الجمعة 25 شوّال 1445 . 3 مايو 2024

الحلقة (54) - سورة البقرة 187-188

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على عبد الله ورسوله الأمين. وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه وعمل بسنته إلى يوم الدين وبعد...

أيها الإخوة الكرام يقول الله -تبارك وتعالى- {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}[البقرة:187]  

 {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} يخبر -سبحانه وتعالى- أنه قد أحل لعباده ليلة الصيام الرفث أي الجماع معللا ذلك -سبحانه وتعالى- قال: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ} أُحل بالبناء لما لم يُسم فاعله والفاعل هو الله -سبحانه وتعالى- لأن الله هو الذي يحل ويحرم، لأن هذا حقه وتشريعه  -سبحانه وتعالى- أحل لكم أيها المخاطبون من المسلمين ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم أي ليلة أن تكونوا صائمين في شهر رمضان أو في غيره، فعندما فرض الله -تبارك وتعالى- الصوم فإنه كان لا يحل للصائم في شهر رمضان أن يباشر  زوجته في الليل، قد كان هذا محرما، فيصوم في نهار رمضان عن الطعام والشراب والشهوة وكذلك الاستقاءة وكذلك في الليل، إنما يكون للطعام والشراب فقط ولا يحل له أن يجامع أهله .

 ثم إنه قد وقعت بعض حوادث من يعني الصحابة -رضوان الله تبارك وتعالى عليهم-، فعند ذلك خفف الله -تبارك وتعالى- هذا الحكم، فأباح فيه مباشرة النساء وكذلك أباح لهم -سبحانه وتعالى- أن يأكلوا وأن يشربوا إلى الفجر، وقد كان في أول الإسلام أول التشريع كان لا يباح للصائم إذا أفطر طبعا بعد غروب الشمس أن يأكل وأن يشرب بعد أن ينام، يعني له أن يأكل وأن يشرب وأن يستمتع بكافة المفطرات إلى أن ينام، فإذا نام حرم عليه كل ذلك ويكون بدأ الإمساك عن هذه المفطرات من النوم فإن قام وما زال الليل باقيا لابد أن يظل صائما.

 ووقعت كذلك لكثير يعني بعض الصحابة أنه جاء من عمله في يومه الذي كان صائمًا متعبًا فيه جائعًا، فقال لأهله عند الغروب: هل عندكم طعام؟ فقالوا: لا ولكن نخرج نلتمس طعاما، فخرجوا فتأخروا فجاءت وجدت زوجها قد نام، فقالت له كعادة النساء: خيبة لك نمت، فلما قام طبعا إذا قام لا يحل له أن يأكل، فبقي مواصلا للصوم اليوم الثاني فلم يستطع الإكمال، وغُشي عليه فكان أيضا هذا من أسباب تخفيف الرب -سبحانه وتعالى- عن عباده بعد أن وقعت هذه الحوادث قال -جل وعلا-: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ } ليلة الصيام كلها كل الليل، وليس أن يجامع حتى إلى قبل أن ينام بل كل ليلة الصيام.

 ثم قال -جل وعلا-:  هُنَّ أي النساء لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ أي أنكم تخالطوهم كما يخالط الإنسان لباسه أن الرجل والمرأة يكونان في لحاف واحد وفي غطاء واحد، فإن مع هذه الخلطة والملابسة يصعب عليهم أن يظلوا طيلة الشهر على هذا النحو، فلهذه المشقة فإن الله -تبارك وتعالى- خفف هذا الأمر.

قال –جل وعلا-:{عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ} علم الله -سبحانه وتعالى- طبعًا ليس بعد وقوع الفعل فإن الله -تبارك وتعالى- يعلم ذلك قبل أن يقع، بل يعلم ذلك قبل أن يخلق الخلق -سبحانه وتعالى-، لكن الله يخبر عباده -سبحانه وتعالى- قد وقع منهم هذا وأن الذي وقع هذا منهم قد علمه الله  -تبارك وتعالى- فهذا إعلام منه -سبحانه وتعالى- لعباده بأن الله -سبحانه وتعالى- قد اطلع على ما وقع منهم من المخالفة لهذا الأمر عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ تختانون بمعنى تخونون، وتختانون من الزيادة، وخيانة الإنسان لنفسه هو أن يفسد عمله، فإفساده لعمل الصوم إنما هو خيانة لنفسه، فكأنه يخون نفسه وذلك أنه يخرب عمله الصالح عند الله -تبارك وتعالى- .

عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ بمعنى أنه قبل توبتكم وقبل رجوعكم وعلم ضعفكم -سبحانه وتعالى-تاب عليكم من أن يحتم عليكم هذا الأمر ويلزمكم به وإن كان فيه يعني هذه المشقة لكم، وعفى عنكم فيما بدر منكم من هذه المخالفة فإن الله -تبارك وتعالى-قد عفى عنها فلا يؤاخذكم بها -سبحانه وتعالى-.

  فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ الآن بعدما جاءت هذه الإباحة يباشروهن قد أباح الله -تبارك وتعالى-لكم مباشرة النساء، بكل معاني المباشرة سواء المعنى اللفظي، أو المعني النصي اللي هو إلصاق البشرة بالبشرة، أو المعنى المجازي في هذا وهو الجماع.

وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وابتغوا في الجماع ما كتب الله -تبارك وتعالى- لكم، والابتغاء هو الإرادة والسعي ما كتب الله لكم، قيل هنا بمعنى ما كتب الله لكم من الولد وأن هذا حرث يراد به الولد ابتغوا ما كتب الله لكم -تبارك وتعالى- من الذرية الصالحة، أو ابتغوا ما كتب الله لكم مما كتبه لكم بأن تستمتعوا، فهذا فابتغاء الجماع وفيه ما فيه من الاستمتاع، وكذلك إن كان فيه نية صالحة، فهو أجر كما جاء في الحديث «وفي بضع أحدكم صدقة قالوا: أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في حلال فكان له بها أجر»، وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ من الاستمتاع هذا حسنة معجلة، ومن النية الصالحة ففيها أجر كذلك أو من الولد فهذا كذلك.

وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ وكلوا واشربوا هذا أمر إباحة، يعني قد أبحت لكم من الطعام والشراب في ليلة الصوم حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر. الخيط معروف والخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر وهو ظهور بداية النهار والذي يكون معترضا في الأفق، فإن أول ما يظهر النهار يظهر أولًا الفجر الكاذب، وهو الذي يكون كما سماه النبي كذنَب السَرْحان يكون ضوء ومعقوف من آخره، وهذا الفجر وهو يسمى الفجر الكاذب أول ما يظهر هذا المستطيل المعترض هذا أو المستطيل، فهذا لا يحرم الطعام والشراب وإنما الذي يحرم هو ظهور الفجر المستطيل على مد الأفق، يكون من الأفق وهو التقاء السماء بالأرض يبدأ خط النور مستطيلًا ثم ويكون خط الليل فوقه.

 فإذن ظهور هذا الخط الأبيض إذا كان الإنسان يراه الإنسان إذا كان على أرض مستوية، أو على مثلًا ساحل بحر ونظر إلى جهة الشرق فإنه يرى بداية النور، ثم الظلمة فوقه إذا ظهر هذا الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر،  إذا ظهر هذا وتبين عند ذلك يجب الإمساك عن الطعام والشراب والجماع، وأصبح هذا هو بداية الصوم الصحيح.

 ثم قال -جل وعلا-: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} يعني هذه البداية وأتموا الصيام بعد ذلك عن هذه المفطرات إلى الليل وقد فسر النبي الليل هنا بأنه غروب الشمس فإذا غربت الشمس من جهة الغرب ونظر الإنسان في جهة الشرق فوجد أن الليل قد جاء كما قال النبي -صلوات الله وسلامه عليه وسلم-: «إذا غربت الشمس من ها هنا وأشار إلى جهة الغرب وأقبل الليل من ها هنا وهو من جهة الشرق فقد أفطر الصائم».

 فإن الإنسان إذا نظر إلى جهة الغرب في وقت الغروب ورأي قرص الشمس ينزل في الأفق ثم يغيب إذا كان على أرض مستوية في الوقت الذي يغيب فيه قرص الشمس، يكون الليل قد بدأ ظهوره معترضًا كذلك في الأفق من جهة الشرق فهذا هو الليل، هذه بدايته ولا ينتظر حتى يعم ظلمة الليل وتغطي المكان بل هذا إذا قال النبي «إذا غربت الشمس من ها هنا وأشار إلى جهة الغرب واقبل الليل من ها هنا وهو من جهة الشرق فقد أفطر الصائم» يعني انتهى وقت الصوم وأصبح سواء أكل أو لم يأكل قد انتهى الوقت، وقد أفطر الصائم.

