الجمعة 29 ربيع الآخر 1446 . 1 نوفمبر 2024

الحلقة (540) - سورة يس 1-14

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده والرسول الأمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- بسم الله الرحمن الرحيم، {يس}[يس:1] {وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ}[يس:2] {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ}[يس:3] {عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[يس:4] {تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ}[يس:5] {لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ}[يس:6] {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}[يس:7] {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ}[يس:8] {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ}[يس:9] {وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}[يس:10] {إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ}[يس:11]، هذه سوة يس؛ وهي سورة مكية، بدأ الله -تبارك وتعالى- هذه السورة بهذين الحرفين؛ {يس}[يس:1]، الياء والسين، وشأن هذه الحروف كشأن الحروف المُقطَّعة، أما الذي يتكلم عن معاني الحروف ويقول {يس}[يس:1] يعني يا إنسان؛ وإن كان هذا ذُكِر عن بعض السلَف لكن لا دليل عليه، فشأن هذه الحروف المُقطَّعة التي في أوائل السور واحد؛ فإما إيكال عِلم حقيقة معناها إلى الله -تبارك وتعالى-، مما استأثر الله بعِلمه، أو أنها أدوات تنبيه، أو أنها كما قال بعض أهل العِلم إشارة إلى الحرف العربية، والقرآن قد نزَل عربيًا فيكون إشارة إلى التحدي بهذا القرآن، وذلك أن الله -تبارك وتعالى- جعل القرآن هو مُعجِزة النبي -صلوات الله والسلام عليه-، وتحدى العرب بأن يأتوا بسورة من مثل سوره إن هم شكَّكوا؛ أو اتهموا النبي بأنه قد هو الذي أتى بهذا القرآن، إذن هو بشر مثلهم فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين.

ثم أقسَم الله -تبارك وتعالى- قسَمًا عظيمًا بهذا القرآن الكريم الذي أنزله، فقال {وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ}[يس:2]، قسَم من الله -تبارك وتعالى-، يُقسِم الله -تبارك وتعالى- بهذا القرآن واصِفًا إياه بأنه الحكيم؛ أي المُحكَم، والنازل بالحِكمة من الله -تبارك وتعالى-، والذي يضع كل أمر في نِصابه لأنه كلام الله -تبارك وتعالى- المُنزَل منه؛ كلام الله الحكيم، وهذا من أعظم الأقسام؛ أن يُقسِم الله -تبارك وتعالى- بكتابه وبقرآنه الحكيم، المُنزَل منه -سبحانه وتعالى- على عبده ورسوله محمد -صل الله عليه وسلم-، ثم جاء المُقسَم عليه، فقال {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ}[يس:3]، إنك؛ والخطاب إلى النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه-، {........ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ}[يس:3]، فهذا أعظم قسَم على أعظم مُقسَم وهو النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه- شهادة من الله، والقسَم هنا حلِف بأن النبي محمد -صل الله عليه وسلم- من المُرسَلين؛ من جملة المُرسَلين الذين أرسلهم الله -تبارك وتعالى-، {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ}[يس:3]، أي منه -جل وعلا-، والمُرسَلون هم عباد الله المُصطَفون؛ الذين اختارهم الله -تبارك وتعالى- من سائر خلْقه، اختار كل رسول ليُرسِله إلى قومه، من كل قوم اختار الله -تبارك وتعالى- رسول ليُرسِله، وإن من قرية إلا خلا فيها نذير، ومحمد -صل الله عليه وسلم- هو خير هؤلاء الرُسُل؛ وخاتمهم -صلوات الله والسلام عليه-.

{إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ}[يس:3] {عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[يس:4]، يعني إنك مُرسَل على صراطٍ مستقيم وهو صراط الله -تبارك وتعالى-، فالله -تبارك وتعالى- قد أوقَف النبي على هذا الصراط؛ صراط الله -تبارك وتعالى-، {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} {صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ}[الشورى:53]، فالنبي على صراط مستقيم وهذا من أعظم الأدلة على نبوَّته كذلك؛ فإن هديه، وسمته، ودِله، ودعوته، كلها إنما هي على الاستقامة، فليس هناك أن انحراف في شأنه -صل الله عليه وسلم-، بل النبي قد كان على الصراط المستقيم في كل أقواله؛ وأعماله، وما يدعوا إليه -صل الله عليه وسلم-، وما ينهى عنه -صلوات الله والسلام عليه-، {عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[يس:4] {تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ}[يس:5]، يعني هذا القرآن إنما هو مُنزَّل من العزيز الرحيم -سبحانه وتعالى-، فالقرآن الكريم؛ المُقسَم به، والصراط المستقيم؛ الذي يدعوا النبي إليه، هذا الصراط مُنزَّل من الله -تبارك وتعالى-، فإن علامات ومنارات هذا الصراط هو كلها تنزيل من الله -تبارك وتعالى-، الله أنزله على عبده ورسوله محمد -صل الله عليه وسلم-، فرسم هذا الصراط؛ وبيانه، وبيان مِنهاجه، كله من الله، تنزيل العزيز؛ الغالب، الذي لا يغلبه أحد، الرحيم؛ بعباده -سبحانه وتعالى-، فإن إبانة هذا الصراط وتوضيحه من رحمة الله -تبارك وتعالى- بالعباد؛ لينتشلهم من الضلمات إلى النور، {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}، هداية، وبيان لهم بالصراط، وتوفيقًا لهم -سبحانه وتعالى-، فهذا الصراط صراط النور والضياء الموصِل إلى الله -تبارك وتعالى-؛ إلى جنة الله -تبارك وتعالى-، فنزول هذا الصراط إنما هو من العزيز؛ الغالب، الذي لا يغلبه أحد، وذلك أن الممتنع عنه والخارج عنه فإنه واقع تحت قهر الله -تبارك وتعالى- ومشيئته، والرحيم لأن الله -تبارك وتعالى- من رحمته أنزل هذا الطريق وأبانه؛ رحمة منه -سبحانه وتعالى- بعباده.

ثم قال -جل وعلا- {لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ}[يس:6]، يعني أقسَم الله -تبارك وتعالى- بالقرآن الكريم على أن محمدًا -صل الله عليه وسلم- من المُرسَلين؛ ليُنذِر قومًا ما أُنذِر آباؤهم، قال له {لِتُنذِرَ قَوْمًا}، يعني أن الله -تبارك وتعالى- أنزل لك هذا الصراط؛ وجعلك من المُرسَلين، {لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ ........}[يس:6]، هؤلاء القوم هم العرب؛ قوم النبي -صلوات الله والسلام عليه-، ما أُنذِر آباؤهم إلا آلاف السنين، فإن النِذارة كانت فيهم في إسماعيل أبوهم؛ أبو العرب -عليه السلام-، ثم انقطعت الرسالة فيهم؛ ما بينهم وبين إسماعيل لم يُبعَث فيهم رسول، {........ مَا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ}[يس:6]، عن طريق الله ودين الحق، فإن العرب مكثوا مدة على دين إسماعيل -عليه السلام-؛ والتوحيد، والإيمان بالله -تبارك وتعالى-، ثم درسَ دينهم وجاء مَن غيَّر دينهم وهو عمرو ابن لُحي الخُزاعي؛ الذي أدخل الأصنام إليهم، ثم بعد ذلك بدأ يتآكل وينتهي عِلمهم بالآخرة؛ حتى أصبحوا في عماية منها، وشرَّعوا لأنفسهم بعد ذلك ما شرَّعوا من الضلال والغي، واعتقدوا ما اعتقدوه من الأوهام التي اخترعوها بعقولهم؛ نسبوها إلى الله -تبارك وتعالى-، قولهم إن الله تزوَّح الجِن وولِدَ له الملائكة؛ وأن الملائكة يشفعون، وأنهم بنات، إلى هذه التهاويل الكثيرة والأكاذيب الكثيرة التي نشأت فيهم وسارت فيهم، كما قال -تبارك وتعالى- {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ}[النمل:66]، فهؤلاء القوم الذين لم يُنذَر آباؤهم؛ قال -جل وعلا- {فَهُمْ غَافِلُونَ}، عن الدين والحق، عن دين الله -تبارك وتعالى- وعن الحق، غافلون عن الآخرة، غافلون الحساب، غفلة تامة وجهالة تامة بدين الله -تبارك وتعالى-.

