الجمعة 21 جمادى الأولى 1446 . 22 نوفمبر 2024

الحلقة (524) - سورة الأحزاب 72-73

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده والرسول الأمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا}[الأحزاب:70] {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا}[الأحزاب:71] {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا}[الأحزاب:72] {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}[الأحزاب:73]، هذه هي الآيات الأخيرة من سورة الأحزاب، ينادي الله -تبارك وتعالى- عباده المؤمنين؛ أن يتَّقوه -سبحانه وتعالى-، وأن يقولوا قولًا سديدًا، التقوى والقول السديد؛ القول الصائب، هذا رأس الأمر كله؛ مخافة الله -تبارك وتعالى-، مَن خاف الله عمل بأمره وانتهى عن نهيه -سبحانه وتعالى-، وهو الإحسان الذي غاية التكليف، كما في قول الله -تبارك وتعالى- {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}، وقد سُئِلَ النبي -صل الله عليه وسلم- عن الإحسان فقال «أن تعبد الله كأنك تراه»، وأن تعبد الله كأنك تراه يعني تُراقِبه، إذا راقبت الله -تبارك وتعالى- اتَّقيته وخِفتَه، وكأن الله هو أهل التقوى وأهل المغفرة -سبحانه وتعالى-، أهلٌ لأن يُتَّقى لأنه يُعاقِب؛ يؤاخِذ بالذنب، {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}[الحجر:49] {وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ}[الحجر:50]، فمَن راقب الله -تبارك وتعالى- لا شك أنه يعمل بطاعته؛ رجاء ما عنده -سبحانه وتعالى-، ويمتثِل أمره وينتهي عن معصيته مخافة العقوبة التي تنتظر مَن يعصاه -سبحانه وتعالى-، والقول السديد؛ القول الصائب هو يجُر إلى طاعة الله -تبارك وتعالى-، كما قال النبي -صل الله عليه وسلم- «إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرَّى الصدق حتى يُكتَب عند الله صدِّيقًا».

قال {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ}، أي بتقواه -سبحانه وتعالى- وقول الصدق، {وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}، يمحوها عنكم –سبحانه وتعالى-، {........ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا}[الأحزاب:71]، هذي بِشارة الله -تبارك وتعالى- إلى أن كل مَن أطاعه وأطاع رسوله، وهنا أضاف الله -تبارك وتعالى- نبيه له لأن أمر النبي أمر الله -تبارك وتعالى-، النبي لا يأمر لحظ النفس؛ لا يأمر أحدًا لحظ نفسه، ولا ينهى أحدًا لحظ نفسه، وإنما يأمره لله وينهاه لله؛ فدعوة النبي لله -سبحانه وتعالى-، فلذلك كانت طاعته طاعة الله -تبارك وتعالى-، {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ}، {........ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا}[الأحزاب:71]، وناسب هنا أن يأمر الله بطاعته وبطاعة رسوله إلى أن الأوامر هنا في هذه السورة أمور كلها قد تختص بالنبي -صلوات الله والسلام عليه-، كما جاء أيضًا في قول الله -تبارك وتعالى- في ثنايا السورة {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا}[الأحزاب:36].

ثم قال -جل وعلا- {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا}[الأحزاب:72]، إنَّا؛ الرب -سبحانه وتعالى- الذي لا إله إلا هو، عرضنا؛ قيل أن العرض هنا هو التخيير، يعني أن الله -تبارك وتعالى- عرَضَ هذه الأمانة على مَن ذكَرَهم هنا؛ السماوات، والأرض، والجبال، يعني خيَّرهم -سبحانه وتعالى- بين أن يحملوا هذا الأمر أو لا يحملوه، الأمانة بالألف واللام؛ أجمع السَلَفْ الذي فسَّروا هذه الآية على أن المقصود بالأمانة أمانة التكليف، أمانة التكليف؛ افعل ولك الأجر، وإن لم تفعل فعليك الوِزر، أمانة التكليف الذي يكون بعده ثوابٌ وعِقاب، وذلك أن مخلوقات الله -تبارك وتعالى-؛ مَن خلَقَهم الله -تبارك وتعالى-، المخلوقات التي خيَّرهم الله -تبارك وتعالى-؛ في مخلوقات أصبحت هي في الطاعة، ولا يتأتى منها المعصية، الله -تبارك وتعالى- أخبَر بأن هذا اختيار منها؛ بأنها اختارت أن تُطيع أمر الله –تبارك وتعالى-، ولا تدخل في باب أن تأخذ الأمر ويكون هناك فيه تكليف؛ ويكون هناك في تخيير بين الطاعة والمعصية، وأنها إن أطاعت فلها الثواب وإن عصَت فلها العِقاب، لكن الإنسان هو الذي قَبِل هذه الأمانة؛ أمانة التكليف، هذه الأمانة بالمعنى العام؛ كل ما كلَّف الله -تبارك وتعالى- به عباده المؤمنين، عباده والمؤمنين كله داخل في هذا المفهوم؛ مفهوم الأمانة، أصبح داخل في مفهوم الأمانة لأنه ما إئتامن الله -تبارك وتعالى- العباد عليه عليهم أن يقوموا به، وأن يقوموا به؛ أنهم إذا قاموا به فلهم الأجر عند القيام، وعليهم الوِزر عند عدم القيام بهذا الأمور، فالأمانة هذه بالمعنى العام.