 لما نزلت هذه الآية حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ وقع من بعض الناس من الصحابة -رضوان الله عليهم- ظنوا أن هذا إنما يكون الخيط الأسود والخيط الأبيض عقالا، كان أحدهم يأتي بعقال أسود وعقال أبيض ويضعهما في رجله أو تحت وسادته، ثم يظل يأكل ويشرب أو يظن بقاء الليل طالما هو  لم يستطع أن يفرق بين هذا وهذا، فإذا جاء الوقت الذي يفرق فيه بين هذا وهذا عرف أن هذا وقت الضوء فالنبي -صلى الله عليه وسلم- قال لمن فعل هذا وهو عَدي بن حاتم: « إن وسادك  إذن لعريض قال يا رسول الله: إني أجعل تحت وسادتي عقالين أحدهما أبيض والآخر أسود وأكل وأشرب حتى يظهر لي هذا من هذا أو يتبين لي هذا من هذا، فضحك النبي وقال له: إن وسادك إذن لعريض  -يعني وسادك هذا عرض الليل والنهار-  فقال له: إنما ذلك سواد الليل  وبياض النهار » وأنزل الله -تبارك وتعالى- من الفجر فعلموا أن المراد هو الخيط الأبيض إنما هو تعبير بلاغي عن ظهور أول خيط من النهار، وكذلك ظهور خيط الليل اللي هو الأسود فوقه.

ثم قال جل وعلا-:{وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} العاكف هو المقيم في المكان، وهذا المعتكف في المسجد هذا لا يحل له أن يباشر النساء.

 والاعتكاف سنة سنها النبي -صلوات الله وسلامه عليه– وكان النبي يعتكف اعتكف طيلة الرمضانات التي صادمها كلها -صلوات الله وسلامه عليه- وكان اعتكافه في المسجد ابتغاء ليلة القدر، يبتغي أن تدركه ليلة القدر وهو مقيم في المسجد معتكف فيه قائم يصلي ويدعو -صلوات الله وسلامه عليه-، وكان النبي في أول الأمر يظن أن ليلة القدر في أول الشهر، فجاءه جبريل بعد أن اعتكف العشر الأوائل فقال له: يعني ما تريد هو أمامك، فاعتكف العشر الأوسط، ثم أتاه جبريل في آخرها وقال له: الذي تريد  أمامك، فاعتكف العشر الأواخر، ثم اعتكف النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد ذلك في كل رمضان العشر الأواخر من شهر رمضان.

 وكان له فعلٌ وعبادةٌ في هذه العشر ليست لكل العام كما في حديث أمنا عائشة -رضي الله تعالى عنها- كانت تقول" إذا دخل العشر الأواخر من شهر رمضان كان رسول الله -صلى الله عليم وسلم- إذا دخل العشر شد مئزره وأحيا الليل كله وجد واجتهد وأيقظ أهله» . فكان النبي يجد ويجتهد في العبادة بما لا يكون فيه كشأن سائر العام -صلوات الله وسلامه عليه- وشد المئزر  هنا على ظاهره وهو أنه يربط المئزر على وسطه، وقيل أنه كناية ي اعتزال النساء فيعتزل النساء في هذا الوقت، وأحيا ليله كله وأيقظ أهله أي للصلاة -صلوات الله وسلامه عليه- وسلم رجاء أن ينالوا شرف وفضل هذه الليلة ليلة القدر.

 فالله قال : {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ}والمباشرة هنا بمعنى الجماع، وأما مطلق الملامسة فإن هذا يجوز فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يدني أو يدخل رأسه -صلى الله عليه وسلم- إلى غرفة عائشة وكانت في المسجد فترجل رأسه وهو معتكف -صلوات الله وسلامه عليه-، وأما المعتكف فحكم الاعتكاف ألا يخرج من معتكفه  إلا لحاجة الإنسان فقط يخرج لقضاء الحاجة ثم يعود وأن الصحيح أنه ليس عليه أن يقوم  بالأمور المستحبة الأخرى، كعيادة مريض أو إتباع جنازة فإن هذا في حق المعتكف  غير مشروع بل يجب أن يظل في معتكفه لأنه  قد تلبس بعبادة، وهذه العبادة هي اعتكاف ارتبط بها كمن دخل في صلاة أو دخل في حج أو دخل في عبادة يجب أن يتمها ولا يقطعها لأمر آخر ولا يقطعها إلا لضرورة  حاجة الإنسان فيخرج لحاجة الإنسان ويعود، وقال بعض أهل العلم كذلك إذا كان ليس له من يخدمه فيأتي له بالطعام، فيجوز أن يخرج من معتكفه فيشتري طعامه ثم يعود فيه ولذلك لا تشرع يعني لا يشرع الاعتكاف إلا في مسجد جامع، وذلك حتى لا يخرج لصلاة الجمعة في مسجد بعيد بل يجب أن يعتكف في مسجد تقام فيه الجمعة.

وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ بالألف واللام دليل على أن كل مسجد تقام فيه الجمعة فهو مسجد صالح للاعتكاف، ولا يشرع فقط كما قال بعض أهل العلم أن الاعتكاف لا يشرع إلا في المساجد الثلاثة الكبرى في الإسلام فقط وهي المسجد الحرام، ومسجد النبي -صلى الله عليم وسلم-، والمسجد الأقصى بل يشرع الاعتكاف وهذا أجمع عليه المسلمون وهو رأي الأئمة الأربعة وغيرهم، بأن الاعتكاف مشروع في كل مسجد من مساجد المسلمين تقام فيه الجمعة يجوز أن يكون فيه الاعتكاف.

قال -جل وعلا- {تِلْكَ حُدُودُ} هذه التي بينها الله -تبارك وتعالى- يعني في هذه الآيات من حكم الصوم والاعتكاف، حدود الله حدوده هو الحد وهو الأمر الخط الفاصل بين أمرين فالله -تبارك وتعالى- فصل هذه الأحكام ووضع لها حدود، فمثلًا هذا حد الصوم من  هذا الوقت هذه الحدود لابد الالتزام بها  كذلك أن الصائم غير المعتكف له أن يباشر زوجته، الصائم المعتكف ليس له أن يباشر زوجته هذه أمور محدده حددها الله -تبارك وتعالى- . تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا فلا تقربوا هذه الحدود يعني وبالتالي يعني إذا اقترب الإنسان منها تعدها لا يتعدى حدود الله -تبارك وتعالى-وإنما التزم بما حده الله -تبارك وتعالى-لك.

ثم قال -جل وعلا-: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ} كذلك يعني كهذا البيان المفصل الواضح المبين الذي لا يترك في الحق لبسًا يبين الله آياته للناس آياته المنزلة يبينها بهذه الصورة بهذا اللسان العربي المفصل الواضح الذي يفهمه كل من يفهم العربية وكل من يعقل. لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ يتقون ربهم -سبحانه وتعالى-ومعنى التقوى يعني أن يجعلوا وقاية بينهم وبين عذاب الله -تبارك وتعالى-، وكذلك يتقون يراقبون الله -تبارك وتعالى-، فيعملون ويعبدونه -سبحانه وتعالى-وهم يعلمون أنه مطلع عليهم مراقبهم -جل وعلا-. بهذا تنتهي أحكام الصيام والاعتكاف ما حد الله فيه حدوده لماذا شرعه فضل هذا الشهر الذي اختار الله -تبارك وتعالى-الصوم شهر رمضان توجيه العباد إلى أن يشكروا الله -تبارك وتعالى-ويكبروه على ما هداهم لهذا الأمر العظيم ثم عقب الله -تبارك وتعالى-هذا بآية عظيمة

فقال -جل وعلا: -{وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:188]

قال -جل وعلا-:{وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} نهى الله -تبارك وتعالى- عباده المؤمنين أن يأكلوا أموالهم بينهم بالباطل، الباطل ضد الحق وهنا قال: أموالكم لأن مال الأمة مال واحد، فمال أخيك هو في النهاية مالك لأن هذا يشكل مال واحد، وذلك أن المسلمين ينتفعون به في الجملة، في الجملة هو مال واحد وهناك نفع لأن هذا المال يُتبادل حتى ما كان عند الآخرين فإنه يأتي في التبادل في البيع وفي الشراء وغيرها والطرق التي جعله الله -تبارك وتعالى- لأن يكسب هذا المسلم من هذا المسلم فهو مال واحد في النهاية .

وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ في التداول بالباطل، الباطل ضد الحق والله -تبارك وتعالى- قد أباح صور من انتقال المال من الغير كالبيع البين الواضح الذي يبين فيه البائع سلعته ويشتري المشتري على نور، ويبين الثمن الذي سيدفعه، نوع النقود التي سيدفعها هل سيدفع مؤجلًا أم سيدفع حاضرًا، فهذا البيع المستنير بشروطه وبأحكامه التي بينها الله هذا حق البيع ،الإجارة، الوكالة، المشاركة، المضاربة هذه كلها بشروطها وضوابطها حق،

