الجمعة 29 ربيع الآخر 1446 . 1 نوفمبر 2024

الحلقة (537) - سورة فاطر 32-37

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله الأمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ}[فاطر:31] {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ}[فاطر:32] {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ}[فاطر:33] {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ}[فاطر:34] {الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ}[فاطر:35]، بعد أن ذكَرَ الله -تبارك وتعالى- ما تفضَّل به -سبحانه وتعالى- على عباده المؤمنين؛ الذين يتلون كتابه، ويُقيمون الصلاة، ويُنفقون مما رزقهم الله سِرًا وعلانية، قال -جل وعلا- {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ}[فاطر:29]، مع الله -سبحانه وتعالى-، هذه تجارتهم مع الله؛ الحسنة بعشرة أمثالها، إلى سبعمائة ضِعف، إلا أضعاف كثيرة، {لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ}، ما ينقصهم من عملهم أي شيء؛ ولو كان مثقال ذرَّة، {وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ}، يزيدهم من فضله أضعاف مُضاعَفة من عنده -سبحانه وتعالى-، {إِنَّهُ غَفُورٌ}، للذنوب، {شَكُورٌ}، للعمل الصالح؛ يزيد فيه -سبحانه وتعالى-، ثم أخبر -جل وعلا- بأن هذا الكتاب المُنزَل من عنده -سبحانه وتعالى- هو الحق، قال {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ}، القرآن النازل من الله -تبارك وتعالى-، كتاب الله -عز وجل- المكتوب في السماء؛ في اللوح المحفوظ، أنزَله الله -تبارك وتعالى- على رسوله مُنجَّمًا في عشرين سنة من حياته الرسالية -صلوات الله والسلام عليه-، قال هو الحق؛ هذا الكتاب المُنزَل من الله -تبارك وتعالى- هو الحق، {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ}، مُصدِّق الكتب السابقة في ما فيها من الأخبار الصادقة، {إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ}.

ثم بيَّن -سبحانه وتعالى- مِنَّته على عباده الذين ورَّثهم هذا الكتاب؛ حِفظًا، وعِلمًا به، وعملًا له، قال {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا}، وراثة عِلم؛ هذه وراثة عِلم عن النبي -صلوات الله والسلام عليه-، النبي -صل الله عليه وسلم- أُنزِل عليه هذا الكتاب بالحق، وبلَّغه لقومه -صلوات الله والسلام عليه-؛ بلَّغه للناس، أخذه المؤمنون من فم النبي -صلوات الله والسلام عليه-؛ وتعلَّموه من قرائته، والذين حفظوا هذا الكتاب وعلموا بما فيه وعملوا بما فيه؛ هؤلاء هم ورَّاثُه، هؤلاء هم ورَّاثُه؛ ورِثوه عن النبي -صل الله عليه وسلم-، وهذا توريث من الله -تبارك وتعالى-، {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا}، الذين اختارهم الله -تبارك وتعالى- من العِباد، وهذه نِعمَته وفضله -سبحانه وتعالى- على الذين آمنوا؛ وحفظوا كتابه، وآمنوا بما فيه، وعملوا بما فيه، {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا}، إذن هذه الهداية إلى حِفظ كتاب الله -تبارك وتعالى-؛ والعِلم به، والعمل به؛ اصفطاء من الله، ومعنى الاصفطاء؛ الاختيار، اختيار الصفوة؛ صفوة الناس، فصفوة الناس هم الذي اختارهم لكتابه، كما قال -صل الله عليه وسلم- «خيركم مَن تعلَّم القرآن وعلَّمه»، خير العِباد؛ وذلك أنهم الصفوة التي اختارها الله -تبارك وتعالى- من عِباده، {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا}.

ثم أخبر -تبارك وتعالى- بأنهم على ثلاث درجات، هؤلاء الذين اصطفاهم لحمل كتابه، قال {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ}، {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ}، ظالم لنفسه؛ وهذا الذي قصَّر في الواجبات، ارتكب شيئًا من المُحرَّمات، فهذا ظلم لأن الظلم هو كل المعصية، كل معصية ظلم؛ لأنه وضع للأمر في غير محِله، ولا تكون معصية إلا بترك واجب أو فعل مُحرَّم؛ هذه هي المعصية، المعصية عند المؤمن إما أن يترك واجبًا أوجبه الله -تبارك وتعالى-؛ ألزَمَه، وإما أن يفعل مُحرَّمًا، {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ}، منهم مَن يفعل هذا؛ منهم مَن يتخلَّف عن بعض الواجبات، أو يفعل بعض المُحرَّمات؛ هذا هو الظالم لنفسه، {وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ}، المُقتصِد هو الذي أدى ما أمره الله -تبارك وتعالى- به؛ أدى الواجبات، انتهى عن المُحرَّمات، وهذا القصد بمعنى الاعتدال؛ سلوك الاعتدال، فهو مُقتصِد في هذا؛ يعني أنه قد أدى ما فرَضَه الله -تبارك وتعالى- عليه، {وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ}، السابق بالخيرات؛ الذي يسبق غيره، بالخيرات؛ خِصال الدين المُستحبَّة، نوافِله، فهو سابق في الصوم، سابق في الصلاة، سابق في القراءة، سابق في قيام الليل، فهو سابق بالخيرات؛ بالإنفاق في سبيل الله، كما قال -صل الله عليه وسلم- «لا حسَدَ إلى في اثنتين؛ رجلًا آتاه الله مالًا فسلَّطه على هلكته في الحق، ورجلًا آتاه الله الحِكمة فهو يقوم بها آناء الليل وأطراف النهار»، أو رجلًا آتاه الله القرآن؛ والقرآن هو الحِكمة، فهو يقوم به آناء الليل وأطراف النهار، هذا سابق بالخيرات؛ هذا من السابقين بالخيرات، والخيرات؛ كل خِصال الدين، خِصال الدين كلها خيرات فهو يسبق فيها، لا يؤدي فيها القدْر الواجب؛ كأن يكتفي بالصلوات الخمس ولا يُصلي بعد ذلك، بل له عمل في النوافل؛ سواء كانت النوافِل الراتبة، أو النوافِل المُطلَقة، أو النوافِل التي حبَّبها الله -تبارك وتعالى- كقيام الليل، وكذلك لا يكتفي بصيام شهر رمضان -وهو شهر في العام-... لا، هذا يصوم ما هو أكثر من ذلك؛ فهو سابق بخيرات الصوم، كذلك لا يكتفي بأن يحُج وأن يعتمِر مرة واحدة في العُمر، ولكن له سبق في الحج، وهكذا أنواع البِر وأنواع الإحسان، فهذا القسم الثالث وهو أفضلهم وأعلاهم {سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ}، بإذن الله؛ بمشيئته -سبحانه وتعالى-، وسماحِه، وإعانته -سبحانه وتعالى-، {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}[الفاتحة:5]، فهو عبْدٌ مُستعين بالله -تبارك وتعالى- وهو موفَّق من الله -تبارك وتعالى-؛ كل هذا توفيق من الله، {ِبِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِير}، ذلك؛ المُشار إليه هو الفضل الكبير، إما أن هذه إشار لك الذي أورثهم الله -تبارك وتعالى- في الكتاب واصطفاهم الله -تبارك وتعالى-، فيكون كل هؤلاء فضل الله -تبارك وتعالى- كبير عليهم، أو ذلك؛ المُشار إليه آخر قِسم من هذه الأقسام وهو السابق بالخيرات، {ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِير}، الفضل؛ الإنعام والإحسان من الله -تبارك وتعالى-، الكبير؛ سمَّاه الله -تبارك وتعالى- كبيرًا، لأن هذا جزاءٌ عظيم، هذا يرِث الخلود في جنة الخُلد عند الرب -تبارك وتعالى-، {ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِير}.

