الجمعة 21 جمادى الأولى 1446 . 22 نوفمبر 2024

الحلقة (539) - سورة فاطر 42-45

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله الأمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا}[فاطر:42] {اسْتِكْبَارًا فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا}[فاطر:43] {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا}[فاطر:44] {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا}[فاطر:45]، هذه الآيات الأخيرة من سورة فاطر؛ سورة الملائكة، يخبر -سبحانه وتعالى- أن مُشرِكي العرب كانوا يُقسِمون، {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ}، يعني حلفوا بالله، {جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ}، غاية ما عندهم من الأيمان، يعني بذلوا في هذا القَسَم آخر ما عندهم من تأكيد الأيمان، {لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ}، لو جائهم رسول يُبيِّن لهم الطريق ويدعوهم إلى الله -تبارك وتعالى-، {لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأُمَمِ}، الموجودة؛ أهدى من اليهود، وأهدى من النصارى، فلم يكن يُعجِبهم حال اليهود ولا حال النصارى، بل إن كثيرًا منهم خرجوا في الأرض يبتغون دين؛ لأنهم رأوا أن ما هم عليه ليس بدين، وكان بعضهم يقول والله يا ربي لو أعلم أن لك دينًا لعبدتك به، وكان بعضهم يُنكِر عبادة الأصنام؛ ويُنكِر ما عليه هؤلاء الأقوام، ويقول لا نعرف لله دينًا نسير عليه، ولو كان ثمَّة دين لله -تبارك وتعالى- لاتَّبعناه، وكان لا يُعجِبهم حال اليهود والنصارى، كما ضرب كثير منهم في الأرض وشافوا ما عليه اليهود، جلسوا إلى علماء اليهود وجلسوا إلى علماء النصارى؛ ولم يُعجِبهم شيء من ذلك، منهم مَن تنصَّر في الجاهلية كورقة ابن نوفل -رضي الله تعالى عنه- وآمن بالنبي بعد ذلك، ومنهم مَن لم يُعجِبه ما عليه اليهود وما عليه النصارى، وكان اليهود قد قالوا لهم أنه إذا دخلتم في ديننا فإنه لابد أن تلحقكم لعنة، يعني أن هؤلاء قوم لُعِنوا فلابد أن تلحقهم هذه اللعنة، تركوا ما عليه اليهودية وتركوا ما عليه النصرانية، وكانوا يتمنون أن يُرسِل الله -تبارك وتعالى- لهم رسولًا يتَّبِعون الحق معه، ويُقسِمون بهذه الأقسام لله -سبحانه وتعالى-، {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأُمَمِ ........}[فاطر:42]، سيكونون أهدى من اليهود والنصارى.

قال -جل وعلا-  {فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا}، لمَّا جائهم النذير الحقيقي؛ نذيرٌ نذير، محمد ابن عبد الله -صلوات الله والسلام عليه-، ابنهم، ابن القبيلة؛ ابن قريش، من العرب، من أنفسهم، يعلمونه؛ يعلمون مبدأه، منشأه، مدخله، مخرجه، صدقه، أمانته، ما يتهمونه بشيء، يعرفون أنه في قمة الخُلُق وقمة الاستقامة، {فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ}، يدعوهم إلى الله –عز وجل-، ويقول لهم يا قوم؛ أنا نذير لكم، إن الرائد لا يكذب أهله؛ أنا رائد، «أرأيتكم أن خيلًا وراء هذا الوادي تُريد أن تُغير عليكم؛ أكنتم مُصدِّقي؟ يقولوا ما جرَّبنا عليك كذبًا، فيقول لهم فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، ويقول قائلهم تبًّا لك سائر اليوم؛ ألِهذا جمعتنا؟»، فيُخبر -سبحانه وتعالى- أن العرب كانت تتشوَّف أن يأتيها رسالة من الله -تبارك وتعالى- لِتتَّبِع الحق وتسير فيه، ولمَّا جائهم النذير الحقيقي -صلوات الله والسلام عليه-؛ الله يقول {مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا}، ما زادهم مجيء النذير إلا نفور، يعني ابتعاد وكُره من أن يتَّبِعوا طريق الله -تبارك وتعالى-.

