الجمعة 29 ربيع الآخر 1446 . 1 نوفمبر 2024

الحلقة (534) - سورة فاطر 11-14

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}[فاطر:11] {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}[فاطر:12] {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ}[فاطر:13] {إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ}[فاطر:14]، هذه مجموعة من الآيات في هذه السورة؛ سورة الملائكة، سورة فاطر، يُبيِّن الله -تبارك وتعالى- فيها آياته في -جل وعلا-، في الخلْق والناس، وهذا بعد أن بيَّن الله -تبارك وتعالى- انقسام الناس إلى مؤمن وكافر؛ وشتَّان، وأن أهل الإيمان {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ}، دعوة من الله -تبارك وتعالى- للناس، {فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا}، العِزَّة كلها بيد الله -تبارك وتعالى-؛ فهو الذي بيده المُلك كله، {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[آل عمران:26]، {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ}، هذي العِزَّة الحقيقية وهي أن كلمات العبد تصعد إلى الله -تبارك وتعالى-، فيذكُره الله -تبارك وتعالى- بذِكره لربه -جل وعلا-، «مَن ذكَرَني في نفسه ذكَرته في نفسي، ومَن ذكَرَني ملأ ذكَرته في ملأ خير منه»، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ}، التسبيح والتحميد وقراءة القرآن تصعد إلى الرب -تبارك وتعالى-، {وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ}، يعني أن الله -تبارك وتعالى- يُصعِد التسبيح والتحميد والكلمات الطيبة لأهل الإيمان؛ لمَن يؤمن به ويعمل العمل الصالح، هؤلاء هم أهل العِزَّة؛ المُعتذون الذي يذكُرهم الله -تبارك وتعالى-، والذين هذه هي الصلة بينهم وبين ربهم وخالقهم -سبحانه وتعالى-؛ في أنهم يُسبِّحونه، ويحمَدونه، ويذكرونه، والله -تبارك وتعالى- يذكُرهم في السماء؛ أكبر عِزَّة هذه، وفي الطائفة المُقابِلة {وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ}، يمكرون بآيات الله -تبارك وتعالى-، يظنون أنهم يمكرون بالله؛ فيصُدُّون عن سبيله، ويُحارِبونه؛ ويُحارِبون رُسلَه، ودينه، وتشريعه، {وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ}، في النهاية لا يستفيدون بكل مكرهم هذا، {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ}[الأنفال:36]، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ}، ففي النهاية مكرهم يبور؛ ينتهي ويهلك، ولا يُحصِّلون مما أمَّلوه وما عملوا له شيئًا.