الأمانة بالمعنى الخاص بالنسبة لمَن يؤَمِّن فرد لفرد أخر؛ إنسان لإنسان، يؤَمِّنه على مال أو على أمر أدبي؛ سر من الأسرار أو قول من الأقوال، هذه الأمانة بالمعنى الخاص، وقد تُطلَق الأمانة كذلك على أمانة الحُكم كإطلاق خاص، كما جاء في قول الله -تبارك وتعالى- {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ........}[النساء:58]، فالأمانة في هذه الآية هي أمانة الحُكم، وذلك أن الذي يتوَلَّى أمر يجب أن يكون أهلًا للقيام بهذا الأمر؛ وإلا قد وُسِّدَ الأمر إلى غير أهله، وقد سمِّى النبي توسيد الأمر وإعطاء أمانة القيام بأمر الله -تبارك وتعالى- بحُكم الناس إذا أُعطيَت لغير أهلها قد ضُيِّعَت الأمانة، كما جاء في الحديث «أن رجلًا أتى النبي -صل الله عليه وسلم- فقال له يا رسول الله متى الساعة؟ فقال له النبي إذا ضُيِّعَت الأمانة فانتظر الساعة، فقال وكيف إضاعتها؟ فقال له إذا وُسِّدَ الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة»، فقال له الساعة؛ طبعًا الساعة عِلمها عند الله –تبارك وتعالى-، لا يعلمها النبي –صل الله عليه وسلم-، والنبي دلَّه على أمارة الساعة وعلى قُرْب مجيئها، فقال له «إذا ضُيِّعَت الأمانة فانتظر الساعة، فقال له وكيف إضاعتها؟ فقال له إذا وُسِّدَ الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة»، ففسَّر النبي هنا الأمانة بأنها توسيد الأمر إلى غير أهله لأمانة الحُكم، وهي ما جاء في قول الله -تبارك وتعالى- وهذا أمر لعموم المؤمنين {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}، فهذا أمر من الله للمؤمنين، ثم أمر الله -تبارك وتعالى- مَن يوَسَّد له الأمر فقال {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ}، وكذلك وصف النبي أمانة الحُكم بالذات فقال -صلوات الله والسلام عليه- «إنها أمانة»، أي الإمارة، «وإنها يوم القيامة خزيٌ وندامة إلا مَن أخذَها بحقِها ووضعها في حقِها»، فقال «إنها أمانة وإنها يوم القيامة خزيٌ وندامة»؛ لبعض الناس، «إلا مَن أخذَها بحقِها»؛ فهو أهلٌ لها وقد وُسِّدَ الأمر إليه، ووضعها كذلك؛ يعني قام بحق هذه الأمانة، فإذن هذا معنى مخصوص للأمانة، من المعاني المخصوصة كذلك للأمانة هو ما يؤَمِّن عليه إنسان إنسان أخر؛ يؤَمِّنه على شيء من ماله، أو أهله، أو نحو ذلك، يجب أن يؤدي هذه الأمانة بعد ذلك إذا طُلِبَت منه، والدين أمانة لحق، الوديعة أمانة؛ يعني من أودَع مالاً عند غيره فهذه أمانة يجب أن يؤديها له، فهذي كذلك الأمانة بالمعنى الخاص؛ اللي هي الوديعة، وسُمِّيَت أمانة كأنها مُشتقة من الأمن، والأمن؛ أن هذه آمنة، يعني هذه الوديعة من الوداعة كذلك؛ وادعة عن المؤتمَن المودَع عنده، وهذه الوديعة آمنة عند مَن ائتومِن عليها.

