الأربعاء 03 جمادى الآخرة 1446 . 4 ديسمبر 2024

الحلقة (53) - سورة البقرة 185-186

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على عبد الله ورسوله الأمين. وعلى آلة وأصحابه، ومن اهتدى بهديه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد...

فإن خير الكلام كلام الله –تعالى-وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار وبعد ...

أيها الأخوة الكرام يقول الله -تبارك وتعالى- {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ القرآن هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:185]

يخبر -سبحانه وتعالى- أن شهر رمضان هو الشهر الذي أنزل الله -تبارك وتعالى- فيه القرآن أي ابتدأ الله -تبارك وتعالى- نزوله في هذا الشهر،  شهر رمضان أحد الشهور العربية،  وقد كان العرب في جاهليتهم يجعلون الشهور القمرية موافقة لمناخ الأرض، فيأتي رمضان في الصيف، وربيع في وقت الربيع، وجمادى في وقت الشتاء، وذلك بفعلهم للنسيء، وهو أنهم يزيدوا كل ثلاث سنوات من السنة هذه القمرية الاثني عشر شهر يزيدون شهرًا أو يسقطون شهرًا من الحساب، وبالتالي تستمر الدورة دورة الأشهر العربية مع نظام الفصول الشمسي، طبعًا بهذه الطريقة يغيرون مدار الشهور من شهر إلى شهر، فيكون رمضان مثلًا في هذه السنة بحسب التوقيت الأساسي يأتي فيكون في محله في شهر آخر كما سيأتي في قول الله -تبارك وتعالى-: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا ........}[التوبة:37]

ثم إن الله -تبارك وتعالى- بين أن عدة الشهور عنده اثني عشر شهرًا يوم خلق السموات والأرض وجعل النسيء من الكفر، وأصبحت السنة العربية -السنة القمرية- التي ربط الله -تبارك وتعالى- بها يعني كل أنواع الحساب والعبادات كما قال -تبارك وتعالى-:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} فهي مواقيت للناس، ومواقيت للحج الذي هو العبادة العظيمة من العبادات التي فرضها الله -تبارك وتعالى- على المسلمين، وهي عبادة قد فرضها الله -تبارك وتعالى- منذ إبراهيم -عليه السلام- لأن رمضان جاء من الرمضاء، والرمضاء هي شدة الحر، الأرض الذي تضربها الشمس، فتكون حارة وذلك أنه كان يحافظ على بقاء هذا الشهر في وقت الصيف، ثم أنه بنهاية النسيء أصبحت هذه الشهور تدور مع يعني السنة الشمسية دورانًا، فكل ثلاثين سنة تقريبًا يكون رمضان قد مر على كل فصول السنة، على كل حال هذه هي  الشهور عند الله -تبارك وتعالى-:{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ........}[التوبة:36] وسيأتي تفصيل هذا وشرحه في سورة التوبة إن شاء الله .

شهر رمضان هذا الشهر القمري العربي المعروف عند العرب بهذا الاسم هو الشهر الذي بدأ الله -تبارك وتعالى-فيه نزول القرآن، ابتدأ فيه نزول القرآن على النبي محمد -صلوات الله وسلامه عليه-وكان هذا في ليلة من ليالي هذا الشهر كما قال -تبارك وتعالى-: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان:3-4]

هذه الليلة هي ليلة القدر كما قال -جل وعلا-: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْر وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ ِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر:1-3]

وليلة القدر قد بين النبي -صلوات الله وسلامه عليه-أنها في العشر الأواخر من شهر رمضان، وإن كان لم يحددها -صلوات الله وسلامه عليه-ليلة بعينها، وذلك أن النبي كان قد رآها في النوم، ثم خرج ليخبر الصحابة بأن هي ليلة كذا وكذا فتلاحى رجلان من المسلمين بمعنى أنهما تسابا وتشاتما، فشغل النبي بذلك، فنسى يعني الرؤية التي كان رآها، فخرج على المسلمين وقال: إني خرجت لأخرجكم عن ليلة القدر وإنه تناحر رجلان منكم فنسيتها ولعله خير لكم. التمسوها في العشر الأواخر من شهر رمضان التمسوها في الليالي الوتر من العشر الأواخر، والليالي الوتر التي هي  واحد وعشرون، أو ثلاثة وعشرون، أو خمسة وعشرون، أو سبعة وعشرون، أو تسع وعشرون.

