبي -صلوات الله والسلام عليه-، فالنبي التفت له، فقال له يا محمد مُر لي من مال الله الذي عندك»، أنواع كثيرة كذلك وقعت على النبي -صل الله عليه وسلم- من الأذى، وهؤلاء ممَن أظهروا الإسلام؛ فإما مثل هذا الخارج الذي قال له إعدل يا محمد، أو من هؤلاء الجُهَّال الذين كانوا على هذا النحو، أو المنافقين، يعني درجات من درجات الأذى؛ فالمنافقون قسم، والجُهَّال قسم؛ جُهَّال من الأعراب ومن غيرهم، وهذه أقول أنواع وقعت للنبي -صلوات الله والسلام عليه-، وكان النبي كما ذكرنا جاء في الحديث «كان النبي يقول رحم الله موسى؛ لقد أوذي بأكثر من هذا فصَبَر».
الله هنا -سبحانه وتعالى- ينهى المؤمنين عن مثَل الذين آذوا موسى، قال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى ........}[الأحزاب:69]، ومناسبة الآيات هنا في آخر هذه الآيات هذه السورة هي جاء فيها أولًا بيان مكانة النبي -صلوات الله والسلام عليه-؛ وما ينبغي له، كما جاء في أول السورة {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ}، ثم الأمر بالصلاة عليه {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}[الأحزاب:56]، ثم النبي أمره أمر الله ونهيه نهي الله {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا}[الأحزاب:36]، تناسب في آخر السورة أن ينهى الله -تبارك وتعالى- عباده المؤمنين أن يؤذوا النبي أي أذى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا ........}[الأحزاب:69]، أي لا تكونوا في أذى رسولكم كما كان بنوا إسرائيل في أذى رسولهم موسى، قال -جل وعلا- {فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا}، برَّأه الله؛ برَّأ الله -تبارك وتعالى- موسى، مما قالوا؛ لمَّا قالوا أنه آدر، وهيَّأ الله -تبارك وتعالى- لموسى أن يغتسل في النهر، ثم يأخذ الحجر ثوبه ويركُض، فيركُض خلفه حتى يروه على تمام الخلْق، وذلك أن الرسل تُرسَل في تمام الخلْق، لقوه على تمام الخلْق وبرَّأه الله مما قالوا.
ثم ذكَرَ الله موسى فقال {وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا}، يعني وكان موسى عند الله وجيهًا، الوجيه؛ مَن له وجه عند الله، يعني له وجه عند الله؛ له قبول لدعوته، كان مُستجاب الدعوة؛ يدعوا فيُستجاب، يطلب من الله طلب فيُجيبه الله -تبارك وتعالى-، ومن أعظم طلباته التي طُلِبَت ولم تحصل لأحد قط؛ أنه طلب النبوَّة لأخيه فأعطاه الله -تبارك وتعالى- إياها، قال {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي}[طه:29] {هَارُونَ أَخِي}[طه:30] {اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي}[طه:31] {وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي}[طه:32] {كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا}[طه:33] {وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا}[طه:34] {إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا}[طه:35] {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى}[طه:36]، أعطيتك سُئلَك، فأعطاه الله -تبارك وتعالى- سُئلَه؛ بأن نبَّأ الله -تبارك وتعالى- أخاه معه، وجعله نبي معه ووزير له، يحمل أثقال وأعباء الرسالة والنبوَّة معه، فهذي أمر عظيم؛ شفاعة عظيمة، ثم انظر ما طلبه من الله -تبارك وتعالى- في دعواته؛ واستجابة الله -تبارك وتعالى- له، استجابته في إهلاك الكافرين؛ وقد وقع، يعني قوله {........ رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ}[يونس:88]، قال -جل وعلا- {........ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ}[يونس:89]، فكان موسى -عليه السلام- وجيهًا عند الله؛ له وجهٌ عند الله -تبارك وتعالى-، بمعنى له قبول، وله استجابة دعوة؛ كان مُجاب الدعوة عند الله -تبارك وتعالى-، فهو عند الله وجيه؛ لكن انظر عند قومه، عند كثير من قومه؛ آذوه، وشتموه، وأحرجوه مرات كثيرة من هذه الصور التي ذكَرنا؛ مما ذكَرَه الله -تبارك وتعالى- في القرآن، ومما ذكَرَه النبي -صل الله عليه وسلم- تفسيرًا وبيانًا لهذه الآية، فمع أنه النبي؛ الوجيه عند الله، مقبول الدعوة، وهذه منزِلته عند الله، إلا أنه كان عند بعض قومه على هذا النحو، ينظرون إليه على هذا النحو عِلمًا أنه المُخَلِّص لهم، جائهم ليُخلِّصَهم؛ خلَّصَهم من الرق والذُّل والعبودية التي كانوا فيها في مصر، بفضل الله -تبارك وتعالى- وبفضل هذا المُخَلِّص الذي أخرجهم من أرض مصر، ومع ذلك كثيرٌ منهم لم يحفظ له هذا الفضل العظيم وهذا الجميل، ووقع منهم الأذى لرسولهم -صلوات الله والسلام عليه-.
