الجمعة 29 ربيع الآخر 1446 . 1 نوفمبر 2024

الحلقة (538) - سورة فاطر 38-42

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده والرسول الأمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

فيقول الله -تبارك وتعالى- {إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}[فاطر:38] {هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا}[فاطر:39] {قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا}[فاطر:40] {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا}[فاطر:41]، بعد أن بيَّن الله -تبارك وتعالى- فضله ونعمته وإحسانه على الذين اصطفاهم هذا الكتاب الكريم؛ القرآن، وما أعدَّ لهم -سبحانه وتعالى- في دار كرامته، كما قال -جل وعلا- {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ}[فاطر:32] {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ}[فاطر:33] {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ}[فاطر:34] {الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ}[فاطر:35]، هؤلاء أهل الإيمان الذين ورَّثهم الله -تبارك وتعالى- هذا الكتاب؛ واصطفاهم من سائر خلْقه -سبحانه وتعالى- لحمل أمانة هذا الدين؛ وحمل هذا الكتاب، والعمل به.

وذكَرَ -سبحانه وتعالى- بعد ذلك الذين كفروا، قال {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ}، هذه عقوبتهم عند الله -تبارك وتعالى-، ومُعامَلة الله لهم، قال {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ}، ثم وصف الله هذه النار فقال {لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ}، أي فيها بهذا العذاب الشديد، {........ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ}[فاطر:36]، يعني كهذا الجزاء الشديد والعقوبة الشديدة نجزي كل كفور، هذا جزاء الله –عز وجل- لكل كفور، {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ}، يصطرخون صراخ، إثر صراح، إثر صراخ ...، ويدعون الله –تبارك وتعالى- {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ}، مشترطين على أنفسهم هذا، فيُبكَّتون ويُلامون ويُقال لهم {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ}، ما عِشت في هذه الدنيا المدة الكافية لأن تعود إلى عقلك؟ وأن تتذكر ربك وإلهم ومولاك وطريق الرب -جل وعلا-، {وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ}، محمد -صل الله عليه وسلم-؛ والكتاب الذي أُنزِل معه، {فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ}.

ثم قال -جل وعلا- بعد ذلك؛ بعد أن بيَّن هذا وهذا، قال واصِفًا نفسه -سبحانه وتعالى-؛ مُعرِّفًا عباده بنفسه، قال {إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}[فاطر:38]، اعلموا هذا أيها العباد، {إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ........}[فاطر:38]، كل ما يغيب في السماوات والأرض؛ يغيب عن مَن؟ يغيب عن المخلوق، لأن كل المخلوقين لا يعلمون من العلم إلا ما علَّمهم الله -تبارك وتعالى- إياه، وباقي ما في هذا الوجود هو غيب عندهم، الملائكة لا تعلم الغيب؛ لا تعلم من العِلم إلا ما علَّمها الله، والإنس والجن لا يعلمون من الغيب إلا ما أطلَعهم الله -تبارك وتعالى- عليه؛ وما وراء ذلك لا يعلمونه، وأما الله -تبارك وتعالى- فإنه ليس عنده غيب لشيء، كل مخلوقاته -سبحانه وتعالى- شهادة عنده، الله شهيد على كل مخلوقاته؛ على كل ما في هذا الوجود -سبحانه وتعالى-، لا يغيب عنه في هذا الوجود مثقال ذرَّة؛ لا في بداية الخلْق عند خلْقه، ولا في مجرى التصرُّف عليه، كل ما يجري من تصرُّف على كل ذرَّة في هذا الكون بعِلم الله -تبارك وتعالى-، فقطرة ماء تنزل من السماء؛ وتكون في الأرض، تتحوَّل إلى النبات؛ تكون فيه، تتبخَّر منه وتذهب إلى السماء مرة ثانية، في كل هذا التصريف الله -تبارك وتعالى- يعلمه، المخلوق منذ أن يكون بذرة؛ وقبل أن يكون، كيف يكون؟ ثم تطوره وتصوره في بطن أمه، ثم بعد ذلك خروجه إلى هذه الدنيا، ثم كل التصريف الذي يقع على هذا المخلوق؛ بكائه، صراخه، ضحكه، لعبه، سروره، رزقه، ماذا يأكل، ماذا يشرب، كل عمله إلى أن يكبُر حتى يموت الله -تبارك وتعالى- مُحصي هذا -سبحانه وتعالى- بكل مخلوق، {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى}[النجم:42] {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى}[النجم:43] {وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا}[النجم:44] {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى}[النجم:45] {مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى}[النجم:46] {وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الأُخْرَى}[النجم:47] {وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى}[النجم:48] {وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى}[النجم:49] {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأُولَى}[النجم:50] {وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى}[النجم:51] {وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى}[النجم:52]، كل ما يقع في الكون بأمره وبمشيئته وبعِلمه -سبحانه وتعالى-، وكل تصريف يقع على المخلوق إنما هو بعِلمه -جل وعلا-.

{إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}[فاطر:38]، هذا أدق الغيب وأخفاه بالنسبة للمخلوق؛ ذات الصدور، الصدر فيه القلب، والقلب هو مكان العقل ومكان الفكر، وسُمِّي قلب لكثرة تقلُّبه، فإن الإيرادات التي تأتي على القلب وما يُفكِّر فيه في غاية السرعة وفي غاية التقلُّب، الإنسان في اللحظة الواحد قد يمر عليه ما بين المشرق والمغرب، يمر على قلبه من التفكير السريع؛ يُفكِّر في أمر، وبعده أمر، وبعده أمر، وبعده أمر... وهكذا، فيُفكِّر فيه بتفاصيله ثم يُقلِّبه، ثم يكون له من الأسرار في قلبه ما لا يُخرِجه؛ ما يُخفيه، عنده سِر يظل في قلبه حبيس؛ حبيس الصدر، لا يُخرِجه لأحد، لم يبُح به؛ لا لزوجته، ولا لأخيه، ولا لأبيه، ولا لأمه، هذا ذات الصدر؛ سُمِّي بذات الصدور لأنه الأسرار الحبيسة التي لم يُخرِجها الإنسان قط، ما اطَّلَع عليها إلا ذات الإنسان صاحب هذا الصدر، الله -سبحانه وتعالى- يعمله، هذا الغيب الذي لا يعلمه إلا صاحبه فقط ولا يعلمه أحد ممَن حول؛ الله يعمله -سبحانه وتعالى-، إن الله عليم بذات الصدور فلا يغيب عنه شيء، حتى خطرات القلوب التي تتقلَّب وتُسرِع على هذا النحو يعلمها الله -تبارك وتعالى-، كما قال -جل وعلا- {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ ........}[البقرة:284]، لأنه يعلمه -سبحانه وتعالى-، لا يمكن أن يُحاسِبهم به إلا لأنه يعمله، {يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ}، لذلك لمَّا نزلت هذه الآية الصحابة خافوا جدًا؛ وأتوا إلى النبي، وجثوا على الرُكَب، وقالوا يا رسول الله كُلِّفنا من الأعمال ما نطيق؛ الصلاة، والصيام، والزكاة، والحج، هذه أعمال نطيقها؛ الله كلَّفنا بها، واليوم نزلت عليك آية ولا نُطيقها، يقولوا اليوم نزلت عليك آية ما نستطيع أن نقوم بها، وهي وساوس القلب وخطراته؛ كيف نقوم بهذا؟ فالنبي فَزِع وقال "أتُريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين؟"؛ يعني اليهود والنصارى، "سمعنا وعصينا"، يأتيكم الأمر الإلهي وتقولوا لا؛ ما نُطيعه، ولا نعمله، "قولوا سمِعنا وأطعنا"، فقالوا سمِعنا وأطعنا، قالوا سمِعنا وأطعنا فأنزَل الله –تبارك وتعالى- قوله {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}[البقرة:286]، فالله يُخبِر -سبحانه وتعالى- بأنه عليم بذات الصدور، وقد هدَّد عباده -سبحانه وتعالى- وبيَّن أن كل ما يُخفونه سيظهر يوم القيامة، قال {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ}[الطارق:9]، تُهتَك ويُخرَج ما كان الإنسان يُخفيه من سر قد أخفاه عن كل مَن حوله، {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ}[الطارق:9] {فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ}[الطارق:10]، {إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}[فاطر:38].