قال -جل وعلا- {اسْتِكْبَارًا فِي الأَرْضِ}، يعني أنهم فعلوا هذا استكبارًا في الأرض، من أجل الاستكبار، من أجل أن يستكبروا؛ أن يتكبَّروا، كيف سيتركوا ما عليه آبائهم وأجدادهم ويتَّبِعوا دين جديد؟ مَن هذا الذي يستحق أن يُزعِنوا له وأن يسيروا خلفه على هذا النحو؟ محمد بن عبد الله، {وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا}[الفرقان:41] {إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا}، ويقولون {........ لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ}[الزخرف:31]، لو كان أُنزِل هذا القرآن على رجل عظيم من القريتين يعني صاحب مال وصاحب جاه أكثر من النبي لكُنَّا اتَّبَعناه، استكبار؛ استكبروا ولم يُزعِنوا لاختيار الله -تبارك وتعالى- لعبده ورسوله محمد -صلوات الله والسلام عليه-، {اسْتِكْبَارًا فِي الأَرْضِ}، ثم {وَمَكْرَ السَّيِّئِ}، يعني أن كان حَلِفهم مكر مع الله -سبحانه وتعالى-، يُقسِمون وهم يعلمون أنهم كاذبون؛ وأنهم لو جائهم نذير ما اتَّبَعوا الحق، وأنهم سائرون في ما هم سائرون فيه، ومُستحسون لِما استحسنوه؛ من الدين، والمِلَّة، والمنهج، {اسْتِكْبَارًا فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ}، المكر هو محاولة إيصال الضُّر بالأخر بطريق خفي، والمكر منه حسَن وهو إيصال الضُّر بمَن يستحق أن يوصَل له الضُّر؛ من الكفار، والمعاندين، هذا خير؛ فالمكر بأهل الشر خير، مكر حسَن، وأما المكر بأهل الخير فمكر سيئ، لأن هذا مُغالَبة لله -تبارك وتعالى- ولرسالته، وهؤلاء ظنوا أنهم يمكرون بالله -تبارك وتعالى-، يقولوا يا رب لو أرسَلت لنا رسول سنتَّبِع دينك؛ وهم كاذبون، وهم كاذبون كأنهم يُخادِعون الله -تبارك وتعالى-، شأن المُنافقين؛ يُخادِعون الله وهو خادِعهم، فهذا من المكر السيئ؛ مكرهم مع الله -تبارك وتعالى-، {وَمَكْرَ السَّيِّئِ}.

