الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده والرسول الأمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ}[سبأ:34] {وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ}[سبأ:35] {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}[سبأ:36] {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ}[سبأ:37] {وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ}[سبأ:38]، يخبر -سبحانه وتعالى- أنه ما أرسل في قرية؛ من القرى السابقة، التي أرسل الله -تبارك وتعالى- في النُذُر، {........ وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلا فِيهَا نَذِيرٌ}[فاطر:24]، ما ترك الله -تبارك وتعالى- من أمة من الأمم إلا ويُرسِل الله -تبارك وتعالى- في عاصمة هذه الأمة؛ في قريتها الأساسية نذير من عنده، وفي القرية لأن القرية هي المكان المجموع؛ الذي يجتمع فيه الناس، {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى}، وليسوا من أهل البوادي والبراري والصحاري وإنما في القرية، فالله يخبر بأنه ما أرسل في قرية من نذير، نذير؛ رسول يُنذِرهم ويخوِّفهم عقوبة الله -تبارك وتعالى-، {........ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ}[سبأ:34]، كانت هذي مقالة المُترَفين وهو أنهم يصدُّون عن هذا ويقولون إنَّا؛ بالتأكيد، بما أُرسِلتم به؛ يعني أيها الرُسل، كافرون؛ يعلمون أنه الحق ولكنهم يكفرون به، وكفرهم به معناه تغطيتهم وسترهم لهذه الآيات، وتكذيبهم بالحق الذي يعلمون أنه الحق من الله، فهو وإن كان حق من الله لكنهم لا يقبلونه، {إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ}.
{وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ}[سبأ:35]، هذا الذي صدَّهم؛ أنهم قد أُعطوا أموال كثيرة وأولاد كثيرة، وأنهم لا يمكن أن يُعذَّبوا وذلك أن الذي أعطاهم هذا سيُعطيهم مثله ويكرمهم مثله في الآخرة، لو كانت ثمَّة آخرة فإنه سيُعطون هكذا، كما يقول الكافر {وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى}، أنا ذو مال هنا وقد أعطاني الله -تبارك وتعالى- المال، لا أظن أن هناك ساعة، ولكن لو كان هناك ساعة وهناك يوم قيامة فسيكون الملِك ملِكًا والغني غنيًا؛ نفس الأمر، {........ نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ}[سبأ:35]، قال -جل وعلا- {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ ........}[سبأ:36]، يعني أن هذا الرزق الذي بين أيديكم هو رزق الله -تبارك وتعالى-، فهو الذي يبسطه؛ البسط هو التوسِعة والمد، العطاء الكثير، يبسط الرزق لمَن يشاء ويقدِر؛ يُضيِّق على مَن يشاء، فهذه تضييق الرزق وتوسِعته إنما هي لله -تبارك وتعالى-؛ فهو مُعطيها، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}، لا يعلمون أن الله -تبارك وتعالى- إنما هو فاعل هذا -سبحانه وتعالى- ومُعطيه، وكذلك لا يعلمون حِكمة الله -تبارك وتعالى- في العطاء والمنع، وفي التضييق وفي التوسِعة، وأنها ابتلاء منه واختبار -سبحانه وتعالى-، وليس لأن هذا الكافر؛ المُعاند لله -تبارك وتعالى-، المُكذِّب للرُسل، هو جدير ومُستحِق للذي يُعطيه الله -تبارك وتعالى-، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}.
ثم قال -جل وعلا- لهم {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى}، يعني ليس كونكم أصحاب أموال وأولاد تكون لكم منزِلة بهذه الأموال والأولاد عند الله -تبارك وتعالى-... لا، وما أموالكم؛ التي أعطاكم الله -عز وجل- إياها، {وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى}، بالتي تُقرِّبكم إلى الله -تبارك وتعالى-، {إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا}، إلا مَن آمن وعمِل صالحًا واستخدم هذا المال في طاعة الله -تبارك وتعالى-، يعني لا زُلفى ولا قُربى إلى الله -تبارك وتعالى- إلا بالإيمان والعمل الصالح، ومُن آتاه الله -تبارك وتعالى- مالًا فسلَّطه على هلَكَته في الحق فهذا هو الذي يتقرَّب بهذا المال عند الله -تبارك وتعالى-، ويكون له به حظوة عند الله -تبارك وتعالى-؛ أن الله أعطاه المال وسخَّره في طاعة الله -تبارك وتعالى-، {إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا}، فهذا هو الذي يُقرِّبه الله -تبارك وتعالى- إليه؛ ويُدنيه منه -سبحانه وتعالى-، {فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا}، أولئك؛ المؤمنون، الصالحون؛ الذين يعملون الصالحات، {لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا}، كل عمل يعملونه من الأمور الصالحة يُضاعِفه الله -تبارك وتعالى- لهم إلى أضعاف كثيرة لا يعلمها إلا الله -تبارك وتعالى-، الحسنة بعشرة أمثالها كما في الحديث «إن الله كتب الحسنات والسيئات، فمَن همَّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله له حسنة كاملة، فإذا عملها كتبها الله له عشر حسنات، إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة»، وفي الإنفاق يُضاعِف الله -تبارك وتعالى- الإنفاق، {مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}[البقرة:261]، {فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا}، حسناتهم تُضاعَف عند الله -تبارك وتعالى-، فهذا هو الذي استفاد بالفعل بما أعطاه الله -تبارك وتعالى- هنا.
{وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ}، وهم؛ هؤلاء المؤمنون الذي علموا الصالحات، في الغُرُفات؛ غُرُفات الجنة، غُرُفات عاليه هذه، الدنيا تُسمَّى غُرُفات لكن شتَّان بين غُرَاف الجنة وبين غُرَف هذه الدنيا، خيمة الجنة؛ يُخبِر النبي -صل الله عليه وسلم- «إن للمؤمن في الجنة خيمة طولها في السماء من الأرض التي هي عليها إلى علوها ستون ميلًا في السماء، من لؤلؤة واحدة مُجوَّفة»، دانة واحدة فقط لكن طولها ستين ميل في السماء، لا يعرف البشر لليوم أن يبنوا بناءً يصل إلى ميل في السماء فضلًا عن أن يكون ستين ميل في السماء، «للمؤمن فيها أهلون في كل ناحية منها؛ لا يرى بعضهم بعضًا»، وهذه الغُرَف يقول النبي في الغُرَف «إن في الجنة غُرَفًا يُرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها»، غُرَف شفافة، غُرَف من لؤلؤ مُجوَّف شفاف، أو غُرَف في قصور لَبِنَة من فضة ولَبِنَة من ذهب، أو قصور من ذهب خالص أو من فضة خالصة، فهذه غُرُفات مختلفة تمامًا عما يعهده الناس في الدنيا من الغُرُفات، مهما بالغوا في غُرُفات الدنيا وزيَّنوها بهذه الأصباغ وهذه الألوان لكنها تبقى غُرُفات من حجارة وطين، من أسمنت وطابوق، أين هذا من هذا؟ وأين غُرَف أهلها مُنعَمون نعيمًا لا ينقطع، لا يبتأسون، ولا يتخوَّطون، ولا يبولون، أول ما يُفكِّر في الناس في هذه الدنيا عندما يبنوا بيوتهم في أمكان المراحيض، وأماكن الاغتسال، وأماكن إزالة النجاسات، أين هذه من غُرَف الجنة؟ وهم في الغُرُفات؛ الغُرُفات التي هي الغُرُفات، هذي الغُرُفات الحقيقية، هذي القصور الحقيقية.
{آمِنُونَ}، أجمل شيء، كم في الدنيا من قصور لكن أهلها غير آمنين؛ دائمًا خائفين، خائفين من أن ينتابهم المرض، والقلق، والهم، والغم، والأحزان، وتنتابهم اللصوص، وينتابهم الأعداء، كم من ملِك في قصره لكنه لا يأمن فيه من العوادي الكثيرة التي تُحيط به؛ عوادي من كل مكان، عوادي قد تدخل إليه مخدعه، قد لا ينام إلى والحبوب المُهدِّئة في فمه حتى يستطيع أن ينام ويهدأ، فهذه تختلف؛ فالله -تبارك وتعالى- يقول هؤلاء ها دول أهل الجنة، هؤلاء أهل الجنة؛ قال -تبارك وتعالى- {فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا}، كل عمل عملوه لهم جزاء الضعف فيه؛ حتى لو كان حسنة يسيرة، {وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ}، هذا بالفعل هؤلاء هم الذين فازوا؛ وهم أهل السعادة الحقيقية، وليس هذا الكافر، المعاند، المُترَف في هذه الدنيا، الذي اغترَّ بما عنده وقال {........ نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ}[سبأ:35]، قال -جل وعلا- {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ........}[سبأ:37]، هذي القُربى، هذا هو التقرُّب الحقيقي لله، فأولئك؛ والإشارة لهم بالبعيد لإعلاء شأنهم، {فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا}، بما عملوا؛ بكل الذي يعملونه، {وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ}، غُرُفات الجنة.
{وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ}[سبأ:38]، بينما هؤلاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات في الغُرُفات؛ غُرُفات الجنة، آمنون من كل شيء، آمنون من كل ما يُخيف، بل آمنون حتى من مجرد لغو بسيط، {لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً}[الغاشية:11]، وأما هؤلاء المجرمون قال الله عنهم {وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ ........}[سبأ:38]، في الدنيا يسعون السعي؛ يعني يشتدون ويجتهدون ويركضون، في آياتنا؛ في آيات الله -عز وجل-، مُعاجزين؛ لله، يسعون في آيات الله مُعاجِزين بمعنى أنهم يُريدون إبطال دين الله -تبارك وتعالى- بكل سبيل، يُريدون أن يُعجِزوا الرب -تبارك وتعالى-؛ فيُفلِتونه، ويُعجِزونه في ألا تُبلَّغ رسالته، وألا يُنشَر دينه، وألا يَثبُت أمره، وألا تعلوا كلمته -سبحانه وتعالى-، {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}، فهؤلاء الذين سعوا يُعاجِزون في آيات الله -تبارك وتعالى- قال -جل وعلا- {أُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ}، أولئك؛ أبعدهم الله، في العذاب مُحضَرون؛ تسحبه الملائكة وتأتي به، مُحضَرون؛ سيُحضَرون ويُحشَرون ويُجمَعون ويُساقون إلى عذاب الرب -تبارك وتعالى-، والعذاب وين؟ في العذاب؛ بالألف واللام الذي هو العذاب، إذا كان هناك ما ينبغي أن يُسمَّى عذاب؛ فهذا العذاب، وشتَّان بين هذا العذاب بالألف واللام؛ إما العذاب بالألف واللام الاستغراقية، أنه العذاب المجموع فيه كل ألوان العذاب؛ عذاب الآخرة، وإما بالألف واللام العهدية؛ العذاب المعهود الذي أخبرنا الله -تبارك وتعالى- عنه، اللي هو نار تشتعل؛ وقودها الناس والحجارة، وشراب من زقُّوم، وماء حميم، ومقامع ومقارع من حديد، وتبكيت، وضرب، ودفع، كلها هذا العذاب المعهود الذي أخبر الله -تبارك وتعالى- عنه، مُحضَرون؛ يُحضَرون إليه ويُساقون، ولا يفوتون؛ لا أحد منهم يُفلِت، {وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ}[سبأ:38]، وهنا شتَّان، وهنا الله -تبارك وتعالى- وضع لنا الصورتين أمامنا؛ فهؤلاء أهل الإيمان في الغُرُفات العالية، والنبي يقول «إن أهل الجنة يترائون الغُرَف في مَن فوقهم كما تترائون النجم البعيد؛ الغابر في السماء، لبُعد ما بين الدرجتين»، لبُعد ما بين الدرجيتين، فبُعد ما بين الدرجة ودرجة كما البُعد ما بيننا نحن وبين أبعد كوكب إلينا؛ نراه ضعيف الضوء من بُعده عنا، فهؤلاء في الغُرُفات آمنون، الغُرُفات؛ غُرُفات الجنة التي هذا وصفها، وهؤلاء في العذاب مُحضَرون، شتَّان؛ يعني بَعُدَ بين هذا وهذا، بعيد بين هؤلاء وهؤلاء.