ثم قال -جل وعلا- {هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ}، هو؛ الله، وليس غيره -سبحانه وتعالى-، الذي جعلكم؛ أيها الناس، {خَلائِفَ فِي الأَرْضِ}، خلائف؛ جيل يخلُف جيل، يعني جيل يأتي إلى هذه الأرض ثم ينتهي ويأتي جيل أخر؛ وجيل بعده، وجيل بعده ...، فالذي جعل هذه الأمم تأتي تلوا أمم  وجيل إثر جيل الله -سبحانه وتعالى-، فتذكَّروا هذا؛ تذكَّروا أن هذا الذي يقوم بهذا العمل هو الله -تبارك وتعالى-، إذن لا ملجأ لكم إلا إليه، ولا رب لكم إلا هو -سبحانه وتعالى-، {هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا}[فاطر:39]، فمَن كفر من العباد؛ كفر بربه، وجحد هذا، وهذه أدلة قائمة، واضحة، ضاهرة للعيان، {فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ}، لن يضر الله -تبارك وتعالى- كفره، ولن يضر بكفره إلا نفسه، الكفر هذا سيضر به نفسه، {فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ}، أي إثم هذا الكفر عليه، ثم قال -جل وعلا- {وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا}، اعلموا هذا، أن الكافر إنما يزداد بكفره عنده ربه؛ خالقه، وإلهه، ومولاه، لا مولى غيره، ولا إله غيره -سبحانه وتعالى-، ولا رب سواه، عند هذا الرب الذي هو المولى الحقيقي والرب الحقيقي، لا يزيد العبد الكافر كفره عند الله؛ وقال عند ربه هنا لأنه هو الذي يخلُقُه، هو الذي خلَقَه، هو الذي يرزقه، هو الذي بيده نفعه كله؛ عند مولاه -سبحانه وتعالى-، فلا يزداد عند مولاه وإلهه وربه إلا مَقْت، يزداد مَقْت؛ أي من الله -تبارك وتعالى-، مَقْت؛ شدة الكره، يعني الله يُبغِضه بُغضًا شديدًا ويكرهه لأنه عبد آبِق؛ مجرم، كافر، يُنعِم الله –عز وجل- عليه ويُريه الله -تبارك وتعالى- آياته ويكفُر به -سبحانه وتعالى-، {وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا}، وقوله عند ربهم؛ لأن هذا ربك، كيف تكفر به؟ كيف تكفر بربك؟ اللي خلقَك، اللي سوَّاك، اللي أعطاك، اللي بيرزقك، ثم تكفر، فإذن تزداد بهذا الكفر عند هذا الرب مَقْت عنده، {وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا}، لهم، فعند الله يزداد مَقْت وعلى هذا الكافر يزداد خسار، كلما يزداد كفره كلما جمع الخسران على نفسه -عياذًا بالله-، إذن هو في خسارة بكل الأبعاد، خسارة عند ربه -سبحانه وتعالى-؛ فإن الله -تبارك وتعالى- ربه الذي يخلُقه والذي يُحيه يمقُته، ونفسه هو يجر البلاء على نفسه تلوا البلاء؛ والبلاء تلوا البلاء، مصائب يجرها خسارة على نفسه.

