الجمعة 29 ربيع الآخر 1446 . 1 نوفمبر 2024

الحلقة (527) - سورة سبأ 12-17

{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الفاتحة:2] {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}[الفاتحة:3] {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}[الفاتحة:4]، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومِن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ}[سبأ:12] {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}[سبأ:13] {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ}[سبأ:14]، بعد أن ذكَرَ الله -تبارك وتعالى- عبده ونبيه داود -عليه السلام- وما آتاه من الفضل، قال {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ}[سبأ:10] {أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}[سبأ:11]، ذكَرَ الله -تبارك وتعالى- عبده ونبيه سليمان؛ الذي آتاه الله -تبارك وتعالى- المُلك بعد أبيه، فقال -جل وعلا- أي من فضل الله -تبارك وتعالى- على سليمان {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ}، يعني أن الله -تبارك وتعالى- سخَّر له الريح، غُدوُّها؛ يعني مسيرتها في الصباح مسيرة شهر بالدوار، فعلى الإبل والخيل مسيرة الشهر؛ تسيرها في غداةٍ واحدة، ورواحُها شهر؛ وكذلك في رجوعه إلى مكانه الذي إنطلَق منه، في الرواح؛ اللي هو ذهاب هذه الريح من بعد الزوال مسيرة شهر كذلك، أي نحو من ألف ميل في الغدوة الواحدة وفي الروحة الواحدة، وهذا قد أعطاه الله -تبارك وتعالى- له بعد أن دعى الله -تبارك وتعالى- أن يؤتيه الله -تبارك وتعالى- مُلكًا، قال -تبارك وتعالى- {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ}[ص:34] {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ}[ص:35]، قال -جل وعلا- {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ}[ص:36]، رُخاء يعني رخيَّة نديَّة بسهولة ويُسر حيث أصاب، {وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ}[ص:37] {وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ}[ص:38] {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}[ص:39]، ولسليمان؛ أعطينا سليمان، وهبنا لسليمان -عليه السلام-، الريح غدوُّها شهر؛ سخَّرها الله -تبارك وتعالى- له.

{وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ}، أي مما كذلك سخَّره الله -تبارك وتعالى- له وأنعَمَ به عليه أنه أسال له عين القِطر، القِطر؛ اللي هو النحاس المُذاب، أساله الله -تبارك وتعالى- له؛ أخرجه له من باطن الأرض سائلًا مُذابًا، يصنع منه ما يصنع من الأواني ومن غيرها، {وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ}، ثم قال -جل وعلا- {وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ}، ومن الجن؛ سخَّر الله -تبارك وتعالى- له كذلك من الجن بعضهم، مَن يعمل بين يديه؛ أمامه، بإذن ربه؛ بأمر الله -تبارك وتعالى- له، كما قال -جل وعلا- {وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ}[ص:37] {وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ}[ص:38]، مُقرَّنين؛ مُسلسلين، في الأصفاد؛ في القيود، هذا عطاؤنا؛ الله أعطاه هذا العطاء، فامنُن؛ يعني على مَن شئت منهم، يعني سرِّحه من الخدمة والذل الذي هو فيه، أو أمسك؛ في الخدمة، بغير حساب؛ دون أن يُحاسِبه الله -تبارك وتعالى- على ما يصنعه فيهم، قال -جل وعلا- {وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ}، مَن يزِغ منهم؛ من هؤلاء الشياطين اللي هم من الجن الذي سُخِّروا له، عن أمرنا؛ قال -جل وعلا- عن أمرنا، أن جعل هنا أمرنا الكوني القدري لهم بأن جعلهم في الخدمة؛ في خدمة سليمان، وتحت أمره، وتحت قهره، {نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ}، قال -جل وعلا- نُذَقه؛ نُذيق هذا، من عذاب السعير؛ عذاب النار.