ثم قال -جل وعلا- {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}[يس:7]، حقَّ القول؛ يعني أصبح القول حقًّا، والقول؛ قول الله -تبارك وتعالى-، يعني قول الله -تبارك وتعالى- {لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ}، يعني أن هناك منهم مَن سيتَّبِع هذا الإبليس؛ هذا الشيطان، ويترك طريق الرب -تبارك وتعالى-، كما قال الله له {........ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا}[الإسراء:63]، وقال له الله -تبارك وتعالى- {لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ}[ص:85]، فهذا القول أصبح حقَّا في كثير من هؤلاء الذي أُرسِل لهم النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه-، {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ ........}[يس:7]، المُرسَل لهم النبي -صلوات الله والسلام عليه-، {فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}، حقَّ قول الله؛ أصبح قول الله حقًّا عليهم في أنهم لا يؤمنون، وذلك باتِّباعهم الشيطان وتركهم طريق الله -تبارك وتعالى-.

ثم قال -تبارك وتعالى- {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ}[يس:8]، إنَّا؛ الرب -سبحانه وتعالى-، {جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ}، الغُل هو القيد الذي يكون في العُنق، فالقيد في الرجل وإذا كان في العُنق فهو غُل، {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ ........}[يس:8]، يعني أنه غُل مستطيل من تراقيهم إلى أذقانهم؛ يضرب الأذقان، {فَهُمْ مُقْمَحُونَ}، المُقمَح هو الذي يرفع رأسه مما هناك يدفعه، {فَهُمْ مُقْمَحُونَ}، وكذلك مُقمَحون؛ مدفوعون إلى عذاب جهنم -عياذًا بالله-، {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ}[يس:8] {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ}[يس:9]، وجلعنا من بين أيديهم؛ قدَّامهم، يعني أمامهم سد، {........ وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ}[يس:9] {وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}[يس:10]، يُصبح إنذارك وعدم إنذارك لهم سواء لأنه الله -تبارك وتعالى- صنع بهم هذا الصنيع، وهذا تصوير من الله -تبارك وتعالى- وبيان لحالهم في الدنيا وبُعدِهم عن الهداية؛ أنهم حالهم على هذا النحو، فإذا كان الإنسان مُقيَّد بقيد وهو مُقمَح ويُساق به؛ قيد في العُنق، وقد اتسع قيده من تراقيه إلى ذقنه؛ وأصبح يُجَر بهذا، وأمامه سد، وخلفه سد؛ يمنعه الضوء، لا مجال له لأن يذهب أمامًا ولا خلفًا، وهو كذلك قد طُمِسَ على بصره فهو لا يُبصِر، فهذا خلاص؛ إذن يُساق إلى حتفه، ما يُريد الذي فعل به هذا إلا حتفه، لا فكاك له من هذا الذي هو فيه، فهذا حالهم؛ صوَّره الله -تبارك وتعالى- أن حالهم في الضلالة على هذا النحو، أنه قد كُتِبَت عليهم الضلالة؛ ولُفَّت عليهم هكذا، وأصبح هذا حالهم.

