الجمعة 29 ربيع الآخر 1446 . 1 نوفمبر 2024

الحلقة (529) - سورة سبأ 28-34

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله الأمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[سبأ:27] {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}[سبأ:28] {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ}[سبأ:29] {قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ}[سبأ:30] {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ}[سبأ:31] {قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنتُمْ مُجْرِمِينَ}[سبأ:32] {وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأَغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[سبأ:33]، قول الله -تبارك وتعالى- {قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[سبأ:27]، هذه مجموعة من الآيات في هذا المقطع من هذه السورة؛ سورة سبأ، لتحطيم الباطل ولبيان أن المشركين ليسوا على شيء، قُل؛ أي يا محمد، الخطاب لنبي الله -تبارك وتعالى- محمد، {أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ}، سمُّوا شركائكم هؤلاء الذين جعلتموهم شركاء لله -تبارك وتعالى-؛ لهم من الأمر شيء، لهم تصريف في هذا الكون، وقبلها قال -تبارك وتعالى- يعني أقرَّهم؛ طلب إقرارهم، قال {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ ........}[سبأ:24]، فالذي يرزق العباد في السماوات والأرض هو الله وحده -سبحانه وتعالى-؛ وهم يُقِرون بهذا، قالوا لهم {........ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}[سبأ:24] {قُلْ لا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ}[سبأ:25]، مُفاصلَة بينهم، {قُلْ لا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ}[سبأ:25] {قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ ........}[سبأ:26]، يحكُم بيننا بالحق يوم القيامة، {وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ}.

ثم قال لهم {قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ ........}[سبأ:27]، هاتوا شركائكم هؤلاء، أخبروني بهم، سمُّوهم مَن؟ الملائكة؟ هم عباد الله -تبارك وتعالى-، وهم تحت قهره وتحت أمره -سبحانه وتعالى-، {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}، {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}[النحل:50]، الشمس؟ القمر؟ كلها مخلوقات لله -تبارك وتعالى- مُذلَّلة، اللات؟ العُزَّى؟ مَناة؟ {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى}[النجم:19] {وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى}[النجم:20] {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَى}[النجم:21]، يُعطيكم الله -تبارك وتعالى- الذكور من أولادكم وله الأنثى؛ الملائكة بنات كما تدَّعون، {تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى}[النجم:22]، فمَن هذه الآلهة التي جعلتموها آلهة لكم مع الله -تبارك وتعالى-؟ {قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ ........}[سبأ:27]، شركاء لله -تبارك وتعالى- في مُلكه أو في تصريفه، {كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}، العزيز؛ الغالب لكل خلقْه -سبحانه وتعالى-، الذي لا يغلبه أحد، الحكيم؛ الذي يضع كل أمر في نِصابه.

ثم قال -سبحانه وتعالى- لرسوله {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}[سبأ:28]، وهذا بيان أن النبي فقط إنما هو مُبَلِّغ، مُبشِّر مَن أطاعه بالجنة، ورضوان الله -تبارك وتعالى-، وإنعامه في الدنيا والآخرة، ومُنذِر مَن كذَّبه بالنار، {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ}، وما أرسلناك؛ أي يا محمد -صلوات الله والسلام عليه-، إلا كافة للناس؛ للناس كافة، لجميع الأمم، لكل مَن على الأرض من وقته وإلى يوم القيامة، {لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ}، {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا}[الفرقان:1]، {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا}، فمحمد -صلوات الله والسلام عليه- مُرسَل إلى كل الأمم، إلى كل الخلْق على اختلاف مللهم وأجناسهم؛ لليهود، وللنصار، لأهل الكتاب، للجميع، أوقِفوا ما عندكم؛ هذا هو الطريق، فقد جاء ناسخًا لشرائع السماء كلها، وداعيًا لِما دعى له الأنبياء قبله من عبادة الله وحده لا شريك له، وقائلًا الطريق هو صراط الله -تبارك وتعالى- فاتَّبعوني، يقول لأهل الكتاب {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ........}[آل عمران:31]، {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا}، لا يسمع به أحدٌ من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ولا يؤمن بالذي أُرسِل به كان من أهل النار، كما قال -صلوات الله والسلام عليه- «والله لا يسمع بي يهودي ولا نصراني ولا يؤمن بالذي أُرسَل به إلا كان من أهل النار»، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا ........}[سبأ:28]، البشارة؛ الإخبار بما يسُر، جاء بأخبار سارة عظيمة وذلك لأهل الإيمان؛ لمَن يؤمن به، ونذيرًا؛ مُحذِّر بعقوبات شديدة من الله -تبارك وتعالى- وبأس شديد من لدنه لمَن يُخالف أمره، {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا}[الكهف:1] {قَيِّمًا لِيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ}، بأس شديد من لدنه؛ من لدُن الله -تبارك وتعالى-، {........ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا}[الكهف:2] {مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا}[الكهف:3] {وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا}[الكهف:4] {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا}[الكهف:5].