ثم قال -جل وعلا- {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ}، هذا أبو البشرية؛ آدم -عليه السلام-، خلَقَه الله -تبارك وتعالى- من تراب هذه الأرض، ونِسبة الخلْق أنهم مخلوقون من تراب لأن أصلمهم آدم؛ أصل البشر كلهم، هو خلَقَه الله -تبارك وتعالى- من تراب، قال -جل وعلا- {ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ}، كل البشر بعد ذلك، فإن كل البشر بعد ذلك خلَقَهم الله -تبارك وتعالى- من نطفة؛ من ماء الرجال، {ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا}، جعلكم؛ صيَّركم، خلَقَكم الله -تبارك وتعالى- في بطون أمهاتكم، أزواجًا؛ ذكر وأنثى، وهذه من الأربيعين؛ «إذا مرَّ على النُطفة أربعون يومًا أتاها الملَك الموكَّل بالأرحام، فيقول أي ربي أذكر أم أنثى؟»، مشروع هذا الإنسان الذي خلَقَه الله -تبارك وتعالى- في الرحم، «ما عمله؟ ما أجله؟ ما رِزقه؟ شقي أو سعيد؟ ذكر أو أنثى؟»، {ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا}، أي في بطون أمهاتكم قسَّم الخلْق -سبحانه وتعالى- فجعل هذا ذكر وهذا أنثى لتتم الحياة، ثم قال -جل وعلا- {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ}، كل أنثى؛ وهذا قد يشمل أنثى الإنسان وأنثى كذلك الحيوان، {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ}، وقت حملها، ووقت وضعها، وما الذي تحمله، وما الذي تضعه؛ كله بعِلم الله -تبارك وتعالى-، إن الله لا يخفى عليه شيء من شئون خلْقه -سبحانه وتعالى-؛ ومن ذلك هذا، {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ}، {يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ}، المُعمَّر الذي أعمَرَه الله -تبارك وتعالى-؛ أطال عمره في هذه الحياة، العُمر؛ الحياة، فلا يكون الإنسان مُعمِّرًا إلا وهذا بتقدير الله -تبارك وتعالى-، {وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ}، من عُمر هذا الإنسان إلا في كتاب كذلك، فأولًا النقص والزيادة تكون بأسباب، فيُعطي الله -تبارك وتعالى- هذا مائة سنة، هذا مائة وعشرين سنة، هذا ستين، هذا خمسين، هذا ثلاثين، هذا كله الأمر -سبحانه وتعالى- بقضائه وقدره، هو الذي وزَّع أعمار الناس ووزَّع أرزاقهم -سبحانه وتعالى-؛ فالأمر كله له، ثم إن هناك كذلك إطالة عُمر بسبب ونقص عُمر بسبب، لله -تبارك وتعالى- أسباب في هذا كما قال النبي -صلوات الله والسلام عليه- «مَن أحب أن يُنسأ له في أجله ويُبسَط له في رِزقه فليصل رحِمَه»، فبيَّن أن صلة الرحِم إنما هذ من الأسباب التي يُطيل الله -تبارك وتعالى- بها العُمر، وكذلك يُكثِر بها الرزق -سبحانه وتعالى-، يعني قد يُرتب الله -تبارك وتعالى- زيادة العُمر على أسباب؛ وكله بقدَر الله -تبارك وتعالى-، وكذلك النقص من العُمر بأسباب؛ قد يجعل الله -تبارك وتعالى- هذا بأسباب كالمعصية، والكفر، والعناد، فإن الله -تبارك وتعالى- قد يُنقِص له ما قد يكون آتاه الله -تبارك وتعالى-؛ وكله بقضاء الله -تبارك وتعالى- وقدَره.

{وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ}، يعني أن كل هذا بأسبابه وبغير أسبابه فإن الله -تبارك وتعالى- قد كتَبه في كتاب، هذا الكتاب هو اللوح المحفوظ الذي كتب الله -تبارك وتعالى- فيه مقادير الخلْق كلهم قبل أن يخلُقَهم؛ بكل حركة وسكون، بكل رزق يُرزَقونه، بكل فعل يفعلونه، بكل شيء، قال -جل وعلا- {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}، ما فرَّطنا في الكتاب من شيء؛ كتاب المخلوقات، اللوح المحفوظ الذي كُتِبَ فيه مقادير كل الخلائق؛ كل الموجودات، ماذا سيكون منها وماذا ستكون كله، فإن الله -تبارك وتعالى- خلاص {قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى}[طه:52]، {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}، طبعًا هذا أمر مهول جدًا وهائل؛ أن يُحصي الله -تبارك وتعالى- وأن تُكتَب كل حركة وسكون في هذا الكون، وكل تبدُّل وتغيُّر في المخلوق وتصريف يكون كل هذا مكتوب عنده، وقد أحصى الله -تبارك وتعالى- جميع هذه المخلوقات إحصاءً، أحصاها ليس فقط بعَدِّها وإنما بعَدِّها وإحصاء كل ما يصدر من تصرُّف منها، سواء كان هذا التصرُّف ظاهر أو باطن كله مكتوب ومحسوب عند الله -تبارك وتعالى-، هذا في المخلوقات العاقلة وفي غير العاقلة، كذلك في كل مخلوقات الله -تبارك وتعالى-، لا تسقط ورقة إلا والله يعلمها وكلها في كتاب، {........ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}[يونس:61]، {........ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}[الأنعام:59]، فقال -جل وعلا- {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}، إن ذلك؛ كتابة وحساب كل مقادير هذه المخلوقات يسير على الله -تبارك وتعالى- ليس بمُستصعب عليه، بل إن الله يعلمه -سبحانه وتعالى- وقد كتَبه؛ وهو أمر مُيسَّر عليه -سبحانه وتعالى-، فإن الله لا يُعجِزه شيء -جل وعلا-.

