الجمعة 21 جمادى الأولى 1446 . 22 نوفمبر 2024

الحلقة (554) - سورة ص 10-23

الحمد لله رب العالمين, وأصلي وأسلم على عبد الله ورسوله الأمين, وعلى آله وأصحابه, ومن اهتدى بهديه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد... فيقول الله -تبارك وتعالى-: {أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الأَسْبَابِ جُندٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الأَحْزَابِ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الأَوْتَادِ وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ أُوْلَئِكَ الأَحْزَابُ إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ وَمَا يَنظُرُ هَؤُلاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ }[ص:9-15]: يرد الله -تبارك وتعالى- على هؤلاء الكفار المكذبين بهذا القرآن ذي الذكر وبالنبي محمد -صلوات الله وسلامه عليه- هذا من سورة ص التي بجدها الله -تبارك وتعالى- بالأقسام بهذا القرآن قال {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ}[ص:1], ثم ذكر الله -تبارك وتعالى- شأن الكفار في موقفهم من هذا القرآن ومن الرسول قال {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ ........}[ص:2] كبر عزة في أنفسهم عن قبول الحق امتناع وإباء عن قبول هذا الحق من الله -تبارك وتعالى- وَشِقَاقٍ: أي فيما بينهم رأي مختلف {إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ}[الذاريات:8], {يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ}[الذاريات:9], قال -جل وعلا-: {كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا ........}[ص:3] عند نزول العذاب وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ ما في مهرب {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ ........}[ص:4] منهم عجب الكفار أن جاءهم منذر منهم عربي قرشي منهم من أنفسهم يعلمون نسبه {........ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ}[ص:4]: وهم الكذبة الأفكة لأنهم كافرون, وهم يعلمون صدق هذا النبي -صلوات الله وسلامه عليه- {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا ........}[ص:5] هذا الشيء العجيب الذي عندهم, {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ}[ص:5]: كيف يدعون إلى أن نعبد إلها واحد ونحن عندنا كلنا هذه الآلهة الكثيرة آلهة في السماوات وآلهة في الأرض, وآلهة في البيوت, وآلهة على قارعة الطرق, كل ما يعبد من دون الله إله كان عندهم بهذه أصنامهم في كل مكان يحملونها معهم على ظهورهم في كل سفرهم, إذا لم يحملوا معهم يجعلون لهم كومة من التراب يحلبون شيء من الحليب, ثم يطوفون بها هذه كل هذه آلهتم هذه الآلهة الكثيرة يقول ما يدعون إلى أن ندعو إلها واحدًا فقطَ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ وجعلوا هذا دليل الكذب وهو أكبر أدلة الصدق وأعظم قضية تقوم عليها كل دلائل الصدق, فكل هذا الكون الشاهد أن ربه وخالقه خالق واحد -سبحانه وتعالى-, وبالتالي هو الإله وحده الذي لا إله إلا هو -سبحانه وتعالى-, {وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ}[ص:6]: اتهموا نية النبي -صلوات الله وسلامه عليه-, وهم يعلمون إن نية النبي خالصة وأنه لم يكن له غرض دنيوي قط, لكن كذبوا عليه وقالوا إن هذا لشيء يراد {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ}[ص:7]: قول النبي يعنون أَؤُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا لم يختاره لم يختار من بيينا بهذه الرسالة وبهذا الشرف؟ قال -جل وعلا-:  بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي: يذكرون بالله -تبارك وتعالى- ويشكون في هذا ويقولون إن الله لا يستطيع أن يعيدهم مرة ثانية بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ لسة ما شافوا العذاب لو أنهم ذاقوا عذاب الله -تبارك وتعالى- فإنه لا تطول ألسنتهم بهذا الإفك والكذب والكفر الذي يقولون به.