ومن هذا المعنى أيضًا قول النبي -صلوات الله والسلام عليه- «إن الأمانة نزَلَت في جِذر قلوب الرجال، ثم أخذوا من القرآن وأخذوا من السَنَّة»، ثم أخبر النبي عن رفع الأمانة من الناس، قال «ثم ينام الرجل النومة فتُرفَع الأمانة من قلبه، فيظل أثرها –أي في القلب- مثل المَجْل؛ كجمر دحرجته على رِجلك، فتراه مُنتبِرًا وليس فيه شيء»، الجمر إذا دُحرِج على الرِجل؛ أحرق الرِجل، يقوم تنتفخ الجِلدة وأحيانًا تمتلئ؛ تكون فارغة، فيخبر النبي بأن مكان الأمانة في القلب يكون فارغ مثل فراغ هذه الفُقاعة التي تكون من أثر الحرق، يقول النبي -صلوات الله والسلام عليه- «ثم يُصبح الناس يتبايعون ليس فيهم رجلًا أمينًا»، ما فيهم رجل أمين، يقول حُذيفة؛ راوي الحديث، "فإن كنت عِشت في ذلك الوقت لم أُبايع إلا فلان وفلان"، يقول مضى عليَّ وقت؛ هذا بعد النبي، يقول هذا حُذيفة، "ولا أُبالي أي رجلًا بايعت"، ما اُبالي أني بايعت فلان ولا فلان، "إن كان مؤمنًا فسيردُّه عليَّ دينه"، لأنه صاحب أمانة، صاحب دين فدينه هيردُّه؛ لابد، إني أعطيته بالدَّين فسيأتي، حتى بدون كتاب سآخذ حقي منه، "وإن كان غير مؤمن"، يعني ما هو رجل من أهل الإيمان؛ من أهل الذِّمَّة موجود، يقول "فسيردُّه عليَّ ساعيه"، ساعيه؛ يعني الأمير القائم عليه فسيُرَدُّ حقي، ولكنه يقول "لو عِشت في هذا الوقت ما بايعت إلا فلان وفلان"، يقول بعد ذلك؛ تتمة الحديث، «فيصبح الناس يتبايعون ليس فيهم رجلًا أمين، وإن الرجل ليُقال له ما أجلده، وما أظرفه، وما أعقله، وما في قلبه مثقال ذرَّة من إيمان»، يعني يصبح الناس عندما يمدح بعضهم بعضًا يقول هذا الرجل ما أظرفه، الظُرف هو الفكاهة واللطافة، وما أعقله؛ صاحب عقل، وما أجلد؛ يعني أقواه، فيُمدَح بقوة العقل عندهم، وبالجَلَد؛ قوة الجسم والقوة البدنية، والظُرف وهو خِفة الدم والفُكاهة، يقول وليس في قلبه مثقال ذرَّة من إيمان؛ ما عنده إيمان ولا عنده أمانة هذا، فهذه الأمانة اللي هي الأمانة بالناس؛ بالمعنى الخاص.