وأما نبينا -صلوات الله والسلام عليه- فلا شك أنه أكثر وجاهة عند الله -تبارك وتعالى-؛ واستجابة للدعوة من موسى -عليه السلام-، دعوات النبي -صل الله عليه وسلم- لأمته؛ الدعوات العظيمة التي في هذه الدنيا، ودعوته العظمى التي ادَّخرها النبي -صلوات الله والسلام عليه- لأمته، كما قال -صل الله عليه وسلم- «إن لكل نبي دعوة مُجابة، وإني ادَّخرت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة»، يعني الله -تبارك وتعالى- أعطى كل نبي دعوة؛ قال له ادعوا بدعوة اُجيبها لك، يختار؛ فيختار ما يختار من دعوة يُجيها الله -تبارك وتعالى- له، نبينا -صل الله عليه وسلم- الذي خُيِّر في هذه الدعوة؛ الدعوة التي يستجيبها الله -تبارك وتعالى- له، أي دعوة يدعوها، قال «ادَّخرت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة»، هذا النبي العظيم -صلوات الله والسلام عليه- الذي قال الله -تبارك وتعالى- فيه؛ مُثنيًا عليه، {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}[التوبة:128]، فهذا من رأفته ورحمته -صل الله عليه وسلم-، فالنبي كانت له هذه المنزِلة العظيمة عند الله -تبارك وتعالى-؛ والوجاهة، وصاحب الدعاء المقبول عند الله -تبارك وتعالى-، يرفع يديه إلى السماء لينزِل المطر؛ ينزل المطر، يدعوا لناس بالهداية؛ يهديهم الله -تبارك وتعالى-، يدعوا على ناس بالهلاك؛ فيُهلِكهم الله -تبارك وتعالى-، كان يستجيب الله -تبارك وتعالى- لدعائه -صلوات الله والسلام عليه-، فلا شك أن هذا النبي الذي هو أكثر وجاهة عند الله -تبارك وتعالى- ينبغي أن يضعه المؤمنون في مكانه الصحيح، فيكونون كما أمر الله -تبارك وتعالى- {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا}[الفتح:8] {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا}[الفتح:9]، اللهم صلي وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا}[الأحزاب:69]، يعني وكان موسى عند الله وجيهًا ومع ذلك آذوه قومه، فلا تكونوا أيها المؤمنون على ما كان عليه بعض بني إسرائيل؛ في اتهامهم، وسبِّهم، وأذاهم لرسولهم -صلوات الله والسلام عليه-.