ثم قال -جل وعلا- {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ}[فاطر:33]، وهذا بيان للفضل الكبير، وهذا دليل على أن الإشارة بالفضل الكبير على كل الثلاثة، على كل هؤلاء الثلاثة اللي هم أقسام أهل الإيمان؛ الذين ورَّثهم الله -تبارك وتعالى- هذا الكتاب، لأن كلهم يدخلون جنات عدن، جنات؛ بساتين، جمع جنة، والجنة هي البستان، سُمِّي جنة لكثرة أغصانه وتشابك فروعه، فمَن دخل فيه جنَّه؛ بمعنى أنه ستره، جنات؛ بساتين، عدن، إقامة، العدن هو الإقامة، يعني بساتين إقامة دائمة؛ لا تزول، ولا تنتهي، ولا تُمحى، ولا يُغادِرها أهلها ويُسافرون عنها، بل هي جنات مُقيمة، {يَدْخُلُونَهَا}، يخبر -سبحانه وتعالى- بأن هذه الأقسام الثلاثة من أهل الإيمان الذين ورَّثهم الله الكتاب يدخلونها؛ يدخلون هذه الجنات، {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ}، هذه للرجال، يُحلَّون؛ التحلية يعني يُصبح حُلوًا جميلًا، هم في تمام الخلْق البشري؛ ستون ذراعًا في السماء في ستة أذرع، على صورة أبيهم آدم -عليه السلام-، وهم على أجمل صورة؛ منهم مَن يدخل الجنة على صورة قمر ليلة البدر، فهم على أجمل صورة ولكن زيادة في تجمُّلهم وحُسنهم فإنهم يُحلَّون بأساور، الأساور؛ ما يُلبَس في معاصِم اليد، {مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا}، أساور من الذهب ومن الؤلؤ، والؤلؤ معروف، لكن ليس الذهب كالذهب كذلك وليس الؤلؤ كالؤلؤ؛ هذا ذهب الجنة، وهذا لؤلؤ الجنة، {........ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ}[فاطر:33]، لِباسهم الذي يلبسونه من الحرير، ولا شك أنه حرير لا كالحرير؛ لا كحرير القز الذي في الدنيا، وإنما هو حرير الجنة، وهذا زيادة في إنعامهم وفي ترفهم؛ فإنهم أهل تجمُّل وتحسُّن، يلبسون هذه الأساور من الذهب والؤلؤ ولباسهم الحرير، ولا شغل لهم ولا مل لهم إلا التمتع بكل أنواع ما جعله الله -تبارك وتعالى- في الجنة من الخيرات والطيبات.

{وَقَالُوا}، أي هؤلاء الذين اصطفاهم الله -تبارك وتعالى- وأنعم عليهم، {........ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ}[فاطر:34]، كلمة مَن أتى إلى الراحة بعد العناء، {الْحَمْدُ لِلَّهِ}، بالألف واللام يعني كل المحامد لله -تبارك وتعالى-، فهو الذي له الحمد -سبحانه وتعالى-؛ هو الذي هدانا، هو الذي وفَّقنا، هو الذي أنعم علينا، هو الذي تفضَّل علينا، كل هذا من فضله ومن إحسانه -سبحانه وتعالى-، الحمد لله على ما خصَّنا به -سبحانه وتعالى- من هذه الكرامة وهذه المنزِلة العظيمة، {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ}، الحمد لله لصفاته؛ لأسمائه، لأفعاله -سبحانه وتعالى-، لإحسانه، فهم يحمَدون الله -تبارك وتعالى- المُستحِق للحمْد؛ بأسمائه، وصفاته، وأفعاله، وإنعامه، وإفضاله -سبحانه وتعالى-، {الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ}، أذهَب عنَّا الحَزَن؛ حَزَن الدنيا، وأذهَبَه خلاص؛ انتهى، لا كرب على أبيكي بعد اليوم، خلاص انتهى الحَزَن، كل ما كان عندهم عندهم من المشقَّة، سواء كانت هذه المشقَّة والحَزَن مما يُقاسونه؛ من تكاليف الدين، من الفِتَن التي كانت تعتريهم، من علو الكفار، من أذاهم، من صخب الدنيا؛ ومن مشاكلها، ومن تكاليف الحياة، كل هذا انتهى خلاص، {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ}، أذهَبه؛ أبعده وأزاله، الحَزَن؛ حَزَن الدنيا، وكذلك حَزَن القبر، وحَزَن الموقف، وحَزَن النار، كل هذا انتهى خلاص، انتهت مشكلاتهم وانتهت همومهم بدخولهم الجنة، {........ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ}[فاطر:34]، إن ربنا -سبحانه وتعالى-؛ تأكيد ربنا الذي هو ربنا -سبحانه وتعالى- خالقنا، ورازقنا، ومتوَلي أمورنا، وهوالمُتفضِّل علينا -سبحانه وتعالى-، {لَغَفُورٌ}، للذنوب، فهم يذكُرون أنهم لم يكونوا بريئون من الذنب؛ وأن الله -تبارك وتعالى- قد محى عنهم هذه، {شَكُور}، قد زادنا من الخيرات والنِعَم ما لم نكن نحلم به ولا نتصوَّره، وأعطانا على الحسنات القليلة يعني جعلها الله -تبارك وتعالى- حسنات عظيمة؛ التمرة تكون كالجبال من الأجر، {إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ}.

{الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ}، الذي أحلَّنا؛ جعلنا نحُل ونُقيم، ونأتي إلى هذا المكان؛ مكان الإقامة الدائمة، {الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ}، دار الإقامة الدائمة؛ الجنة، دار إقامة دائمة؛ المُقيمة، إقامة لا تذهب، ولا تنتهي، ولا تزول، فليست كالدنيا عمرها محدود بسنوات مُعيَّنة وينتهي ويجيء يوم القيامة... لا، هذي خلاص؛ الجنة باقية بقاء لا انقطاع له، {الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ}، من إحسانه وبِره وكرمه -سبحانه وتعالى-؛ مما تفضَّل به علينا، {لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ}، المس؛ أدنى اللمس، يعني ما يجيء لنا فيها أي شيء، {لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ}، النَصَب؛ التعب، سواء كان تعب قلب أو تعب بدن، أي نَصَب لا يُصيبنا فيها، {َلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ}، اللغوب؛ التعب الشديد، يعني لا تعب قليل ولا كثير، ما يمسَّنا فيها أي شيء؛ وذلك أن الجنة هي دار إلتزاز دائم، ولا هناك شيء يُعالِجه الإنسان من العمل، فأهل الجنة في خلْق متين؛ خلْق كامل، لا يُصيبه العناء كما هو حال الإنسان في هذه الدنيا؛ فإنه يكدح، ويعمل، ويتعب، وينام، ويستريح، يتجدد نشاطه ثم يقوم... لا، أهل الجنة في الجنة في قمة نشاطهم وصَحوِهم؛ ولذلك لا ينامون، لا يبولون، لا يتغوَّطون، لا يمرضون، لا يسقمون، لا يسأمون، ما في شيء إسمه سئامة لأن كل نِعَمهم وكل أحداثهم مُتجددة بتجدد الأوقات، {كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ}، يقول أهل الجنة {........ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ}[فاطر:35]، ما في شيء يُعالَج، لا يوجد هناك شيء يُعالَج؛ لا الإنسان يُعالِج طعامه، ولا شرابه، ولا نعمته، ولا يخيط ثوبه، ولا يخصف نعله، ليس هناك في الجنة شيء يُعالَج ليكون، بل كل شيء يأتي كما يُريده المُنعَّم، إن أراد الطعام؛ سقط بين يديه، إن أراد الفاكهة؛ فإنها دانية، {........ وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا}[الإنسان:14]، يأتيه الغُصن بما يحمله فيأكل كما يشتهي، يُريد أن يشرب؛ تُفجَّر الأنهار، {يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا}، يأتيه الماء إلى مكانه، يأتيه الكوب مُترَع، الوِلدان المُخلَّدون يقومون، {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ}[الواقعة:17] {بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ}[الواقعة:18]، مُتكئًا مع الصَحْب، ثم نعيمًا مع الأهل، ثم رياضًا ناضرة، فلا يوجد هناك ما يُكدِّر الخاطر ولا يُتعِب؛ لا البدن، ولا النفس، {........ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ}[فاطر:35]، أدنى تعب، هذا وصف من الله -تبارك وتعالى-، من الله؛ رب السماوات والأرض، مُنزِل هذا الكتاب، هو الذي يصف -سبحانه وتعالى- لعِباده هذا النعيم المُقيم؛ الذي يكونوا فيه، ويعيشه عِباده المؤمنين؛ الذي اصطفاهم الله -تبارك وتعالى-.