قال -جل وعلا- {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ}، يعملون؛ هؤلاء الجن، له ما يشاء؛ الذي يُريده، {مِنْ مَحَارِيبَ}، أبنية، المحراب؛ البناء للعبادة ولغيرها، {مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ}، تماثيل؛ صور، صور على صور حيوانات، وكان يُصوِّر صور الملائكة وغيرها، {وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ}، الجَفنة؛ القصعة العظيمة للطعام الذي يؤكَل منها، كالجواب؛ يعني سِعتها كالجواب جمع جابية، والجابية هي بِركة الماء الكبيرة، يعني قِصاع للطعام كل قصعة كأنها بِركة ماء كبيرة، وذلك للجيش العظيم الذي كان عنده، كان عنده فقط نحو خمسين ألف فارس؛ يعني يركبون الخيل، {وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ}، قُدُور؛ للطبخ، راسية؛ ثابتة راسخة على الأرض، {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا}، هذا أمر الله -تبارك وتعالى-، فالشياطين كان يعلمون له هذه؛ هذه الجفان المصنوعة من النحاس العظيم، والقُدُور الراسية الكبيرة، وكذلك المحاريب والتماثيل، قال -جل وعلا- بعد ذلك {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا}، اعملوا؛ يعني يا آل داود، آل داود؛ اللي هو داود وبينه، شُكرًا؛ حال كونكم شاكرين لله -تبارك وتعالى- هذه النِعَم التي أنعمها عليكم في الدنيا والآخرة، اعملوا شاكرين لله -تبارك وتعالى-، ثم قال -جل وعلا- {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}، قليل من عباد الله -تبارك وتعالى- مَن يشكُر إنعام الله -تبارك وتعالى-.

ثم قال -جل وعلا- {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ}، لمَّا قضى الله -تبارك وتعالىى- الموت علىى سليمان، {مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ}، دلَّهم؛ دلَّ الجن، {عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ}، دابة الأرض؛ الأرضَة، التي تُسمَّى الأرضَة؛ وهو هذا النمل الأبيض الذي يأكل الخشب، فإن سليمان -عليه السلام- كما أخبَر نبينا -صلوات الله عليه وسلم- لمَّ علِم أنه قد دنا أجله وأنه سيموت، فإنه دعى الله -تبارك وتعالى- أن يُبقيه على كرسيه مدة ليظل الجن يعملون ويشتغلون، فبقي جالسًا على كرسيه ومُستنِدًا على عصاه؛ اللي هي هذه المِنسأة، وبقي على هذا الحال خمسين سنة، والجن يعملون وهم خائفون منه ولا يعرفون أنه قد مات؛ وهم في علمهم وفي شغلهم على هذا النحو، إلى أن أكلت الأرضَة؛ دابة الأرض هذه، هذا النمل الأبيض أكل العصا التي كانت مُتكئًا عليها، فلمَّا أكلتها والعصا ذابت من أكلها وقع على وجهه؛ فعند ذلك علمت الجن، قال -جل وعلا- {فَلَمَّا خَرَّ}، يعني قوع على وجهه، {تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ}، أنهم لو كانوا يعلمون الغيب؛ وهذا الغيب غيب إضافي، يعني من الغيب الذي أمامهم وهو غائب عنهم، لكنه أمامهم موجود بس هو مستور عنهم، فلو كانوا يعلمون هذا ما لبثوا في العذاب المُهين خمسين سنة، وهم يشتغلون نفس الأعمال التي يعملونها؛ وهي كلها أعمال شاقة شديدة، كما قال -تبارك وتعالى- {وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ ........}[الأنبياء:82]، دون الغوص؛ والغوص هو من أشق الأعمال، وعمل دون هذا؛ من صناعة التماثيل، من البناء، من القُدُور الراسيات، من الجِفان، يعني أنهم في هذه السُخرَة وفي هذا العمل الشديد؛ ظلوا في هذا العمل الشديد بعد موت سليمان خمسين سنة، {........ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ}[سبأ:14].