قول الله -تبارك وتعالى- هنا {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ} إنما هي بالمعنى العام؛ أمانة التكليف، وعرضها؛ قال السلَف عرضها الله -تبارك وتعالى- على السماوات والأرض والجبال، بمعنى أنه خيَّر هذه المخلوقات العظيمة الشديدة بين الفعل؛ يكون لها اختيار في الفعل، ويكون هناك ثواب وعِقاب، فاخترن أن يكُنَّ مُسخَّرات مُذلَّلات لأمر الله -تبارك وتعالى-، دون أن يكون لهُنَّ مجال في الاختيار، وقد يدل على هذا قول الله -تبارك وتعالى- مُخاطِباً الكفار {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ}[فصلت:9] {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ}[فصلت:10] {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}[فصلت:11]، أتت هذه المخلوقات طائعة لله -تبارك وتعالى-، مُسخَّرة له؛ مُذلَّلة لأمره، لا تتأبى عليه -سبحانه وتعالى-، ولا تختار إلا ما اختاره الله –تبارك وتعالى- لها، وقد يُفسِّر أيضًا هذا قول الله -تبارك وتعالى- {إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ}[الانشقاق:1] {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ}[الانشقاق:2] {وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ}[الانشقاق:3] {وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ}[الانشقاق:4] {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ}[الانشقاق:5]، أذِنَت؛ استمعت، فهي مستمعة لأمر الله -تبارك وتعالى-، وحُقَّ لها أن تستمع لأمر الله؛ لأنه أمر الله -سبحانه وتعالى-، فالسماوات والأرض خاضعة لأمر الله -تبارك وتعالى-، {إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ}[الانشقاق:1]، كلها بأمر الله -تبارك وتعالى-، وأذِنَت لربها؛ استمعت لربها وحُقَّت، حُقَّت؛ حُقَّ لها أن تسمع لأمر الله -تبارك وتعالى-، {وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ}[الانشقاق:3] {وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ}[الانشقاق:4]، ألقت ما فيها؛ مما فيها، قبل يوم القيامة تُلقي ذهبها الذي يكون في بطنها، حتى يقول النبي -صلوات الله عليه وسلم- «إن الرجل ليمشي ويرى في الأرض اسطوانة ذهب»، اسطوان؛ مثل العمود الكبير منه، «فيضربه برِجله ويقول أفيك كان يقتتل مَن قبلنا»، أو ألقت ما فيها؛ يوم القيامة تُلقي ما فيها من الموتى الذين كانوا في بطنها يقومون، لا تُخفي منهم شيء وكل ذرَّة تعود إلى مكانها، واستمعت لربها -سبحانه وتعالى- وحُقَّ لها ان تستمتع؛ لأنها مُطيعة لأمر الله -تبارك وتعالى-، لا تتأبى على الله -جل وعلا-، وقد اختارت طريق الخضوع لله -تبارك وتعالى- والذُّل لأمره؛ دون إباء، ودون أن يكون هناك لها خيار في أن تفعل ولا تفعل، ثم تُثاب وتُعاقَب؛ تُثاب على الفعل وتُعاقَب على الترك، كل هذه المخلوقات العظيمة اختارت أن تكون مُطيعة لأمر الله -تبارك وتعالى- دون اختيار منها في الفعل والترك؛ أمانة التكليف.

{إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا ........}[الأحزاب:72]، الإباء؛ الإمتناع، يعني امتنعنا عن حمل أمانة على هذا النحو، {وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا}، الإشفاق؛ غاية الخوف، يعني خافة هذه المخلوقات العظيمة الشديدة من الله -تبارك وتعالى- خوفًا عظيمًا أن تحمل أمانة التكليف، ثم بعد ذلك يكون هناك عقوبة إن لم تُطِع أمر الله -تبارك وتعالى-، فأشفقت منها يعني أنها اعتذرت للرب -تبارك وتعالى-، وأشفقت أن تقوم بهذا الأمر، قال -جل وعلا- {وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا}، وحملها؛ حمل هذه الأمانة، {الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا}، قالوا بأن الله -تبارك وتعالى- عرض هذا على آدم فقَبِلَ آدم أن يسير في الأمر الإلهي، فإن طاع فله الثواب وإن لم يُطِع فله العِقاب، إنه؛ أي الإنسان، جنس الإنسان، {كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا}، ظلوم؛ أصل الظلم في لغة العرب هو وضع الأمر في غير محِله، وأعلى أنواع الظلم هو الشرك بالله -تبارك وتعالى-؛ لا أظلم من هذا، {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}، لأنه وضع للعبادة في غير محِلها، الله وحده -سبحانه وتعالى- الذي يستحق العبادة؛ لأنه هو الخالق وحده، والرازق وحده، والمُحيي، المُميت، كل مصائر الخلْق بيده -سبحانه وتعالى-، {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ}[الزمر:62]، فهو الذي يستحق وحده العبادة، ليس له شبيه، أو نظير، أو مُعين، وكل ما سِواه فقيرٌ إليه؛ ولا فضل له على غيره، بل لا نفع له ولا ضُر له لنفسه إلا بإذن إلهه ومولاه، ما يقدر يضر نفسه ولا ينفع نفسه بنافعة؛ الملائكة، الجن، الإنس، كل المخلوقات لا تستطيع أن تنفع نفسها بنافعة ولا أن تضر نفسها إلا بمشيئة الرب -تبارك وتعالى-، فكيف يكون لفرد أو لأفراد من هذه المخلوقات عبادة؟ كيف تستحق العبادة؟ لا يستحق العبادة إلا الله -تبارك وتعالى-، فالشرك ظُلم عظيم؛ أعظم ضلم، وضع العبادة في غير محِلها، وضع التقديس والمحبة والطاعة في غير محِلها، بل المحِل الصحيح للعبادة أن يتوجَّه بها العبد نحو الإله الرب؛ الذي هو رب العالمين -سبحانه وتعالى-، وخالق الخلْق أجمعين، ومَن بيده نفع العباد، ومَن بيده ضُرُّهم -سبحانه وتعالى-، ثم كل معصية لله ظلم، كل معصية لهذا الرب الإله -سبحانه وتعالى- ظلم؛ لأنه وضع للأمر كذلك في غير محِله، وظلم؛ يظلم الإنسان نفسه ويضع الأمور في غير محلها، الإنسان ظلوم جهول؛ يجهل أمور عظيمة جدًا، فمن جهله تحمل هذا التكليف مع ما يترتب على هذا من الأمر العظيم؛ العقوبة الشديدة التي يمكن أن تحصل له في ما لو لم يقم بهذا الأمر الإلهي، {إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا}، الإنسان إذا آمن خرج من هذا؛ خرج من الظلم وخرج من الجهالة، ولا يخرج الإنسان من الظلم والجهالة إلا بالإيمان بالله -تبارك وتعالى- وبطاعة الله -عز وجل-، وكل مَن لم يؤمن بالله -تبارك وتعالى- فهاتين الصفتين لازمة له؛ ظلوم جهول، {إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا}.

