الحمد لله رب العالمين, وأصلي وأسلم على عبد الله ورسوله الأمين, وعلى آله وأصحابه, ومن اهتدى بهداه, وعمل بسنته إلى يوم الدين، وبعد...
أيها الأخوة الكرام, يقول الله -تبارك وتعالى- {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[البقرة:189].
يخبر -سبحانه وتعالى- أن أصحاب النبي -صلوات الله وسلامه عليه- سألوا النبي عن الهلال يبدأ صغيرًا في أول الشهر, ثم يتنامى ضوؤه؛ حتى يكون بدرًا, ثم يبدأ بتناقص الضوء حتى يصبح هلالًا في نهاية المطاف, ثم محاقًا, ثم يبدأ هلالًا بعد ذلك, ما شأنه على هذا النحو؟ أو ما حقيقة هذا الأمر؟ قال -جل وعلا- {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ} أي ظهور القمر أول ظهوره على هذا الشكل المقوس الهلال, ثم تنامي الضوء. قال -جل وعلا- عن هذه الأهلة قال: {قل} لهم يا محمد {هِيَ} أي الأهلة {مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} أي أن الله -تبارك وتعالى- جعل القمر على هذا النحو؛ ليكون هذا حسابًا وتوقيتًا يوقت الناس به أعمالهم وتواريخهم على هذه الأرض {مواقيت للناس}, وكذلك خص الله -تبارك وتعالى- عبادة من هذه العبادات وهي الحج, وذلك أن الحج فرضه الله -تبارك وتعالى- وجعله الله في أشهر معلومات, كما قال -جل وعلا-: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} فيأتي فيقع في الأشهر التي جعلها الله للحج, وهي شوال وذو القعدة وذو الحجة, لا يُفْرض الحج إلا بداية من دخول شوال إلى يوم التاسع أو ليلة العاشر من ذي الحجة, {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ}[الرحمن:5] جعل الله خلق الله -تبارك وتعالى- الشمس, وخلق القمر بحساب دقيق, {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}[الأنبياء:33], وهذا الحساب بلغ من الدقة مبلغُا, لا يستطع البشر تصور مقدار هذه الدقة, فإن دورة القمر لا تتخلف ولا جزء من مليون جزء من الثانية في وقته وحسابه, كما قال -جل وعلا- {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} مبالغة من الحساب, أي بحساب بالغ مبلغه في الدقة, فها هما آيتان من آيات الله -تبارك وتعالى-, ومنافع عظيمة أن تكون دورة القمر ودورة الشمس بهذا الحساب الدقيق؛ وذلك لتستقر وتستمر حياة الناس, ويضبطوا أعمالهم وأعمارهم ومواقيتهم وتواريخهم على هذه الأرض.
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} فأرشد الله -تبارك وتعالى- إلى منافع هذا الأمر إلى المنافع التي تتأتى من هذا, ولا شك أنها آيات من آيات الله -تبارك وتعالى- ودلائل على عظيم قدرته -سبحانه وتعالى-, قال أهل العلم: إن هناك صرف في جواب هذا السؤال عما سألوه ربما سألوا عن حقيقة هذا الأمر إلى المنافع التي تتأتى من هذا الأمر, وهو الأهلة, وذلك أن وضع العرب وضع الناس في هذا الوقت لم يكن ليستوعب ولا ليفهم كينونة وبناء الشمس والقمر والأرض وموقع كلٍ على ما هي عليه في الحقيقة, وعلى ما استطاع البشر بعلومهم أن يصلوا إليه في نهاية المطاف في أيامنا هذه, فإنه لو قيل لهم في ذلك الوقت: إن القمر جرم كبير, أصغر من الأرض, ولكنه عظيم جدًا, وهو من جنس هذه الأرض في التكوين, ثم هو يدور أي حول الأرض دورة كل شهر 29 يومًا وليلة من أيام أي هذه الأرض وأنه بحساب, فإن هذا أمر لا تستوعبه ولا يمكن أن تستسيغه عقولهم في هذا الوقت, ولربما لو بين لهم الحقيقة العلمية القائمة للقمر والأرض والشمس في هذا الوقت, لكان هذا من أسباب الكفر, ولكانوا ردوا الدين كله ردًا, فوجههم الله -تبارك وتعالى- إلى ما يستفاد من هذا الأمر, لا إلى ما هي حقيقته, وهذا الأمر يمكن للبشر بعلومهم أن يصلوا إليه لا يحتاجون أي وصول الناس إلى العلم به إلى إخبار من الله -تبارك وتعالى-؛ لأن هذا من الغيب الإضافي الذي يمكن للناس بعلومهم أن يصلوا إليه, كما الشأن في كثير مما أودع الله -تبارك وتعالى- في هذا الكون من الأسرار العظيمة, أسرار في الخلق, كل جزئية من جزئيات الخلق فيها أسرار عظيمة من أسرار الله -تبارك وتعالى-, ليس القرآن نازلًا لبيان كل هذه الحقائق والأسرار في الإنسان وفي الحيوان وفي النبات وفي بناء هذا الكون؛ فإن كثيرا من هذا سيطلع الله -تبارك وتعالى- عليها عباده شيئًا بعد شيء, كما قال -جل وعلا-: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}[فصلت:53]
هذا معنى توجيه الرب -سبحانه وتعالى- عباده أن ينظروا في جنبات هذا الكون, ويستخلصوا العبرة {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ....}[العنكبوت:20] {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ}[يونس:101] {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ}[الأنعام:37] {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ}[الأنعام:38].