هذا ذِكر في إفضال الله -تبارك وتعالى- وإنعامه  على عبده سليمان -عليه السلام-؛ الذي هو من عباد الله -تبارك وتعالى- الصالحين، وممَن سخَّر الله -تبارك وتعالى- ما سخَّر في هذه الدنيا، ولا شك أنه في الآخرة لذو زُلفى عند الله -تبارك وتعالى- وحُسن مآب، وهذا غير ما ادَّعته اليهود في هذا النبي الكريم؛ سليمان -عليه السلام-، فإنهم قد ألصقوا به مقالات شنيعة، وللأسف أنهم كتبوها في التوراة التي بين أيديهم، فمن ذلك مثلًا ما ذكَروه أن سليمان -عليه السلام- إنما وقع الشرك في وقته، وأقر زوجاته على الشرك بالله -تبارك وتعالى-؛ ومن أجل ذلك أذهب الله مُلكه، يقولون في إصحاح الملوك الأُوَل؛ في الإصحاح الحادي عشر، وأحب الملك سليمان نساءًا غريبة كثيرة مع بنت فرعون؛ أي التي تزوَّجها عندهم، من مؤابيَّات، وعمُّونيات، وآدوميَّات، والصِّيدونيات؛ يعني من صيدا، وحيثيَّات، من الأمم الذين قال عنهم الرب لبني إسرائيل لا تدخلون إليهم؛ وهم لا يدخلون إليكم، يعني يقول هذه أمم غير بني إسرائيل، وأن الله -تبارك وتعالى- نهاهم أن يتزوَّجوا منهم أو يُزوِّجُهم، من الأمم الذين قال عنهم الرب لبنوا إسرائيل لا تدخلون إليهم؛ وهم لا يدخلون إليكم، لأنهم يميلون قلوبكم وراء آلهتهم، لأنكم إذا تزوَّجتم نساء هذه الأمم فإنهم يميلون قلوبكم؛ يعني يجعلوا قلوبكم تميل إلى آلهتهم الباطلة، أنتم تعبدون الله وهم يعبدون آلهة منحوتة مصنوعة، قالوا هنا فالتصق سليمان بهؤلاء بالمحبة، يعني أن سليمان أحبَّ هذه النساء اللاتي تزوجهُنَّ من هذه الشعوب، وكانت له سبعمائة من النساء السيدات؛ سبعامائة امرأة حُرَّة قد تزوج بهِنَّ، وثلاثمائة من السَّراري؛ وله ثلاثمائة أخرى من السَّراري، فهذا سبعمائة وثلاثمائة؛ ألف امرأة، ثلاثمائة سراري؛ يعني إماء، وسبعمائة من النساء الحرائر، يقولون هنا في ما كتبوه في التوراة؛ فأمالت نسائه قلبه، يعني أن نسائه هؤلاء أملنَّ قلبه، وكان في زمان شيخوخة سليمان أن نسائه أملنَّ قلبه وراء آلهة أخرى؛ حتى أنهُنَّ جعلنَّ قلب سليمان يميل إلى الآلهة الباطلة اللاتي يعبدنها هؤلاء، ولم يكن قلبه كاملًا مع الرب؛ إذن اتهموا سليمان بالشرك بالله -تبارك وتعالى-، وأنه مال قلبه نحو الآلهة التي يعبدها هؤلاء الأقوام الكفار، ولم يكن قلبه كاملًا مع الرب إلهه كقلب داود أبيه، فذهب سليمان وراء عشتروت؛ إلهة الصيدونيين، يعني أن سليمان قلبه أحبَّ ومال نحو عشتروت الإلهة، وملْكُهُم رِجس العمونيين وعمل سليمان الشر في عيني الرب؛ يعني أن سليمان أقام الشر اللي هو الشرك هنا الذي يتهمونه به، في عيني الرب؛ رب السماوات والأرض -سبحانه وتعالى-، ولم يتَّبِع الرب تمامًا كداود أبيه؛ يعني ما كان سليمان موَّحِدًا لله -تبارك وتعالى- كما كان داود أبيه، حين إذن بنى سليمان مُرتَفعةً لكاموش رِجس المُآبيين؛ يعني أن سليمان كذلك لم يكتفي بأن قلبه مال إلى هذا، بل بنى كذلك أبنية لآلهة المُآبيين؛ كاموش هذا الإله، على الجبل الذي تجاه أورشليم، ولمُولَك رِجس بني عَمون؛ كذلك لإله أخر، وهكذا فعل لجميع نسائه الغريبات اللاواتي كُنَّ يوقدنَّ ويذبحنَّ لآلهتهِن؛ كل امرأة من هؤلاء اللاتي تزوجهُنَّ من هؤلاء المشركات بني لها بيت للإله الذي تعبده، فغضب الرب على سليمان لأن قلبه مال عن الرب؛ زعموا أن الله -تبارك وتعالى- غضب على سليمان لأن قلبه مال عن الرب، بمعنى خلاص أنه توجَّه إلى هذه الآلهة وترك الرب -سبحانه وتعالى-، لأن قلبه مال عن الرب إله إسرائيل الذي ترائى له مرتين، وأوصاه في هذا الأمر ألا يتَّبِع آلهة أخرى فلم يحفظ ما أوصى به الرب؛ يعني أن سليمان أشرك ولم يحفظ ما أوصى به الرب، فقال الرب لسليمان من أجل أن ذلك عندك، ولم تحفظ عهدي وفرائضي التي أوصيتك بها، فإني أُمزِّق المملكة عنك تمزيقًا وأُعطيها لعبدك، إلا أني لا أفعل ذلك في أيامك من أجل داود أبيك، بل من يد ابنك أُمزِّقها، على أني لن أُمزِّق منك المملكة كلها، بل أُعطي سِبطًا واحدًا لابنك لأجل داود عبدي؛ ولأجل أورشليم التي اخترتها.