 قال -جل وعلا-: {أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ}[ص:9] لماذا يريدون أن تكون الرسالة هذه وهي رحمة الله -تبارك وتعالى- المنزلة على عبده ورسوله هل خزائن الله وكلهم الله بها فهم الذين سيقسمونها من عند أنفسهم أم عندهم خزائن رحمة ربك العزيز الغالب الذي لا يغلبه أحد -سبحانه وتعالى- الوهاب الذي يهب -سبحانه وتعالى- العطايا الجزيلة ومن هبته -سبحانه وتعالى- وهبه هذه النبوة رسالة لعبده ورسوله محمد -صلوات الله وسلامه عليه- {أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الأَسْبَابِ}[ص:10] يرتقوا في الأسباب هيمنة لهذا الملك أو هروبا ومن عقوبة الله -تبارك وتعالى- التي ستحل بهم وستأتيهم أسباب السماوات قال -جل وعلا-: {جُندٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الأَحْزَابِ}[ص:11]: كل هذه الجنود المجندة للرسول كل سيهزم من الأحزاب التي تجتمع جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب, ثم بين الله -تبارك وتعالى- هوانه وصغر شأنهم, وأنهم لو نظروا في السابقين من الأمم لكان لهم موقف آخر غير هذا الكفر كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأوتاد وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة أولئك الأحزاب إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب هذه سنة الله -تبارك وتعالى -كذبت قبلهم أي قبل العرب قبل قريش الذين أولوا كان أول الناس مكذبين بهذه الرسالة قوم النبي -صلوات الله وسلامه عليه- كذبت قبلهم قوم نوح الذين كانوا في بدء الخليقة بعد أدم -عليه السلام- بين آدم ونوح عشر قرون كانوا على التوحيد, ثم جاء وقع الشرك بعد ذلك في الأرض, ثم أرسل الله نوحًا إلى أهل الأرض يدعوهم إلى الله -تبارك وتعالى- فقوم نوح كذبوه وكل من كانوا على الأرض, وعاد قبيلة العربية التي أبادها الله -تبارك وتعالى-, وكانت تسكن في جنوب هذه الجزيرة في الأحقاف صحراء الأحقاف, وفرعون قوم فرعون في مصر التي هي الأرض أخصبها وأنفسها في ذلك الوقت, وكان أهلها يسمونها مصر أي الأرض قوم فرعون ذو الأوتاد وصف الله فرعون بأنهم ذو الأوتاد ذو الأوتاد أما هذه الأهرامات العظيمة التي هي أشبه بالجبال الأوتاد أو ذو الأوتاد التي ثبتوها في الأرض أوتاد خيامهم أوتاد بناءهم فالذين كانوا ممكنين هذا التمكن حتى أنهم جعلوا قبورهم جبالا محصنة غاية التحصين, وفرعون ذو الأوتاد وثمود قبيلة ثمود العربية التي كانت تسكن في شمال جزيرة في الحجر حجر ثمود, وقوم لوط كذلك لوط النبي وَقَوْمُ لُوطٍ: أرسله الله -تبارك وتعالى- في قرى وادي الأردن وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ: أهل معان الأيكة من معان في في بادية الشام أولئك الأحزاب أولئك المشار إليهم كل هذه الأمم المكذبة من قوم نوح إلى أصحاب الأيكة قال -جل وعلا-: {أُوْلَئِكَ الأَحْزَابُ}[ص:13]: الذين يتحزب على الكفر وكذبوا رسلهم, إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ: إن كل من هؤلاء الأمم إلا كذب الرسل رسل الله -تبارك وتعالى- الذين أرسلهم قال -جل وعلا-: {فَحَقَّ عِقَابِ}[ص:14]:أي كان عقاب الله -تبارك وتعالى- لهم حقا لابد أن يكون, وهذه سنته -سبحانه وتعالى- الجارية في إن من يكذب رسله أن يعاقبه -سبحانه وتعالى-, وهؤلاء الأحزاب قد عاقبهم الله -تبارك وتعالى- كل منهم عقوبة دنيوية شديدة أخذ شديد, فقوم نوح أغرقهم الله -تبارك وتعالى-, وعاد أهلكهم الله -تبارك وتعالى- بالحاصب, والريح التي ذرت عليهم حتى أهلكتهم في أماكنهم وفرعون أغرقهم الله -تبارك وتعالى- في البحر, وثمود أهلكهم الله بالصيحة صرخة ملك وقوم لوط أهلكهم الله بأنواعه من العذاب أولا حمل قراهم ثم أفكها عليهم فهي مؤتفكات وقبلها أرسل الله -تبارك وتعالى- لكل منهم حصب حجارة من سجيل تلحق كل واحد منهم تضربه فتقتله, ثم أفك الله وقبل هذا أعمى الله أبصارهم عندما أرادوا فعل الفاحشة برسل الله -تبارك وتعالى- الذين جاءوا بصورة بشر فتنة لهم فطمس الله -تبارك وتعالى- أعينهم ثم أرسل لهم هذا الحاصب, ثم أفك قراهم عليها ثم أتبعها الله -تبارك وتعالى- بمطر خبيث نازل بقيت أثاره وبقاياه ليومنا هذا في ما يسميه الناس بالبحر الميت, وأصحاب الأيكة الذين أهلكهم الله -تبارك وتعالى- بالظلة كما قال -جل وعلا-:  فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ: ظلة عذاب أظلتهم حتى أخنقتهم, وإبادتهم في أماكنهم إنه كان عذاب يوم عظيم أولئك الأحزاب إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب أصبح عقاب الله -تبارك وتعالى- حقا ولازما عليهم قال فحق عقاب.

 {وَمَا يَنظُرُ هَؤُلاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ}[ص:15]: ما ينظر هؤلاء ماذا ينتظروا هؤلاء المكذبين بمحمد -صلوات الله وسلامه وعليه- إلا صيحة واحدة ملك يصيح صيحة, وكم في ملك واحد من ملائكة من صيحات لو صاح ملايين الصيحات فإنها لا تعجزه إنها صوت وهذه صيحة واحدة تهلك هؤلاء كلهم لا يحتاج الله -تبارك وتعالى- إلى كمية جند عظيم, وأمر عظيم بل صيحة واحدة تكفيهم وما ينظر إلا هؤلاء إلا صيحة واحدة لملك واحد من ملائكة الله -تبارك وتعالى- مالها من فواق مالها ما لهذه الصيحة من فواق من إنسان يفوق من صعقته ويقوم إلى الأرض بل يكون خامدًا ميتًا إلى يوم البعث, ما لها من فواق انظر قدرة الله -تبارك وتعالى- على عباده -سبحانه وتعالى-, وانظر تطاول الكافر على الله انظر تطاولهم على الله -تبارك وتعالى-, وكفرهم به وعنادهم, وقولهم في رسوله هذه المقالات العظيمة هذا الساحر, هذا كذاب, لماذا يأتيه أأنزل عليه الذكر من بيننا إن هذا لشيء يراد إن له هدف غير هذا الأهداف المعلنة انظر أقوالهم الفاجرة الكافرة على رسولهم وكفرهم وعنادهم وأن الله -تبارك وتعالى- لا يعذبهم في الآخرة ولا يبعثهم وانظر قدرة الرب -تبارك وتعالى- عليهم -سبحانه وتعالى-, وأنهم لا يعجزونه انظر إليه فهؤلاء المهازيل الضعاف الذين ليسوا بشيء, وهذه قدرة الرب -تبارك وتعالى- العظيمة انظر هذا وهذا, ثم انظر بعد ذلك صورة من أخرى من تطاولهم وعنادهم ودعاءهم على أنفسهم وعماهم قال -جل وعلا-: {وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ}[ص:16]: أي لم يكتفوا بكل هذا الكفر بل طلبوا من الله -تبارك وتعالى- أن يعجل لهم نصيبهم من العذاب قبل يوم الحساب, قالوا هذا استهزاءا وكبرا وعلوا في الأرض لا إله إلا الله وقالوا هؤلاء الكفار ربنا يا ربنا دعوا الله -تبارك وتعالى- عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا عجل لنا قطنا نصيبنا قطعتنا ما توعدنا به من العذاب قبل يوم القيامة, هات هذا, وقالوا هذا عنادًا واستكبارًا واستبعادًا للأن يصلهم أي عذاب وأن هذا النبي كل الذي يحدثهم به إنما هو لا حقيقة له قال- جل وعلا-: اصبر على ما يقولون وجه الله -تبارك وتعالى- ترك الله -تبارك وتعالى- هؤلاء الأفاكين الكذابين على هذا النحو الذين تمادى بهم غيهم, وضلالهم وكفرهم وعنادهم إلى هذا النحو, وقال لرسوله اصبر على ما يقولون ما يقولون إنك ساحر وإنك كذاب وإنك يتهمون النية كل هذا الذي يقولونه من التجديف والكذب والكفر, {اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ}[ص:17]: اذكر هذا عبد من عباد الله -تبارك وتعالى- انظر ما آتاه الله -تبارك وتعالى- من الفضل والإحسان من الله عظيم العطاء, وعظيم الفضل وعظيم الإحسان -سبحانه وتعالى-, وانظر هذا العبد كيف من الله -تبارك وتعالى- عليه تسلية للرسول, وتوجيه له أن يعبد الله -تبارك وتعالى- أنه يكون في مثل هذه المحنة الشديدة, وهذا اجتماع هؤلاء الكفار عليه على هذا النحو أن يفزع إلى ربه -سبحانه وتعالى-, وأن يشتغل بعبادة ربه -جل وعلا-: اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ لأنه ستأتيهم عقوبتهم اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داوود النبي -عليه السلام- ذا الأيد صاحب القوة قوة بدنية قوة في البدن استخدمها في طاعة الله -تبارك وتعالى- فقد كان مجاهدًا قويًا صلبًا في دين الله -تبارك وتعالى- لأعداء الله -عز وجل-, وكذلك قوة في العبادة فكان يقوم خير قيام, ويصوم خير صيام كما قال النبي -صلوات الله وسلامه عليه- خير الصيام صيام داوود كان يصوم يوما ويفطر يومًا ولا يفر إذا لاقى يصوم ويفطر يوم دول حياته ولا يفر من عدوه إذا لاقاه محتفظا بقوة بدنية, كذلك خير الصلاة صلاة داوود كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه هذا كذلك ثلثين الليل ينام شيء من أول الليل نصف الليل الأول, وسدس الليل الآخر ويقوم ثلث الليل فيقوم سدس ونصف الثلثين ويقوم ثلث الليل يقومه في الفترة التي بعد نصف الليل أحسن فترة من فترات الليل, فهذا قيامه وهذه صلاته وكذلك أيضًا اجتهاده في أنهم لا يأكل إلا من عمل يده مع أنه ملك ملك أتاه الله -تبارك وتعالى- الملك, وكان ملك ممتد وعظيم في بلاد الشام ولكنه كان وهو ملك لا يأكل إلا من عمل يده يصنع كل يوم درع من الدروع يبيعها يشتري بثلثها الحديد الذي يصنعه, ويصرف ثلثها على نفسه والثلث الآخر يعين يصبح كرأس ماله فثلث يصرفه, وينفقه وثلث يتصدق به وثلث الآخر, أي يأتي به بالحديد لينسج درعًا آخر, فهذا العبد له قوة ذا الأيد قوة في كسب المعاش على هذا النحو, وفي صبره على أموال الآخرين ما يأكله من مال الملك, وإنما من كسب يده وقوة في الصوم قوة في الصلاة قوة في الجهاد في سبيل الله, اذكر هذا العبد الذي قام بأمر الله -تبارك وتعالى- على هذا النحو {اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ}[ص:17] أنه فيه رجوع إلى الله التوبة والمغفرة, وكذلك تأويبه بالذكر بكثرة ذكره ودعائه, وبكائه وقيامه بصوته الجميل بقراءته للزبور عليه من الله -تبارك وتعالى- أنه أواب.