ثم آية أخرى من آيات خلْقِه -جل وعلا-، قال {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ}، لا يستوي؛ يعني في الخواص، وفي صفة الخلْق، {الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ}، الأنهار التي تجري بماء المطر السائغ، هذا عذب فرُات؛ مياه الأنهار، {سَائِغٌ شَرَابُهُ}، إذا شربه الإنسان فإنه يُسيغُه، يعني يجري في فمه وفي بلعومه بصورة مُيسَّرة؛ هذا الماء العذب، لا أسهل من شرب الماء العذب، {سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ}، أي تكون به الغُصص، ملح أُجاج؛ شديد الملوحة، وهو مياه البحار والمحيطات، وهذا وهذا مع هذا التفاوت فيه ما فيه من المنافع العظيمة للخلْق، فيه من المنافع العظيمة للخلْق؛ فإن بمياه الأنهار حياة الناس، {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ}، هذا الماء يعني الماء العذب هو الذي به حياة النبات، وحياة الإنسان، وحياة الحيوان، كلها به ولو أنه ملح لفسدت هذه الأرض، وأما مياه البحر المالح فإنها بهذا الاتساع وبهذه الكثرة فيها فوائد عظيمة جدًا، لولا ذلك لأنتنت الأرض وإنما بهذا فهي تطهير وتنقية للهواء، البحر هو بالوعة هذا الإنسان الذي يهضم قاذوراته ونفاياته؛ وكونه ملح هو الذي ساعد على هذا، ثم قال -جل وعلا- {وَمِنْ كُلٍّ}، أي من المالح الأُجاج والعذب الفُرات، {تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا}، جعلها الله -تبارك وتعالى- مكان منبِت هذه الأسماك، تأكلون لحمًا طريًا؛ لحم السمك، فانظر هذا السمك جنس واحد ولكنه يعيش في البحار المِلحة الأُجاج؛ ويعيش في الأنهار العذبة، ويعيش هنا، ويعيش هنا ...، حتى ينتفع الإنسان بهذه الثروة العظيمة وهذا الرزق العظيم، {وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا}، أي من البحار، حِليَة؛ ما يُحلي الإنسان، وتتحلى به النساء وهوالؤلؤ والمرجان؛ الذي يخرج من هذه البحار المالحة، {وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ}، الفُلك؛ السُفُن، فيه؛ في هذه البحار، مواخِر؛ تشق عُبابه، تشق صفحة الماء، وهذا تيسير عظيم من الله -تبارك وتعالى- أن جعل هذه الأنهار بهذه المائعة لتحمل هذه السُفُن، ويشقها الإنسان؛ يُجريها الإنسان، فيكون فيه سهولة في نقل الإنسان ومتاعه وبضائعه من مكان في الأرض إلى مكان أخر من جنبات الأرض، قال -جل وعلا- {لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ}، لتبتغوا بركوبكم على السُفُن وذهابكم شرقًا وشمالًا وجنوبًا من فضل الله -تبارك وتعالى-؛ بالتجارة، ونقل البضائع، والسفر، {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}، يعني أن الله -تبارك وتعالى- سخَّر هذا كله لعلكم أيها البشر تشكرون الله -تبارك وتعالى-؛ تعلمون أن هذا خلْقَه، وأن هذا تيسيره، وأن هذه القوانين التي جعلها على هذا النحو هو الذي جعلها -سبحانه وتعالى-؛ ولولا ذلك لَمَا كان ذلك، فهذا حتى تشكروا ربكم وخالقكم -سبحانه وتعالى-.