 ثم هناك  أبواب أخرى ضدها من الباطل وهي المقامرة مثلًا، المقامرة الميسر تعالى أقامرك سواء كان المقامرة هذه على لعبة يحذقها إنسان ولا يحذقها إنسان آخر مثلًا، يلعب لعبة ثم يأخذ ماله، أو بالميسر قرعة قد تصيب هذا أو تصيب هذا وتخطئ الباقين، فهذا باطل لأنه ليس هناك تبادل حقيقي، وإنما انتقل مال هذا إلى مال هذا بنوع من الحيلة أو بوسيلة ليست هي وسيلة صحيحة للكسب، وانتقال مال من شخص إلى آخر بالغش، الخداع، الرشاوى، هذه كلها أبواب من الباطل، أبواب من الباطل، الربا جعله الله -تبارك وتعالى- من أسوأ أنواع الكسب ومن الكسب الخبيث فسمى الله -تبارك وتعالى- كل أنواع الكسب أن يكسب الإنسان مال أخيه المسلم بهذه الطرق كسب بالباطل قال: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ} ويُعَبَر عن أخذ المال من الغير أنه أكل له ولذلك قالوا لأن الأكل هو أعظم يعني أبواب النفقة، وبالتالي عبر عن أخذ مال الغير وإنفاقه بأي سبيل أنه أكله بمعنى أنه  أخذه وانتفع به.

وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ ثم بعد هذا التعميم ذكر الله -تبارك وتعالى- بالتخصيص صورة من صور السيئة لأكل المال بالباطل قال: {وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} تدلوا بها إلى الحكام، تدلوا بالمال وهو الرشوة الإدلاء إلي هو الإعطاء الدس والدفع وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ قضاة أو غير قضاة متنفذين لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بالإثم يرشيه ليعطيه حق أخيه المسلم، فيرشى القاضي يرشى الحاكم بمال فيدفعه، فالمال الذي أخذه الحاكم مال باطل وأخذه في سبيل الباطل ثم هذا الحاكم والقاضي حكم له بمال أخيه حكم لهذا الراشي بمال أخيه المسلم فأخذ مال فهنا يكون أكل كذلك الراشي أكل مال الغير بالباطل بأن حرض عليه القاضي والحاكم، فتصير جريمته جريمتين الجريمة الأولى أنه استعان على أكل هذا المال بأن رشى الحاكم ثم أكل مال الغير بهذه الطريقة فهذه أسوأ أنواع أكل المال بالباطل أن يدفع الإنسان مالا للقاضي والحاكم ليأخذ مالا من أخيه المسلم وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا يعني قطعة أو جزء من أموال الناس بالإثم، هذا الإثم هو الذنب وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ وأنتم تعلمون فعلكم إذا فعلتم هذا مع علمك أن هذا باطل هذا جريمة كبرى، وإنك تأكل سحتًا وحرامًا، أو وأنتم تعلمون مغبة ذلك وأن الله معاقب على هذا الفعل، فيكون هذا من قلة العقل وقلة الفهم.

 قيل إن هذه الآية -النهي عن أكل أموال الناس بالباطل-  جاءت بعد الصوم، وكأن فيها بيان وإرشاد أيها الصائم الذي صمت عن طعامك وشرابك الذي هو حلال لك في غير وقت الصوم وأنت امتنعت عنه خوفا من الله -تبارك وتعالى-ومراقبة لله -عز وجل-، فكيف تأكل ما لا يحل لك؟ ليس مالك أنت وإنما مال أخيك المسلم وتلف عليه وتدور عليه بهذه الجريمة ترتكب جريمة لتذهب إلى جريمة أخرى لا يمكن أن تكون صائمًا، وأن تفعل كل هذا الزور فانظر إلى صومك فإن الصوم ينهى عن هذا، ولذلك جاء في الحديث «من لم يدع قول الزور والعمل فليس لله حاجة في أن يضع طعامه وشرابه » وأكبر فاعل للزور هو هذا الذي يرشى الحاكم ليحكم له بحكم أخيه المسلم، هذا أكبر الزور لأن إعطاء الحاكم هذا الزور، والشهادة بأن هذا المال له زور، والاستعانة على هذا الأمر كله من الزور، فلذلك ناسبت هذه الآية أن تأتي بعد آيات الصوم تنبيهًا من الله -تبارك وتعالى- أن من صام عن الحلال امتثالًا لأمر الله -تبارك وتعالى- عن طعامه وشرابه الذي هو في بيته الذي أحله الله ابتغاء خوفًا من الله -تبارك وتعالى- فليصم عن هذا الباب العظيم من أبواب الحرام .

يكفي هذا واصلي واسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم