الحمد لله رب العالمين, وأصلي وأسلم على عبد الله ورسوله الأمين, وعلى آله وأصحابه, ومن اهتدى بهديه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد... فيقول الله -تبارك وتعالى-: {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ وَإِذَا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ}[الصافات:1-11]: هذه سورة الصافات بدأها الله -تبارك وتعالى- بهذه الأقسام العظيمة فقال -جل وعلا-: وَالصَّافَّاتِ صَفًّا: الصافات الملائكة تصف عند الله -تبارك وتعالى- أقسم الله -تبارك وتعالى- يقسم الله -جل وعلا- بالملائكة حين كونها تصف صفوفا عند ربها -سبحانه وتعالى- عبادة له قائمة في الصلاة, وكذلك هم صفوف في عدادة الرب -تبارك وتعالى-, ومنه قول الله -تبارك وتعالى-: {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ}[الصافات:165-166]: وإنا لنحن الملائكة صافون بين يدي الرب -تبارك وتعالى- يعبدونه بالصلاة, وإنا لنحن المسبحون لله -تبارك وتعالى- فهم في تسبيح, وفي عمل وفي عبادة لله -تبارك وتعالى- دائمة قال النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها, فقالوا وكيف يصفون؟ وكيف تصف الملائكة يا رسول الله؟ قال : يتم الصف الأول فالأول أي أنهم يكملون صفًا فصفًا فصفًا, وهكذا فهم يصفون صفوفا عند الله -تبارك وتعالى-, وفي الحديث إن البيت المعمور يدخله كل يوم من الملائكة سبعون ألفا يصلون فيه صلاة واحدة, ثم لا يعودون إليه إلى يوم القيامة, فهم في تسبيح وفي عمل لله -تبارك وتعالى- هم الصافون بين يدي الله -عز وجل- يقسم الله -تبارك وتعالى- بهم بهؤلاء الملائكة العظام حيث يصفون في صلاتهم لله -تبارك وتعالى- وَالصَّافَّاتِ صَفًّا: أي والملائكة الصافات لله -تبارك وتعالى- صفا, فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا هذه أيضا وصف للملائكة أنهم يزجرون زجرا, والزجر هو النهر الشديد والملائكة تزجر أشياء كثيرة من الخلق كما جاء في الملك الموكل بالسحاب فإنه يزجره يأمره أمرًا شديدًا فيسوقه إلى هذا المكان ويسوق إلى هذا المكان هذا الملك الموكل بالسحاب, وهناك كذلك زجرهم للكفار عند قبض أرواحهم وقتلهم وأرواح الكفار كما في قول الله -تبارك وتعالى- {فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ}[محمد:27] {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ}[آل عمران:182], وكذلك يزجرون الكفار عند إدخالهم العذاب عياذا بالله كما قال -تبارك وتعالى- في الكفار {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ}[الطور:13-14] والذي يدعهم على هذا النحو ويدرهم ويزجرهم على هذا النحو هو الملائكة, وكذلك يزجروهم في النار زجرا, فعندما يستغيثوا بهم يقولون لهم ألم تأتيكم رسلكم بالبيانات قالوا بلى, فعند ذلك يزجرون ويقال لهم أصلوا وأبقوا فيما أنتم فيه, وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ فيزجرونهم عن هذا الأمر فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا: زجر فيما أقامه الله -تبارك وتعالى- فيهم من الخلق والزجر لأهل الكفر والعناد دزا لهم ودعا لهم إلى النار -عياذا بالله- فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا هذا من كذلك من أوصاف الملائكة أنهم يتلون يقراءون ذكر لله -تبارك وتعالى- قراءتهم للقرآن كما أخبر الله -تبارك وتعالى- بأن صحائف هذا القران {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ}[عبس:15], {كِرَامٍ بَرَرَةٍ}[عبس:16], فهذه صحف مطهرة القرآن بأيدي سفرة أي بيض الوجوه كرام بررة يقراءون كلام الله -تبارك وتعالى- يقراءون كتاب الله, وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: الماهر بالقرآن يوم القيامة مع السفرة الكرام البررة, يقال لقارئ القرآن اقرأ ورتل كما كنت ترتل في الدنيا وارتقي أي في السماء فإن منزلتك عند آخر آية تقراءها, فالماهر بالقرآن يجمعه الله -تبارك وتعالى- مع قارئ القرآن مع السفرة الكرام البررة, فهم يتلون ذكرى يقراءونه إما يقراءونه بهذه الصحف, وكذلك قراءتهم لذكر الله -تبارك وتعالى- وتسبيحه كما قال الله -تبارك وتعالى-: عنهم {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ}[الأنبياء:20], وقال: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ}[الأعراف:206]: فهذه أوصاف عظيمة للملائكة الذين أقامهم الله -تبارك وتعالى- يقسم الله -تبارك وتعالى- بهم وَالصَّافَّاتِ صَفًّا فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا.