ثم آية أخرى من آياته -جل وعلا- قال {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ}[فاطر:13]، {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ}، يولِج الليل في النهار؛ الليل يدخل في زمن النهار، فإن على مدار العام الليل في فصول الشتاء والخريف يأخذ من وقت النهار، ويعدوا بعد ذلك النهار فيأخذ في الربيع والخريف من الليل، فكلٌ منهما يدخل في زمن الأخر، ففي بعض البُلدان؛ في شمال الأرض مثلًا، يصل الليل أحيانًا إلى ثمان عشرة ساعة والنهار ست ساعات، والعكس يكون عندما يصل النهار حدَّه في الطول؛ فيأخذ ثمان عشرة ساعة والليل يأخذ ست ساعات، أو أربع عشرة ساعة وعشر ساعات، وهكذا ...، فالله -تبارك وتعالى- يُدخِل الليل في زمن النهار، ويُدخِل النهار في الزمن الذي كان يأخذه الليل، منافع عظيمة للبشر، منافع عظيمة حصول هذه الفصول وتقلُّبها، وهذا يؤدي إلى منافع عظيمة؛ أولًا ألا يمَل الإنسان من وجود فصل واحد، الأمر الأخر ما يكون على هذا من المناسبة للمحاصيل والزروع وغيرها، والخلْق الذي يكون على ظهر هذه الأرض؛ هذا وقت الشتاء يمكث فيه، وفي الصيف يخرج فيه، وقد يكون الأمر بالعكس في هذا، فولوج الليل في النهار وولوج النهار في الليل مع ما فيه من الفوائد العظيمة ثم هو آية من آيات الله -تبارك وتعالى-، آية عظيمة؛ فالذي قدَر على أن يصنع هذا ويفعله بدقة وحساب دقيق، لا يتغير ولا يزيد وينقص في مقاديره؛ ولو بعُشر مِعشار الثانية، بل أمر محسوب مُقدَّر.

{يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ........}[فاطر:13]، سخَّر؛ ذلَّل، التسخير؛ التذليل، يعني أنها مُذلَّلة مُيسَّرة في المقام والعمل الذي أقامها الله -تبارك وتعالى- فيه، الشمس؛ هذه العظيمة، هذه الكرة الهائلة، الكبيرة، المُلتهِبة، التي في ضيائها نحيا، وحرارتها أصبحت بها حياتنا، هذه الشمس أصل مجموعتنا؛ وأصل أرضنا، التي نعيش على ضوئها وعلى حرارتها، {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ}، هذا قمرنا؛ كوكبنا الذي هو حول أرضنا يدون، وهو معنا مع ما فيه من المنافع العظيمة؛ جمالًا، وبهاءً، وحركة لمياه المحيطات على ظهر هذه الأرض في المد والجزر وما في ذلك من الفوائد العظيمة، هذا تسخير؛ أين لنا أن نُسخِّر هذا؟ {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ}، الله -سبحانه وتعالى- هو الذي سخَّر الشمس والقمر، {كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى}، كلٌ؛ أي من الليل، والنهار، والشمس، والقمر، {يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى}، جريان ولأجل مُسمَّى؛ وقت مُحدَّد عند الله –تبارك وتعالى- وهو يوم القيامة، {فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ}[القيامة:7] {وَخَسَفَ الْقَمَرُ}[القيامة:8] {وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ}[القيامة:9] {يَقُولُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ}[القيامة:10]، فلهذا الأجل الذي سمَّاه الله -تبارك وتعالى- وهو يوم القيامة، {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ}[الحاقة:13] {وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً}[الحاقة:14] {فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ}[الحاقة:15] {وَانشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ}[الحاقة:16] {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ}[الحاقة:17]، {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ}[التكوير:1] {وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ}[التكوير:2] {وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ}[التكوير:3] {وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ}[التكوير:4] {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ}[التكوير:5] {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ}[التكوير:6] {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ}[التكوير:7] {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ}[التكوير:8] {بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ}[التكوير:9] {وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ}[التكوير:10] {وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ}[التكوير:11] {وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ}[التكوير:12] {وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ}[التكوير:13] {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ}[التكوير:14]، إلى هذا اليوم الذي تكون فيه هذه التغيُّرات العظيمة في هذا الخلْق.