فالنبي الله يُخبِر بأنه قد أرسله للناس كافة؛ أي جميعهم بشيرًا ونذيرًا، ثم قال -جل وعلا- {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}، يعني أكثر الناس لن يؤمن بهذا النبي -صل الله عليه وسلم-، ولا يعلمون أن ما جاء به النبي هو الحق، عِلم ليس عِلم جهل ولكنهم لا يعلمون حقيقة هذا الأمر؛ ويستخفون به، ويستهزئون به، ويدعونه وراء ظهورهم، ولا ينظرون في دليله، أي أن حالهم كحال الذي لا يعلم؛ كأنه جاهل به، والحال أنه قد بلَغَته نِذارة الله -تبارك وتعالى- وبلَغَه قول الله -تبارك وتعالى-، ولكن حاله كحال مَن لا يعلم، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}، لا يعلمون العلم الحقيقي الذي يدفعهم إلى العمل، لأن العِلم الذي يُسمَّى به عِلم هو الدافع إلى العمل، وهو الذي يعمل الإنسان يه بمُقتضى هذا العِلم، أما مَن لا يعمل بمُقتضى عِلمه فهو جاهل؛ فهو كالجاهل تمامًا، كما قال -تبارك وتعالى- في أهل الكتاب {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ}[البقرة:101]، أصبحوا مثل الجهلة لأنهم نبذوا كتاب الله -سبحانه وتعالى- وراء ظهورهم، وقال -سبحانه وتعالى- في اليهود {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا}، فالحمار لأنه لا يستفيد بالكتب التي على ظهره؛ لا يقرأها فلا يستفيد بها، فكذلك هؤلاء الذين حملوا الكتب ولم يستفيدوا بما فيها، قرأوها نعم وعلموا ما فيها لكنهم لمَّا لم يعملوا بها فكان مثَلهم في عدم العمل بما يعلمون كالحمار الذي لا يقرأ الكتب؛ نفس الأمر.

فأخبر -تبارك وتعالى- بأن أكثر الناس لا يعلمون، لا يعلمون بمعنى أنهم يجهلون النبي؛ فإن النبي كالشمس المُشرِقة، كما أشرقت الشمس وكما يعرفها مَن في الشرق والغرب أن في السماء شمسًا فكذلك أضاء نور النبي -صلوات الله عليه وسلم-؛ وأضاء نور الإسلام الأرض كلها، وأشرقت شمس الإسلام على كل مكان في الأرض، وأصبح الناس يسمعون أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله؛ نشيد الإسلام، وهذا الكتاب في كل وادٍ وفي كل صقع، ومنذ أن بعث الله -تبارك وتعالى- رسوله فقد انفجر هذا الضوء في كل مكان؛ من مكة إلى المدينة إلى كل مكان، وكتب النبي -صل الله عليه وسلم- بهذه الرسالة إلى كل ملوك الأرض، وخرج المسلمون بهذا الدين في كل مكان، لكن أكثر مَن جائتهم هذه النِذارة لم يؤمنوا بهذا النبي -صلوات الله والسلام عليه-، ويظل الحال كذلك على هذا النحو؛ الأكثر لا يؤمن بهذا النبي -صلوات الله والسلام عليه-، ولا يُصدِّق بأنه مُرسَل إلى الناس كافة، ويظلون على عنادهم وبعدهم وجهلهم بهذا الدين، وهذه سُنَّة السابقين؛ كل الأمم على هذا النحو لم يكن يؤمن بالنبي إلا العدد القليل من أمته، والأكثرية تظل على الكفر، وهذا شأن نبينا محمد -صلوات الله والسلام عليه-، كما قال النبي «قُل للمؤمنين إنما مثَلكم في الأمم كالشعرة السوداء في جِلد الثور الأبيض، أو كالشعرة البيضاء في جِلد الثور الأسود، أو كالرقمَة في ذراع الحمار»، أنهم قليل بالنسبة إلى غيرهم، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}[سبأ:28].

ثم قال -جل وعلا- {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ}[سبأ:29]، يقولون؛ هؤلاء الكفار، المعاندون، المُكذِّبون، {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ}، سؤال لا يُريدون به الاستفهام وإنما يُريدون به الاستهزاء والاستبعاد، {........ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ}[سبأ:29]، أو الإعنات؛ يعني إن كنت صادقًا في أن هناك يوم قيامة نُبعَث فيه، فمتى يكون هذا؟ {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ}[سبأ:29]، فإذا كانوا يسألون للإعنات والاستكبار؛ فماذا يُفيدهم أن يعلموا الوقت الذي يُقيم الله -تبارك وتعالى- فيه الساعة؟ هذا الأمر إما أن يكون صادقًا وإما أن يكون كاذبًا، فإن كان صادقًا إذن يجب أن يؤمنوا، وقال لهم بأنه سيأتي يوم قيامة؛ يجب أن يُصدِّقوا هذا، ويمعلموا بمُقتضى هذا التصديق، وإن كان كاذبًا عندهم؛ فماذا يستفيدون من السؤال؟ فسؤالهم للإعنات فقط، والله -تبارك وتعالى- قد أخفى عِلم الساعة عن كل خلْقه -سبحانه وتعالى-، وجعل عِلمها إليه للحِكمة العظيمة؛ ليستعد الناس لها، منذ أن يُنزِل الله -تبارك وتعالى- رسالته يكون الجميع في حال الاستعداد والترقُّب لقيام الساعة، وأخبر الله -تبارك وتعالى- بأنها لا تأتي العباد إلى بغتة، ثم إن موت كل إنسان ممَن لم يرى الساعة سيكون قبلها وستقوم قيامته بمجرد موته، فإنه بمجرد موته فإنه يُحاسَب؛ يبدأ بقى فتنة القبر، ويبدأ يُحاسَب على أعماله، ويبدأ يرى الجنة ويرى النار، فماذا يُفيده أن يعلم الوقت الذي يُقيم الله -تبارك وتعالى- فيه قيام الساعة؟ {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ}[سبأ:29]، يعني إن كنتم صادقين بأن هناك يوم قيامة فأخبرونا به، وكأن عدم إخبارهم بهم دليل على أنهم كاذبون، يعني على أن النبي يقول قولًا كاذبًا؛ وهذا لا تلازم فيه، هذا لا تلازم فيه وإنما هذا من جهل الكفار ومن تعنُّتهم وعنادهم.

قال -جل وعلا- {قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ}[سبأ:30]، {لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ}، إن الله -تبارك وتعالى- قد جعل الساعة ميعاد موجود، وهذا اليوم اللي هو يوم القيامة {لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً}، بمعنى أن الله لا يؤخِّره ساعة ويؤجله، {وَلا تَسْتَقْدِمُونَ}، ولا يُقدِّمه ساعة، وإنما سيأتي في اليوم الذي حدَّده الله -تبارك وتعالى- واللحظة التي حدَّدها الله -تبارك وتعالى- تمامًا، فهو يوم مُحدَّد وليس مؤجلًا إلى أجل غير مُسمَّى، بل مُؤجَّل إلى أجل مُسمَّى عند الله -تبارك وتعالى-؛ عَلِمَه الله -تبارك وتعالى-، {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}[الأعراف:187]، {قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ}[سبأ:30].