 {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ}[ص:18:] انظر نعمة التي أتاه الله -تبارك وتعالى- إن الله سخر الجبال معه تستمع وتنتشي وتفرح لذكره فيسبح الله -تبارك وتعالى- معه بالعشي العشي ما بعد الظهر هذا عشي والإشراق وقت شروق الشمس أي أنه في وقت الشروق يدعو إلى الله -تبارك وتعالى-, ويصلي وكذلك في أوقات العشي عند المساء يدعو الله -تبارك وتعالى-, ويذكر ويصلي وأن الجبال تردد معه دعاءه, وذكره وتسبيحه وقيامه قراءة الزبور وقد أتاه الله -تبارك وتعالى- صوتًا جميلًا يقول أجمل صوت وجد في الأرض صوت داوود -عليه السلام- {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ }[ص:18-19]: الطير تحشر له تجمع له عندما يبدأ بقراءته, وبتسبيحه تحشر الطير لتسمع وتؤوب معه ترجع معه التسبيح, والتحميد والذكر والقراءة التي يقراءها بصوته الشجي فتطرب الطير وتطرب الجبال {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ}[ص:18-19] كل له الجبال والطير كما أواب ترجع ما يقول, ترجيع لصوته نفس هذا التسبيح تعيد تسبيحه مرة ثانية, فيكون كإنشاد, وهؤلاء يرددون بعد ذلك وراءه في هذا النشيد العظيم نشيد يقوله داوود -عليه السلام-, ثم تردد الجبال والطير معه كما قال -جل وعلا-: .يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ: يا جبال أوبي معه رجعي كلامه ترجيع كما يقول المنشد ينشد, ثم يقول من حوله بعد ذلك يقومون بعده بالنشيد يا جبال أوبي معه والطير {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ}[سبأ:10]: فهذا العبد الأواب الرجع إلى الله -تبارك وتعالى-, وكذلك الأواب تأويب ترجيع ما يقراءه من التوراة انا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق والطير محشورة مجموعة كل له أواب كل من الطير والجبال تؤوب معه أي ترجع معه قراءته الجميلة بصوته الحسن بالزبور, قال -جل وعلا-: وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ: شد الملك تقويته أنك كان ملكه ملك ما فيه شيء من الضياع, والفوضى والإمهال بل كل شيء منضبط, فالجيش الذي تحت يده جيش مشدود منضبط, والعيون التي يبثهم وطريقة جمع المال وطريقة إنفاقه, وطريقة الحكم وسياسة الناس كلها تقوم على أساس قوي متين, واجتماع القوم كلهم وأمته كلها حوله وإشادتهم بهم وقيامته حوله, فهذا ملك مشدود, أي أن كل جوانب هذه الملك متينة قوية مترابطة ليس فيها أي شيء فيه ضعف أو وهن وشددنا ملكه, {وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ}[ص:20]: أعطيناه الرب -تبارك وتعالى- الحكمة العلم أصل الحكمة هي مأخوذة في روضة العرب من حكمة الدابة حكم الدابة هي الحديدة التي توضع في اللجام حتى تضبط حركة الدابة تمنعها من الجنوح ومن الجموح, استعير هذا المعنى لعلم الذي يكون عليه الإنسان فنقول إنسان حكيم عنده علم يمنعه من الوقوع في الخطأ, والوقوع فيما لا يليق فهذا رجل حكيم يضع الأمور في نصابها عنده علم يمكنه من وضع الأمور في نصابها الحكمة في كتاب الله -تبارك وتعالى- في سنة نبيه -صلوات الله وسلامه عليه- هو العلم العظيم المنزل من الله -تبارك وتعالى- الذي يجعل كل أمر في نصابه هو صفة من صفات الله -تبارك وتعالى-, فالله هو العليم الحكيم الذي أحاط بكل شيء علمًا, والذي يضع كل أمر في نصابه لا أمر إلا في نصابه فالهدى في نصابه الضلال في نصابه كل أمر إنما هو موضوع في مواضعه الصحيح من حكمة الرب -تبارك وتعالى- الله علم داوود الحكمة فالحكمة هو هذا الوحي, فالحكمة هي العلم الذي يجعل الإنسان يضع كل أمر في نصابه, فلا يميل ولا يظلم ولا يخرج عن جادة الحق والصواب بل كل أمر يحكم به ويقوله إنما هو في مكانه الصحيح وفي موضعه الصحيح {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ}[ص:20]: فصل الخطاب, الخطاب الفصل الكلام الخطاب الكلام الذي يضع الأمر في نصابه فهو يفصل بين الأمور المختلطة المتشابكة إذا تكلم بكلام فإنه يأتي بالكلمة الأخيرة التي تعطي كل قضية حقها ومقدارها فلا يحتاج معه إلى كلام, والكلام الذي ليس بفصل هو الكلام المختلط الذي يتداخل بعضه في بعض ويخرج من موضوع إلى موضوع وإنما فصل الخطاب هو الذي يبين كل أمر على حدة, ولا يجعل معنى يختلط بمعنى آخر بل يفصل معنى وقيل إما بعد فصل الخطاب إما بعد هذه الكلمة من فصل الخطاب, وذلك أن الخطبة إنما تكون مقدمة ثم موضوع فالمقدمة دائما لخطبة في الإسلام تبدأ بحمد الله -تبارك وتعالى- والثناء عليه هذه, ثم الصلاة والسلام على رسوله -صلوات الله وسلامه عليه- ثم بيان القضايا العامة كما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول خير الكلام كلام الله -تبارك وتعالى- خير الهدى هدى محمد -صلى الله عليه وسلم-, شر الأمور محدثاتها, كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة هذه أمور قضايا كلية, ثم يقول إما بعد, ثم يذكر الموضوع الذي فيه فإما بعد فصل الخطاب فصلت بداية هي مقدة الخطية عن موضوع الخطبة الذي يقال, ثم إذا كان الخطبة بعد ذلك يخرج الخطيب منها من مفصل إلى مفصل, ومن فقرة إلى فقرة ومن جزئية من الموضوع إلى جزئية أخرى, ويكون الأمر مترابط فهذا يكون موضوع مترابط متكامل فيه تفصيل لهذا الخطاب, فمعنى ذلك أن داوود -عليه السلام- أتاه الله -تبارك وتعالى- الخطاب الفصل الذي يفصل الأمور, ويوضحها ويكون هذا من إعطاءه الله -تبارك وتعالى- بلاغة القول واتيناه الحكمة وفصل الخطاب, ثم قال -جل وعلا-: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ}[ص:21-24]: يخبر -سبحانه وتعالى- عن شأن وقع لداود -عليه السلام- قال الله لنبيه هل أتاك نبأ الخصم, الخصم الجماعة المتخاصمين وهم اثنان إذ تسوروا المحراب على داوود اذكر إذ تسوروا المحراب, ومعنى تسوروا ركبوا من سوره, ودخلوا على داود في محرابه مكان عابدته, وكان لا يدخل عليه إلا من الباب في الدخول إنما يكون من الباب وكان هناك, ثم حرس ونحو ذلك على الباب وإذا بهؤلاء يتسورون عليه, ويدخلون عليه المحراب الذي هو فيه يقوم بالصلاة لله -تبارك وتعالى- ففزع منهم ناس تدخل وتسور وتدخل عليه على هذا النحو فظن أنهم إنما أرادوا شرًا بدخولهم هذا, وتخطيهم الحرس ودخولهم عليه في هذا المكان قال -جل وعلا-: إذ دخلوا على داوود ففزع منهم قالوا لا تخف لسنا لم نأتي لشر لا تخف منا خصمان نحن خصمان بغى بعضنا على بعض في واحد منا باغي على الثاني بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق نريد منك إن تحكم بيننا بالحق ولا تشطط, الشطط هو البعد عن الحق لا تبعد بعدا عن الحق فاحكم بيننا بالحق بالفصل وأهدنا إلى سواء الصراط سواء, الصراط هو الطريق وسواءه وسطه أهدنا إلى أن نسير في الطريق السوي في وسط الصراط,  ثم قال أحدهم إن هذا أخي, وأخوه ربما يكون أخوه في الدين في الملة, أو يكون أخوه أيضا في النسب إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ونعجة على ظاهرها, وهي أنثى الغنم ولي نعجة واحدة فقال أكفلينها وعزني في الخطاب أكفلينها اجعلني كفيلًا لها حتى اتمم المائة لأن تسع وتسعون عدد ناقص فخليني أكمل المائة بنعجتك وعزني في الخطاب أي غلبني في المخاصمة.

نقف هنا, ونكمل إن شاء الله الحلقة الآتية, أستغفر الله لي ولكم من كل ذنب –وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد-.