ثم قال -جل وعلا- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا}[الأحزاب:70] {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا}[الأحزاب:71]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ ........}[الأحزاب:70]، نداء من الله -تبارك وتعالى- لعباده المؤمنين؛ يأمرهم الله بتقواه، اتَّقوا الله؛ خافوه، اجعلوا وقاية بينكم وبين عذاب الله، تقوى الله؛ خاف الله، اجعل وقاية بينك وبين عقوبة الله -تبارك وتعالى-، ولا يمكن أن تجعل هذه الوقاية وهذه الحماية إلا بأن تحتمي بالله -تبارك وتعالى-، لا منجى منك إلى إليك؛ وذلك بفعل طاعته، بأن تُطيعه -سبحانه وتعالى- وأن تنتهي عن معاصيه، تُطيعه مُريدًا ثوابه، وأن تخافه -سبحانه وتعالى- خوفًا من عقوبته -جل وعلا-؛ وتستقيم على أمر الله -تبارك وتعالى-، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا}[الأحزاب:70]، هذا أمر منه -سبحانه وتعالى- أن يكون القول سديد، السديد؛ اللي هو المُسدَّد، والتسديد هو حُسن التصويب، أن يكون القول صائبًا؛ يعني واصل إلى هدفه، مو قول مائل ذات اليمين وذات الشِمال، فالقول السديد هو القول الصادق الحق؛ الذي يكون في مساره الصحيح، وكل قول لا يسير في مساره الصحيح فهو قول كاذب؛ خارج عن الهدف، ناسب هذا الأمر هنا للمؤمنين بتقوى الله -تبارك وتعالى- وأن يقولوا القول السديد، ناسب ما في هذه السورة مما نهى الله -تبارك وتعالى- عنه من أقوال الزور والباطل التي كانوا يقولونها، كانوا يقولون على الدَّعي أنه ابن وهم يدَّعونه ويعلمون أنه ليس ابنًا لهم، فيقولون هذا ابني؛ فلان ابن فلان، فالله قال {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ}، كذلك قول الرجل لامرأته "أنتي عليَّ كظهر أمي"، {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ}[المجادلة:2]، فهذا قول غير سديد؛ أن يقول الرجل لامرأته التي هي امرأته، يقول له "أنت عليَّ كظهر أمي"، هذا أمر لا شك أنه كذب؛ وأنه قول زور، وأنه ليس قولًا سديدًا سائرًا، فاتَّقوا الله وقولوا قولًا سديدًا في هذا، كذلك قولهم أن فلان له قلبان؛ يعني أنه قلب يُفكِّر به ويسير مع الناس، وقلب كذلك قلب أخر؛ له فكر أخر، وله عمل أخر بقلبه هذا، {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ}[الأحزاب:4] {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}[الأحزاب:5]، فهذا أمر من الله -تبارك وتعالى- بأن يتَّقي المؤمنون ربهم؛ وأن يقولوا قولًا سديدًا في كل الأقوال، في كل أقوالهم ينبغي أن تكون أقوال سديدة؛ أقوال صائبة، مُسدَّدة نحو الهدف، ما هو هدف القول؟ نحو الهدف وليست تميل يمينًا ويسارًا.
ثم قال -جل وعلا- {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا}[الأحزاب:71]، {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ}، إذا اتَّقيتم الله -تبارك وتعالى-؛ خِفتموه، وعبَدتم الله -تبارك وتعالى- كأنكم ترونه، وأن تقولوا القول السديد، {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ}، فصلاح العمل يكون نتيجة لهذا، نتيجة للتقوى؛ واحد بيخاف الله، ونتيجة لأنه يتحرى الصدق والقول الحق، فهذا هو رأس الأمر؛ هو الذي به يكون صلاح العمل، صلاح العمل يكون بهذا، كما قال النبي «رأس الأمر مخافة الله -تبارك وتعالى-»، تقوى الله هي رأس الأمر كله، الصدق هو الذي يهدي إلى البر، كما قال -صلوات الله والسلام عليه- «إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرَّى الصدق حتى يُكتَب عند الله صدِّيقًا، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرَّى الكذب حتى يُكتَب عند الله كذَّابًا»، فالله -تبارك وتعالى- أخبر بأنه يُصلِح عملنا؛ صلاح الأعمال بتقواها، تتَّقي الله خلاص؛ إذن سترى أين هو الأمر الإلهي تسير فيه، وين الذي نهاك الله -تبارك وتعالى-؛ تبتعد عنه، مقصدك هو الرب -تبارك وتعالى-؛ خلاص يصير عرَفت الطريق، في القول ستقول الصدق، الصدق يهديك إلى البر، لأن الصدق إنما هو قائد؛ فلا شك أن الصدق سيجُرك وسيسير بك نحو صلاح العمل، أما إذا قلت كذب وكذب، وستُصدِّق هذا الكذب، وستسير بعد ذلك في هذا الطريق فتتَّبِع الكذب قولًا؛ ولابد أن تتَّبِعه عملًا فتشد عن الطريق.