ثم صوَّر الله -تبارك وتعالى- عِنادهم وكفرهم في الدنيا؛ ومآل هذا الكفر في الآخرة، قال -جل وعلا- {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ}، انظر هذا الجحود والاستكبار عن أمر الله -تبارك وتعالى-، وقال الذي كفروا؛ من مشركي العرب، {لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ}، لن؛ التي تنفي وقوع الفعل في المستقبل، لا يمكن أن يكون في مستقبلنا أن نؤمن بهذا القرآن، ويعنون بهذا القرآن؛ الإشارة له بصفة القريب، هذا القرآن المُنزَل على النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه-، ولا بالذي بين يديه من كتب الله السابقة؛ التوراة، والإنجيل، وما أنزَل الله -تبارك وتعالى- به في السابق، والقرآن جاء مُصدِّق لِما في هذه الكتب من الأخبار الصحيحة؛ من الصدق، قالوا {لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ}، هذا حالهم في الدنيا والله -تبارك وتعالى- ينقُلنا بعد ذلك إلى حالهم في الآخرة، قال {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ}، يعني ولو ترى الحال الذي سيكون عليه هؤلاء المعاندون المكذِّبون الآن؛ الذين يقولون بملء الفم لن {لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ}، يقول لو رأيتهم يوم القيامة ورأيت مقالتهم لرأيت شيئًا عظيمًا مهولًا، {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ}، ذكَرَهم الله -تبارك وتعالى- هنا بالوصف الذي هو وصفهم حقيقةً؛ الظالمون، وذلك أن الظلم هو وضع الأمر في غير محِله، وهؤلاء ظالمون؛ جعلوا بدل من التصديق بالصد؛ التكذيب به، كذَّبوا به؛ فوضعوا الأمر في غير محِله وظلموا أنفسهم، ظلموا أنفسهم بأن أوردوها هذه المهلكة؛ النار.

{وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ}، موقوفون؛ توقفهم الملائكة، تجمعهم وتوقفهم عند الله -تبارك وتعالى- للسؤال؛ لسؤال التبكيت، وليس لسؤال حساب، ومعذرة، وإقالة عن ذنوبهم... لا، بل سؤال التبكيت لهم والتنديم لهم على فعلهم، {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ}، يرد بعضهم على بعض؛ الرؤساء على متبوعيهم، والأتباع يردُّون القول على الرؤساء والمتبوعين، {يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا}، وهم الأتباع، استُضعِفوا يعني استضعُفَهم قوادهم وكبرائهم وساداتهم من الكبراء، {يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ}، لولا أنتم؛ في تزيينكم الباطل لنا، وفي دعوتكم لنا إلى الكفر والعناد، وتسلطكم علينا، لكُنَّا مؤمنين؛ كُنَّا الآن مؤمنين، وذلك أن المُتسضعَفون كانوا ينظرون إلى الكبراء على أنهم أهل العِلم وأهل الحِجى وأهل العقل، ويلغون عقولهم لهؤلاء ويتَّبِعونهم في هذا لأنهم عظماؤهم وكبراؤهم، وكذلك الكبراء بما لهم من قدرة ومن تسلُّط كان لهم تسلُّط على هؤلاء الأتباع؛ فيُزيِّنون لهم الباطل فيتَّبِعونه، فيبدأ هنا هؤلاء الأتباع المُسضعَفين يلومون أنفسهم، ويقولون لهؤلاء وهم عند الرب -تبارك وتعالى-؛ في اليوم الذي لا ينفعهم فيه هذا التلاوم وهذا الندم، يقولون لهم {لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ}.

فيرد الكبراء على هؤلاء المُستضعُفين، قال -جل وعلا- {قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنتُمْ مُجْرِمِينَ}[سبأ:32]، {قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا}، من الرؤساء والقادة، {لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا}، الأتباع والأشياع، {أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ}، سؤال يُراد به الاستهزاء بهؤلاء وإنكار ما نُسِبَ إليهم، يقولون أنحن؛ بهمزة الاستفهام، {صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ}، يعني هل كنتم أنتم مُهتدين ونحن حوَّلناكم عن الهُدى؟ {بَلْ كُنتُمْ مُجْرِمِينَ}، أنتم كنتم فاعلوا لهذا الإجرام، وكنتم مُحِبون لهذا الكفر وهذا العناد؛ وكنتم سائرين فيه، فلم تكونوا مؤمنين وحوَّلناكم من الإيمان إلى الكفر {بَلْ كُنتُمْ مُجْرِمِينَ}.