فالقرآن نزل في ليلة أو ابتدأ نزول القرآن في ليلة من هذه الليالي، وهي أول آيات نزلت على النبي -صلوات الله وسلامه عليه- {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ} [العلق:1-3]

هذه أول آيات أنزلها الله -تبارك وتعالى-على نبيه محمد -صلى الله عليم وسلم-في ليلة القدر، في ليلة من ليالي شهر رمضان المعظم أخبر -سبحانه وتعالى-أنه فرض الصوم في هذا الشهر بمناسبة نزول القرآن لأنه ناسب نزول القرآن في هذا الشهر، فكرمه الله -تبارك وتعالى-هذه الكرامة العظيمة بأن خصه بالصوم لكرامته بابتداء نزول القرآن الذي هو كلامه -سبحانه وتعالى-وهدايته للعالمين في هذا الشهر.

 قال -جل وعلا-مشيدا بهذا الشهر قال: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ القرآن} أنزل بالبناء لما لم يسم فاعله والذي أنزله هو الله -تبارك وتعالى-نزل به الروح الأمين، روح الله المقدس وهو جبريل على قلب النبي -صلوات الله وسلامه عليه-.

القرآن هو كلام الله -تبارك وتعالى- وهو هذا القرآن الموجود في المصاحف المنتشر في كل أقطار الدنيا المبتدأ بفاتحة الكتاب الحمد لله رب العالمين والمختتم بسورة الناس، لم يزد فيه حرف ولم ينقص منه حرف، وقد حفظه الله -تبارك وتعالى- هذا القرآن كتاب الله أخبر الله -عز وجل- واصفًا هذا القرآن قال نزل حال كونه: هُدًى لِلنَّاسِ  الهدى هنا اللي هو الهداية العامة بمعنى أنه يبين لهم، ويشرح لهم مراد الله -تبارك وتعالى- وحقيقة الدين صراطه المستقيم، فكل مؤمن وكافر ومنافق كل من له عقل يستطيع أن يعقل عن الله -تبارك وتعالى- وذلك إن هذا القرآن ميسر للذكر {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرآن لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}[القمر:17]

فهو بلسان عربي مبين ليس فيه تعقيد، ولا يعني ألغاز ولا إخفاء للمعنى بل معانيه ظاهرة، وهو بين مفصل محكم فهو هداية للناس جميعًا.

{وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} بينات البينة يعني: الأمر الظاهر البين الذي يقوم عليه الدليل والبرهان، فهو كذلك هداية للناس، وهو بينات من الهدى من الهداية والفرقان. الفرقان هو الذي يفرق بين الحق والباطل سمي القرآن فرقانًا كذلك لأنه يفرق بين الحق والباطل، جاء هذا القرآن يفرق بين الحق والباطل،  بين وصف الإله الحق الذي لا إله إلا هو وبين الآلهة الباطلة، بين الدين الذي يحبه الله ويرتضيه لعباده وبين الدين الباطل الذي يشرعه الهوى ويشرعه الشياطين على ألسنة أوليائهم، بين أهل الجنة وأهل النار، بين الخير والشر، بين الصلاح والإفساد، كل هذه الأمور يفصلها الله -تبارك وتعالى- ويفرق بينها تفريقا ببيان هذا وهذا، فأهل الهدى صفاتهم، أخلاقهم، أعمالهم، أهل الضلال صفاتهم، أخلاقهم، أعمالهم {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ}[الأنعام:55]  ففرق الله -تبارك وتعالى-فيه بين الحق والباطل تفريقا كاملًا حتى يتضح الطريق ويبين الطريق لذي عينين.

