الجمعة 21 جمادى الأولى 1446 . 22 نوفمبر 2024

الحلقة (533) - سورة فاطر 5-10

{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الفاتحة:2] {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}[الفاتحة:3] {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}[الفاتحة:4]، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ}[فاطر:5] {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ}[فاطر:6] {الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ}[فاطر:7] {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ}[فاطر:8] {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ}[فاطر:9]، هذه الآيات من سورة فاطر؛ من مواعظ القرآن العظيمة البليغة، ينادي الله -تبارك وتعالى- فيها عباده قائلًا -سبحانه وتعالى- {يَا أَيُّهَا النَّاسُ}، نداء منه إلى الناس جميعًا؛ الذين أُنزِل لهم هذا القرآن، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ}، خطاب من الله -تبارك وتعالى- إلى الناس كلهم، {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ}، تذكير منه بأن وعْدَه -سبحانه وتعالى- لعباده حق، وعْدَه -سبحانه وتعالى- بقيام يوم يقفون فيه بين يديه؛ ليجزي الله -سبحانه وتعالى- كل نفس ما كسبت، فأهل الصلاح والإيمان إلى الجنة،  وأهل الكفر والعصيان إلى النار، فهذا الموعود الذي وعَدَه الله -تبارك وتعالى- عباده حق، والله نسَب هذا الوعْد إليه فقال {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ}، والله لا يمكن أن يُخلِف وعْدَه -سبحانه وتعالى- حق، قال {فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا}، لا تلهيكم، التغرير هو أن يتلهَّى الإنسان بالحقير عن الأمر العظيم، وأن يُكذَب عليه فيظن أن ما ليس له نفع نافعًا، والدنيا غرَّارة وذلك أنها متاع قليل، وإذا تلهَّى الإنسان بها وترك ما ورائها من الجنة والخلود يبقى خسِر الخُسران المبين، أو تلهَّى ورجع إليها وجعلها همَّه وكان وراء ذلك النار يبقى قد غُرَّ به، كُذِبَ عليه أكبر كذبة تصير، وقد تلهَّى بالحقير عن الأمر الخطير، {فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا}، الدنيا؛ الدنيئة، والدنيا هذه القريبة، {وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ}، احذروا الشيطان، احذروا الشيطان فإنه غرور، يغرِّركم؛ يخليكم تتلهوا عن الله، أو يُغرِّركم بأن يوم القيامة هذا لن يأتي؛ أو إذا أتى إيش يكون؟ سيكون أهل الغِنى هم أهل الغِنى والثراء هناك، كذلك من مقالات الشيطان الكاذبة الفاجرة؛ التي يُضلِّل بها أصحابه، ويُزيِّن لهم بها الباطل، ويُزيِّن لهم الكفر، ويُبعِدهم عن طريق الإيمان، {وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ}.

{إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ}، تحذير من الله -تبارك وتعالى- إلى عباده؛ والذي صدَّره الله بـ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ}، اعلموا هذا؛ {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ}، عداوة بيِّنة من البداية؛ من بدء الأب آدم -عليه السلام-، فإنه قد عاداه وعمل على إخراجه مما هو فيه؛ في الجنة، والله -تبارك وتعالى- حذَّر آدم منه، قال {إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ}، ما كان لهم ذُريَّة عند هذا؛ لسة ما كان فيه ذُريَّة، {فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى}، لا يُخرِجنَّكما من الجنة فتشقى الشقوة التي هي شِقوة الحياة الدنيا، لأن الجنة متاع بلا كُلفة؛ ما في أي كُلفة على الإنسان، {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى}[طه:118] {وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى}[طه:119]، فالشيطان عدو؛ بدأ العداوة من هناك، ثم نزَل بعداوته إلى الأرض، وقال لله -تبارك وتعالى- {........ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا}[الإسراء:62]، وقال {........ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ}[ص:82] {إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ}[ص:83]، وقال {........ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ}[الحجر:39] {إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ}[الحجر:40]، وقال {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ}[الأعراف:17]، فعدو مجرم وقف وجعل همَّه في الحياة كلها هو عداوة هذا الإنسان وأن يأخذه إلى النار؛ وأن هذه مهمته الأساسية، وطلب من الله -تبارك وتعالى- ألا يُمِته ليوم البعث حتى يتفرَّغ لهذا الأمر، وتكون هذه خلاص؛ تفرُّغ له، {قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}[الحجر:36] {قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ}[الحجر:37] {إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ}[الحجر:38]، {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ}[ص:82] {إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ}[ص:83].