قال -جل وعلا- أنه حمَّل هذه الأمانة للعباد، وقد ذكَرنا أنها الأمانة العامة؛ كل أمانة التكليف، وقد جاء في أقوال السلَف المُفسِّرين لهذه الآية تفسير هذه الأمانة ببعض أفرادها، كما قالوا مثلًا الصلاة والصوم وغُسل الجنابة أمانة، فلا شك أن الصلاة من الأمانة لأن الله -تبارك وتعالى- كلَّف بها العباد؛ وأمر العباد أن يقوموا بها، ويوجد في الصلاة هذه سر وهو صلاح النيَّة؛ أن يقوم بين يدي الله -تبارك وتعالى- لله، وأن يُسبِّح الله، وأن يكون مُريدًا بهذه الصلاة ذِكر الله -تبارك وتعالى-، أما المنافق الذي يُصلي وقد يقوم ويقعد وفي الظاهر هو هذا، ولكنه خائن الأمانة؛ لا يُصلي لله -تبارك وتعالى-، وكذلك الصوم سر؛ ممكن الإنسان أن يُخفي حقيقة صومه عن الناس، ويفطُر في سِره، ولا يكون صائمًا في سِره، فهي أمانة كذلك؛ تكليف، وهذا أمر لا يطَّلِع عليه إلا الله -تبارك وتعالى-، غُسل الجنابة أمانة، قالوا أن غُسل الجنابة أمانة لأنه قد لا يدري أنه أجنب إلا الله -تبارك وتعالى-، وبالتالي العبد مُكلَّف أنه إذا أجنب أن يغتسل؛ فيُصبح أمانة مُؤمَّن عليها، فبعضه فسَّر الأمانة بالأمور الخفية؛ التي لا يطَّلِع عليها إلا الله -تبارك وتعالى-، وأن هذه لا شك أن هذه من الأمانة، ولكن الأمانة المذكورة في الآية هنا إنما هي أمانة التكليف كله؛ كل ما كلَّف الله -تبارك وتعالى- به عباده؛ بدءًا بلا إله إلا الله، شهادتهم هذه شهادة بالقلب؛ إقرار بها بالقلب، أن يقولها بلسانه، أن يُقِر بها بقلبه، أن يعمل بمُقتضى هذه الشهادة بجوارِحه، وكا ما يتبَع هذا؛ هذه أمانة، هذا مما ائتمن الله -تبارك وتعالى- العباد عليه؛ وأن يقوموا به، وفي قول الله -تبارك وتعالى- {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ ........}[النساء:58]، أمانات الخلْق يجب أن تؤدى إلى أهلها؛ وهي أيضًا داخلة في أمر الله -تبارك وتعالى-، أمر الله -تبارك وتعالى- عباده بأن يوفوا كل ما عاهدوا عليه؛ سواء كان عهود بين بعضهم بعض، أو بينهم وبين الله -تبارك وتعالى-.