ثم أكَّد الله -تبارك وتعالى- هذا المعنى لهم؛ معنى أن الله -تبارك وتعالى- هو الذي يُعطيهم ما أعطاهم في هذه الدنيا، {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ ........}[سبأ:39]، {قُلْ إِنَّ رَبِّي}، ربي -سبحانه وتعالى- الذي أرسلني، وهذا معناه أنه هو الذي أرسله وهو الذي أنزَل عليه هذا الكلام، {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ}، وكل الخلْق عباده -سبحانه وتعالى-، {وَيَقْدِرُ لَهُ}، يعني حتى البسط هذا ليس هكذا وإنما هو بمقدار عنده -سبحانه وتعالى-؛ بالفَلس، بكل شيء، بقطرة ماء زائدة، بلقمة زائدة، هذي كلها مُقدَّرة عند الله -تبارك وتعالى-؛ فإن الإنسان يُكتب رِزقه من عند الولادة، كما جاء في الحديث «إذا مرَّ على النُطفة أربعون يومًا أتاها ملَك؛ فقال أي ربي ما رِزقه؟ ما أجله؟ ما عمله؟ أشقي أم سعيد؟ ذكر أم أُنثى؟»، فيُكتب رِزقه كم سيُرزَق في هذه الحياة الدنيا بالذرَّة؛ بمثقال الذرَّة، كم سيُرزَق فيها؛ من الماء الذي يشرب، من الطعام الذي يأكل، من اللباس الذي يلبَس، من المتاع الذي يتمتع، فرِزقه محسوب {وَيَقْدِرُ لَهُ}، فالله -تبارك وتعالى- قد قدَّر لكل أحدٍ؛ حتى من هؤلاء من الذين أوسع الله -تبارك وتعالى- عليهم، قدَّر لهم أقواتهم -سبحانه وتعالى- وأرزاقهم -سبحانه وتعالى-.
{قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}[سبأ:39]، فهذا حسرة عليه؛ هذا الكافر الذي طغى بمال الله -تبارك وتعالى-، وسعى بهذا المال يُعاجِز ربه -سبحانه وتعالى-؛ هذا حسرة وندامة عليه، وأما الذي أوسع الله -تبارك وتعالى- في ماله وأعطاه وأنفق في سبيل الله فهذا {وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ}، من شيء في سبيل الله، انظر الفرق بين هذا وهذا؛ ذاك حسرة ماله عليه، وهذا المؤمن ما يُنفق من شيء إلا ويُخلِفه في الدنيا، والله -تبارك وتعالى- هو خير الرازقين، وهذا قول الله {فَهُوَ يُخْلِفُهُ}، هو؛ الله، ويُخلِفه هنا بالفعل المضارع؛ أن هذا إخبار لابد أن يكون وواقع، جملة واقعة؛ هو يُخلِفه، وقد أقسَم النبي على هذا -صلوات الله والسلام عليه- قال «ثلاثة أُقسِم عليهن؛ ما أنفق عبد نفقة إلا وأخلَفَه الله -تبارك وتعالى-»، لابد يُخلَف، لابد الله -تبارك وتعالى-؛ يُخبِر الله -تبارك وتعالى- بأنه سيُخلِفه في هذه الدنيا، هذا قبل الآخرة ثم عطاؤه الجزيل عند الله -تبارك وتعالى- عطاء؛ فهذا الذي له جزاء الضِعف بما عملوا، {وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}، -سبحانه وتعالى- هو خير الرازقين؛ خير مَن يرزق، والرزق؛ كل ما يُستفاد به، كل عطاء ينتفع به العبد في الدنيا فهو رزق من الله -تبارك وتعالى-، {وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}، ثم بعد أن بيَّن الله -تبارك وتعالى- أن الأغنياء الذين طغوا بغناهم هم أول الناس كُفر بالله -تبارك وتعالى-، وبيَّن لِما كان كفرهم هذا وطغيانهم بما أعطاهم الله -تبارك وتعالى-، وردَّ الله -تبارك وتعالى- مقالتهم هذا الرد الذي يدمغ الباطل دمغ ويوجِّه إلى الحق، وهذه خصائص القرآن الكريم؛ أنه دمغٌ للباطل، وتوجيه هؤلاء الناس كذلك؛ خطاب رحمة لهم يوجِّههم إلى الله -تبارك وتعالى-، كقوله -تبارك وتعالى- {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}[سبأ:39].
ثم في ختام هذه السورة بيَّن الله -تبارك وتعالى- أن هؤلاء ما تعلقوا به من أمر؛ ضائع، والذي تعلقوا به هو شفاعة الملائكة عند الله -تبارك وتعالى-، ثم يُخبِرهم الله -تبارك وتعالى- بأنه تعلق بأمرٍ ضائع؛ مال له حقيقة، قال -جل وعلا- {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ}[سبأ:40] {قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ}[سبأ:41]، {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا}، يوم القيامة، يحشرهم؛ يجمعهم، الله -تبارك وتعالى- يجمعهم كلهم، {ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ}، يقول الله -تبارك وتعالى- لملائكته؛ الذين زعم الكفار أنهم بنات الله، وأنهم لهم شفاعة ولهم وجاهة عند الله -تبارك وتعالى-، وأنهم يعبدونهم ليشفعوا لهم عند الله، وكان الكفار لا يؤمنون بالبعث ولكن يستشفعون بالملائكة في سبيل أن يُعطيهم الله في الدنيا، فكان همهم من عبادتهم ومن دعائهم الملائكة بل من دعائهم ربهم -سبحانه وتعالى- أن يُعطيهم في الدنيا، {........ فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ}[البقرة:200]، يحُجون؛ يقومون بما يقومون به من الطاعات، ولكنهم همه فقط الدنيا، لأنهم لا أمل لهم ولا إيمان لهم بالآخرة، ففي يوم القيامة الله يجمعهم كلهم، ويقول للملائكة أهؤلاء؛ يعني المشركين، الإشارة هنا إلى هؤلاء المشركين المُكذِّبين؛ الذي زعموا أنهم عَبَدوا الملائكة قُربى وتقرُّب إلى الله -تبارك وتعالى-، وكانوا يهتفون بأسمائهم في الحج، فيقولون لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إلا شريكًا تملِكه وما ملَك، أنت لك شريك واحد فقط؛ وهم ملائكتك، ملائكتك اللي هم بناتك، تعالى الله عن ذلك، تملِكه أنت وما ملَك، ويقولون {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}، فالله يقول لهم {أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ}، أهؤلاء؛ الكفار، إياكم؛ أنتم الملائكة، كانوا يعبدون؛ كانوا يعبدونكم.
قالوا؛ أي الملائكة، {سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ}، سبحانك؛ تنزيهًا لك أن يكون لك ولد، أن يشفع عندك شافع إلا بإذنك، أن نأمرهم بعبادتنا، أن نرضى أن يعبدونا من دونك، قالوا سبحانك؛ تنزيهًا لك يا ربي عن الشبيه، وعن الشريك، وعن الولد، وعن الند، وعن ما يقول هؤلاء المجرمون الكفار؛ علوًا كبيرًا، {سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ}، أنت وليُّنا؛ ربنا الذي نواليك، ونعبدك، ونحبك، ونُقدِّس لك، ونُسبِّح لك، من دونهم؛ ليس بيننا وبينهم حب ولا مودة، هؤلاء كفار مشركون، {أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ}، لم تكون ولاية منَّا ولا محبة منَّا لهم، ولا استجابة منَّا إلى طلبهم ودعائهم، {أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ}، بل حقيقة أمرهم أنهم كانوا يعبدون الجن، {أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ}، فهذه حقيقة عبادة الكفار؛ أنهم كانوا يعبدون الجن، وكانت الجن تتمثَّل لهم وتُخاطِبهم من داخل الأصنام، وكانوا يستغيثون بهم، وكان المشرك العربي إذا نزَل بوادي فيستعيذ ويقول أعوذ بسيد هذا الوادي من الجن؛ من صغار قومه، فيستعيذ بالسيد الكبير؛ سيد الجن الذي يرى أنه مُقيم في هذا المكان وفي هذا الوادي، من صِغار قومه من الجن الصغير؛ من العفاريت الصغار الذين ممكن يضرُّوه، كما قال -تبارك وتعالى- {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا}[الجن:1] {يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا}[الجن:2] {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا}[الجن:3] {وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا}[الجن:4] {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا}[الجن:5] {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا}[الجن:6]، فكان هؤلاء الإنس يعوذون بالجن، قال -تبارك وتعالى- فزادوهم رَهَقًا؛ زادوهم تعبًا ورَهَقًا بما يتلبسون بهم وبما يُخيفونهم، كان العربي إذا نزل بوادٍ من هذه الأودية يقول أعوذ بسيد هذا الوادي من الجن من صغار قومه، فكانوا يعبدون الجن؛ استغاثة بهم، واستعاذة بهم، ودعاء لهم، ودعاء للأصنام؛ يدعون الأصنام ويُخاطِبهم هؤلاء من جوف هذه الأصنام، كالعُزَّى؛ فإن العُزَّى قيل أنها كانت جِنيَّة تعيش في هذا البيت الذي بنوه لها في الطائف، وكانوا يقولون مَن عَبَدَ العُزَّى اعتز، فإذن كانت عبادتهم إنما هي للجن وليس للملائكة، الملائكة عباد الله -تبارك وتعالى-؛ موحِّدون، مؤمنون، لا يطلبون من أحدٍ أن يعبدهم، ولا يرضون أن يعبدهم أحد من دون الله -تبارك وتعالى-، بل هم مُتبرئون منه في الدنيا ويتبرأون منه يوم القيامة.
وهذا كشأن عباد الله -تبارك وتعالى- الصالحين؛ فإنه يتبرأون ممَن زعموا أنهم يعبدونهم، كعيسى ابن مريم -عليه السلام- الذي يقول الله -تبارك وتعالى- له {........ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ}[المائدة:116] {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}[المائدة:117] {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[المائدة:118]، وكذلك سائر أولياء الله -تبارك وتعالى- وعباده الصالحين، وقد قال الله -تبارك وتعالى- فيهم {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ}[الأحقاف:5] {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ}[الأحقاف:6]، إذا حُشِرَ الناس كانوا هؤلاء الموتى الذي دُعوا من دون الله -تبارك وتعالى- أعداءً لمَن دعاهم؛ وكانوا بعبادتهم كافرين، إذن الملائكة يتبرأون من هؤلاء الذي زعموا أنهم يعبدونهم، قالوا؛ أي الملائكة، سبحانك؛ تنزيهًا لك يا رب، {أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ}، بل كانت عبادتهم الحقيقية للجن، {أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ}، مؤمنون هنا؛ مُصدِّقون، وعاملون بأنهم آلهة بالفعل، وساعون في الطلب منهم، وفي الخوف منهم، وفي الاستعاذة بهم، فهم مؤمنون بهم على هذا النحو، ليس فقط مُصدِّقون بالجن، فإن الجن حق؛ حقيقة، لكن إيمان المؤمن بالجن أن منهم كفار ومنهم مجرمون، فرأس الكفر فيهم إبليس هو وزبانيته؛ فهم يكفرون بكفرهم، والذين آمنوا بهم هم يرون أنهم إخوانهم في الدين وإخوانهم في الإيمان، أما هؤلاء فإنهم مع كفر الجن وخبثهم غلا أنهم مؤمنون بهم، ومُطيعون لهم في معصية الله -تبارك وتعالى-، بما يأمرونهم بمعصية الله -تبارك وتعالى- ويزينون لهم الشر فهم مُطيعون لهم؛ سائرون في رِكابهم، {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا}[مريم:83]، تُحرِّكهم تحريكًا إلى المعاصي، فهم موالون لهم؛ إما بالطاعة، وإما موالون لهم كذلك بالعبادة، فالملائكة تتبرأ منهم ويقولون {........ سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ}[سبأ:41].
قال -جل وعلا- {فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلا ضَرًّا}، فاليوم؛ هذا يوم القيامة، {........ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ}[سبأ:42]، لا يملك بعضهم لبعض؛ أيها الكفار المجرمون، يا مَن تملائتم وتعاضدتم على الباطل، رؤساء ومرؤوسين، جن وإنس من الكفار؛ الذي كفروا بالله -تبارك وتعالى-، لا يستطيع أحد منكم أن ينفع الأخر، {فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ........}[سبأ:42]، ظلموا؛ بالكفر، والعناد، والبُعد عن طريق الله -تبارك وتعالى-، ذوقوا عذاب النار؛ قاسوا حرَّها، ذوقوها بكل ألوان الذوق؛ ذوق احتراق، ذوق على القلب؛ تطَّلِع على الأفئدة، ذوق في ما يشرونه من الحميم، ويُسقَونَه من الحميم، ويتجرعونه من الغُصص، ذوقوه بكل أنواع الذوق؛ ليس ذوق لسان وإنما ذوق كيان، كل كيانهم يذوق العذاب ذوقًا -عياذًا بالله-، {ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ}، هذه النار المشتعلة الآن والتي على كل ذرَّة من أجسادهم، هذه التي كنتم بها تُكذِّبون، وتقولون لا بعث، لا نشور، لا قيامة، لا نار، لا جنة، كانوا يُكذِّبون بهذا ويقولون كما قال مُجرمهم الكبير فرعون هذه الأمة؛ أبو جهل، الزَّقوم الذي يُخيفكم به محمد إنه تمر يثرب بالزُبد؛ هذا الزَّقوم، فهذه النار التي كنتم بها تُكذِّبون؛ عذابها هذا هو، هذا هو قد أصبح اليوم واقعًا لا تستطيعون دفعه ولا إنكاره، {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ}[الطور:15] {اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}[الطور:16].
نقف هنا، والحمد لله رب العالمين.