ثم لما أقسم الله -تبارك وتعالى- بهؤلاء العباد المكرمين ملائكته -سبحانه وتعالى- الذين هم في طاعته وفي أمره, وفي ذكره في شأن الذي يرسلهم الله -تبارك وتعالى- به فهم قائمون في الصلاة, أو يرسلهم الله -تبارك وتعالى- فيما يرسلهم به من شئون الخلق, وهم كذلك ذاكرون تاليون لذكر الله -تبارك وتعالى-, هذه الأقسام أما المقسم عليه قال -جل وعلا-: إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ: هذا المقسم عليه, وهذه أعظم الحقائق إن إلهكم أيها الخلق المخاطبون بهذا القرآن, أيها الناس المخاطبون بهذا القرآن إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ إلهكم معبودكم الإله المعبود, والذي يستحق العبادة في كل الوجود واحد, وهو الله -سبحانه وتعالى- ذلك أنهم خالق الخلق كله -سبحانه وتعالى-, ومدبره الذي بيده ملكوت كل شيء -سبحانه وتعالى-, فما من خلق إلا خلقه, وما من نعمة إلا منه, إذن هو الذي يستحق العبادة وحده -سبحانه وتعالى-, وكل عبادة لغيره تبقى باطلة أي عبادة أي نوع من العبادة كل ما يدخل في مفهوم العبادة, ومفهوم العبادة مفهوم كبير أقوال وأعمال, وصفات فمحبة القلب ورجاءه وطمعه وخوفه هذه أعمال القلوب, كذلك أعمال الأبدان من السجود والركوع والقيام من الذبح والنذر كل هذه أمور من أمور العبادات اختص الله -تبارك وتعالى- بها نفسه, وأمر العباد إلا يصرفوها لغيره لأنه هو المستحق لذلك, فكل ما صرف من هذه العبادة لغيره فاتخذ إلها من دونه يعبد بشيء من هذه العبادات فباطل؛ لأنه اتخذ له إلها غير الله -تبارك وتعالى-, والحال أنه لا إله للخلق كلهم إلا خالقهم -سبحانه وتعالى- ورازقهم ومتولي شئونهم -سبحانه وتعالى- إن إلهكم لواحد فيبقى بعد ذلك كل من اتخذ له إلها غير الله -تبارك وتعالى-, فلا شك أنه باطل, ثم أخبر الله -تبارك وتعالى- عن هذا الإله الذي يستحق الإله وحده قال: {رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ}[الصافات:5]: هذا هو الإله الواحد رب السماوات والأرض, الرب السيد الرب في لغة العرب السيد, ويقول العرب لأن يربني كما قال صفوان بن أمية قال: لأن يربني رجل من قريش خير من أن يربني رجل من هوازن يربني يزودني ويقودني, فالرب في لغة العرب السيد, والرب في لغة العرب كذلك المالك يقول أحدهم أن رب الإبل, أنا رب هذا البيت مالكه وصاحبه, والرب المربي وكل هذه صفات في معاني الرب ثابتة لله -تبارك وتعالى- فالله -تبارك وتعالى- هو السيد الذي انتهى وبلغ سؤدده الغاية فلا سيد للكون إلا هو -سبحانه وتعالى- وهو -سبحانه وتعالى- رب العالمين مالكهم -سبحانه وتعالى-, وذلك أنه هو خالقهم فهو خالق الخلق -سبحانه وتعالى-, وهو مربي عباده -سبحانه وتعالى- بما يربيهم بنعمه -جل وعلا- وبتعليمه فهو الذي علم القرآن -سبحانه وتعالى-, فهو مربي العباد -جل وعلا- فالله رب العالمين رب السماوات والأرض خالقها مالكها والمتصرف فيها -سبحانه وتعالى- رب السماوات, وهي سبع كما أخبرنا الله -تبارك وتعالى- وإن كنا لا نعلم من هذه السماوات ما يصل علمنا إلا إلى ما قبل السماء الدنيا وإلا فالسماء الدنيا فوق علومنا وفوق إدراكاتنا قد أخبر الله -تبارك وتعالى- بأن ما فوقنا سبع سماوات, وأنه خلق سبع سماوات طباقا قال: {........ مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ}[الملك:3-4] أن يبلغ امتداد هذه السماوات, رب السموات والأرض هذه الأرض الكوكب الصغير الذي نعيش عليه هو هذا ربه -سبحانه وتعالى- هو خالقه هو الذي أقامه هو الذي صنع فيه ما صنع -سبحانه وتعالى-, وما بينهما ما بين السماوات والأرض وما بينهما من خلق عظيم من نجوم من شموس من أقمار من مجرات, كل هذا ما بين السماوات والأرض الله خالقه -سبحانه وتعالى- ورب المشارق قال ورب المشارق, المشارق جمع مشرق وهي بالنسبة إلى كل كوكب له مجموعة من المشارق أماكن يشرق منها, كما أن مثلًا الشمس تشرق علينا في نحو بعدد أيام السنة كل يوم تشرق من مكان آخر من موقع آخر غير الموقع الذي تكون فيه فعندها 360 مشرق من أقصى الشمال إلى الجنوب, وكذلك نفس الأمر العدد في المغارب, كل كوكب من الكواكب له مواقع في شروقه وفي غروبه, وكذلك كل نجم له مشرق وله مغرب فرب المشارق كل الأماكن التي تشرق منها هذه النجوم, وبالتالي هو رب المغارب لأنه إذا كان رب المشارق -سبحانه وتعالى- فهو كذلك رب المغارب -جل وعلا- ورب المشارق المواقع التي تشرق كل منها كل النجوم, وكذلك يشرق منها كل نجم على حدة ورب المشارق؛ إذن هذه صورة كل الكون الذي حولنا السماوات والأرض, وما بين السماوات والأرض وهو رب المشارق -سبحانه وتعالى- كل الأماكن التي تشرق فيها هذه النجوم, أو هذه المجرات وبالتالي كل مواقع التي تغرب فيها لأن كل ما يشرق لابد أن يكون له مغرب.
فهذا هو الرب الذي هو الإله قال: {إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ........}[الصافات:4-5] ما دام أنه رب السماوات والأرض وما بينهما ورب المشارق إذن هو إلهكم لا إله إلا هو لأنه من يستحق الألوهة إلا من هذه صفته رب السماوات والأرض وما بينهما ورب المشارق, ثم شرع الله -تبارك وتعالى- يبني شيء من هذا الخلق بعد أن أعطى هذا العموم لهذا الخلق الذي حولنا بالخصوص قال: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ}[الصافات:6]: هذا أقرب شيء إلينا نحن في الأرض أقرب شيء إلينا هذه الزينة من زينة السماء التي فوقنا فقال إن الله -سبحانه وتعالى- رب السماوات والأرض, زينا جملنا الزينة هي تجميل جملنا هذه جعلناها جميل السماء الدنيا القريبة من الأرض بزينة, ثم بين هذه الزينة فقال الكواكب زينة عظيمة جدا هذه الكواكب وهذه النجوم سواء كان نحن بالعرف الآن أو بالمعني الاصطلاحي الكوكب جسم معتم في ذاته بارد أو حار بحسب قربه وبعده من الشمس, هذا القريب منا والنجم جسم ملتهب هذا من حيث المعنى الاصطلاحي لكن من حيث كلام العرب فإن كل هذه الأجسام المضيئة في السماء كلها كواكب سواء كانت هي مشتعلة كالنجم كالشمس أو كانت باردة كالقمر, فهي كلها كواكب في لغة العرب والقرآن نزل بلغة العرب فالشمس أعظم هذه الزينة, ثم هذه النجوم التي تتناثر بعد ذلك يعني في جنبات السماء في ليلها جعلها الله -تبارك وتعالى- زينة للسماء وحتى نعرف حقيقة هذه الزينة فلنتصور عدم وجودها أو لم تكن موجودة, أو لم تكن موجودة لكانت هذه السماء مظلمة تمام الإظلام, ثم لم تكن هناك ثمة حياة ليس جمالًا فقط, ثم لم تكن أيضا أي حياة لكن كان سيكون هذا الوجود الذي نحن فيه وجود معتم مظلم مقفر كئيب بكل معاني الكآبة, لكن الله -تبارك وتعالى- لما نصب هذه الكواكب العظيمة هذه الشمس في بهائها, وسموها ورفعتها وضوئها جمل النهار والسماء بهذه الزينة العظيمة, ثم لما ذهبت الشمس وجاءت الكواكب الأخرى وأنارت السماء وأصبحت صفحة بهذه الصفحة الزرقاء, ثم فيها هذه الكواكب هذه النجوم المعلقة وهي تتلألأ في جو السماء, أولا تتلألأ اللي هو الكوكب بالمعنى الاصطلاحي جعلها زينة عظيمة جدا ولو كانت السماء في الليل كذلك بدون هذه بدون القمر وبدون النجوم لكانت كذلك سوداء معتمة موحشة, أي تكون في غاية الإحاشة وفي غاية الرعب كما هي مثلًا الأحوال التي يغطي فيها السحاب هذه الزينة, فإنها تبقى الأرض موحشة مظلمة فالله -تبارك وتعالى- أخبرنا بأنه زين لنا هذه السماء الفاعل لهذا هو الله -تبارك وتعالى- هو الرب هذا هو صفة الرب, وبالتالي هو الإله -سبحانه وتعالى- الذي يجب أن يؤله يعبد وحده -جل وعلا-.
قال: {وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ}[الصافات:7]: هذه فائدة أخرى من فوائد خلق هذه الكواكب قال حفظًا تحفظ من كل شيطان مارد شيطان عاتي متمرد, المارد هو العاتي الشديد التمرد والقوة والعتو, وهم هؤلاء الشياطين الذي يكرب بعضهم بعضًا إلى العنان وإلى السماء ليسترقون السمع فإن من فعل الشياطين أنهم كما أخبر النبي -صلوات الله وسلامه عليه- يركب بعضهم بعضا إلى العنان, أو إلى السماء الدنيا ليسمعون الخبر من السماء, وذلك أن الله -تبارك وتعالى- إذا قضى الأمر أمر ما سيقضيه -سبحانه وتعالى- في المستقبل فإنه يتكلم به, وأن الملائكة إذا سمعت كلام الرب -تبارك وتعالى- صعقت عند كلامه, ويكون أول من يفيق من الصعق جبريل فيعي كلام الله -تبارك وتعالى- فتسأله الملائكة: ماذا قال ربك يا جبريل؟ يقول قال: الحق وهو العلي الكبير كما قال -سبحانه وتعالى-: {........ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}[سبأ:23]: فيخبرهم بما قضاه الله -تبارك وتعالى- ويصبح الملائكة يتناقلون هذا الخبر من سماء إلى سماء, الشياطين يركب بعضهم بعضًا ليسمعوا, ويسترقوا السمع من الملائكة فيما يقولون به, فأحيانًا بعضهم يصل إلى أنه يخطف الخطفة.
قال -جل وعلا-: {لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الأَعْلَى ........ }[الصافات:8] هؤلاء الشياطين لا يسمعون لا يستطيعون الاستماع طويلًا يسمعون هنا من المبالغة في السمع, ومن تكثيره إلى الملأ الأعلى, وإنما هذا لا ينفي أنهم يسمعون لا يسمعون إلى الملأ الأعلى وهم الملائكة, الملأ الجماعة التي في العلو عند الله -تبارك وتعالى- وهم ملائكة وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ: بهذه الشهب بهذه الكواكب التي جعلها الله -تبارك وتعالى- في السماء ينطلق منها الشهاب وهو الكتلة المشتعلة من النار والتي تخرج مخترقه فيضرب بها هؤلاء الشياطين, يخبر النبي -صلوات الله وسلامه عليه- بأن هذه الشيطان عندما يركب بعضها بعضًا إلى السماء تسترق السمع فإنها تستمع فمنهم من يأخذ الكلمة يخطف الخطفة من كلام الملك ثم يقرها إلى من تحته فإما أن يلحقه الشهاب قبل أن يقر هذه الكلمة, وإما أن يقر الكلمة قبل أن يلحقه الشهاب فإذا أقرها أعطاها هذا الشيطان إلى من بعده ثم إلى من بعد ثم إلى من بعده, ولكن كل يزيد فيها ثم بعد ذلك يقرها الشيطان في آذان الكهان وهم لهم صلة بهؤلاء الجن ولكن يكون قد اجتمعت خبر واحد من خبر السماء خبر صادق مع مائة كذبة كذبها الشيطان عندما نقلوا هذا الخبر, فمثلًا يقولها لهذا الكاهن, والكاهن يخبر بها كعراف أو كاهن بأنه سيكون كذاك وكذا يصدق تأتي أمر أحيانًا يصدق ويحصل ما أخبر به ومرات كثيرة يكذب, فهذه هي المرة التي يصدق فيها وهذا قد شاءه الله -تبارك وتعالى- اختبار لعباده والله -تبارك وتعالى- يصور هذه الحالة من هذا الخلق خلق الجن, وأنهم هذا حالهم أنهم يتسابقون ويحاولون هذه الشيطان مردة الشياطين أن يسمعوا للملأ الأعلى أن الله -تبارك وتعالى- جعل من فوائد النجوم هو ضرب هؤلاء الشياطين بهذه الشهب قال -جل وعلا-: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ}[الصافات:6] هذه فائدة {وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ}[الصافات:7] أنها تحفظ السماء من كل شيطان مارد {لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ}[الصافات:8] هؤلاء الشياطين ويقذفون من كل جانب من كل جانب من جوانب السماء بهذه الشهب دُحُورًا: أذلة دحورا, أي أنه ذليل دحر بهذا القذف الذي يقذف به {........ وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ}[الصافات:9] ولهم عند الله -تبارك وتعالى- عذاب واصب دائم, وهذا في الآخرة هؤلاء المردة من الشياطين الكفار يعذبهم الله -تبارك وتعالى- يوم القيامة عذابا واصبًا دائما لا ينفك عنهم ولهم عذاب واصب.
قال -جل وعلا-: {إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ ........}[الصافات:10] أي من هؤلاء المستمعون {........ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ}[الصافات:10] اتبعه اتبع الشهاب الشيطان المارد الذي خطف هذه الخطفة ثاقب ومعنى أنه ثاقب: هو الذي يظهر ضوءه ويثقب الظلام لأن الشهاب عندما نراه في الظلمة نراه كأنه مخراق من النار ثقب الظلام فاتبعه شهاب ثاقب, ثم قال -جل وعلا-: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ}[الصافات:11] فاستفتهم اطلب فتوى هؤلاء الكفار ليخبروك بما عندهم من هذه طبعًا انظر تباين بيَّن ضلال هؤلاء الكفار وبين الحق الذي يخبر الله -تبارك وتعالى- عنه هو الحق القائم فاستفتهم أهم اشد خلقا أهم هؤلاء الكفار من الناس البشر أشد خلقا في الخلق أم من خلقنا من السماوات, ومن الأرض, ومن الملائكة العظام القائمين بأمر الله -تبارك وتعالى-, بل وأيضًا من الجن الذين يسترقون السمع لهذا النحو فاستفتهم أهم أشد خلقا أي البشر أشد خلقًا أم من خلقنا من هذا الحلق العظيم السماوات والأرض والنجوم, وهذه الشموس والكواكب وهذه الشهب.