فهذا عدو بيِّن العداوة، يبدأ عداوته للإنسان منذ الولادة؛ فمنذ ما يولد الإنسان يطعنه في بطنه، كما قال النبي -صل الله عليه وسلم- «ما من مولود إلا ويخمِصه الشيطان بإصبعه في بطنه»، بداية العداوة هذا، إلا مريم وابنها لأن أم مريم قالت {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}، فربنا -سبحانه وتعالى- جعلهم في صيانة من الشيطان في هذا، لكن الشيطان بالنسبة لكل إنسان يبدأ عداوته من هنا من البداية؛ وهو طفل صغير، ثم يستمر يُعاديه إلى أن يُغرغر؛ إلى روحه، إلى عند روحه فيكون موجود، ويظل يوسوس كل هذا وهو جاثم على قلب ابن آدم؛ إذا غفل الإنسان وسوس، وإذا ذكَرَ الله -تبارك وتعالى- خنَث، هذا عدو لا يُريد إلا أنه يُدخِل الإنسان ورائه النار، عرف أنه سيذهب إلى النار فيُريد أن يجُر معه أكبر عدد من الناس؛ يُورِدهم معه النار، فالله يُحذِّر العباد ويقول لهم هذا عدوكم، {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا}، هذا مُقتضى العقل والحِكمة، إذا عرفت أنه هذا عدوا والله يقول لك ذلك إذن خلاص؛ اجعله عدو، اجعله عدوك؛ وعدوك الأول الذي تُعاديه، ومعنى ذلك جعلته عدو؛ لا تُطيعه، لا تسير خلفه، ابتعد عن طريقه، الجأ إلى مَن يحميك منه؛ ولا يحميك منه إلى الله -تبارك وتعالى-، لا ملجأ من هذا الشيطان ولا عِصمة منه إلا بالاعتصام بالله -تبارك وتعالى-؛ لأنه عدو مُدرَّب، واسِع الخِبرة، قديم العهد، ما هو سهل أن الإنسان يتغلَّب عليه بنفسه؛ ما في سبيل، ثم هو يجري منه مجرى الدم، كما قال النبي -صل الله عليه وسلم- «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم»، يسري في كل أماكنه؛ وفي قلبه الذي هو مركز القرار، الشيطان جاثم على هذا القلب، فلا عِصمة من الشيطان إلا بالله -سبحانه وتعالى-، ولذلك أُمِرنا أن نستعيذ بالله منه، ما في أحد يعصِم من هذا العدو إلا الله -تبارك وتعالى-.

{إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ}، الشيطان يرى الإنسان؛ ويدخله، ويخرج منه، ويوسوس له، ويتسلَّط عليه يقظانًا ونائم، والإنسان سواء كان في حالة يقظة أو في حالة نوم قاعد له، وعند النوم يقول النبي -صل الله عليه وسلم- «يعقِد الشيطان على قافية ابن آدم ثلاث عُقَد، وفي كل عُقدَة يقول عليك ليل طويل فارقد، فإذا قام الإنسان من نومه ذكَرَ الله إنحلَّت عُقدَة، فإذا توضَّأ إنحلَّت عُقدَة، فإذا صلَّى إنحلَّت عُقَده كلها فيصبح طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان؛ إذا نام وأصبح وعُقَد الشيطان عليه»، «وذُكِرَ للنبي -صل الله عليه وسلم- رجل نام من الليل حتى أصبح، فقال ذاك رجل بال الشيطان في أُذنيه»، فالشيطان مجرم وجالس للإنسان؛ ولا يفْتَّك من هذا الإنسان في شيء، ويأتي إلى المؤمن عند كل طاعة؛ يُخذِّله، ويُزيِّن له كل معصية، أساليبه في الإضلال تفوق الوصف، فالله يُحذِّر العباد من هذا العدو، ويقول لهم -سبحانه وتعالى- {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ}، إذن {فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا}، خلِّيه عدو لك، ما دام أنك أُخبِرت أن هذا عدوك إذن اتخذه عدو، ثم قال -جل وعلا- {........ إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ}[فاطر:6]، هذه دعوته، {إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ}، حِزبه؛ جماعته، طبعًا حِزبه هم الذي يوالوه، {........ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ}[المجادلة:19]، فحِزبه؛ كل من يواليه ويكون معه هذا حِزبه، وين يوديهم؟ {لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ}، أصحاب السعير؛ النار المشتعلة، ويوم ما يُصبحوا في أصحاب السعير ويكتشفوا الحقيقة تُصبِح مُتأخرة بقى هنا؛ يُصبح هذا اكتشاف متأخر، يلوموه، يلعنوه، ويا ابن؛ يسبُّونه كل سب، يقول لهم بس؛ لا تلوموني.

قال -جل وعلا- {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ}، يقول لأتباعه؛ لهذا الحِزب الذي اتَّبَعه، {........ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[إبراهيم:22]، انظر هذه الخُطبة المُدمِّرة المؤلِمة، خُطبة الشيطان وهو في النار؛ يُدمِّر الذين اتَّبَعوه، يُفتِّت قلوبهم، ويُبيِّن لهم أنهم هم المجرمون، وأنهم لا ينبغي أن يلوموه في هذا، وأن فعله معهم في الدنيا إنما كان فقط دعوة، وما كان له سلطان؛ ما كان له قوة قاهرة، قهرهم وأخرجهم عن طريق الرب؛ من الهُدى إلى الضلال، وإنما فقط مجرَّد دعوة؛ قال {أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي}، أنت المجرم وليس أنا، فهذا أمر فظيع جدًا، فهذا الشيطان أمره فظيع؛ هائل جدًا، والله -تبارك وتعالى- يُحذِّر العباد منه ويقول {........ إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ}[فاطر:6]، وأصحاب السعير؛ الصُحبة وذلك أنهم مُلازِمون لها لزوم الصاحب لصاحبه، ما في خروج؛ لا خروج باقيًا، أو أصحابها؛ مُلَّاكها، يملكوها خلاص؛ أصبحت هذه دارهم، ومأواهم، ومصيرهم، السعير؛ النار التي لا يخرجون منها -عياذًا بالله-.

{الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ}، هذا بيان وعْد الله -تبارك وتعالى-؛ وأن هذا الذي عنده، {الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ}[فاطر:7]، هذا موعود الله -تبارك وتعالى-، وبدأ بجزاء الكفار قبل جزاء المؤمنين لأن المقام مقام تحذير، فقال {الَّذِينَ كَفَرُوا}، وهم الذين عرفوا الإيمان ولكن جحدوه وردُّوه؛ فهذا هو الكفر، {لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ}، عند الله -تبارك وتعالى-، عذاب النار وما فيها من الأهوال وصنوف العذاب؛ بكل ألوان العذاب التي ذُكِرَت والتي لم تُذكَر، كما قال -تبارك وتعالى- {هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ}[ص:57] {وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ}[ص:58]، أخر من الأشربة؛ من شكل هذه الأشربة، أزواج؛ أنواع، {الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ........}[فاطر:7]، ذكَرَ الله -تبارك وتعالى- هنا أهل الإيمان مع العمل الصالح؛ وهذا كله في القرآن على هذا النحو، لا يذكر الله -تبارك وتعالى- الجنة مُرتِبًا لها إلا بالإيمان والعمل الصالح، والذي آمنوا؛ صدَّقوا، وعملوا بمُقتضى هذا التصديق، وعملوا الصالحات؛ الأعمال الصالحة، {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ}، لذنوبهم، الذنوب التي أذنبوها مادام أنهم من أهل الإيمان والعمل الصالح فإن الله -تبارك وتعالى- يغفرها؛ يمحوها -سبحانه وتعالى- ولا يفضحهم بها، {وَأَجْرٌ كَبِيرٌ}، أجر عند الله؛ ثواب وجزاء لعملهم، كبير؛ وذلك ما أكبر من الجنة، الجنة التي موضِع سوط أحدكم فيها خير من الدنيا وما فيها، والتي نصيف المرأة فيها؛ قال النبي «ولا نصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها»، فأجر كبير وهو أجر الجنة.

ثم ضرَب الله -تبارك وتعالى- هنا مُقارنة بين المُهتدي وبين الضال، قال {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا}، ومُقابِله مسكوت عنه لأنه معلوم؛ يعني كمَن اهتدى إلى الصراط المستقيم، {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ}، زُيِّن؛ جُمِّل، الزينة هي التجميل، والذي يُزيَّن هنا سوء عمله؛ عمله السيِّء يُزيَّن له فيراه حسَن، هذا الكافر قد أصبح في ذهنه وفي عقله عمله القبيح؛ من الكفر، والشرك، والمعاصي، هذا هو عنده شيء حسَن وشيء طيب، هذا عنده أصبح هو الهُدى، وهو الضياء، وهو النور، وهو الذي على الصراط المستقيم، وهو الذي يفهم الحياة حق الفهم من إغواء الشيطان؛ فهذا حال الكافر، {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا}، عمله السيِّء؛ من الكفر، والشرك، والبُعد عن الله فرآه حسنًا، يعني هل هذا مثل مَن هداه الله -تبارك وتعالى-؛ وبيَّن له طريق الإيمان، وسلك هذا الطريق، هل هذا مثل هذا؟ بعيد هذا عن هذا، {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ........}[فاطر:8]، أرجَع الله -تبارك وتعالى- أمر العباد إليه -سبحانه وتعالى-، وأن الله يُضِل مَن يشاء من الخلْق، وطبعًا يُضِلهم بمُقتضى حِكمته وعدله -سبحانه وتعالى-، لأنه ضال؛ لأنه مُنصرِف عن طريق الرب -تبارك وتعالى-، {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ}، {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى}[الليل:5] {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى}[الليل:6] {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى}[الليل:7] {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى}[الليل:8] {وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى}[الليل:9] {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى}[الليل:10]، فهذه عقوبة له من الله -تبارك وتعالى-، {فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}، الهُدى والضلال بيده -سبحانه وتعالى-، فالذي يضِل فإنه يضِل بمشيئته -سبحانه وتعالى-، والذي يُهدى فإنه يُهدى كذلك بأمر الله -تبارك وتعالى-؛ ومشيئته -سبحانه وتعالى-، وله مشيئته -سبحانه وتعالى- النافذة في العباد، {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا}[الإنسان:29] {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا}[الإنسان:30] {يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}[الإنسان:31].

{فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}، قال -جل وعلا- {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ}، تطمين للنبي -صل الله عليه وسلم-، وتهدئة لروعِه، وتخفيف عنه -صل الله عليه وسلم-، وقد كان النبي يتحسَّر الحسرات الكثيرة ويكاد يقتله تحسُّره -صلوات الله والسلام عليه-، {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ}، يعني حسرة، مع حسرة، مع حسرة ...، فهذي تقتل النبي -صل الله عليه وسلم-، كما قال له الله -تبارك وتعالى- {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}[الشعراء:3]، وقال {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا}[الكهف:6]، باخع نفسك؛ قاتل نفسك، أسفًا؛ لأن الأسف يقتل الإنسان، فالكمَد، والحُزن الدائم، والتأسُّف الدائم، فإنه هذا قتل؛ هذا أمر يقتل الإنسان، فالله -تبارك وتعالى- يقول له هوِّن عليك، إنما كفرهم هو بمشيئة الله -تبارك وتعالى-؛ وأن الله -تبارك وتعالى- قد شاء هذا، {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ}، لا تذهب نفسك؛ لا تقتل نفسك، فتذهب حسرة إثر حسرة، إثر حسرة، إثر حسرة ...، فتموت من هذا، {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ}، اعلم أن الله عليم -سبحانه وتعالى- بما يصنعون، والصنع هو أدق العمل، يعني عملهم الدقيق والمُتقَن الله عليم به -سبحانه وتعالى-، إذن هو يعلم كل أعمالهم -سبحانه وتعالى-، {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ}، من الكفر، من العناد، من الشرك، من كل عملهم، الله عليم به وسيُحاسِبهم عليه -سبحانه وتعالى-.

ثم شرَعَ الله -تبارك وتعالى- بعد ذلك يُبيِّن لعباده أنه هو رازقهم وهو رازِقهم -سبحانه وتعالى-؛ وهو مُجري هذا الأمر، ويُبيِّن آية من آياته -سبحانه وتعالى- من الخلْق؛ الدالة على أنه القادر -سبحانه وتعالى- على أن يُعيدهم مرة ثانية، وقد كانت العرب تستبعِد هذا كل الاستبعاد؛ تستبعِد أن يُعيد الله -تبارك وتعالى- الخلْق مرة ثانية، قال -جل وعلا- {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ}[فاطر:9]، والله؛ ليس غيره -سبحانه وتعالى-، الله رب السماوات والأرض -سبحانه وتعالى-، {الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ}، أرسلها -سبحانه وتعالى-؛ بعثها، الرياح هي جريان الهواء، {فَتُثِيرُ سَحَابًا}، تُثيره بمعنى أنها تُحرِّكه وترفعه، تُثير السحاب، {فَسُقْنَاهُ}، سُقنا هذا السحاب، {إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ}، أرض ميتة؛ جلدَة، جافة، فيها قحط، {فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا}، يعني أنزل الله -تبارك وتعالى- عليها المطر من هذا السحاب فإذا بهذا البلد؛ الأرض الميتة هذه تنتعش، التربة تربوا وتُخرِج من كل زوج بهيج، كما قال -تبارك وتعالى- {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[فصلت:39]، فسقناه؛ سُقنا هذا السحاب، {إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا}، بعد أن كانت الأرض ميتة؛ جلدَة، جافة، خاشعة، متماسكة ذرَّاتها بعضها مع بعض، إذا بها يكون في الأرض حياة؛ الأرض تحيى، وتبدأ هذه التربة تهتز وتربوا، ثم بعد ذلك يُخرِج الله -تبارك وتعالى- منها هذا الزرع الحي بهذه النضارة؛ وبهذا التفنُّن، وبهذه الكثرة من كل أنواع الثمار والزهور، {فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا}، قال -جل وعلا- {كَذَلِكَ النُّشُورُ}، مثل ما أحيا الله -تبارك وتعالى- هذه الأرض في نفسها؛ وأحياها بالنبات، فكذلك النشور؛ يعني الخلْق الجديد، نشر الناس؛ إعادة خلْقِهم مرة ثانية، بعد أن كانوا رميم وفي الأرض ينشرهم الله -تبارك وتعالى-؛ يُحييهم مرة ثانية، فالذي غيَّر هذا من الضِد إلى الضِد؛ من موت الأرض إلى حياتها، كذلك يفعل هذا بأن يُحيي موتى الناس؛ فيُحييهم مرة ثانية يوم القيامة، فهذا دليل وآية ينظرها العباد واضحة؛ وتُضرَب لهؤلاء الذين استبعدوا أن يُحيي الله -تبارك وتعالى- الخلْق مرة ثانية.