{كُلٌّ يَجْرِي}، أي من الليل، والنهار، والشمس، والقمر، {لِأَجَلٍ مُسَمًّى}، أجل؛ وقت مُحدَّد، أجَّلَه الله -تبارك وتعالى-؛ وكتَبَه، وسمَّاه -سبحانه وتعالى- عنده، لا يعلمه إلا هو -سبحانه وتعالى-، ثم قال -جل وعلا- {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ}، يعني الذي خلَقَ هذا الخلْق كله على هذا النحو؛ البحر العذب، البحر المالح، ما فيهما من الخيرات، أجرى فيه السُفُن، جعل الليل يدخل في وقت النهار؛ وفي مكان النهار، والنهار يدخل في مكان الليل؛ وفي وقته، {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى}، قال {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ}، بالإشارة إليه -سبحانه وتعالى-، ربكم؛ خالقكم أيها الناس، وسيدكم، وملككم، ومليكم -سبحانه وتعالى-، من معاني الرب -جل وعلا-، {لَهُ الْمُلْكُ}، له؛ لا لغيره -سبحانه وتعالى-، المُلك؛ كل هذه، مُلك السماوات، ومُلك الأرض، ومُلك ما فيهما، فله هذا المُلك ذاتًا؛ ذوات هذا المُلك له، وتصريفًا فهو الذي يُصرِّف هذا؛ إدخال النهار في الليل، وإدخال الليل في النهار، وتسخير الشمس، وتسخير القمر، كل هذا من تصريفه -سبحانه وتعالى-، فالله يملك الشمس؛ ويملك تسخيرها وتذليلها، ويملك القمر؛ ويملك تسخيره وتذليله -سبحانه وتعالى-، وهو الذي يُنشئ الليل والنهار؛ والله -سبحانه وتعالى- هو الذي يملك تسخيره وتذليله -سبحانه وتعالى-، {لَهُ الْمُلْكُ}، له المُلك؛ ذاتًا وتصريفًا.

ثم قال -جل وعلا- {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ}، تحطيم للشرك إذا كان هذا مُلك الله -تبارك وتعالى-، فالذين تدعون من دونه، الذين تدعون من دون الله، {مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ}، أخس وأقل شيء موجود في الوجود؛ القطمير، وهو هذا الغلاف الشفاف الرقيق الذي يُغلِّف النواة، هذا من أقل الأشياء الموجودة في هذا الوجود، وهو أمر تافه جدًا؛ لا يفتخر أحدًا بامتلاكه، لا يقول أحد إني أملك قطمير، ولا يأبه أحد له، ولا هو شيء يمكن أن ينتفع الإنسان به انتفاعًا حقيقيًا، فهذا القطمير الله هو أحقر الأشياء وأقلها يُخبِر -سبحانه وتعالى- بأن كل ما يُدعى من دون الله لا يملِك هذا؛ مهما كان الذي يُدعاه، كل ما يدعوه المشركون من دون الله -تبارك وتعالى- من الآلهة؛ أصنامًا، أحجارًا، أوثانًا، بشرًا، ملائكة، دون الله -تبارك وتعالى- لا يملِكون هذا، {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ}، الذين تدعونهم من دون الله، {مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ}، حتى هذه ما يملِكونها، فانظر -سبحانه وتعالى-؛ مَن يملك السماوات والأرض، مَن سخَّر كل ما سخَّر، مَن خلَق البحر العذب والبحر المالح؛ وأجرى فيهما ما أجرى، وخلَق فيهما ما خلَق، انظر مملكة الأسماك التي خلَقَها الله -تبارك وتعالى-؛ ويرزقها، ويُحييها، وهي رزق للعالم كله، الشمس، القمر، الليل، النهار، كل هذا مُلك الله -تبارك وتعالى-، وانظر ما يُعبَد من دون الله ما يملِك هذا؛ هذا الشيء الحقير لا يملكه، {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ}، ماذا بقي للمشركين؟ ما الذي بقي للمشرك؟ هل يستطيع المشرك أن يدَّعي أن إلهًا من آلهته يملِك شيئًا من هذا؟ يملك شمس، أو قمر، أو نجوم، أو يملِك تصريف، أو يملِك شيء، بل هذا الشيء لا يمكن نسبة مُلكِه إلى مَن يُدعى من دون الله -تبارك وتعالى-.