ثم قال -جل وعلا-: {........ إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ}[الصافات:11]: إنا الله -تبارك وتعالى- خلقناهم البشر من طين لازب الطين معروف وهو هذا التراب إذا عجن وخمر بالماء أصبح طين, واللازب هو المتماسك الذي تتماسك ذراته وأجزاؤه بعضها ببعض؛ فالطين يكون في أول أمره إذا وضع له الماء يكون هش متفاوت, ثم إذا خمر ويصير لازب بمعنى أنه قوي متماسك بعضه مع بعض, وهذا الذي يمكن أن يشكل منه الصورة, وقد خلق الله -تبارك وتعالى- الإنسان على هذا النحو كما قال إني خالق بشرًا من طين من حمأ مسنون فهو الحمأ المسنون الطين الذي تخمر, وأصبح على هذا النحو وصفه الله هنا بأنه من طين لازب هذا اللين المتماسك الشديد الذي دخلت أجساده بعضها بعض, وأصبح فيه لِزُوجَة ولصوقة, أين الإنسان الذي هذا أصل خلقته من هذا الطين الهابط الذي هذه صفته, وبين هذا التفاوت في الخلق العظيم من خلق السماوات والأرض خلق الشهب خلق الملائكة بل وخلق الجن الذي يعني أصلهم من هذا الأمر الشديد وهو النار قال -جل وعلا- {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ وَإِذَا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ}[الصافات:12-13] بل عجبت للمخاطب إما للنبي -صلوات الله وسلامه عليه-, وإما للمخاطب بهذا القرآن أنه إن هذا أمر عجب أن يكون الله -تبارك وتعالى- رب العالمين الإله الواحد رب السماوات والأرض, وما بينهما هو خالق الخلق على هذا النحو وهو إلههم, ثم بعد ذلك يشرك به -سبحانه وتعالى-, ويكفر به أمر لا شك أنه يدعو إلى العجب من حال هؤلاء الناس الذين خلقهم الله -تبارك وتعالى-خالق البشر من هذا الطين اللازب, ثم بعد ذلك يكفر بربه ويتخذ له إلهًا دون الله -تبارك وتعالى-, وهم يسخرون, يسخرون من كل ما جاء به الدين يسخرون من النبي ويستهزئون به ويسخرون من أن هناك يوم قيامة يبعثون فيه بيدي الله -تبارك وتعالى-, ويرون أن هذا أمر ما يدعو إلى سخرية واستهزاء كيف {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ}[الصافات:53]: نخرج بعد ذلك من قبرونا ويحاسبنا الله -تبارك وتعالى- فيسخرون من هذا أشد السخرية ويستهزئون به قال: {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ وَإِذَا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ}[الصافات:12-13]: أي من الأمر أمر الذي يثير كذلك العجب كل العجب أن هؤلاء الكفار إذا ذكروا لا يذكرون ذكروا بماذا ذكروا بالله -سبحانه وتعالى- خالقهم وخالق هذا الكون -جل وعلا- إذا ذكروا بمآلهم ونهايتهم لا يذكرون, ما يجعلون لهذا ذكر في قلوبهم لا يستحضرونه ولا يفقهونه ولا يفهمنه, ولا يستحضرونه بل يجعلونه ويتركونه وإذا ذكروا بربهم وإلههم وخالقهم الإله الواحد لا يذكرون, {وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ}[الصافات:14]: إذا رأوا آية من آيات الله -تبارك وتعالى- وكم من هذه الآيات التي يرونها في السماوات, والأرض فكل ما أمامهم وما خلفهم وما فوقهم وتحتهم آية كل خلق الله -تبارك وتعالى- من حولهم آية, ثم الله -تبارك وتعالى- يأتيهم كذلك بالآيات تباعًا, ولكن كما قال -جل وعلا-: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ}[يوسف:105]: لكنهم في إعراض عن هذه الآيات بل هم في سخرية هائلة يستسخرون يطلبون السخرية أنهم يسخرون سخرية عظيمة من كل آية تأتيهم من آيات الله -تبارك وتعالى- سوءا كآياته المنظورة, أو آياته -سبحانه وتعالى- المسموعة, وقالوا عن هذا الدين وعن البعث إن هذا إلا سحر مبين {وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَ آبَاؤُنَا الأَوَّلُونَ}[الواقعة:47].
نقف هنا ونكمل إن شاء الله في الحلقة الآتية, أستغفر الله لي ولكم من كل ذنب, -وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد-.