ثم هذا الحال الذي سيكونون عليه في الآخرة؛ العقوبة -عياذًا بالله-، فقال -جل وعلا- {وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}[يس:10]، سواء عليهم؛ يعني هذا وهذا سواء، إنذارك وعدم إنذارك سواء لأنهم لن يؤمنوا؛ ولن تُفتَح قلوبهم لهذا الحق ليفقهوه، ولا أبصارهم ليروا هذا الحق، ولا آذانهم ليسمعوه، {وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}[يس:10] {إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ}[يس:11]، هذا الذي تنفع فيه النِذارة، {إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ}، الذِّكر الذي يُذكِّره؛ هذا الذِّكر هو القرآن، يُذكِّره بربه وإلهه وخالقه ومولاه، يُذكِّره بآخرته، يُذكِّره بمبدأه؛ ومنشأه، ونهايته، ومساره، وطريقه، يُذكِّره بهذا ويُعلِّمه هذا كله، وعلى كل جزئية من هذه قامت عليها البراهين التي لا تُدفَع، فهذا الذي تذكَّر بالذِّكر؛ وذكَرَه، وأخذه، وآمن به، هذا الذي تنفع معه النِذارة، {إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ ........}[يس:11]، خشيه؛ خافه، الرحمن؛ إسم على الله -تبارك وتعالى- الذي وسِعَت رحمته كل شيء، بالغيب؛ وهو لا يراه، يعني قبل أن يرى الله -تبارك وتعالى- ويسمع كلامه؛ إنما جائته أدلته، إنما رأى آثار صنعته، هذه صنعته -سبحانه وتعالى-، رأى آياته الدالة عليه من خلْقه -سبحانه وتعالى-، ورأى آياته المُنزَلة من عنده -سبحانه وتعالى- إلى عباده، فهذا الذي خشي الرحمن حال كونه بالغيب، يعني الله غائب عنه لأنه الله مُحتَجِب عن خلْقه بعظمته وكبريائه -سبحانه وتعالى-، ولكنه قد أقام الأدلة العيانية البصرية على صفاته -سبحانه وتعالى-؛ وأسمائه، ودلائل قدرته -جل وعلا-، وكذلك أقام الأدلة السمعية بما أنزله -سبحانه وتعالى-، فالله -تبارك وتعالى- لا شك فيه، {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ}، الجنة لا شك فيها، النار لا شك فيها، الله أقام على هذا، فالذين خشوا الرحمن خشوه بالغيب لأنهم لم يروا الله -تبارك وتعالى-، وإنما رأوا آياته -سبحانه وتعالى-.

{إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ}، القرآن؛ فهِمَه، عقَلَه، وعلِمَه، وتذكَّر به، {........ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ}[يس:11]، هذا الذي يُبشَّر، بشِّره؛ البِشارة هي الإخبار بما يسُر، يعني أخبره بهذه الأخبار السارة التي جاء النبي يحملها، جاء هذا القرآن بها بالنسبة لعباد الله المؤمنين كأن الله وليُّهم؛ ناصرهم، هاديهم -سبحانه وتعالى-، هو الذي شرح صدورهم، هو الذي زيَّن الإيمان في قلوبهم؛ وحبَّب إليهم هذا، هو وليُّهم في هذه الدنيا، هو ناصرهم، هو الذي سيُحييهم الحياة الطيبة، ثم بشِّرهم بما يستقبلهم بعد ذلك بأنهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون في الآخرة، تستقبلهم الملائكة عند الموت، أنه لهم جنة الله -تبارك وتعالى- ورضوانه، سيُنجيهم الله -تبارك وتعالى- برحمته، بِشارات عظيمة جاء بها الدين؛ وجاء بها هذا النبي بالقرآن من الله -تبارك وتعالى- لعباده المؤمنين، {فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ}، إزالة لذنبه، ستر لكل عيوبه وكل ذنوبه التي أذنبها، {بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ}، الجنة، أجر؛ ثواب على العمل، كل عمل يعمله له أجر عليه، وهو أجر كريم؛ نفيس جدًا، الجنة والخلود، الخلود في دار الخُلد؛ ترابها مِسك، الجنة تربتها المِسك؛ نهر جارٍ، ثمرة يانِعة، ورَوض، وامرأة حسناء، ونهر مُطَّرِد، وبهجة، وسرور، فهذا أجر كريم من الله -تبارك وتعالى-، {فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ}.

ثم قال -جل وعلا- مُبيِّنًا دلائل عظمته وقدرته -سبحانه وتعالى-، {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ}[يس:12]، إنَّا؛ الله -سبحانه وتعالى-، نحن؛ تأكيد على هذا، فتكلَّم بالضمير والضمير، يعني بضميرين؛ ضميرين الرب -تبارك وتعالى-، إنَّا؛ الله، نحن؛ ليكون هذا تأكيد أن الأمر يرجِع إليه لا إلى غيره -سبحانه وتعالى-، {نُحْيِ الْمَوْتَى}، فالله –سبحانه وتعالى- خالق الخلْق هو الذي سيُحي الموتى -سبحانه وتعالى-، {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا}، كل شيء قدَّمه العباد يكتبه الله -تبارك وتعالى-، والكتابة؛ الله -تبارك وتعالى- أخبر بأنه أرسَل على كل نفس حافظ، {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ}[الطارق:4]، مُحصي يُحصي عليها كل عملها، كل عمل الإنسان يُحصى عليه؛ يُكتَب عليه بالصغير والكبير، {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}[ق:18]، {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}[ق:16] {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ}[ق:17]، يتلقَّيان كل ما يُفكِّر فيه ويعمَله؛ بالخطرة، والهمزة، واللمزة، كله يُكتَب، {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ}[ق:17] {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}[ق:18]، ويوم القيامة إذا نُشِرَ كتاب الإنسان فإنه يجد فيه كل شيء، {........ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا}[الكهف:49]، فكل ما يفعله الإنسان مسطور؛ مكتوب عند الله -تبارك وتعالى-.

{إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ ........}[يس:12]، يعني الذي قدَّموه وعملوه في حياتهم وكذلك الذي خلَّفوه من بعدهم؛ الأثر الذي تركوه، والأثر الذي يتركه الإنسان إما أثر حسَن وإما أثر سيئ، فالآثار الحسنة مكتوبة لصاحبها؛ كمَن ترك عِلمًا يُنتَفع به، ترك كتاب يُنتَفَع به، عمَل عملًا صالحًا وانتفع الناس به، بني مسجد وأصبح الناس يُصلون فيه، أوقَف لله وقفًا، ثم أصبح هذا الوقف دار وانتفع الناس به، أي أثر من الآثار التي تكون للإنسان بعده مكتوبة له، وكذلك الآثار السيئة؛ فإن مَن دعى إلى ضلالة كان عليه من الوِزر مثل أوزار مَن اتَّبَعه، لا ينقص ذلك من أوزارهم شيء، فكل داعٍ إلى ضلالة اتَّبَعه بعدها ناس ويموت يستمر كتابة السيئات عليه مادام هذا الأثر السيئ باقٍ، فكلمة من كلمات الشر؛ قالها إنسان، كُتِبَت عليه، مات، ولكنها ظلَّت تستمر في الشر؛ وينبُت عليها ويعيش عليها أشرار اعتقدوها وأخذوها، فيظل كذلك يعود على الفاعل الأول، كما قال النبي -صل الله عليه وسلم- «ما من نفس تُقتَل ظلمًا إلا كان على ابن آدم الأول كِفلٌ منها»، ابن آدم الأول؛ الذي قتل أخاه، قال النبي «لأنه أول من سنَّ القتل»، فهو أول من قتَل وسنَّ القتل في بني آدم، فلذلك كل نفس تُقتَل ظلم يصير على القاتل ظلم إثمها؛ وكِفل مثل هذا الإثم يكون على القاتل الأول، {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ ........}[يس:12]، فيُكتَب العمل في أثناء الحياة وكذلك الأثر الذي يتركه صاحبه بعد الحياة، {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ}، كل شيء مما يقع في هذا الكون ويقع في الخليقة أحصيناه؛ إحصاء العد، يعني عُدَّ وكُتِب في إمام مُبين، إمام؛ كتاب، هو إمام الكتب، مُبين؛ بيِّن، واضح، كل شيء فيه مُفصَّل، وهو اللوح المحفوظ، الله المحفوظ قد كتب الله -تبارك وتعالى- فيه مقادير كل شيء، وكل ما يقع في الكون من حركة وسكون وفعل أي فعل قد أُحصي في هذا اللوح المحفوظ، قبل أن يخلُق الله -تبارك وتعالى- هذا الخلْق؛ ويُجريه، ويُسريه، فهو مكتوب، فالله -تبارك وتعالى- أخبر بأن هذه كتابة بعد كتابة، الله مُحصيها وعالِمها -سبحانه وتعالى-؛ وتُكتَب عن طريق الملائكة لكل إنسان، {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ}[الطارق:4]، وقد كُتِبَ هذا كله مردُّه إلى إمام مُبين، الإمام هو الفرد المُقتدى به، هذا إمام الكتب، كل الكتب بعد ذلك ترجِع إلى هذا الكتاب؛ الذي أحصى الله -تبارك وتعالى- فيه مقادير كل شيء قبل أن يخلُق الخلْق -سبحانه وتعالى-.

بعد هذه المُقدِّمة لهذه السورة جاء هنا في شيء من التفصيل في ضرب مثَل، ضرب الله مثَل بقصة لقرية جائها رُسُل مُعزَّزون؛ ثلاثة رُسُل، ثم قامت لهم الأدلة، ثم بعد ذلك لم يؤمن من هذه القرية إلا رجل واحد فقط، ثم جاء الهلاك، فهذا لبيان أن هذا النبي محمد -صلوات الهل والسلام عليه- إنما أُرسِل إلى هؤلاء القوم؛ الذين لم يُنذَر آباؤهم، وأنه مُرسَل إلى الناس جميعًا، ولكن الذين يؤمنون به يكونون قِله بالنسبة للذين يكفروا به، كما قال النبي -صلوات الله والسلام عليه- «ما أنتم في الأمم إلا كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود، أو كالشعرة السوداء في جلد الثور الأبيض، أو كالرقمة في ذراع الحمار»، أنكم قليلون بالنسبة للأمة، وهذا حُكم الله -تبارك وتعالى- ومشيئته وسُنَّته الجارية في كل الأمم، كما قال -تبارك وتعالى- {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ}[الشعراء:8] {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}[الشعراء:9]، هذه الآية التي تأتي في سورة الشعراء بعد إهلاك الله -تبارك وتعالى- لكل قوم من الأقوام الظالمة؛ قوم نوح، وعاد، وثمود، وقوم لوط، وأصحاب مديَّن، وفرعون، قال -تبارك وتعالى- في إثر إهلاكهم {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ}[الشعراء:8] {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}[الشعراء:9]، فشأن النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه- في أمته وفي الناس شأن إخوانه؛ الذين سبقون من الرُسُل، {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ}[يس:3] {عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[يس:4] {تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ}[يس:5] {لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ}[يس:6] {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}[يس:7]، {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ}، قول الله -تبارك وتعالى- بأن كل مَن كفر واتَّبَع الشيطان فإنه مُقمَح إلى النار، {........ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}[يس:7] {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ}[يس:8] {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ}[يس:9] {وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}[يس:10]، تنفع النِذارة هنا؛ {إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ}[يس:11]، هؤلاء هم أهل الله، هؤلاء هم أتباع الرسول، هؤلاء هم الذي تُفيدهم الذِّكرى؛ يُفيدهم نزول هذا القرآن، {إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ}[يس:11]، ثم أخبر -سبحانه وتعالى- أنه لن يضيع منه شيء؛ ولا يضيع عليه شيء -سبحانه وتعالى-، {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ}[يس:12].