ثم خاطبهم الله -تبارك وتعالى- خطاب تحطيم للكفر الذي هم عليه؛ وبيان أنهم ليسوا على شيء، {قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ}، قل أرأيتم؛ أخبروني، قُل لهم يا محمد؛ أخبروني، {شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ}، هؤلاء الشركاء الذين تدعونهم من دون الله وجعلتم شركاء مع الله -سبحانه وتعالى-، شركاء في العبادة؛ تعبدونهم مع الله، شركاء في التصريف؛ تجعلون لهم شيء تصريف مع الله، تملِكه وما ملَك؛ مثل ما يقول العرب، أو أنه يخلْق، ويرزق، ويُحيي، ويُميت؛ كما يقول النصارى في عيسى، أو كما يقول سائر المشركين؛ في الشمس، وفي القمر، وفي سائر الآلهة التي عبدوها من دون الله، {قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ}، أخبروني عن هؤلاء الشركاء، {الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ}، يعني تدعونهم من دون الله، وتطلبون منهم، وتفزعون إليهم، وتلجأون إليهم، {أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ}، أروني شيء، {أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ}، هؤلاء الشركاء، إيش في شيء؟ وين جبل؟ وين ترعة؟ وين محيط؟ وين شجرة؟ وين شيء من هذه تقولون بأن خالقها هو هذا الإله؛ الشريك مع الله -تبارك وتعالى-، ما الذي أنتجه الملائكة من هذا الخلْق؟ أنتجه عيسى؟ أنتجه الآلهة؟ إيش الذي أوجَدَه أي مخلوق من هذه المخلوقات؟ ماذا خلَق في هذا الخلْق الذي حولكم؟ من هذه الآلهة التي تدَّعون أنها شركاء مع الله -تبارك وتعالى-؛ وتعبدونها مع الله، {قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ}، غير الله -تبارك وتعالى-.

{أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ}، يعني إضراب وسؤال، وكذلك يُراد به الاستهزاء بهم والسخرية منهم، ولا ها دول لهم شِرك في السماوات؛ يعني الذي خلَقوه إنما هو في السماء، خالقين نجوم فوق أو جزء من السماوات، {أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ}، يعني أم الذي أنتم تقولونه هذا وتدَّعونه في مَن تدَّعونه في شركائكم؛ قد آتاكم الله -تبارك وتعالى- كتاب من عنده، فأنتم على بيِّنة منه بأن تعبدون هؤلاء، هل عندكم كتاب من الله؟ أنزل الله -تبارك وتعالى- عليكم كتابًا وقال لكم اعبدوا هؤلاء؟ اعبدوا المسيح، اعبدوا الملائكة، اعبدوا العُذير، اعبدوا الشمس، اعبدوا القمر، اعبدوا ما تعبدوه من هذه الأوثان، هل عندكم كتاب من الله -تبارك وتعالى- يأمركم بذلك؟ هل أمر أحد من هؤلاء بأن يُعبَد من دون الله؟ أو جائكم الله -تبارك وتعالى- وقال لكم اعبدوا ملائكتي؛ اعبدوا عبدي، اعبدوا فلان، اعبدوا هذا، {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ}، قال -جل وعلا- {بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا}، إضراب على هذا وبيان الحقيقة؛ بيان الحق من الله -تبارك وتعالى-، وأن الذي يعِد بعضهم بعضًا به؛ رؤساؤهم، علمائهم الضالين، غيرهم، أساطير الكذب فيهم، لا يعِد بعضهم بعضًا إلا غُرورًا؛ تغرير، يكذبون عليهم، ويُغرِّرونهم، ويقولون سيكون، وسيكون، وسيكون ...، في شفاعة، في كذا، مثل ما يُغرِّرهم؛ أن الملائكة تشفع لكم، أن عيسى سيُدخِلكم الجنة، أن فلان سيعمل لكم، وأنه، وأنه ...، مما ينسِبون إلى هذه الآلهة الباطلة، ومما نسَبَته كذلك جُهَّال ومشركوا المسلمين مما أعطوه للأولياء في زعمهم؛ أعطوهم من التصريف في كون الله –تبارك وتعالى-، وإدخال الجنة، والإخراج من النار، كل هذا تغرير، أن فلان الفلاني بس فقط أنت ادعوه؛ يُدخِلك الجنة، سيُدخِل أتباعه معه الجنة في طرفة عين، سيُنجيهم من النار، سيدخل النار كلها ويحمل أتباعه ويُدخِلهم الجنة، كل هذا من التغرير، غرور، وتغرير، وكذب، {بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا}، في ما ينسِبونه لهذه الآلهة الباطلة؛ وأن لها شيء من القدرة أو التصريف مع الله -تبارك وتعالى-، والشرك في شيء خلَقوه في السماء والأرض، {بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا}.

