الجمعة 21 جمادى الأولى 1446 . 22 نوفمبر 2024

الحلقة (555) - سورة ص 23-35

الحمد لله رب العالمين, وأصلي وأسلم على عبد الله ورسوله الأمين, وعلى آله وأصحابه, ومن اهتدى بهديه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد... فيقول الله -تبارك وتعالى-: {اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ}[ص:17-26]: ذكر الله -تبارك وتعالى- عبده ورسوله محمد -صلى الله عليه وسلم- وأمره أن يصبر على ما يقوله الكفار, وقد قال الكفار في شأنه مقالات عظيمة فقد ادعوا بأنه قد افترى هذا القرآن, وأنه كاذب وسلسلة طويلة من الادعاءات كقولهم {وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ}[ص:6] فاتهموا نيته -صلوات الله وسلامه عليه- {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ أَؤُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا ........ }[ص:5-76] هذه مقالتهم وجه الله -تبارك وتعالى- نبيه وقال {اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ ........}[ص:17] صاحب القوة إِنَّهُ أَوَّابٌ رجاع إلى الله -تبارك وتعالى- كثير التوبة والرجوع إلى الله, {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ}[ص:18]: أي انظر فضل الله -تبارك وتعالى- ونعمته على عبده داوود الذي سخر معه الجبال يسبحن تسبيح الله -تبارك وتعالى- يسبحن بصوت كما قال -جل وعلا-:  {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ}[سبأ:10], بالعشي والإشراق وقت العشي, وهو من بعد الزوال ووقت الشروق بعد شروق الشمس والطير محشورة كل له أواب رجاع, عندما يأتي يتغنى بمزاميره في الزبور المنزل إليه ومعنى بمزاميره بصوته الحسن كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لأبي موسى لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داوود, كان من أحسن الناس صوتًا في قراءته للزبور المنزل إليه, وكانت الجبال الصم هذه تؤوب رجع الكلام معه, وكذلك الطير تأتي عندما يتغنى بالزبور فتسمع وتردد وتجاوبه في قراءته, وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ بكل أنواع القوة التي تصبح المملكة كأنها سبيكة واحدة {....... وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ}[ص:20].

 ثم ذكر الله -تبارك وتعالى- هذا الشأن فقال {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ .......}[ص:21] اثنين تخاصما {....... إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ}[ص:21] ركبًا السور ودخلوا على داوود في محرابه مكان صلاته, وجاوزوا الحراس الذين عنده على الأبواب فقد كان ملكا وأتوا إليه في مكانه وفي خلوته, {إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ}[ص:22]: أي نحن خصمان وفي واحد منا باغي على الآخر نعرض عليك قضيتنا احكم بيننا بالحق ولا تشطط تبتعد على الحق وأهدنا إلى سواء الصراط إلى الطريق المستقيم, {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ}[ص:23]: أي أعطني نعجتك لأضمنها إلى نعاجي فتصبح مائة وعزني في الخطاب غلبني في المخاصمة خاصمني وغلبني بخطابه هذا, وأنه يريد نعجة واحدة ليضمها إلى نعاجه قال داوود -عليه السلام- مجيبًا لهما قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ إنه ظالم لك فقد أعطى الله -تبارك وتعالى- تسع وتسعين فلماذا يطمع في واحدة فقط بيد أخيه قال {قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ........}[ص:24]: الخلطاء وهم الذين يخلطون أنصبتهم في الغنم ويجعلونها عند راعي واحد فهذا خليط, هذا عنده عدد من الرءوس, وهذا عنده عدد من الرءوس فيتركوهم بعضهم مع بعض براعي واحد ومشرب واحد  ونحو ذلك, قال وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض يكون شركاء في هذه, ولكن يصير فيه نوع من البغي والظلم بعضهم على بعض إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ, فإن الإنسان لا يطالب إلا حقه ولا يجاوز حقه إلى حق الغير, قال وقليل ما هم وقليل ما هم قليل من لا يأخذ ماله وحقه فقط ولا يجاوز إلى حق الغير قال -جل وعلا-: وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ: هذان اللذان تسوروا المحراب فجأة خرج من عنده وعلم داوود لم يكونا خصمين, وإنما كانا ملكين آتيا في صورة رجلين بينهما خصومة على هذا النحو ليقولا هذه القضية ويفرا إذ القضية كلها كانت قضية رمزية وكانت قصة رمزية لمثال معين, فعند ذلك لما وقع هذا ظن داوود اعتقد هنا الظن بمعنى الاعتقاد أنما فتناه اختبرناه فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ, قال بعض أهل العلم بالتفسير أخذين قولهم هذا مما هو في التوراة من أخبار بني إسرائيل أن داوود -عليه السلام-, إنما نظر ذات يوم فرأى امرأة لأحد جنوده يسمى أوريا وأنها كانت امرأة جميلة جدا فرغب في الزواج منها, ولكن لها زوج فأرسل هذا الجندي إلى الجبهة وأمر قائده أن يجعله في مقدمة الجيوش حتى إذا قتل واستشهد تأيمت امرأته فيستطيع داود أن يتزوجها بعد ذلك, وإن فسروا هذا بأن الله ضرب له هذا المثل في أن الله -تبارك وتعالى- قد وسع عليه فهو ملك وعنده كثير من النساء, وأنه قد رغب في امرأة هذا الجندي الذي عنده وليس له إلا هذه المرأة الواحدة, ويكون هنا إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة, نعجة بالرمز امرأة لي نعجة امرأة واحد فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب, على كل حال هذا الخبر من أخبار بني إسرائيل, والنبي قال في أحبار بني إسرائيل لا تصدقوهم, ولا تكذبوهم هل هذا الخبر هنا الموجود في بني إسرائيل يوافق هذا, وهل هذا من خلق الأنبياء على كل حال يخبر -سبحانه وتعالى- الموجود هنا في القرآن وهو الحق أن داوود فعل ما عاتبه الله -تبارك وتعالى- فيه, وأن الله لامه على ذلك ووجه نظره إلى أنه قد أخطأ في هذا الأمر فلما تبين له هذا قال -جل وعلا-: وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ أي من ذنبه وَخَرَّ رَاكِعًا أي ساجدا وَأَنَابَ قال -جل وعلا-: فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ: سامحناه وسترنا عيبه هذا ورجع إلى الحق {........ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ}[ص:25], وأن له عندنا لزلفى قربى من الله -تبارك وتعالى- وحسن مآب حسن مآب حسن مرجع إذا آب إلى الله -تبارك وتعالى- ورجع إلى الله -تبارك وتعالى- في الآخرة فإن له جنة الله -تبارك وتعالى-, وأن هذا كان تذكير من الله -تبارك وتعالى- لداود بالذنب الذي قارفه أو ارتكبه, وإن كان مجرد نية لكن الله -تبارك وتعالى- يحمي أنبياءه ورسله ويوجههم -سبحانه وتعالى- إلى الخير والصواب.