قال -جل وعلا- {وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ}، قال الذي استُضعِفوا؛ هؤلاء الأتباع والأشياع، يقولون لكبرائهم {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا}، قالوا بل أنتم زاولتهم معنا وسِرتم معنا بمكر الليل والنهار، يعني مكركم بنا؛ والمكر هو إيصال الضُّر إلى الأخر بطريق خفي، وهو الطرق الخفية والطرق المُلتوية التي غشُّوا بها هؤلاء الأتباع؛ في أن زيَّنوا لهم الباطل، وبغَّضوهم من الحق، كما كان يفعل فرعون مع قومه؛ فإنه زيَّن لهم الباطل بكل سبيل، كقوله لهم {........ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ}[الزخرف:51] {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ}[الزخرف:52] {فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ}[الزخرف:53]، قال -جل وعلا- {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ ........}[الزخرف:54]، وكذلك كل مَن هو على شاكِلة هؤلاء الفراعنة؛ فهذا أبو جهل، وهذا العاص ابن وائل السهمي، والوليد ابن المُغيرة المخزومي، وغيرهم من كبراء قريش كان لهم مقالات؛ في تزيينهم الباطل لمَن تحتهم، وفي إغوائهم عن ما هم فيه، وفي تحميسهم، وقولهم في النبي الأقاويل العظيمة؛ إنه ساحر، وإنه كاهن، وإنه جاء بمقالة يُريد أن يُفرِّق بها جماعتكم، وإنه جاء بسحر يُفرِّق به؛ بين الأخ وأخيه، والابن وأبيه، وبين الزوجة وزوجها، احذروه؛ إنه، إنه ...، من هذه المقالات التي تُزيِّن الباطل وتُبغِّض       الحق، فيقولون لهم {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ}، بل فِعلكم بنا؛ هذا المكر المستمر ليلًا ونهارًا، تمكرون بنا؛ بُزيِّنون لنا الباطل وتُبغِّضون لنا الحق.

{بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا}، تأمروننا أن نكفر بالله -سبحانه وتعالى-؛ خالق السماوات والأرض، {وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا}، أنداد؛ إما أنداد في الخلْق، وفي الرزق، وفي الإحياء، وفي الإماتة، كما يقوله مَن يدَّعي في أن هناك إله مع الله، أو أنداد في الحق؛ كأن يُعبَد ما يُعبَد من دون الله -تبارك وتعالى-، أو أنداد في الحُكم؛ بأن يجعلوا لأنفسهم حُكم مع حُكم الله -تبارك وتعالى-، والحال أنه لا حُكم إلا لله -تبارك وتعالى-؛ فالحلال ما أحلَّه، والحرام ما حرَّمه، والدين ما شرَعَه الله -تبارك وتعالى-، فهؤلاء كانوا يُزيِّنون لهم أن يجعلوا لله أنداد؛ في حُكمه، أو في خلْقه، أو في رزقه، أو في عبادته -سبحانه وتعالى-، {إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا}، لكن ماذا يُفيد هؤلاء وهؤلاء من هذا؟ هؤلاء مجرمون وهؤلاء مجرمون، القادة نعم كانوا مجرمين؛ يدعون إلى الشرك بالله -تبارك وتعالى- والكفر به، وهؤلاء الأتباع كانوا عُميان مجرمين كذلك؛ أطاعوا هؤلاء المجرمين في ما دعوهم إليه، لم يتبصَّروا الحق؛ ولم يتَّبِعوه، أو عرفوا الحق ولم يتَّبِعوه، لكنهم أطاعوا السادة والكبراء، {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا}[الأحزاب:67] {رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا}[الأحزاب:68]، وبعد؛ ماذا يُفيد؟ ماذا يُفيدهم هذا؟ نعم سيُضاعَف العذاب لكل مَن أفسد غيره؛ ودعى إلى ضلال أضلَّ به غيره، {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ}، {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ العَذَابِ ........}[النحل:88]، لكن كذلك الضال الذي اتَّبَع أهل الضلال واتَّبَع هؤلاء هو كذلك معهم في النار، لذلك قال -سبحانه وتعالى- بعد ذلك {وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ}، كلهم، أسرُّوا الندامة؛ جعلوها في أنفسهم، صار نادمًا لكن ندامته تُقطِّع قلبه في نفسه، فهذي أسرُّوها لمَّا رأوا العذاب وأن الكل سيُعذَّب، وأن هؤلاء وهؤلاء مُعذَّبون؛ القادة، والرؤساء، والزعماء، والأتباع، والأشياع؛ الذين وافقوهم على هذا الباطل وساروا معهم، قال -جل وعلا- {وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأَغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا}، جعلنا؛ صيَّرنا، الأغلال جمع غُل وهو الطوق والقيد؛ ويوضع في العنُق -عياذًا بالله-، {وَجَعَلْنَا الأَغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا}، قال -جل وعلا- {هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، سؤال يُراد به التقرير، يعني هذا الفِعل؛ أن يُدخِلهم الله -تبارك وتعالى- كلهم النار قادة وأتباعًا، ويجعل الأغلال في أعناقهم ليسحبهم بها الملائكة إلى النار، هل هذا الجزاء الشديد بهم إلى جزاء أعمالهم؟ {هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، فهذا مجرم وهذا مجرم، هؤلاء كانوا مجرمين وهؤلاء كانوا مجرمين، لذلك أخبر -سبحانه وتعالى- بهذا السؤال الذي يُراد به التقرير؛ أن كلًا منهم يستحق العذاب، {هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.