ثم قال -سبحانه وتعالى- مُبينًا عظمته –سبحانه وتعالى-؛ وأن الأمر كله له -سبحانه وتعالى-، وأنه هو الذي أقام هذا الكون كما هو قائم -سبحانه وتعالى-، قال {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا}، إنه الله؛ والله وحده -سبحانه وتعالى-، الله؛ بهذا الإسم الذي لم يُطلَق إلا عليه –سبحانه وتعالى-، الله الذي يعرفه كل خلْقه بهذا الإسم؛ رب السماوات والأرض، {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا}، يُمسِكها عن الزوال؛ فيجعل كل جُرْم وسُمك وبناء من هذه السماوات في مكانه، السماوات السبع العِظام؛ التي لا نعرف لها أبعادًا، وما تحت هذه السماوات من هذه الأجرام والمِجرَّات العِظام، خلْق عظيم لا يُمسِكه في مكانه إلى الله -تبارك وتعالى-، مَن الذي يُمسِك الشمس؟ وهي جزء صغير من خلْق السماوات؛ من خلْق ما علانا، يُمسكها في مكانها إمساك قهر؛ وهيمنة، ونظام دقيق تسير فيه، مَن الذي يُمسِك القمر؟ هذي الكتلة العظيمة في مكانها، ويجعلها تدون في فلَكِها دون أن تنحرف عنه؛ لا يمين ولا شِمال، ودون أن تتأخر جزء من جزء من أجزاء من الثانية، ولا أن تتقدَّم على ذلك، بل تسير في مسارها، {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ}[الرحمن:5]، ليس بحساب؛ بحسبان، يعني بحساب في غاية الدقة والإحكام، فهذه الشمس وهذا القمر وهما حجران صغيران إذا قيسا بما حولهما وما نحوهما من هذه الأجرام العظيمة، تبقى أحجار صغيرة من هذا الخِضَم الهائل؛ من هذه المِجرَّات، وهذه الأجرام، وهذه النجوم، ثم ما فوق ذلك؛ من السماء الأولى، فالثانية، فالثالثة، إلى عرش الله -سبحانه وتعالى-، كل هذه يُمسِكها الله -تبارك وتعالى-؛ فيجعلها في أماكنها، وفي مداراتها، لا تخرج عن ذلك، ومَن الذي يستطيع أن يفعل شيئًا من ذلك؟ هل هناك من هذه الآلهة الباطلة التي تُعبَد من دون الله -تبارك وتعالى- مَن له مُشاركة في هذا الأمر؟ أو فعل في هذا الأمر؟ فأين صنيع الله -تبارك وتعالى-؟ وأين ما يُعبَد من دون الله -جل وعلا-؟.

 {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ ........}[فاطر:41]، ولئن زالتا؛ لو زالت السماوات والأرض، مَن الذي يستطيع من هذه الآلهة المُدَّعاة ومن غيرها أن يُمسك؟ بل يُمسِك ذرَّة من هذه الذرَّات ويُعيدها إلى مكانها؟ {وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ}، يعني ما أمسكهما من أحدٍ من بعده، {إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا}، لا إله إلا هو -سبحانه وتعالى-، ختام هذه الآية واللائق هنا ببيان قدرته -سبحانه وتعالى- {إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا}، ومن حِلمِه أنه لا يُعاقِب الكافر؛ الذي يكفر به، وهذا سلطانه؛ وهذا سلطان الرب -سبحانه وتعالى-، وعظمته، وجلاله، وكبريائه، ثم يقوم هذا الإنسان الكافر؛ الفاجر، المخلوق من هذه النُطفة، الحقير على هذا النحو، الصغير، يقوم فيُخاصِم ربَّه -سبحانه وتعالى-، ويكفر به، ويجعل له أنداد، ويجعل، ويجعل، ويجعل ...، والله -تبارك وتعالى- يحلُم عليه، لا يُعجِّل له العقوبة -سبحانه وتعالى-، وأما هذا الذي يقوم ويُخاصِم الرب -تبارك وتعالى- وهو على هذا المكان من الحقارة ويقوم يُخاصِم ربه -سبحانه وتعالى-، ربه مَن؟ ربه العظيم؛ الذي يُمسِك السماوات والأرض أن تزولا، وهذا كان يستحق أن يُفنى في التو واللحظة؛ وتنزل به العقوبة، لكن الله -تبارك وتعالى- حليم -سبحانه وتعالى-، كما قال -جل وعلا- {خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ}[النحل:4]، الله يخلُق الإنسان من نُطفة؛ من هذا الشيء القذر، ولكن بمُجرَّد ما يكون رجل يقوم يُخاصِم الرب –سبحانه وتعالى- ويكفر به، {إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا}، مُسامِح -سبحانه وتعالى-، يغفِر لعبده، فكم من هؤلاء الذي كفروا بالله -تبارك وتعالى-؛ وتجاوزوا كل الحدود، وأسرفوا على أنفسهم، وردُّوا آيات الله -تبارك وتعالى-، ومع ذلك ممكن يعود إلى الله -تبارك وتعالى-، فيعود الله -تبارك وتعالى-؛ يقبل عودته، ويقبل توبته، ويُسامِحه، ويمحوا هذا -سبحانه وتعالى-، بعد أن كان مُشرِك؛ مُعانِد للرب -تبارك وتعالى-، مُشرِك؛ يشتم الله -تبارك وتعالى-، وينسِب له الولد، ويفعل، ويفعل ...، ويقول عن آلهته ما يقول وما يدَّعي، ويكذب ما يكذب، ومع هذا لمَّا يتوب؛ ويرجِع إلى الله -تبارك وتعالى-، فإن الله يقبله؛ ويُقيل عثرَته، ويغفِر له، بل ويواليه ويُحِبه بعد ذلك، {إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا}، -سبحانه وتعالى-.