ثم بيَّن الله -تبارك وتعالى- هوان هؤلاء الذي يُدعَون من دون الله، قال {إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ}، إن تدعوهم؛ يعني هذه الآلهة التي تدعونها، لا يسمعوا دعائكم؛ لأنهم أصنام لا تنفع ولا تضر، وكذلك لو دعى الإنسان ما دعى من هذه المخلوقات فإنها لا تسمعه؛ فإنها مُغيَّبة عنه، وبعيدة عنه، {وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ}، لو سمعت هذه المخلوقات التي تدعونها من دون الله -تبارك وتعالى- وكانت لها أُذُن تسمع؛ لو سمعت الشمس، وسمع القمر، وسمعت النجوم، وسمعت الملائكة، وسمع مَن سمع؛ وسمع الأولياء، وسمع مَن تدعونه من دون الله، قال -جل وعلا- {مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ}، ليس في طوقِهم أن يُجيبوا مَن سألهم بشيء، {وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ}، يوم القيامة يتبرَّأ كل ما عُبِدَ من دون الله؛ بحق أو بباطل، أعني بحق يعني أنه عُبِدَ من دون الله -تبارك وتعالى-؛ ولا يُعبَد أحد من دون الله بحق، أو بباطل؛ بمعنى أنه لم يأمر الناس بعبادته وإنما الباطل كان منهم، فكلهم يتبرَّأوا؛ فإن أحدًا مما عُبِدَ من دون الله -تبارك وتعالى- لم يأمر أحدًا بعبادته، فالذين اصطفاهم الله -تبارك وتعالى- واختارهم الله من عباده؛ كالملائكة، والرُسُل، عُبِدوا من دون الله -تبارك وتعالى- لكن بغير مشيئتهم؛ وبغير إرادتهم، ولا يُريدون هذا، ولا يُحِبونه، وسيتبرَّأون ممَن عبَدَهم، والذين دعوا إلى عبادة أنفسهم بالباطل؛ كفرعون، ومَن على شاكلته، وكان هناك طواغيت تدعوا الناس إلى عبادة أنفسها؛ كالشيطان، فإنه كذلك يتبرَّأ ممَن عبَدَه، {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ}.

 قال -جل وعلا- {وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ}، هذا إنباء من الله -تبارك وتعالى-؛ الرب الخبير -سبحانه وتعالى-، ولا يُنبِّئك؛ بهذا الأمر الذي سيكون يوم القيامة، مثل خبير؛ الله هو الخبير -سبحانه وتعالى-، العليم؛ الذي يعلم ما سيكون في هذا اليوم على الوجه التام الذي سيكون عليه، يُخبِرُك -سبحانه وتعالى-، وهو من أمثال العرب؛ ((لا يُنبِّئك مثل خبير))، إذا كان واحد خبير بالأمر وأنبأك به؛ فلو كان أمر من الأمور الغائبة عنك، ثم جاء مَن يُخبِرك به؛ وكان خبيرًا به، وعليمًا به، فإنك تكتفي بإنبائه، والله -سبحانه وتعالى- هو الخبير بما سيكون يوم القيامة، ولا أحد يعلم ما سيكون على الوجه الذي سيكون إلا هو -سبحانه وتعالى-، فيُخبِر -سبحانه وتعالى- أن هذا سيكون يوم القيامة؛ أن كل مَن عُبِدوا من دون الله -تبارك وتعالى- سيتبرأوا ممَن عبَدوهم، الملائكة تتبرَّأ ويقولوا {........ سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ}[سبأ:41]، وعيسى -عليه السلام- يقول {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}[المائدة:117]، والذين عُبِدوا من دون الله يقولون يا ربي أنت وليُّنا من دون، بل كنَّا عن عبادتهم غافلين؛ ما عرَفنا أنهم عبدونا ولا أمرناهم بهذا، وأما الأخرون الذين طلبوا من الناس أن يعبدوهم ففي يوم القيامة يتبرَّأون؛ كلٌ يتبرَّأ منهم، {فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ} {وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}[النحل:87]، فقال -جل وعلا- {........ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ}[فاطر:14].

نقف هنا ونُكمِل -إن شاء الله- السياق في الحلقة الآتية، استغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصل الله وسلم على عبده ورسوله محمد.