قال -جل وعلا- {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ}، هل خسِرَ الله -تبارك وتعالى- أن يُرسِل لهم رسول ليتَّبِعوه... لا، بل كفرهم على أنفسهم، {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ}، بأهل هذا المكر، {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الأَوَّلِينَ}، ينظرون؛ ينتظرون، ماذا ينتظرون من الله -تبارك وتعالى- بعد أن أقسَموا له هذه الأقسام؛ أنهم إن أرسَل لهم رسول اتَّبَعوه، ثم أخلُّوا بعهدهم ووعْدِهم مع الله؛ وتركوا ما عاهدوا الله عليه، وأقسموا عليه، ماذا ينتظرون؟ يعني ماذا ينتظرون أن يكون رد الله -تبارك وتعالى- على كفرهم هذا؟ {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الأَوَّلِينَ}، الطريقة التي عاملهم الله بها، يشوفوا ماذا عامل الله -تبارك وتعالى- الأولين الذين كانوا على شاكِلتهم، بماذا عاملهم الله -تبارك وتعالى-؟ {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الأَوَّلِينَ}، سمَّاها الله -تبارك وتعالى- سُنَّة الأولين؛ طريقتهم، والمقصود هنا بسُنَّة الأولين؛ سُنَّة الله -تبارك وتعالى- في عِقاب الأولين، ثم قال -جل وعلا- {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا}، سُنَّة الله؛ طريقته -سبحانه وتعالى-، وعادته -سبحانه وتعالى- في إنزال العقوبة بالمُكذِّبين ما تتغير، {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا}، أن تتبدَّل وأن يكون مُعاملة الله -تبارك وتعالى- لهؤلاء القوم غير ما عامل به أشباههم وأضرابهم من السابقين، {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا}، تبديل؛ أن يأتي شيء مكان شيء، {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا}، التحويل؛ الإمالة، أنها تتحوَّل إلى شيء أخر... لا، بل سُنَّة الله -تبارك وتعالى- وهي طريقته وعادته -سبحانه وتعالى-؛ وفعله الدائم المستمر في أهل معصيته هو على نفس النسَق، ما من أمة كذَّبت رُسُلها وعاندتهم إلا وأنزل الله -تبارك وتعالى- فيها بأسه وعقوبته -سبحانه وتعالى-، ولا يتغيَّر هذا؛ لا تتغير سُنَّة الله -تبارك وتعالى-، فهنا يُخبِر الله -تبارك وتعالى- بأن سُنَّته الجارية؛ عادة الله -تبارك وتعالى-، وطريقته -جل وعلا- في عقوبة المُعاندين ثابتة؛ ما تتغيَّر، ولا تتحوَّل.

ثم دعاهم الله -تبارك وتعالى- إلى أن ينظروا مصارِع الغابرين، قال {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا}[فاطر:44]، {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ}، سؤال لهم وتقرير أنهم ساروا فيها؛ ساروا في الأرض، في الدنيا، {فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}، سير للنظر والاعتبار، {فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}، وقد هم يمرون في سيرهم على أمم كثيرة ممَن أهلكها الله -تبارك وتعالى-، يمرون على مدائن صالح ومازالت آثار القوم باقية؛ بيوتهم التي حفروها في الصخور باقية، وديارهم بلقى؛ يباب، خراب، {مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا}، وبعض آبارهم التي كانوا يستخدمونها موجودة، كانوا يسيرون في الشام فيمرون على البحر الميت؛ هذا موقع ومكان لأمة كذَّبت رسولها، وفعلت ما فعلت، وأهلكها الله -تبارك وتعالى-؛ وهذه آثارهم، هذه آثار قوم فرعون باقية؛ ماثلة إلى اليوم، وهذا صنيع الله -تبارك وتعالى- بهم مازال ماثلًا للأذهان، وآثارهم ماثلة للعيان، هذه الأحقاف التي ابتلعت قوم عاد؛ وهذه أخبارهم، وهم يعلمونها، وهذا ما أخبرهم الله -تبارك وتعالى- به في الرسالات؛ وفي ما أنزَل على عبده ورسوله محمد -صلوات الله وسلامه عليه- من إهلاك قوم نوح، فقد ملأوا الأرض يومًا ما ثم أذهَبهم الله -تبارك وتعالى-؛ وأخذهم، وأزالهم منها، فالله -تبارك وتعالى- يقول لهؤلاء {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}، العاقبة اللي هي النهاية، مأخوذة من العقِب؛ يعني آخر الأمر من حال هؤلاء المُكذِّبين.