ثم شرَعَ الله -تبارك وتعالى- يُبيِّن حال الطائفة الأخرى؛ الكافرة، المُجرِمة، فقال -جل وعلا- {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ}، هذه الطائفة المُقابِلة، الذين كفروا؛ كذَّبوا الحق، أتاهم الحق والصدق فردُّوه، فكفروا؛ لأن الكفر تغطية وستر، جائتهم أدلة الحق القائمة الشاهدة، أدلة الحق؛ سواء الأدلة العقلية من هذا الكون الذي يدل بكل ذرَّة فيه على خالقه وإلهه ومولاه، فردُّوا هذا وآتاهم الأدلة والبيِّنات من الرُسُل؛ قدَّمت لهم حُجة ساطعة من الدنيا، بكل المعاني أقاموها ولكن ردُّوها، فلم يقبلوا حق الضرورة الذي يقول به عقولهم؛ ولا الحق الذي جائت به الرُسُل كلها فكفروا، {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ}، لهم نار جههم؛ كأن ما لهم إلا هذه، هذا ظرفهم، {لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ}، جهنم؛ هذا السجن العظيم الذي أعدَّه الله -تبارك وتعالى- لهم، وهو سجن كل ما فيه نار، كل ما فيه يشتعل، بِساطه نار، وغِطائه نار، وسُرادِقه نار، وأبوابه نار، كل شيء فيه نار، ما فيه شيء غير النار، {لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا}، يعني هذه النار مع شدة اشعالها؛ وحرِّها، وأنها تأكل الحجارة، {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}، تتَّقِد في الأجساد، وتتَّقِد بالحجارة، إلا أنها لا تقتل الكافر، لا تقتله؛ لا تُميته في النار، بل يُعذَّب فيها مع شِدة حرِّها ولا يموت، {لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ}، أي بهذه النار، فيموتوا؛ فيستريحوا، فإنه بالموت راحة، خلاص؛ إفتَّك وخرج من العذاب، لكنه لا يموت فيستريح، {لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا}، وكذلك لا يُخفَّف العذاب؛ بأنه تكون مشتعلة وقت ثم تخبوا بعد ذلك، ويكون في فترة راحة... لا، بل إنما هي في سعير وتسعير دائم؛ دائمًا تستعِر، ودائمًا تشتعل، {كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا}، كلما خبَت؛ يعني خفَّ شيء من توهُّجها زاد السعير، وهكذا أبدًا عياذًا بالله من عذابها، {وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا}، قال -جل وعلا- {كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ}، كذلك الجزاء؛ هذا الجزاء الذي وضِعَ فيه هؤلاء الكفار، الله يقول {نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ}، يعني هذا جزاؤنا لكل كفور، كفور بهذا الفعول؛ صيغة المبالغة من الكفر، لأن الكافر بالفعل كمُبالِغ في كفره، ما كفر مرة واحدة؛ ردَّ الحق مرة واحدة، ولكنه ردَّه، وردَّه، وردَّه ...، فكان يتقلَّب في نِعَم الله -تبارك وتعالى- ولم يعترف يومًا بأن هذه نِعَم الله -تبارك وتعالى-، تأتيه الأدلة تلوا الأدلة، تلوا الأدلة، تلوا الأدلة ...، وكان يكفر، يكفر، يكفر ...، حتى مات على الكفر -عياذًا بالله-، {كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ}.