{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ}[آل عمران:190] {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}[آل عمران:191].
حتى أن النبي يقول: « لقد نزلت علي آية, ويل لمن قرأها ولم يتدبرها ولم يتفكر ما فيها» {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}[آل عمران:190-191].
فبعض الحقائق التي هي حقائق وهي موجودة, إخبار الناس بها في هذا الوقت ربما قد يكون أكبر من استيعاب عقولهم في هذا الوقت, وقد حصل مثلًا في العصور الوسطى التي عاشت على معلومات خاطئة عن الكون والإنسان والنجوم, لما ظهر بعض العلماء ممن نظروا في هذا الكون وأتوا بنظريات جديدة كل الجدة عما كان يعتقده الناس, وقفت الكنيسة في وجوههم وحاربوهم على الهرطقة وقاتلوهم على الهرطقة, و وقالوا كفار وقالوا: أنهم قد أتوا بما يبدل العقائد والدين, فيمكن أن يرد الحق بما قد يقوم عند الناس من كثير الظنون الكاذبة التي يظنونها حقائق, وما هي بحقائق عن هذا الكون, يأتي الوقت لمعرفة هذا {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ} قل وجههم إلى ما يستفاد منها {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ}.
ثم قال جل وعلا-: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى} البر وهو خصال الخير, والبار هو الذي بلغ الغاية في الخير, أو اتصف بصفات الخير, وكل باب من أبواب الخير هو من البر, ليس البر أي أن تكونوا من أهل الخير ومن أهل الإحسان, بأن تأتوا البيوت من ظهورها, ولكن البر من اتقى, قيل أن هذه الآيات نزلت في شأن الأنصار كانوا إذا حجوا -وهذا في الجاهلية- ورجعوا إلى بيوتهم, لا يدخل الإنسان من باب بيته المعتاد, وإنما يعتلي فوق سطح بيته ويدخل منه, وأن هذا من تتمة أعمال الحج والمناسك أنه إن حج وجاء رجع إلى بيته فلا يدخل من بابه المعتاد, وإنما يعتلي ظهر بيته, ثم يدخل من ظهر البيت, فأخبرهم الله أن هذا الفعل الذي يفعلونه على أنه عبادة ونسك وأنه من الخير, ليس هذا من البر {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى} البر الحقيقي أن يصل الإنسان للخير هو من اتقى من خاف الله -تبارك وتعالى-.