قال الله -تبارك وتعالى- بعد ذلك {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ}، يعني أنه هذا ما كلَّف الله -تبارك وتعالى- به العباد، وكلَّف به الإنسان؛ جعل الإنسان مخلوق مُكلَّف على هذا النحو، {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ}، هؤلاء أول مَن خالفوا الأمانة وخانوها، المنافقين والمنافقات؛ ذكَرَ الله -تبارك وتعالى- هنا الذكور والإناث ليُبيِّن أن هذا حُكمه في الجميع، {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ}، المنافقون جمع منافق، والمنافق هو الذي يُظهِر الإسلام ويُبطِن الكفر، قيل أن النفاق مأخوذ من نافِقاء اليربوع، لأن اليربوع يحفِر أكثر من جُحر له ثم يجعل مهرب غير مرئي، لابد يجعل له مكان وجُحر غير مرئي؛ يُغطيه بشبكة رقيقة جدًا من التراب، فإذا دُخِل عليه من هذه الجُحور خرج من هذا المكان الذي لا يُنتبَه إليه، وقد يكون النفق الأخير هذا مُغطَّى بسِتر من التراب أو تحت شجرة من الأشجار، ولذلك مَن يصيد اليربوع يقوم يذهب إلى أقرب عُشبة أو أقرب شجرة ويضع عليها شبكته، ثم يُنفِّر اليربوع من هذه الجُحور المفتوحة فيقفِز في هذا المكان الذي هو مُستتر بهذه العُشبة ونحوها، قيل إن المنافق مأخوذ من هذا؛ من نافِقاء اليربوع، وذلك أنه فيه شيء ظاهري؛ اللي هو هذا الجُحر، وفيه شيء خفي؛ اللي هو هذا الذي قد ستَرَه، والمنافق؛ وجه الشبه أنه قد أظهر الإسلام ولكنه يُبطِن الكفر، هناك نفاق طبعًا أقل من هذا النفاق وهو النفاق العملي، وأن يكون المؤمن يجمع بين خِصال الإيمان وخِصال المنافقين، لأن المنافق يكذب، يُخلِف الوعد، يتكاسل عن الصلاة، يُنفِق وهو كارِه، فمَن كان فيه شعبة من هذه الشُعَب كما قال النبي «أربعٌ مَ كُنَّ فيه كان منافقًا خالصًا، ومَن كانت فيه شعبة منهُنَّ كانت فيه شعبة من النفاق حتى يدعها، إذا حدَّث كذَب، وإذا عاهد غدَر، وإذا ائتُمِن خان، وإذا خاصم فجَر»، فبعض الناس يكون فيهم خصلَة، بعض أهل الإيمان يكون فيهم خصلَة أو أكثر من هذه، أما إذا اجتمعت هذه الأربع خصال فلا تجتمع إلا في منافق اعتقادي.

{لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ}، أي من الذكور والإناث، {وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ}، كل مَن أشرك بالله -تبارك وتعالى-، والمشرِك هو مَن جعل مع الله إله أخر، فهذا المشرك شرك أكبر؛ كعبادة غير الله -تبارك وتعالى-، أو شِرك وهو الرياء؛ وهو أن يعمل عمل الصلاة التي هي لله، ولكنه أن يُدخِل فيها حظ النفس؛ أن يمدحه الناس بهذا، أو لا يكون وِجهته هو أنه لا يُصليها لله، إنما يُصليها ليمدحه الناس بهذا ونحو ذلك؛ يُقال له مُحسِن، يُقال مُصدِّق، يُقال نحو هذا؛ فهذا شِرك أصغر، وهذا كله داخل في هذا {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ}، ثم قال -جل وعلا- {وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}، أي لأجل أن يتوب الله كذلك على المؤمنين والمؤمنات، ومعنى أنه يتوب عليهم -سبحانه وتعالى- أن يقبل توبتهم،لأن الله -تبارك وتعالى- هو التوَّاب الرحيم، كل من يرجِع إليه -سبحانه وتعالى-، ويتوب، ويرجِع إليه؛ معناه أنه يقبل توبته، {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}، ختم الله -تبارك وتعالى- هذه الآية بصفتيه -سبحانه وتعالى-؛ المغفرة والرحمة، ليُبيِّن فضله وإحسانه -سبحانه وتعالى- في هذا الأمر، انظر أمر التكليف العظيم لكن المؤمن الذي يتوب إلى الله والذي يرجع إلى الله -تبارك وتعالى-، وقد ذُكِر في السورة ألوان كثيرة مما قد يقع فيه أهل الإيمان، فبيَّن -سبحانه وتعالى- أن التوبة والرجوع إليه من أي انحراف عن جادة الحق فإن الله -تبارك وتعالى- يقبل صاحبها، {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}.

وبهذا تنتهي هذه السورة العظيمة؛ سورة الأحزاب، اسأل الله -تبارك وتعالى- أن ينفعنا بما فيها من الهُدى والنور، وأن يجعلنا من هؤلاء المؤمنين الذين يتوب عليهم، والحمد لله رب العالمين.