بعد هذه الإشادة بهذا الشهر شهر رمضان لنزول القرآن فيه، القرآن الموصوف بهذه الصفات العظيمة، والذي هو منة ونعمة كبرى من الله -تبارك وتعالى- على عباده، قال -جل وعلا-:{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} فمن شهد منكم الشهر الشهر المعروف هو شهر رمضان المذكور، شهد أصل شهد تأتي من المشاهدة، وتأتي المشاهدة هنا بمعنى الحضور، ومعنى شهد الشهر بمعنى أنه حضره هذا الشهر وهو مقيم في أهله غير مسافر ولا مريض، بدليل استثناء الله -تبارك وتعالى- {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ} فمن شهد منكم الشهر يعني كان هذا الشهر أتاه هذا الشهر وهو حي، موجود يعني مكلف، مقيم في أهله يعني غير مسافر، صحيح غير مريض {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} أمر لازم بالصيام، وهنا الصيام طبعا الشرعي كما بينه الله -تبارك وتعالى- وكما فصله النبي -صلوات الله وسلامه عليه- وهذه الآية هي ناسخة للتخيير السابق في الآية السابقة {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} وعرفنا أن معنى يطيقونه يعني يتجشمونه يعني يصومون بمشقة، فهؤلاء قد كان الله -تبارك وتعالى- في بدء تشريع الصوم كان قد خيرهم بين أن يصوموا وبين أن يفطروا ويفدوا يطعموا عن كل يوم أفطروه مسكينا أو مسكينين، وهنا انتهى هذا التخيير وأصبح الأمر إلزاما بأن كل من شهد الشهر فليصمه استثنى الله -تبارك وتعالى- من كان مريضًا أو على سفر قال: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ} لم يحدد هنا طبعا نوع المرض وإنما هو متروك هذا لتقوى الإنسان لله -تبارك وتعالى- ولاستطاعته هل يصوم أم لا؟ فإن كان مريضا أو على سفر على سفر مسافر وخفف عن المريض والمسافر للمشقة الحاصلة لأن المرض ممكن مع الصوم يؤخر الشفاء، ممكن يعجز الشخص عن الإتمام فيه مشقة فيه حرج والله -تبارك وتعالى- أراد رفع هذا الحرج عن الأمة -سبحانه وتعالى-، كذلك السفر لأنه قطعة من العذاب، وفيه تغيير لعادات الإنسان فإن الله خفف كذلك عن المسافر.

 قال جل وعلا-: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} عدة يعني فليصم عدد الأيام التي أفطرها من أيام أخر أي: طيلة السنة الصحيح أنه يعني أن هذا القضاء إنما هو فرض موسع، فعلى طول السنة من وقت من بعد أن يفطر الناس من شهر رمضان بعد عيد الفطر إلى أن يأتي رمضان الآخر، فهذا الوقت يباح لمن أفطر لعذر المرض أو لعذر السفر أن يعيد أو يقضي الأيام التي أفطرها، فعدة من أيام أخر أي أيام.

 قال -جل وعلا-: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} فشرع هذا التسهيل لإرادته -سبحانه وتعالى-اليسر لعباده فالله -تبارك وتعالى-يريد اليسر للمؤمنين ولا يحب أن يصعب عليهم ويعسر عليهم.

{وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} نفي يعني هذا المفهوم في يريد الله بكم اليسر جعله الله –تبارك وتعالى-ليكون منطوقًا ليكون أقوى كذلك في الدلالة والبيان، ولا يريد بكم العسر والعسر هو المشقة والمعاناة.

{وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} ولتكملوا العدة يعني فرض الله -تبارك وتعالى-على المريض والمسافر أن يقضي حتى يصبح له شهر كامل يكمل عدة الشهر، فبدلًا أن يكون قد صام عشرين يومًا وأفطر عشرة أيام لسفره، وأصبح له عشرين يوم فقط فالله -تبارك وتعالى- أعطاه هذه الفرصة ليقضي هذه الأيام، وبالتالي يكون له في الصوم شهر كامل.

{وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} تكبروا الله تكبير الله -تبارك وتعالى- شهادة بأنه الكبير العظيم -سبحانه وتعالى- الذي لا أكبر منه، فالله أكبر من كل خلقه -سبحانه وتعالى-" السموات والأرض في كف الرحمن كخردله في يد أحدكم" كما قال ابن عباس. قال جل وعلا-:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}[الزمر:67] فهو الله الكبير المتعال -سبحانه وتعالى- الذي قهر كل شيء، وذل له كل شيء، وكل شيء يعني بأمره -سبحانه وتعالى- فلا أكبر منه ولا يتعالى عليه شيء -سبحانه وتعالى-: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ}[الأنبياء:104]{إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [فاطر:41]

فالله -تبارك وتعالى- هو الرب الإله الذي لا أعظم منه، ولا أكبر منه -سبحانه وتعالى- تكبروه تشهدوا له بأنه الكبير العظيم -سبحانه وتعالى- ومن تعظيمه وإجلاله أنه شرع لكم هذا التشريع لتنالوا رحمته وتنالوا رضوانه -سبحانه وتعالى-، ويكون لكم الحظوة عنده و الزلفى لديه -سبحانه وتعالى-، وتكبروا الله على ما هداكم إلى هذا الدين وإلى هذا الصيام الذي به تعرفون ربكم -سبحانه وتعالى- وتؤمنون به وتتقوه -سبحانه وتعالى- وتجلوه وتعظموه، فاحمدوا الله وكبروه أن يعني فتح لكم الطريق إلى رضوانه -جل وعلا-، وكذلك أزال عنكم كل أنواع المشقة والعسر فيما فرضه الله -تبارك وتعالى- عليكم من العبادة ولتكبروا الله على ما هداكم إليه من الدين والهدى وهذا الصيام .

وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ لعلكم تشكرون على هذه النعم العظيمة، بأن أنعم عليكم –سبحانه وتعالى -يعني شرع لكم هذه يعني الشرعة الحسنة وهداكم إلى عبادته والدخول في مرضاته -سبحانه وتعالى-.

 ثم قال -جل وعلا-: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}[البقرة:186] لما تحنن الله -تبارك وتعالى- إلى عباده بهذا التشريع العظيم الذي شرعه لهم وهو شرعة الصوم، وما شرعه -سبحانه وتعالى- في هذه الشرعة من التخفيف عن المريض والمسافر، وما شرعه في القضاء ليتم لكل ذي عذر إكمال عدة الشهر، فيكون في النهاية كالسليم الذي أكمل الشهر فضلا من الله ونعمة، أقول لما  بين الله -تبارك وتعالى- رحمته لعباده المؤمنين على هذا النحو، وكيف اختار لهم شهر رمضان الذي هو شهر مبارك عنده، وفيه ليلة هي أعظم ليالي العام عند ذلك وجه الله -تبارك وتعالى- عباده إلى أنه ربهم القريب منهم -سبحانه وتعالى-، وأنه عند سؤال عبده -جل وعلا-.

{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} إذا سالك عبادي المؤمنون المسلمون إذا سألوا النبي عن الرب -تبارك وتعالى-كيف يدعونه؟ هل هو قريب يسمعهم فيناجوه؟ فإذا دعوه يدعونه سرًا ومناجاةً، أم هو بعيد لا يسمع دعائهم إلا رفعوا أصواتهم فيرفعون أصواتهم بالدعاء ويدعونه جهرًا؟ قال -جل وعلا-: {فَإِنِّي قَرِيبٌ} ما قال فأخبرهم بل بين -سبحانه وتعالى-أنه قريب -سبحانه وتعالى-قال: فَإِنِّي قَرِيبٌ لأن هذه حقيقة.

 أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ وقرب الله -تبارك وتعالى-من عباده قرب بينه النبي -صلى الله عليه وسلم-لما قال الصحابة: يا رسول أالله قريب فنناجيه؟ ومعنى النجوى هي الحديث سرًا أم بعيد فنناديه؟ يعني لا يسمع صوتنا فنزلت هذه {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}.

وقد سمع النبي -صلوات الله وسلامه عليه- بعض الناس يدعون وهم يدعون فيرفعون أصواتهم بالدعاء فقال: « أيها الناس اربوا على أنفسكم يعني أرفقوا بأنفسكم، فلا تقتلوا أنفسكم وتهلكوها وتتعبوها برفع الصوت حتى يسمعكم الله، اربعوا على أنفسكم فإنكم -أي ارفقوا بأنفسكم ولا تهلكوها برفع الصوت-   لا تدعون أصم ولا غائبا، إن الذي تدعونه وهو الرب الإله -سبحانه وتعالى- سميع قريب أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته» أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته بمعنى أنه قريب -سبحانه وتعالى-، فالله قريب من عباده يسمعهم -سبحانه وتعالى- ويراهم ولا يخفى عليه شيء من أمرهم -سبحانه وتعالى-.

 وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي أي كيف يدعونه فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ أجيب دعوة الداع إذا دعان هذا وصف لأن الرب -سبحانه وتعالى- عند دعاء العبد فيجيبه في وقت ما يدعوه -سبحانه وتعالى- ولا يحتاج الرب إلى أن يُرفع إليه الدعاء كما الشأن في الملوك، الذين يُرفع إليهم حاجات الناس ممن يسمعونه ممن وزرائهم، وخدامهم، وأعوانهم، فالحاجة لابد أن تكتب في معروض، وأن تأخذ دورها وترفع إلى الملك –تعالى-  الله -تبارك وتعالى- عن ذلك بل الله -تبارك وتعالى- لم يجعل واسطة بينه وبين من دعاه من عباده -سبحانه وتعالى- فإنه هو الذي يسمع دعاء الداعي وهو الذي يجيب -سبحانه وتعالى- .

أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ لا أحتاج إلى وكلاء والى أعوان يرفعون إلي حاجات خلقي بل أنا قريب منهم، سامع لهم أجيب دعوة الداعي أيُ داعٍ كل داعٍ إذا دعان إذا دعي الله -تبارك وتعالى- فإن الله يستجيب له دعوته.

 أما المؤمن فإن الله -تبارك وتعالى- يستجيب له بكل حال إذا دعا بضوابط الدعاء وآدابه التي جاءت في الحديث، وهي ألا يعجل وألا يدعو بإثم ولا قطيعة رحم، "يستجاب لأحدكم ما لم يعجل . قالوا: كيف يعجل يا رسول الله؟ يقول دعوت فدعوت ولم يستجب لي" تلك  واحدة ثم "من دعا الله بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أجابه الله -تبارك وتعالى- أو حقق الله دعائه بإحدى ثلاث إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخر له من الخير مثلها، وإما أن يدفع عنه من الشر مثلها"، فإذا دعا بدعوة عاجلة قد يعجله الله -تبارك وتعالى- إذا لم يعجلها الله -تبارك وتعالى- له ادخر له من الخير مثلها، أو دفع له من الضر مثلها، إذن لابد من إجابة الدعاء. الله أخبر بأنه لا دعوة إلا وستجيبها -سبحانه وتعالى-هذا لعبده المؤمن جاء النبي فصلها هنا.

وقد قال -تبارك وتعالى-:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} إن تدعوني استجب فكل دعاء عند الله -تبارك وتعالى- من المؤمن بهذه الشروط مستجاب، وأما الكافر فإن الله -تبارك وتعالى- يجيب دعائه في حالة الاضطرار في حالة الضرورة والاضطرار إذا كان مضطرا حتى لو كان في أمر دنيوي إن الله يستجيب دعائه -سبحانه وتعالى- كما قال -جل وعلا-:{أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإلَهٌ مَعَ اللَّهِ تعالى لله عما يشركون}  [النمل:62] فالله -سبحانه وتعالى- إذا لجأ إليه المضطر، أجابه كما قال -تبارك وتعالى- لكفار العرب: وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاه يعني ضل عنكم من كنتم تدعونهم من الآلهة يعني، والشركاء الذين زعمتم أنهم شركاء مع الله إلا الله -تبارك وتعالى- ثم قال -جل وعلا-{فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ} لما نجاكم الله واستجاب لكم دعائكم إلى البر وكنتم تستغيثون به وأنتم في لجة البحر أغثنا يا إلاهنا يا مولانا نجنا، فينجيهم الله -عز وجل- ويستجيب لهم وهم كفار ومشركون، كما يشترطون على أنفسهم بأنهم إن نجاهم الله من هذه الظلمة لا يعودون إلى الشرك به، ثم ينجيهم ثم إذا ذهبوا إلى البر رجعوا إلى الشرك مرة ثانية،  إذن قول الله أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ  فهذا عام كل من دعا الله -عز وجل- استجاب له بهذه الشروط التي جاء بيانها.

 قال جل وعلا-:{فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} فليستجيبوا لي إذن ما دام أن الرب الإله هو سامع لدعاء عباده -سبحانه وتعالى- وهو مجيب له وليس له وكلاء، ولا أعوان يرفعون إليه حاجات خلقه، ثم ينظر فيها لا بل الله -تبارك وتعالى- سامع لدعاء عباده -سبحانه وتعالى- هو الذي يجيبهم -جل وعلا- إذن -:فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي الاستجابة هنا بمعنى الإجابة فليجيبوا الرب -تبارك وتعالى- وذلك بالإيمان به -سبحانه وتعالى- تنفيذ أمره -جل وعلا- طاعة أمره فيما يأمرهم به، الانتهاء عما يناهم الله -تبارك وتعالى- عنه.

 وَلْيُؤْمِنُوا بِي الإيمان الحقيقي يؤمنوا بي بأني أنا ربهم وإلاههم ومولاهم -سبحانه وتعالى-وإني معهم حيثما كانوا، وأنه لا يخفى على شيء من أمرهم كل معاني الإيمان بالله -تبارك وتعالى-يدخل في معاني الإيمان بالله -تبارك وتعالى-.

 لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ فإن فعلوا ذلك، فهذا هو طريق التقوى وطريق الرشاد، والرشاد ضد الغي والرشاد هو التوفيق إلى الطريق الصحيح إلى صالح الأعمال، فنقول رشيد بمعنى أنه ذو عقل ولب قد رشد فسار في الطريق الصحيح، وأما الغي والغواية فهو من يسير في طريق يظنه صحيحا وليس بالصحيح، فهذا غوى بمعنى أنه ضل عن الطريق الصحيح لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ يعني لعل الله -تبارك وتعالى-يوفقهم إلى طريقه الصحيح إن آمنوا بالله -تبارك وتعالى-واستجابوا لأمره -جل وعلا-.

نقف عند هذا واصلي واسلم على عبد الله ورسوله محمد