ثم قال جل وعلا-: {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} وأتوا البيوت أي بيوتكم من أبوابها, فإن هذا هو الأمر الحسن, والأمر اللائق, وقال بعض أهل العلم بأن هذه الآيات إنما هي من باب الكناية, هو نص يراد به الكناية, ولا يراد به ظاهر النص, هذا الأمر معلوم في لسان العرب, أن الإنسان إذا أراد أن يأتي شيئًا, ولكنه دخل من غير بابه قيل له: ادخل البيت من بابه, لا تدخلوا البيوت من خلفها ومن ظهرها, قالوا: إن هذا إرشاد من الله -تبارك وتعالى- لمن يسأل عن الأهلة أن يأتي هذا الباب من أبواب العلم من بابه, وذلك بتعلم نظام هذا الكون, هندسة هذا الكون, كيف يقوم نظام هذا الكون؟, وشيئًا فشيئًا يتعلم الإنسان, فيعرف ويمكن أن يجيب عن هذا السؤال؛ لأن القمر ليس من الأمور الغيبية, إنما هو من الأمور الظاهرة, وبالنظر وبالتعلم هذه العلوم ممكن أن يصل الإنسان لكيفية هذا البناء, ولكن البر من اتقى قال -جل وعلا:- {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} فعلى القول الأول, هذا توجيه للأنصار الذين كانوا يفعلون هذا الفعل في حجهم, أن يعلموا أن هذا الذي كانوا يفعلونه في جاهليتهم ليس من الأمور التي شرعها الله -تبارك وتعالى-, وإنما إن عادوا من حجهم فيعودون إلى بيوتهم من أبوابها, وعلى القول الثاني وهو القول الذي قيل أنه من أبواب الكنايات فيكون {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} تعلموا العلم أي علم هذه الأمور من بابه.
{وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} اتقوا الله خافوا الله -تبارك وتعالى-, أيها العباد؛ لأن هذا هو طريق الفلاح, فطريق الفلاح, والفلاح هو أن يفوز الإنسان بمطلوبه, ومطلوب العبد لا شك المطلوب الأكبر هو الفوز برضوان الله جنته والنجاة من عذابه, {وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أي بالوصول إلى جنته والخروج من عذابه -سبحانه وتعالى-.
ثم قال -جل وعلا-: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}[البقرة:190]. هذه الآية نزلت في المرحلة الثانية من مراحل تشريع القتال, وتشريع القتال قد نزل في مراحل, فأول مراحله هو النهي عن قتال الكفار, ووجوب الصبر على آذاهم, وكان هذا في مكة؛ فإن الله -تبارك وتعالى- أمر نبيه والمؤمنين في مكة أن يكفوا أيديهم عن الكفار, وألّا يقابلوا السيئة بالسيئة بل يقابلوا السيئة بالصفح, وأن يتركوا حساب الكفار وعقوبتهم إلى الله -تبارك وتعالى- {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا}[المدثر:11] {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا}[المزمل:11] ذرني أي اترك هذا الأمر لله -تبارك وتعالى- {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا}[الفرقان:63] {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}[الأعراف:199] خذ العفو اعف عنهم, وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ} أي عن قتال الكفار {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}[النساء:77], فقد أمر المؤمنون في مكة أول الأمر بأن يكفوا أيديهم ولا يقابلوا السيئة الكفر بالسيئة, بل بإحسان ويصفح وبعفو عنهم, ثم لما هاجر النبي المدينة, وقام الأنصار بنصرته كما بايعوه على ذلك في بيعة العقبة الثانية, أمرهم الله -تبارك وتعالى- بأن يدافعوا عن أنفسهم {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}[الحج:39-40].
هذه الآية يسميها أهل العلم يسميها آية السيف, نزلت هذه الآية وهي آمرة بأن يأخذ المسلمون سيوفهم ويدافعوا عن أنفسهم ويقاتلوا {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا........}[الحج:39], فأذن الله -تبارك وتعالى- لهم لأنهم يُقَاتلون وبأنهم ظلموا بأن يدفعوا هذا الظلم عن أنفسهم, ثم نزلت هذه الآيات التي يبين الله -تبارك وتعالى- أن على المسلمين أن يقاتلوا من يقاتلهم, من يقاتلهم إما بالفعل وإما بالقوة, إما بالفعل يقاتلهم, وإما من شأنه أن يقاتلهم, فيستعد لهم ويعمل لهم لأنهم من أهل الشرك, ثم بعد ذلك نزلت آيات الأمر بقتال اليهود والنصارى, حتى يعطوا الجزية وهو صاغرون {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}[التوبة:29], ثم نزل بعد ذلك في المرحلة الأخيرة أمر الله -تبارك وتعالى- بجهاد الكفار أينما كانوا وحيثما كانوا قال: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً}[التوبة:36] وقال {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ........}[البقرة:193] ويكون الدين خضوع العالمين لله -تبارك وتعالى-, فهذه الآية المرحلة الثانية أو الثالثة من مراحل -على تفصيل بأن المرحلة الأولى هي عدم القتال-, ثم قتال دفاع عن أنفسهم ثم قتال ما من شأنه من يقاتلهم, قال -جل وعلا-: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ........}[البقرة:244], فالقتال يجب أولًا أن يكون في سبيل الله, وبين النبي أنه السبيل هو الطريق, وأن القتال لا يكون في سبيل الله إلا إذا كان لإعلاء كلمة الله -تبارك وتعالى- كما قال النبي: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله» فهذا هو معنى القتال في سبيل الله, قيل يا رسول الله: الرجل يقاتل حمية لقومه يحمو لقومه, ويقاتل بالذكر -أي لأن يذكر بأنه كان فلان كذا وكان وكذا-, ويقاتل ليرى مكانه أي ليرى الناس مكانه, أيُّ ذلك في سبيل الله؟ فقال النبي: كلمة جامعة من جوامع كلمه -صلى الله عليه وسلم- فقال: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله»
فهذا الذي في سبيل الله. هذا القتال الذي يكون في سبيل الله إنما هو لمنافع ولغايات عظيمة, منها الدفاع عن المسلمين, سواء كان دفاعا عن دينهم عن أموالهم عن أولادهم عن نسائهم, كله عن كل عن المسلم وكل ما حياض المسلم.