قال -جل وعلا- {وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً}، وكانوا؛ يعني هذه الأمم التي أهلكها الله -تبارك وتعالى-، أشد منهم؛ من قريش ومن العرب، قوة؛ قوة في كل شيء، قوة في الأبدان، قوة في الأموال، قوة في البناء، قوة في التمكُّن من هذه الأرض، {وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً}، قال -جل وعلا- {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ}، ما كان الله -سبحانه وتعالى- ليُعجِزه؛ لا يوجد شيء يُعجِز الله، يُعجِزه؛ يجعل الرب -تبارك وتعالى- عاجِزًا أمامه، كعقوبة هؤلاء المُكذِّبين وإزالتهم من على الأرض؛ أمر يسير على الله -تبارك وتعالى-، فإن الله -تبارك وتعالى- قد أزال أمم بصعقة؛ صرخة، صرخة ملَك، كما قال -جل وعلا- {وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُندٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ}[يس:28] {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ}[يس:29]، صيحة واحدة فيُهلِكهم الله -تبارك وتعالى-، جُند من جُنده، انظر عاد التي كانت تدُك الأرض وتسير، ويقولوا {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً}، الله -تبارك وتعالى- فتح عليهم ريح فقط، ريح عقيم؛ باردة، شديدة البرودة، أهلكتهم، تدخل على الشخص ولو كان في وسط جبل، قال {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ........}[فصلت:16]، يُخزَون بأن هوى وريح ما يستطيعوا أن يصدُّوها عن أنفسهم، أهلكهم الله -تبارك وتعالى- بأمر ما كانوا يتوقعونه، يقول لهم رسولهم {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ}[الشعراء:128]، آية في البناء، {وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ}[الشعراء:129] {وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ}[الشعراء:130]، يعني بأعدائكم، {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ}[الشعراء:131]، فهؤلاء الذين كانت حالهم على هذا النحو، يبنون بكل ريع؛ وادي في الجبل، آية كاملة من البناء؛ طيب هذه ما كانت لِتُكِنَّهم؟ يعني ما كانت هذه الآبنية العظيمة لِتُكِنَّهم من هذه الريح؛ ويدخلون فيها فتُحصِّنهم، وخلِّي الريح تسفي عليهم سبع أيام، ثماني أيام، ما يضرهم أنهم يكونوا مُخَزِّنين أكلهم وشرابهم وقافلين الأبواب عليهم، لكن الله -تبارك وتعالى- أهلكهم في مكانهم، وشافوا العذاب قادم إليهم واستهزأوا به، قال -جل وعلا- {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ}[الأحقاف:24] {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ}[الأحقاف:25].

وهؤلاء قوم فرعون؛ عُتوا، واستكبار في الأرض، وعُلوا على الله -تبارك وتعالى-، فانظر كيف فعل الله -تبارك وتعالى- بهم؛ أعطاهم عذابه الجزئي آية وراء آية، {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ}[الأعراف:133]، ثم إنه لم يُفِح فيهم ولم يُفِد فيهم كل هذا التذكير من الله -تبارك وتعالى- استدرجهم الله -تبارك وتعالى- وأخرجَهم، ثم أسقَطَهم في البحر، قال لهم هذا مكانكم النهائي، {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ}[الدخان:25] {وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ}[الدخان:26] {وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ}[الدخان:27] {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ}[الدخان:28]، ربنا -سبحانه وتعالى- استدرجهم حتى أدخله م في البحر؛ وأغرقَهم، وأطبَقَ البحر عليهم، انظر؛ تأتي العقوبة من حيث لا يحتسِب الكافر، وبأسباب قد يستهينُها؛ ريح، البحر نحن نركبه؛ لكن جعل الله -تبارك وتعالى- البحر هنا يركبهم؛ وهو يُغرِقهم، فالله يُهلِك مَن أراد إهلاكه -سبحانه وتعالى- بجُند من عنده، الله لا يُعجِزه شيء، {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ}، سواء إهلاك هؤلاء الظالمين، أو شيء يُعجِز الله -تبارك وتعالى-، فالله -تبارك وتعالى- لا يعجَز عن فعل شيء في هذه السماوات والأرض، {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ}، ملَك يُعجِز الله، جِن يُعجِز الله، فيفوتونه؛ يهربون منه... لا، الله -تبارك وتعالى- هو مالِك المُلك؛ وقد أحكَمَ مُلكَه -سبحانه وتعالى-، ولا يخرج صغير ولا كبير عن أمره؛ ذرَّة ما تخرج عن أمره الكوني القدري -سبحانه وتعالى- ولا تُفلِت منه، فكل خلْقِه تحت قهره -سبحانه وتعالى-، {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ ........}[الأنعام:18]، فالله -تبارك وتعالى- القاهر فوق العباد جميعًا، كل خلْقِه يخافونه -سبحانه وتعالى-، فملائكته أعظم خلْقِه هم في غاية الخوف منه، قال -جل وعلا- {حم}[الشورى:1] {عسق}[الشورى:2] {كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[الشورى:3] {لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ}[الشورى:4] {تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ}، تكاد السماوات يتفطَّرْن؛ يتشقَّقن، خوفًا من الله من فوقهم، {........ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}[الشورى:5]، فهذه السماوات تكاد تتفطَّر وتتشقَّق خوفًا وفَرَقًا من الله -تبارك وتعالى-، وهذه الملائكة؛ يقول الله -تبارك وتعالى- {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}[النحل:50]، فكل ملائكته وكل خلْقِه يخافوه -سبحانه وتعالى-؛ ومُزعِن له، ومُطيع له، {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}[فصلت:11] {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}[فصلت:12].