ثم يُبيِّن الرب -تبارك وتعالى- مكر هؤلاء الكفار وتلوُّنَهم، يقول -جل وعلا- {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا}[فاطر:42] {اسْتِكْبَارًا فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا}[فاطر:43]، {وَأَقْسَمُوا}، مُشرِكوا العرب، أقسَموا؛ حلَفوا بأقسامِهم، القَسَم هو الحلِف، {بِاللَّهِ}، أقسَموا بالله، وقد كانوا يؤمنون بأن الله خالق السماوات والأرض -سبحانه وتعالى-، جَهْد أيمانهم؛ غاية أيمانهم، يعني أقسام، وراء أقسام، وراء أقسام ...، يعني آخر ما عندهم من الجُهد في الأيمان أقسَموها، انظر مُبالَغتهم في القسَم ليُثبِتوا عند السامع صِحة ما يذهبون إليه، {لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأُمَمِ}، لئن جائهم نذير؛ منذِر من الله، رسول، ليكونُنَّ أهدى من إحدى الأمم؛ أهدى من اليهود والنصارى، كانوا العرب يقولون بأنه لو أن الله -تبارك وتعالى- أرسَل لنا نذير وأرسَل لنا رسول فسنكون خير من اليهود والنصارى، إيش لون اليهود ها دول؟ ما هم قائمين بدينهم كما ينبغي، ولا النصارى قائمون بدينهم كما ينبغي، بل إنه إذا جائنا نذير فسنكون أحسن من هؤلاء؛ وخيرًا من هؤلاء، {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأُمَمِ ........}[فاطر:42]، يعني أمة اليهود وأمة النصارى، قال -جل وعلا- {فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا}، فلما جائهم نذير؛ نذير، النذير الحقيقي، يعني النذير الحقيقي وهو محمد ابن عبد الله -صلوات الله والسلام عليه-، الأول قالوا لئن جائهم نذير؛ بالمُنكَّر، يعني أي نذير، لو أي مُنذِر سنكون أهدى من اليهود والنصارى، لكن لما جائهم نذير؛ النكِرة هنا للتعظيم، نذيرٌ نذير، النذير الذي هو النذير، {فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ}، قال -جل وعلا- {مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا}، لم يزِدهم مجيء هذا النذير إلا نفور من الدين، والنفور هو الكراهية والابتعاد، يعني كراهية من هذا الدين؛ وابتعادًا عنه، {فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ}، وهو محمد -صلوات الله والسلام عليه-، {مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا}.

قال -جل وعلا- {اسْتِكْبَارًا فِي الأَرْضِ}، استكبار؛ طلب للكِبر، يعني طلبوا الكِبر في أنفسهم في الأرض، يعني استعظموا على أنفسهم أن يُزعِنوا لهذا النذير؛ وأن يسلكوا خلفه، وأن يُطيعوه في ترك ما عليه آبائهم؛ وما يعتزون به من تُراثهم، وفي رؤيتهم لهذا النذير بأنه ما يستحق؛ عنده أنه ما يستحق أن يكون، {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ}[الزخرف:31]، وأنه ما هو الشخص الذي يمكن أن يتركوا من أجله ما عليه آباؤهم وأجدادهم، قال -جل وعلا- {اسْتِكْبَارًا فِي الأَرْضِ}، استكبار في أنفسهم من أن يتَّبِعوا النبي محمد -صل الله عليه وسلم-؛ ومن أن يتركوا دينهم ومِلَّتهم التي يرونها المُثلى، قال -جل وعلا- {وَمَكْرَ السَّيِّئِ}، يعني أن هذه الأقسام التي أقسَموها وبذلوها بغاية الجُهد عندهم كانت كذب؛ كانوا يعلمون أن هذا كذب، وأنهم لن يتنازلوا عن ما هم عليه ولو جائهم مَن جائهم، ولكن قالوا هذا على باب الكذب، قال -جل وعلا- {وَمَكْرَ السَّيِّئِ}، وهذا المكر السيئ وهو أن الإنسان يوصِل الضُّر إلى الأخرين ويمكر بأهل الخير؛ فهذا مكر بأهل الخير، وهنا مكرهم مع الله -سبحانه وتعالى- ومع أنفسهم؛ أنهم يُريدون بالفعل يرهِمون بأنه سيتَّبِعوا الحق، ولكن لمَّا جائهم الحق رفضوه، {وَمَكْرَ السَّيِّئِ}، قال -جل وعلا- {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ}، المكر السيئ لا يحيق إلا بأهله، وهو أن يظن الإنسان أنه يمكر بالله -تبارك وتعالى-؛ أن يمكر برُسلِه، أن يمكر بأهل الخير، فهذا ما يحيق إلا به، لابد أن يُرجِع الله -تبارك وتعالى- عاقبة ذلك عليه، قال -جل وعلا- {........ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا}[فاطر:43].

ولأن الوقت أدركنا فسنعود إلى هذه الآية مرة ثانية؛ لبيان سُنَّة الله -تبارك وتعالى-، استغفر الله لي ولكم من كل ذنب، والحمد لله رب العالمين.