القتال لاستنقاذ المسلمين من أيدي الكفار {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا}[النساء:75] القتال لنشر الإسلام, تحطيم القوى التي تحول دون الناس والإسلام, فيقاتل الكفار لكفرهم, كما قال -تبارك وتعالى-: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} فهذا سبب قتالهم { وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}[التوبة:29], القتال لتكون كلمة الله هي العليا في الأرض كلها, ويكون الدين كله لله {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [البقرة:193], وفي الآية الأخرى {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال:39]. أي خضوع العباد جميعا لله -تبارك وتعالى- إما خضوعهم طوعًا بالإسلام, وإما خضوعهم كرهًا بالانضواء تحت المسلمين, وأن يكونوا في قهرهم وفي قبضتهم, فالله يقول: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} ثم هنا قال {الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} الذين يقاتلونكم إما أنها حصر للقتال في الذين يقاتلونهم فقط, وإما أنها الذين يقاتلونكم أي الذين من شأنهم أن يقاتلوكم فهذا صفة لهم, والكافر من شأنه أن يقاتل؛ لأن الكافر ظالم, {والكافرون هم الظالمون} {الذين يقاتلونكم} أي بالفعل هذه الصفة لهم, وأن الكافر من شأنه أن يقاتل أهل الإسلام.
{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا} نهي عن العدوان, أن يكون القتال عدوانًا, ويكون القتال عدوانًا إذا كان بعد عهد, بعد سلم, فيعتدي, فيكون هذا قد خرق العهد, أو خرق الهدنة التي بينهم, أو خرق السلم على هذا, أو على القول الأول {الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} أي من شأنهم أن يجهزوا لكم, فيكون الكافر الذي لم يقاتل المسلمين ولا يفكر في قتال المسلمين, ولا من شأنه أن يقاتلهم, فهذا يفسر بأنه يكون عدوانا عليهم, وعلى تفسير أنه الذين يقاتلونكم أي الذين يقاتلونكم بالفعل, وليس بالقوة أو من شأنهم أن يقاتلوكم.
ثم قال -جل وعلا-: { إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} مهما كانوا المعتدين, لا يحبه الله -تبارك وتعالى-, ولا شك أن القتال يكون عدوانًا, أولًا إذا لم يكن في سبيل الله فهو عدوان, كأن يكون لمغنمٍ فهذا عدوان, على استحلال لقتل إنسان بغير ما أمر الله -تبارك وتعالى-, حتى ولو كان كافرا, فإذا كان هذا المسلم يريد ماله, يريد أهله, يريد المغنم فيه, فهذا عدوان هذا لاشك عدوان, لأن الله -تبارك وتعالى- لم يبح للمؤمن أن يقاتل الكافر لحظ نفسه لحظ نفس المؤمن, وإنما أن يقاتله لله, ثم إذا قاتله لله وانتصر عليه فإن الله -تبارك وتعالى- يورثه ماله يورثه أرضه, هذا توريث بعد ذلك من الله -تبارك وتعالى-؛ لأن هذا العبد قام في أمر الله -تبارك وتعالى-, وهذا الكافر قد قام في معصية الله -تبارك وتعالى-, فسلط الله وليه على عدوه, أما إذا كان المؤمن يتسلط بنفسه على الكافر, يريد هذا لحظ نفسه, فهذا معتدٍ, فهذا لا شك أنه معتدٍ, فالله -تبارك وتعالى- هنا حصر القتال المشروع قال: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}[البقرة:190] لكل وهذه معاني العدوان التي ذكرناها.