فهذا الرب -سبحانه وتعالى- لا يُعجِزه شيء، لا يُعجِزه إقامة السماوات والأرض في ما أقامهم فيه؛ ولا يُكرِثه الأمر، ولا يُثقِله، ولا يُتعِبه -سبحانه وتعالى-، كما قال -جل وعلا- عن نفسه في أعظم آية من كتاب الله؛ وهي آية الكرسي، {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ ........}[البقرة:255]، ومعنى أنه وسِعَها؛ يعني أن السماوات والأرض كلها شيء صغير في كرسي الرب -تبارك وتعالى-، كما قال النبي -صل الله عليه وسلم- «والسماوات في الكرسي كحلقة في فلاة، والكرسي في العرش كحلقة في فلاة»، {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا}، حِفظ السماوات، يئوده؛ يُتعِبه، يُكرِثه، يُثقِله، فلا يكترث الرب -تبارك وتعالى- في أن يُقيم السماوات والأرض كما هي، هذه السماوات العظيمة التي هي كل سماء بالنسبة إلى ما بعدها حلقة صغيرة في فلاة، كأنها بنسبة حلقة في الصِغَر إلى فلاة؛ صحراء كاملة، إلى كرسي الرب -تبارك وتعالى-، كل هذا الله أقامه؛ ولا يُثقِله، ولا يُتعِبه، ولا يُكرِثه، فماذا يمكن أن يُعجِز الرب -تبارك وتعالى-؟ {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ}، أي شيء، {فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ}، يُعجِزه؛ يفوته، يُتعِبه، يتغلَّب عليه... لا، ولذلك تقول الجِن {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعجِزَ اللَّهَ فِي الأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا}[الجن:12]، ما نستطيع أن نُعجِز الله هربًا منه؛ أن نحن نهرب، وبعد ذلك نضيع ولا يستطيع الرب أن يقبِض علينا أو أن يأتنا... لا، بل هم مُقِرون، الجن؛ وهم الذين يختفون من الإنس لا يظهرون، ويدخلون ويخرجون ويمرقون والإنس هذا مهما أوتوا من قوة لا يستطيعون إمساكهم ولا قهرهم، ومع ذلك هم بالنسبة إلى ربهم -سبحانه وتعالى- خلاص؛ لن نُعجِزه هربًا، مهما حاولنا أن نهرب منه فإننا في قبضته -سبحانه وتعالى-، فهذه مخلوقات الله العظيمة كلها تعتقد بأنها في قبضة الرب -تبارك وتعالى- وتحت قهره -سبحانه وتعالى- إلا الكافر؛ الكافر فقط من الإنس، هذا جاهل، مجرم، مخلوق هو من أضعف مخلوقات الله -تبارك وتعالى- بالنسبة للضعف، وين قدرة الإنسان عن قدرة الجِن؟ وين قدرة الإنسان عن الملائكة؟ وين خلْق الإنسان عن خلْق السماوات والأرض؟ مخلوق ضعيف؛ أضعف هذه المخلوقات، ووجوده أقل من وجود هذه الموجودات تمكُّنًا وقيامًا، لكنه أكثر هذه المخلوقات عِنادًا؛ زعمًا، وظنًا أنه يُعجِز الرب -تبارك وتعالى-.