ثم أخبر -سبحانه وتعالى- بأن هذا حال كل المجرمين في كل قرية أرسل الله -تبارك وتعالى- فيها رسله، قال -جل وعلا- {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ}[سبأ:34]، للحصر {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ}، قرية؛ مدينة، قرية؛ تُسمَّى قرية لأنها مجموعة كبيرة من البيوت، أو يُقرى فيها الضيف، مكان غير البادية، والله -تبارك وتعالى- ما كان يُرسِل رسله في البوادي والقِفار، وإنما يُرسِل رسله في القرى، {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى}، وليسوا من أهل البوادي والصحاري، وإنما من أهل القرى؛ في المكان الذي يجتمع فيه الناس ويسكنون فيه، ليكون هذا أدعى إلى وصول صوت الحق إلى الناس جميعًا؛ إلى مَن يُنذَر إليهم، {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ}، أي نذير يدعوا إلى الله -تبارك وتعالى-، {........ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ}[سبأ:34]، إلا قال مُترَفوها؛ مُترَفوا هذه القرية، المُترَفون جمع مُترَف، والمُترَف هو الغني الذي أُنعِم عليه بشتَّى صنوف النِعَم؛ وعاش في غاية الترَف والنعيم الذي أُغدِق عليه، إلا قال مُترَفوها؛ أغنياؤها، أهل الرياش، وأهل الأموال، وأهل الذهب والفضة، {إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ}، إنَّا بالتأكيد؛ يقولوا للرسل، بما أُرسِلتم به؛ يعني أيها الرسل، كافرون يعني لا نُصدِّقكم مع إيمانهم أنه حق، ومعنى كافرون يعني لا نُريده؛ لا نقبَله، فهذا فعلوه هكذا علوًا واستكبارًا بما هم فيه؛ من النعيم، والمال، والغِنى، ظنوا بأنهم مُستغنين بهذا عن الله -تبارك وتعالى-، أو أن الله ما أعطاهم هذا إلا لمحبة منه -سبحانه وتعالى- إليهم، فلذلك استغنوا، وبطروا، وعلو بهذا، وقالوا للرسل {إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ}.

ثم قال -سبحانه وتعالى- مُبيِّن ليش كفروا {وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ}[سبأ:35]، {وَقَالُوا نَحْنُ}، اللي هم المُترَفين، {نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلادًا}، من غيرنا، {وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ}، فإن الله ما أعطانا هذه الأموال وهذه الأولاد إلا لعِلم عنده أننا نستحق هذا، ومادام أننا نستحق فلا يمكن أن يُعذِّبنا، فإنه كما أعطانا في الدنيا وكما رزقنا في الدنيا فإنه لو فُرِض أن هناك آخرة فيكون حالنا نفس الحال، حالنا نفس الحال؛ سيُكرِمُنا، ويُعطينا، ويُغدِق علينا كما أعطانا في الدنيا، {وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى}، فهذا الذي صدَّهم عن الحق، وجعلهم يتشبثون ويفتخرون بما عندهم من هذه الأموال، ويردون مقالة الرسل.

لنا عودة -إن شاء الله- إلى هذه الآيات في الحلقة الآتية، استغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصل الله وسلم على عبده ورسوله محمد.