وهذا لا شك أنه من الكذب الذي افتراه اليهود على سليمان النبي؛ والذي برَّأه الله -تبارك وتعالى-، كما برَّأ أباه، وكما برَّأ الأنبياء الذين اختصَّهم الله -تبارك وتعالى- بالنبوَّة، وعصمهم من أن يقعوا في الشرك؛ بل في معصية من المعاصي الكبار، لا يقع النبي في معصية من كبائر الذنوب فضلًا عن أن يقع في الشرك بالله -تبارك وتعالى-، فهذا سليمان كما برَّأه الله -تبارك وتعالى-، وكما ذكَرَ الله -تبارك وتعالى- إنعامه وإفضاله عليه هنا في هذه الآيات، {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ}[سبأ:12] {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}[سبأ:13] {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ}[سبأ:14]، واليهود قوم بُهت؛ قوم كذَّابون، وهذا صورة من كذبهم؛ وعلى مَن؟ على أنبيائهم ورُسلهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

بعد أن ذكَرَ الله -تبارك وتعالى- إنعامه إفضاله على عبديه؛ داود وسليمان، ذكَرَ في المُقابِل إنعامه وإفضاله على قوم من الكفار؛ قابلوا نعمة الله بالكفر، هؤلاء آل داود قابلوا نعمة الله بالشكر، يعني داود وسليمان قابلوا نعمة الله -تبارك وتعالى- بالشكر، وهنا قومٌ أخرون قابلوا نعمة الله -تبارك وتعالى- بالكفر، فقال -جل وعلا- {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ}[سبأ:15] {فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَي أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ}[سبأ:16] {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ}[سبأ:17]، قال -جل وعلا- مؤكِّدًا {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ}، سبأ؛ من العرب، وكانوا يسكنون في جنوب الجزيرة؛ الجنوب الغربي لها، في جنوب اليمن، {فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ}، في مسكنهم الذي نزَلوه آية من آيات الله -تبارك وتعالى-؛ في الإنعام، والإفضال، والجمال، والراحة، والدِّعة، قال -جل وعلا- مُبيِّن هذه الآية {جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ}، الجنة؛ البستان، بُستانان، عن يمين؛ عن يمين السد وعن شِمال السد، سد سُد بين الجبال يجمع الماء، وعن يمين السد جِنان مزروعة وعن شِمال السد جِنان مزروعة، {جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ}، أمر بالإباحة وبالتعريف بنعمة الله -تبارك وتعالى-، {كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ}، رزقه هنا في هذه الجِنان التي رتبها الله -تبارك وتعالى- لهم على هذا النحو البديع، {وَاشْكُرُوا لَهُ}، اشكروا لله -تبارك وتعالى-؛ شُكر قلب، وشُكر لسان، وشُكر عمل، والعمل بمُقتضى هذا الشكر؛ من الصلاة للرب -تبارك وتعالى-، والثناء عليه -سبحانه وتعالى-، {بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ}، بلدة طيبة تعيشون فيها؛ ماذا تُريدون بعد هذا؟ ورب غفور؛ في الآخرة يغفر ذنوبكم ويُخرِجكم من جنة الدنيا إلى جنة الآخرة، فأنتم في جنة في الدنيا ثم إذا تحوَّلتم بعد ذلك؛ إذا كنتم شاكرين عابدين لله -عز وجل- تتحوَّلون إلى جنة الآخرة، ماذا تُريدون أكثر من هذا؟ {بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ}، قيل طيبة؛ بهوائها، وأنه لم يكن فيها قارص ولا شيء مُزعِج من هذه الهوام التي تؤرِّق وتُزعِج حياة الناس، بلدة طيبة؛ في هوائها، ومناخها، وطِيب المسكن فيها، {وَرَبٌّ غَفُورٌ}، أمر عظيم جدًا.