فقال -جل وعلا- {........ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا}[فاطر:44]، جمع بين العِلم والقدرة، عليم؛ بكل خلْقه، ما يخرج شيء عن عِلمه -سبحانه وتعالى-، قدير؛ على كل خلْقه، لا يفلِت منه شيء، ولا يُعجِزه شيء -سبحانه وتعالى-، وجمع بين العِلم والقدرة لأنه العِلم وحده قد يكون بدون قدرة مُنتَقَد، والقدرة كذلك بدون علِم قد يُنتَقَد الأمر، والله -تبارك وتعالى- يُخبِر -سبحانه وتعالى- هنا في ختام هذه الآية؛ التي يُبيِّن الله -تبارك وتعالى- فيها هيمنته، وقدرته على كل خلْقه، وعلى أن يُنفِذ فيهم مشيئته التي لا تُرَد، قال -سبحانه وتعالى- {إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا}، {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا}[فاطر:44].

ثم قال -جل وعلا- {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا}[فاطر:45]، ختام عظيم لهذه السورة، {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا}، يُخبِر -سبحانه وتعالى- أنه لو يؤاخِذ مؤاخذة وقتية فورية كل واحد من خلْقِه إذا أساء وارتكب الذنب؛ عاقبه مُعاقَبة على الفور، ما يبقى على ظهر هذه الأرض من دابة، {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا}، يؤاخذهم في التو واللحظة، يعمل جريمة فيُنزِل الله -تبارك وتعالى- به العقوبة ولا يُمهِله، {مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ}، لا تبقى دابة تسير في الأرض، أي دابة؛ لا إنسان ولا غيره، إذا آخذ الله -تبارك وتعالى- الإنسان بعمله فمن حيث هو؛ يُهلِكه الله -تبارك وتعالى- بعمله، ومن حيث الدواب الأخرى؛ تُهلَك بسببه، فإن هذه الدواب كذلك هي من نِعَم الله -تبارك وتعالى-، هذه كلها هي من نِعَم الله -تبارك وتعالى- على هذا الإنسان؛ فيسلِب الله -تبارك وتعالى- هذه النِعَم، فالأنعام خلَقَها الله -تبارك وتعالى- للإنسان، كما قال -جل وعلا- {........ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}[الشورى:11]، فهذه الأنعام إنما هي عطية ومنحة من الله -تبارك وتعالى- للإنسان، فإذا عاقَب الله الإنسان؛ وسلب منه هذه النعمة، كان فيها زوال لهذه الأنعام؛ وهذه من جملة الدواب، كذلك هذا الذي بثَّه الله -تبارك وتعالى-، ما بثَّه من الدواب إنما هي للإنسان؛ ليتمتع بمرأها، ليتعلم ما فيها، لينظر هقدرة الله -تبارك وتعالى- عليها، فهي نعمة كذلك من النِعَم، فهذه كذلك يُسلَبها الإنسان بما يُسلَب لعقوبته، فعند ذلك لا يبقى على ظهر هذه الأرض من دابة، فهذه بيان بحِكمة الله -تبارك وتعالى- أنه لا يُعاقِب الناس عقوبة في الدنيا مباشِرة للذنب؛ يعني بعد الذنب مُباشَرةً.