قال -جل وعلا- {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ}، ثم {وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}، هذا من فضله -سبحانه وتعالى-، يغفر لكم ذنوبكم؛ مما تُخطئون به، مما يقع منكم؛ بشهوة، بميل، بنحو ذلك فيغفرها، مغفرة الذنوب؛ سترها، محوها؛ تُمحى هذه الذنوب، تُمحى وتُستَر؛ تُغفر، مغفرتها؛ تغطيتها، لا يفضحكم الله -تبارك وتعالى- بها، {وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}، يُسامِحكم فيها خلاص، كان عليك إثم هذا العمل ثم إذا بالله -تبارك وتعالى- يحذفه؛ يُزيله من صحائفك، ولا يؤاخذك به، هذا أمر عظيم جدًا {وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}، وهذي مغفرة الذنب من أعظم الفضل، من أعظم الفضل؛ إنسان كان محكون عليه بالحُكم الإلهي بأنه فعل هذا الفعل وسيُعاقَب عليه، ثم يأتيه براءة منه، ومحول له، وإزالة له، لا شك أن هذا أعظم الأمور، ولذلك كان أعظم ما بُشِّرَ به إنسان هو قول الله -تبارك وتعالى- لرسوله محمد -صلوات الله والسلام عليه- {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ}، هذا أعظم شيء، ما أخبر الله -تبارك وتعالى- عبدًا على هذا النحو؛ أخبره بأنه غفر ذنبه في ما مضى وفي ما يُستقبَل، {........ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا}[الفتح:2]، فمغفرة الذنوب هي أعظم شيء، {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ}[الشرح:1] {وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ}[الشرح:2] {الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ}[الشرح:3] {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ}[الشرح:4]، {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}.
ثم قال -جل وعلا- {........ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا}[الأحزاب:71]، مَن؛ التي هي من صيَّغ العموم، أي أحد، يُطِع الله ورسوله؛ يجعل طاعته لله، طاعته اللي هي طاعة الأمر، لله ورسوله؛ أضاف الله -تبارك وتعالى- رسوله إليه لأن أمر النبي ونهيه هو بأمر الله -تبارك وتعالى- ونهيه، لا يأمر إلا بأمر الله ولا ينهى إلا عن نهي الله -تبارك وتعالى-، {........ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا}[الأحزاب:71]، فاز؛ نال مطلوبه الأكبر، فوز عظيم؛ وذلك الجنة، لأن الجنة دار خلود بعد التخلص من كل الشرور، مَن دخل الجنة قد تخلَّص من كل شروره؛ شرور هذه الدنيا ومشكلاتها، الشرور التي كان فيها، الشرور؛ النار، أعظم شر موجود هو النار وعذابها، فمَن دخل الجنة خلاص؛ برئ من دخول النار، وذهب إلى المُستقَر الذي يستقر فيه، وكل ما يتمناه وكل ما يُريده وكل ما يدَّعيه موجود، وكل أنواع السرور والحبور قد جمعها الله -تبارك وتعالى- في الجنة وأهلها خالدون خلودًا لا إنقطاع له؛ فهذا الفوز العظيم، {........ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا}[الأحزاب:71]، فاز؛ نار مطلوبه الأكبر، المطلوب الأكبر؛ الذي لا فوز أعظم منه ولا شيء أكبر منه.
ثم قال -جل وعلا- {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا}[الأحزاب:72] {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}[الأحزاب:73]، ونأتي -إن شاء الله- إلى هاتين الآيتين في الحلقة الآتية، أقول قولي هذا، استغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصل الله وسلم على عبده ورسوله محمد.