قال -جل وعلا- {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا}، وهم؛ يعني أهل النار، الكفار -عياذًا بالله-، يصطرخون فيها بزيادة الطاء على يصرخون؛ يصطرخون، وهذا يدل على المُبالَغة في الصراخ، يعني أنهم يصرخون ويصرخون؛ ويزيدون الصراخ، وكذلك يطرخون يعني يُصارِخ بعضهم بعضًا؛ فيصرخ هذا، فيصرخ الأخر، ويصرخ الثاني، والصراخ هو إعلاء الصوت بالاستغاثة؛ والاستنجاد، وبيان شدة العذاب وشدة الحال الذي فيه الصارخ، {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ}، هذا من صراخهم، ربنا يعني يا ربنا؛ يدعون الله -تبارك وتعالى-، يا ربنا أخرجنا؛ أي من هذه النار، {نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ}، وجاء هنا بالشرط؛ يعني إن تُخرِجنا نعمل، يعني يشترطون على أنفسهم ويجزمون بأنهم إن أخرجهم الله -تبارك وتعالى- من النار؛ فإنهم سيعملوا العمل الصالح، {نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ}، أي في الدنيا، {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ}، لكن هذه استغاثة وطلب في غير وقته؛ انتهى الوقت، ليس هذا وقته، خلاص انتهى، بعد الموت ليست هناك فرصة لإعادة الكرَّة مرة ثانية، فيُقال لهم {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ}، أولم نُعمِّركم؛ سؤال لتبكيتهم وهم على هذا الحال وتوبيخهم، أولم نُعمِّركم يعني نُحييكم في الدنيا سنين، عُمر، سنين طويلة، ما يتذكَّر فيه مَن تذكَّر، يعني لا يكفي مَن يُريد الذِّكرى أن يتذكَّر، ثلاثين سنة، أربعين سنة، خمسين سنة، ستين سنة، ما كان يكفي أحدكم هذا العُمر ليتذكَّر؟ ويعلم أنه له رب؛ وإله، وأن هناك يوم قيامة، وأنه سيُحاسَب، وأنه قد جائه الرسول، وأن هذا صراط الله -تبارك وتعالى- وهذا صراط الشيطان، يتذكَّر الأمر، أولم نُعمِّركم؛ يعني السنين التي تكفي للتذكُّر.

{أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ}، جائكم النذير المُنذِر؛ المُخوِّق من الله -تبارك وتعالى-، الرسول -صلوات الله والسلام عليه- جائكم بالنِذارة الكبرى؛ يُخوِّفكم عقوبة الله -تبارك وتعالى-، يقول لكم يا جماعة أنا رسول الله، أنا الله أرسلني بين يدي عذاب شديد، وصف للناس النار، ووصف لهم الجنة، وبيَّن لهم عقوبة الرب -تبارك وتعالى- إن لم يفعلوا، وهذه أول خُطبة خطَبَها النبي -صلوات الله والسلام عليه-، قال يا بني فلان، ويا بني فلان؛ عمَّ وخص، وقال لهم أنقذوا أنفسكم من النار، لا أُغني عنكم من الله شيئًا، كلٌ عليه أن يُنقِذ نفسه من النار، فهذا النذير؛ النبي أخبَر قال «وأنا النذير العريان»، قال «يا قوم، أرأيتكم لو أخبَرتكم خيلًا خلف هذا الوادي تُريد أن تُغير عليكم؛ أكنتم مُصدِّقي؟ قالوا ما جرَّبنا عليك كذبًا، قال فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد»، أنا مُنذِر من الله -تبارك وتعالى- لكم، ثم جاء النبي بهذا القرآن الذي يُتلى في كل جنَبَات الأرض، وهو يقول في جملة ما يقول {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ}[الحج:1] {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ}[الحج:2]، هذا من النُذُر؛ والقرآن مليء بهذه النُذُر، {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا}[الفرقان:1]، فالله يقول ألم يأتكم النذير؛ هذا لنبي، وهذا القرآن المُنذِر جائكم، {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ}، كذلك من النُذُر قُرب الوفاة؛ الضعف، الشيب، هذا نذير كما قال بعض أهل العلِم " الشيب نذير يُرسِله الله -تبارك وتعالى-"، تغيُّر حال الإنسان؛ بعد أن يكون شعره أسود، إذا به هذا الشعر يتحوَّل إلى البياض، كأن هذا نذير؛ يعني انتبه قد قاربت شمسك للأُفول والغروب، فاعلم أن خلاص؛ استعد للرحيل، فهذا من النذير كذلك، فالنذير الأكبر؛ رسول الله -صلوات الله والسلام عليه-، ومعه هذا القرآن الذي يُتلى؛ من الله -تبارك وتعالى- ليُنذِر العالمين.

{أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ}، طبعًا سيقولوا نعم، سيقولوا بلى يا رب؛ لقد جائنا هذا، إذن انتهي الأمر، {فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ}، فذوقوا؛ قاسوا حر النار، الذوق بكل الأحاسيس؛ وليس باللسان فقط، فذوقوا يعني قاسوا حر النار؛ بجلودهم، لهم فيها زفير وشهيق، بقلوبهم، {إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُوصَدَةٌ}[الهمزة:8]، فهي مُغلَقة، {........ تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ}[الهمزة:7]، وكذلك تدخل إلى الفؤاد -عياذًا بالله-، فذوقوا يعني قاسوا هذه النار بكل ما فيها؛ من العذاب، والتهاويل، والأشربة، وما فيها من آلات وأدوات العذاب الأخرى، {فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ}، هذا شيء صعب جدًا كذلك، {فَمَا لِلظَّالِمِينَ}، وهذا وصفهم لأنهم ظلموا؛ ظلموا أنفسهم، وضعوا الأمور كلها في غير محِلها، جعلوا بدلًا من التوحيد الشرك، وبدلًا من عبادة الله -تبارك وتعالى- تركوا هذه العبادة، وبدلًا من الشكران الجحود، فأخذوا الأمر الأخر؛ وضعوا كل شيء في غير مواضِعه، وبدلًا من أن يعملوا في فكاك أنفسهم وتزكيتها؛ ساروا في تدسيتها، وبدلًا من أن يجلبوا الخير لأنفسهم ويُبعِدوا الشر عنها؛ ذهبوا يجلبون الشر على أنفسهم ويُبعِدون الخير عنها، فهذا ظلم؛ فهم ظَلَمَة، {فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ}، ناصر يقف معهم؛ مُعين لهم، مُطالِب بحُجَتهم، مُدافِع عنهم، كل هذا بمعنى النُصرة، بمعنى النُصرة أن يكون قائمًا في أن ينصرهم؛ سواء كان بالإخراج، أو بالإمهال، أو بالشفاعة لهم، أو بمُغالبة الرب -تبارك وتعالى- وبغلبَته؛ كما كان يظن الكفار، ويقولوا أن تسعة عشر من أصحاب النار نحن لن نعجَز عنهم؛ إذا كانت النار التي يعِدنا بها محمد عليها تسعة عشر، يقول -تبارك وتعالى- {فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ}.

{إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}[فاطر:38]، نقف هنا -إن شاء الله- ونكمل في الحلقة الآتية، استغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصل الله وسلم على عبده ورسوله محمد.