ثم بعد ذلك توجيه العباد إلى أعظم الأمور، قال -جل وعلا- {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ}[فاطر:10]، مُقابَلة بين أمرين؛ حالين من حال العباد، العباد يا مُهتدي يا ضال؛ يا مؤمن يا مجرم، واحد من الاثنين، الله يقول {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ}، الغَلَبة والعلو والرِفعة، {فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا}، العِزَّة كلها لله -سبحانه وتعالى-؛ وهو الذي يُعطيها -سبحانه وتعالى-، {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}، {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ}، الغَلَبة والرِفعة، {فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا}، الله -تبارك وتعالى- هو الذي له هذه العِزَّة؛ لأنها رحمة وإنعام من الله -تبارك وتعالى-، هو الذي يملِكها جميعًا، ولا يعتز أحد إلا به -سبحانه وتعالى-، ومنه -جل وعلا-، {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[آل عمران:26]، فالله يقول لمَن يُريد العِزَّة؛ الله هو مالِك العِزَّة كلها، سواء كانت هذه العِزَّة مال، جاه، نفع بأي نفع، كله عند الله -تبارك وتعالى-، {فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا}، ثم بيَّن الله -تبارك وتعالى- أعظم العِزَّة؛ وهو أن تصعد كلمات العبد إلى الله -تبارك وتعالى-، أن يكون العبد مذكورًا عند الله -جل وعلا-، قال {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ}، إلى الله يصعد الكلِم الطيب، فالله هو العزيز؛ الغالب، القاهر فوق عباده -سبحانه وتعالى-، وهؤلاء العباد الذين يعيشون في هذه الأرض؛ مَن أكبر عِزَّة؟ هو مَن يُرفع كلامه إلى الرب العزيز؛ الغالب، فيُذكَر عند الله -تبارك وتعالى-، إليه؛ إلى الله، {يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ}، سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، عبد يذكُر الله -تبارك وتعالى- فيُرفَع هذا الكلام إلى الرب -تبارك وتعالى-؛ ترفعه الملائكة، وبه تكون رِفعة هذا العبد، انظر عبد رُفِعَت كلماته إلى الله -تبارك وتعالى-، ومَن ذكَرَ الله في نفسه ذكَرَه الله في نفسه، ومَن ذكَرَ الله في ملأ ذكَرَه الله -تبارك وتعالى- في ملأ خير منهم، فالله هو الرب العزيز؛ الغالب فوق عباده -سبحانه وتعالى-، القاهر فوق عباده، رب السماوات والأرض، المستوي على عرشه، كل العباد تحت أمره وتحت قهره -سبحانه وتعالى-، مَن يرفَعه الله -تبارك وتعالى- فهو الذي يُرفَع، ومَن يضعه الله -تبارك وتعالى- فهو الذي يوضَع، فالأمر كله له.