ثم جاء ضرب المثَل بهذه القرية؛ التي جائها المُرسَلون، وأقاموا الأدلة، وقامت كل الأدلة على صدقهم وأمانتهم، ولكن القوم كفروا بهم وقتلوا المؤمن الوحيد الذي خرج منهم؛ قاموا عليه فقتلوه، قال -جل وعلا- {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا}، مَثلًا لحال هذا العِناد والتكذيب من الأمم، {........ أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ}[يس:13]، قال -تبارك وتعالى- أصحاب القرية ولم تُعيَّن هذه القرية؛ أين كانت؟ وفي أي مكان من الأرض كانت؟ ولم يُبيِّنها النبي -صلوات الله والسلام عليه-، وليس في وراء تعيينها بالذات كبير فائدة للمُستمِع، فإن الله -تبارك وتعالى- أخبر بأن هناك قرية كان فيها هذا الشأن، والذين قالوا في هذه القرية ما قالوا إنما قالوا هذا بالظن والتخمين؛ وليس عندهم دليل على أين كانت هذه القرية، والعِبرة حاصلة بما قصَّه الله -تبارك وتعالى- من شأن هذه القرية، قال {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ}[يس:13]، اذكُر إذ جائها المُرسَلون من الله -تبارك وتعالى-؛ ليُنذِروا أهل هذه القرية، ويدعوهم إلى الله -تبارك وتعالى-.

{إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ}[يس:14]، إذ أرسلنا؛ اذكُر، {إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ}، من الرُسُل، وهذا تأكيد على هذا الأمر ليُصدِّق بعضهم بعضًا، {فَكَذَّبُوهُمَا}، قابلوهم بالتكذيب، قالوا لهم أنتم كذَّابين وهم يعلمون صدقهم، قال -جل وعلا- {فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ}، التعزيز به؛ التقوية، يعني قوينا الرسولين برسول ثالث كذلك يأتيهم، {فَقَالُوا}، أي مجموع الرُسُل، {إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ}، إنَّا؛ نحن الثلاثة قد أرسلنا الله -تبارك وتعالى- إليكم، {قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا}، قالوا؛ يعني هؤلاء أصحاب القرية لرُسلِهم، {مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا}، يعني ولماذا تتفضَّلون علينا؟ ويختاركم الله -تبارك وتعالى- من دوننا؟ بدأ هنا الاعتراض بما لا وجه للاعتراض به، وماذا في هذا؟ أن يختار الله -تبارك وتعالى- من القوم رسول أو أكثر يُرسِله -سبحانه وتعالى- إلى القوم؛ ليُنذِروهم، ويُحذِّروهم، لكن {قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا}، واقترحوا أن يكون الأمر على غير هذا كما هو شأن كل المُكذِّبين؛ لماذا لا تأتي ملائكة؟ لماذا الله اختاركم؟ لماذا فضَّلكم علينا؟ {قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا}، ثم تدرَّجوا في العِناد فقالوا {وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ}، فنفوا كل الرسالات، لستم أنتم وحدكم الكذَّابين؛ بل ما أنزل الرحمن من شيء قط عليكم؛ ولا شيء قبل هذا، {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ}، ثم حصروهم في الكذب وقالوا ما أنتم إلا كذَبَة؛ ولم تُرسَلوا من الله -تبارك وتعالى-، وإنما فقط ليس حالكم إلا حال الكذب، {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ}، فقال لهم رُسُلهم {قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ}[يس:16].

وسنعود -إن شاء الله- إلى تمام هذه القصة في الحلقة الآتية، نقف هنا؛ وأُصلي وأسلِّم على عبد الله ورسوله محمد.