قال –جل وعلا- {فَأَعْرَضُوا}، أي عن الله -تبارك وتعالى-، فأعرضوا عن شُكر الله -تبارك وتعالى-؛ وعن الاعتراف بنعمته –سبحانه وتعالى-، فلمَّا أعرضوا؛ لم يقوموا بحق شُكر الله -تبارك وتعالى-، ولم يعرفوا أن هذه نعمة الله وإفضاله -سبحانه وتعالى-، قال -جل وعلا- {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ}، أرسل الله -تبارك وتعالى- عليهم سيل العَرِم، العَرِم؛ القوي، الشديد، يعني مطر شديد قوي هبط على هذه الجبال وجرى في هذا الوادي العميق وأتى السد فحطَّمه، فجاء سدَّهم هذا فدمَّر سدَّهم، فلمَّا تحطَّم السد خلاص؛ ذهب الماء أدراجه، وجفَّت الجِنان، وسارت العُربة، تمزَّقوا كل مُمزَّق بعد ذلك، {........ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَي أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ}[سبأ:16]، بدَّلناهم؛ استبدلوا بهذه الجِنان التي فيها هذا الماء الذي كان باقي، كان طول السنة يزرع وينبُت عليه الشجر الذي يُحب السَّقي طيلة العام؛ كأنواع الفواكه، استبدلوا؛ طبعًا استبدلهم بهذا بالأشجار الجافة الصلبة، اللي هي العِضاء؛ التي تصبر على العطش، وبدَّلناهم بجنتيهم جنتين لكن ذواتي أُكُلٍ خمط وأثل، أثل معروف، والخمط كالسِدر ونحوه، {وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ}، شيءٍ من سِدر قليل؛ من هذا الشجر الذي بقي لهم.

قال -جل وعلا- {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا ........}[سبأ:17]، يعني استبدلوا بالجِنان التي فيها أنواع الفواكه وأنواع الخيرات بهذه الجِنان الصحراوية؛ التي ليس فيها إلا شجر الصحاري، قال -جل وعلا- {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا ........}[سبأ:17]، ذلك؛ هذا الجزاء بأن أرسل عليهم سيل العَرِم، ومزَّقهم الله –تبارك وتعالى- هذا التمزيق، وأبدلهم بالجنة العظيمة هذه الجِنان القليلة، المتواضعة، الفقيرة، قال -جل وعلا- بما كفروا؛ بسبب كفرهم، ثم قال –جل وعلا- {........ وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ}[سبأ:17]، سؤال يُراد به التقرير، أن الله -تبارك وتعالى- لا يُجازي؛ يعني بالسوء، إلا الكفور؛ شديد الكُفران، فالله -تبارك وتعالى- لا يُجازي هذا الجزاء بالسوء إلا العبد الكفور؛ الذي كفر بالله -تبارك وتعالى-، كما قال -جل وعلا- {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ}، فالله لا يُغيِّر ما بقوم من نعمة حتى يُغيِّروا ما بأنفسهم، إذا غيَّروا ما بأنفسهم؛ من القيام بحق الله -تبارك وتعالى-، وحق شُكر الله -تبارك وتعالى-، فإن الله يُغيِّر ما بهم من نعمة، {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ}[سبأ:17].

ثم قال -جل وعلا- {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ}[سبأ:18]، {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً ........}[سبأ:18]، أن الله -تبارك وتعالى- جعل بينهم وبين القرى التي باركنا فيها؛ قال بعض أهل التفسير أن {الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} هي بلاد الشام، قرىً ظاهرة؛ قائمة على الطريق، حتى إذا نزل الإنسان راح مرحلة ينزل في قرية فيجد كل شيء؛ فيها ناس، فيها ضيافة، فيها خدمات، فيها أمر، أو {الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} من مدنهم؛ فكانوا يخرجون من قرية عامِرة إلى قرية عامِرة إلى قرية عامرة ...، فسفرهم دائمًا إنما هو سفر قصير، وينتقلون من مدينة حافلة ومليئة بالخير إلى مدينة حافلة إلى مدينة حافلة... وهكذا، {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا}، التي بارك الله -تبارك وتعالى- فيها بكثرة الزروع، والثمار، والخيرات، {قُرًى ظَاهِرَةً}، قرى ظاهرة ينزلون فيها، {وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ}، وقدَّرنا فيها السير بمعنى أنه على قدر المسيرة؛ مثلًا الإنسان يسير أربعين كيلوا فيجد خلاص، الأربعين كيلوا دول إذا قطعها وجَد القرى الثانية التي ينزل فيها ويجد فيها متاعه، فلا يشُق عليه بأن يسير ليالي طويلة حتى يجد قرية أخرى، بل قُدِّر فيها السير تقديرًا؛ بحيث أن كل مرحلة من المراحل يجد قرية يضع فيها رَحلَه ويجد فيها مطلوبه، {وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ}، سيروا في هذه المسير ليالي وأيامًا آمنين، كذلك ما في قطع طريق، ما في نهب، ما في سلب، بل مملكة مستقرة ورزق دار، وسفر يسعد فيه الإنسان ولا يشقى، {وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ}.

{فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا}، تمنوا الشقاء، كرهوا النعمة؛ كرهوا النعمة، والأمن، والاستقرار، ورأوا أن هذا الذي هم فيه من النِعَم خلاص؛ ملُّوه ويُريدون الشقاء، فقالوا؛ أي هؤلاء الأشقياء، ربنا؛ يعني يا ربنا دعوه، {بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا}، تمنوا هذا، قالوا أيش لون نخرج من قرية؟ الواحد يخرج من قرية ما يمشي شوية إلا والقرية الثانية موجودة، نحن نُريد أن نُسافر سفر نستعد له، ونحمل له، ونقطع الفيافي، ونقطع الصحاري، ويُعطيهم هذا ما يُعطيهم من العزيمة، أرادوا أن يُباعِد الله -تبارك وتعالى- بين أسفارهم؛ يعني بين ما يُأملون من السفر وبين ما هم فيه، فيقطعوا الفيافي وكأن هذا حماس عندهم وإرادة لركوب المصاعِب وركوب المشاق، {فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا}، قال -جل وعلا- {وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ}، ظلموا أنفسهم؛ بكفرهم، وعدم شُكرهم، وبعِنادهم، وبتحميل أنفسهم المشقَّات، يعني قد أكرمكم الله -تبارك وتعالى- في الدنيا بهذا الإكرام العظيم، وأعطاكم هذه النِعَم السابقة، وجعلكم في دار أمن ودار استقرار، وجعل سفركم رحمة؛ بدل من أن يكون سفركم عذاب جعل الله –تبارك وتعالى- سفركم رحمة، فكيف تدعون الله -تبارك وتعالى- بأن يُشقيكم في الدنيا؟ فهؤلاء طلبوا الشقوة في الدنيا قبل الآخرة، {فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا}، قال -جل وعلا- {وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ}، قال -جل وعلا- {فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ}، {فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ}، قِصصهم؛ الله -تبارك وتعالى- قِصصهم عِبرَ يتناقلها الناس بعدهم، مما حصل لهم؛ من الشِقوة، والتفرُّق، والتمزُّق، أهل الأسرة الواحدة تمزَّقوا؛ كلٌ ذهب في مكان، لأنه بعد خراب السد تمزَّقوا؛ منهم مَن نزَل الشام، ومنهم مَن المدينة، ومنهم مَن ذهب إلى هذا المكان، ومنهم مَن ذهب إلى هذا المكان، وأصبحت أخبارهم أحاديث يتناقلها الناس مما حصل لهم، من الأمور العجيبة الغريبة، ومن المآسي الشديدة، فأصبحت أحاديث وأمور يتندَّر بها الناس، قال -جل وعلا- {فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ}، كل مُمزَّق؛ يعني ما جعلنا واحد مع الثاني، بل كل واحد ذهب في مكان غير مذهب الأخر، {وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ}، قال -جل وعلا- {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ}، إن في ذلك؛ مما ذكَرَه الله -تبارك وتعالى- عن سبأ؛ من الإنعام، ثم إلى الشِقوة بظلمهم، لآيات؛ دلالات واضحات، ولكن لكل صبَّار شكور.

نكتفي اليوم بهذا، وأُصلي وأسلم على عبد الله ورسوله محمد، والحمد لله رب العالمين.