الله -تبارك وتعالى- يقول {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ}، الذي يُريد أن يعتز، {فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا}، هذا طريق العِزَّة، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ}، أعز شيء هذا، أعظم شيء أن تصعد كلماتك إلى الله -تبارك وتعالى- فتكون عزيزًا، لأن الله له العِزَّة ولرسوله وللمؤمنين، الله -تبارك وتعالى- يذكُر مَن يذكُره -سبحانه وتعالى-، كما جاء في الحديث «أنا عند ظن عبدي بي، مَن ذكَرَني في نفسه ذكَرته في نفسي، ومَن ذكَرَني في ملأ ذكَرته في ملأ خير منهم»، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ}، الكلِم؛ الكلام الطيب، والكلام الطيب هو ما فيه ثناء على الله -تبارك وتعالى-؛ سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، قراءة العبد لكتاب الله -تبارك وتعالى-، تسبيحه، وتحميده، كل هذا يُرفَع إلى الله -تبارك وتعالى-، فيرفع الله -تبارك وتعالى- صاحبه ويذكُره في السماء؛ يذكُره في ملأ الملائكة، {وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ}، العمل الصالح يرفعه؛ يرفع العبد عند الله -تبارك وتعالى-، ويرفعه؛ يرفع الكلام الطيب عند الله -تبارك وتعالى-، عمل العبد الصالح {وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ}، هذا القِسم الأخر، شوف إنسان يذكُر الله -تبارك وتعالى-؛ ويُسبِّحه، ويَحمَده، ويُصلي لله -تبارك وتعالى-، ويصوم له، ويعمل الأعمال الصالحة، وهو مذكور في السماء؛ مذكور عند الله -تبارك وتعالى-، تذكُره الملائكة، يرفعه الله ويُعلي شأنه، وفي إنسان مجرم أخر يظن أنه يمكُر بربه -سبحانه وتعالى-؛ فيكفر، ويمكُر بالمؤمنين، ويُحارِب الرُسُل، ويُحارِب دين الله -تبارك وتعالى-، ويبدأ يسير في خسائس الأمور، انظر أين هذا وأين هذا.

{وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ}، يمكُرون السيئات؛ يمكُرون المكر السيئ، لأن في مكر حسَن وهو مكر أهل الإيمان بأهل الكفر، يمكرون بهم ليُزيلوهم؛ ليُبعِدوهم عن طريق الرب -تبارك وتعالى-، فهذا مكر ممدوح؛ محمود، ولكن مكر الذين يمكرون السيئات يُدبِّرون في الخفاء لإيصال الضُّر إلى أهل الإيمان؛ وإلى أهل الطاعة، وإلى دين الله -تبارك وتعالى-، وإلى رُسلِه، ويعملون بخسائس الأمور، {وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ}، قال -جل وعلا- {لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ}، يتوعَّدهم الله -تبارك وتعالى- بأن لهم عذاب شديد عنده –سبحانه وتعالى-، ثم {وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ}، إيش يسوِّي مكر أولئك المُبعَدين؟ أبعَدَهم الله -تبارك وتعالى-، {هُوَ يَبُورُ}، ما قال يبور بل قال هو يبور؛ بالجملة الإسمية، {هُوَ يَبُورُ}، ليُبيِّن أن هذا ثابت في الخبَرية؛ في إخبار الله -تبارك وتعالى-، يبور؛ يهلَك، البوار هو الضياع والهلاك؛ ما له شيء، يعني أن مكرهم بالله -تبارك وتعالى-، ومكرهم برُسلِه وبدينه لن يحصلوا من ورائه على مُبتغاهم ومرادهم، {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ}[الأنفال:36]، ومكر أولئك بالله وبرُسلِه في ما ظنِّهم وبدينه هو يبور في الدنيا والآخرة؛ ويُحاسِبهم الله -تبارك وتعالى- عليه، يعني لا يبقى إلا أثره السيئ وجريرته وجريمته يُحاسِبهم الله -تبارك وتعالى- على هذا عنده، {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ........}[فاطر:10]، هذا وعيد؛ تهديد لهم من الله -تبارك وتعالى-، {وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ}، لهم عذاب شديد في الآخرة، ومكرهم الذي مكروه في هذه الدنيا يبور؛ يضمحِل وينتهي، ويبقى الحق؛ يبقى دين الله -تبارك وتعالى- وينتهي الباطل.

ثم قال -جل وعلا- {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}[فاطر:11]، نعود -إن شاء الله- إلى هذه الآيات في الحلقة الآتية، استغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصل الله وسلم على عبده ورسوله محمد.