قال -جل وعلا- {وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى}، ولكن عقوبة الله -تبارك وتعالى- مؤخَّرَة ومؤجَّلَة إلى أجل مُسمَّى؛ اللي هو يوم القيامة، سمَّاه الله أجل لأنه يأتي بعد، ومُسمَّى لأنه مكتوب محسوب، مُسمَّى؛ سماه الله -تبارك وتعالى-، أنه في اليوم الفلاني؛ في اللحظة الفلانية، في الساعة الفلانية، {إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى}، ولكن هذا الأجل أخبر الله -تبارك وتعالى- أن عِلمه عند الله -تبارك وتعالى-؛ ولم يُطلِع الله -جل وعلا- عليه أحد من خلْقه، كما قال -جل وعلا- {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}[الأعراف:187]، فهذا الأجل المُسمَّى هو يوم القيامة والذي حدَّده الله -تبارك وتعالى-؛ ليُعطي كل إنسان جزائه، ويتم عدل الله -تبارك وتعالى- بين خلْقِه جميعًا، والفصل بين الجميع، ليس الفصل بين الناس فقط بل حتى الفصل بين الحيوانات، كما قال النبي -صلوات الله عليه وسلم- بالنسبة للحيوانات «يُقتَص للشاة الجلحاء من الشاة القرناء»، تأخذ قصاص، والجلحاء؛ التي لا قرون لها، والقرناء؛ التي لها قرون، فإن كانت ذات القرون قد نطحت غير ذات القرون؛ وشمخت عليها بهذا، وآذتها بهذا، وقد أعطاها الله هذا، فالله -تبارك وتعالى- يجعل لغير ذات القرون قرون في الآخرة؛ لتنطح بها هذه، ولتأخذ حقَّها، حتى يتم العدل الإلهي حتى بين الحيوان، ثم يقول الله -تبارك وتعالى- لها كوني ترابًا فتكون ترابًا؛ فهذا لابد.

{وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ}، يؤخِّر الناس، {إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى}، يوم القيامة، وذلك ليأخذ كلٌ جزائه، كل واحد سيأخذ جزائه بمثقال الذرَّة، {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه}[الزلزلة:7] {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه}[الزلزلة:8]، فكلٌ سيأخذ جزائه على مثقال الذرَّة، قال -جل وعلا- {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ}، إذا جاء أجل الناس، {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا}، فالله -جل وعلا- كان بعباده بصيرًا؛ كان مُبصِر لهم، وبصير بكل أعمالهم التي عملوها في الدنيا، وبذلك لن يضيع عليه شيء؛ ما في شيء سيضيع على الله -تبارك وتعالى- من أعمال خلْقه -جل وعلا-، فسيُحاسِبهم وِفق عِلمه الإلهي؛ ووِفق ما يعلمه -سبحانه وتعالى- من أمرهم، {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ}، أجل العباد، {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا}، وهذا من أعظم الزواجِر، يعني هذه الآية من أعظم الزواجِر؛ إخبار الله -تبارك وتعالى- بأنه بصير لكل أحوالهم -سبحانه وتعالى-، جائت هذه في ختام هذه السورة العظيمة؛ سورة فاطر، أو سورة الملائكة، التي ذكَرَ الله -تبارك وتعالى- فيها هذه المواعِظ الكبرى العظيمة، بدءًا بقوله -سبحانه وتعالى- {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}[فاطر:15]، في هذه المواعِظ، وفيها قول الله -تبارك وتعالى- {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ}[فاطر:5] {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ}[فاطر:6]، هذه الآية ما فيها من المواعِظ العظيمة والزواجِر، والآيات؛ بيان الله -تبارك وتعالى- آياته في الخلْق والناس، وقدرته -سبحانه وتعالى-، اسأل الله -تبارك وتعالى- أن يكون قد نفعنا بما في هذه السورة العظيمة؛ من الذِّكر الحكيم، ومن المواعِظ البليغة، استغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصل الله وسلم على عبده ورسوله محمد.