ثم قال -جل وعلا-: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ}[البقرة:191], هذه إباحة من الله -تبارك وتعالى- وتحريض منه لعباده المؤمنين أن يقاتلوا أهل الكفر, ولو كانوا من أهل الحرم من أهل مكة؛ وذلك أنهم كفار معتدون {واقتلوهم حيث ثقفتموهم} أي اقتلوا المشركين حيث ثقفتموهم, ومعنى ثقفتموهم أي تمكنتم منهم في أي مكانٍ وزمانٍ تتمكنون منهم اقتلوهم.
{وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ} وقد أخرجوا النبي -صلى الله عليه وسلم- وأخرجوا المؤمنين فقال: {وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ} أي من أرض مكة فإن لكم هذا كذلك.
{وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} قال -جل وعلا-: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} الفتنة في لغة العرب تأتي بمعنى وضع الذهب في النار, من أجل صهره وإخراج الشوائب التي فيه, وحصول المعدن الخالص, يُقال فَتَنْت الذهب بمعنى أن يؤخذ الذهب من مصادره من مناجمه تربة والذهب مختلط فيها, وقد يكون نسبة الذهب إلى هذه الأحجار التي فيها نسبة واحد إلى الألف, ثم يطحن يوضع في النار, فإذا وضع في النار؛ انفصل الذهب الخالص المعدن والزبد والشوائب الأخرى والحجر انفصل عنه, هذه فتنة, هذا معنى الفتنة, فالوضع في النار هذه فتنة, وهذا المعنى جاء بمعناه الشرعي أيضًا, {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا} [البروج:10] هؤلاء أصحاب الأخدود الذين أخذوا المؤمنين وألقوهم في النار, ألقوهم في النار, فتنوهم بهذا؛ وذلك ليرودهم عن دينهم, إما أن ترجع إلى دين الكفر, وأما أن تلقى في النار على هذا النحو, وهذه أعظم الفتن, والفتنة تأتي أيضًا بمعنى الاختبار. الاختبار والابتلاء كما في قول الله: {أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [الأنفال:28] تأتي الفتنة نقول فُتِنَ هذا الإنسان, بمعنى أنه النتيجة السيئة للاختبار, فمن وقع في اختبار ثم كانت نتيجته سيئةً, يقال أنه فُتِنَ أي افتتن أي خرج من الإسلام بهذه, كما في قول الله -تبارك وتعالى- {كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا} وقعوا في هذه الفتنة, فخرجوا بها من الدين أو قول الله -تبارك وتعالى- في المنافقين في الخندق {وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا} [الأحزاب:14] سئلوا الفتنة الكفر, أي قيل لهم اكفروا لأتوا هذا الكفر وخرجوا به, افتتنوا وخرجوا من الإسلام, فالله يخبر أن الفتنة وهي تعذيب المؤمن؛ ليرجع عن دينه, هذه الفتنة أشد من القتل؛ أشد من القتل, أي تعذيبه؛ ليرجع عن دينه أشد من أن يقتل, لأنه إذا قتل أي دون التعذيب كان شهيدًا, أو أشد من القتل الذي أمرتم بقتلهم فيه, فإن فعلهم هذا أمر كبير جدًا, أشد من قتله, فقد ارتكبوا الجريمة الكبرى, ولذلك سلط الله -عز وجل- أهل الإيمان عليهم, والفتنة أشد من القتل, تعذيب المؤمن؛ ليرجع عن دينه؛ حتى يصبح كافرًا, أكبر من قتله على هذا الدين فيموت شهيدًا.
ثم قال -جل وعلا-: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ} حرم الله -تبارك وتعالى- على أهل الإسلام أن يقاتلوا في المسجد الحرام وهي أرض مكة؛ وذلك أن الله -تبارك وتعالى- قد حرمها يوم خلق السموات والأرض, قال -جل وعلا -: {فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ}.
ولهذه الآيات -إن شاء الله- مزيد التفصيل في الحلقة الآتية, أقول قولي هذا, وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنبٍ, وصلى الله على عبده ورسوله محمدٍ.