 ثم قال -جل وعلا-: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ}[ص:26] هذا رأي الله -تبارك وتعالى- وإخباره لداود أنه أنزله عليه هذا التوجيه يا داوود ناداه الله -تبارك وتعالى- باسمه إنا جعلناك خليفة في الأرض جعلناك صيرناك خليفة أي حاكم تقوم بأمر الله -تبارك وتعالى-, فإن الله -تبارك وتعالى- أتاه الملك وجعله ملكًا في بني إسرائيل ملكوه ليحكم بينهم بالعدل فهو مقام هنا خليفة في بني إسرائيل ليقوم بينهم بالعدل, ملك ملكه الله -تبارك وتعالى- فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى أمر الله له أن الله -تبارك وتعالى- نصبك هذا المنصب, ووضعك في هذا المكان فاحكم بين الناس بالحق الثابت, والحق مع حقه الله -تبارك وتعالى- وبين أنه حق وقد بين الله -تبارك وتعالى- شرعته لعباده ولا تتبع الهوى, الهوى ما تهواه النفس وما تحبه لا تتبعه, وإنما احكم بالحق في هذا فإما إذا اتبعت الهوى قال فيضلك عن سبيل الله إذا اتبعت ما تحبه أنت وما تشتهيه وما تهواه دون النظر إلى أنه هل هذا من الحق أو ليس من الحق, فإن الهوى يضلك عن سبيل الله يخرجك ويبعدك عن سبيل الله عن طريق الله, ثم قال الله -تبارك وتعالى-: {........ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ}[ص:26] إن الذين يضلون يبتعدون عن طريق الله لهم عذاب شديد عنده -سبحانه وتعالى- بما نسوا يوم الحساب, وذلك أن كل غافل عن الحق وإن كان صغير فهذا من نسيانه يوم الحساب أما إذا ذكر يوم الحساب وذكر الله -تبارك وتعالى- يحاسبه على الذنب الصغير والكبير فإنه لا ينسى هذا إنه يكون ملتزم بأمر الله -تبارك وتعالى-, ولا شك أن من ضل عن سبيل الله خارج إلى الكفر ونسى يوم القيامة فهذا له خلوده في النار -عياذًا بالله-.

 ثم قال -جل وعلا-: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ}[ص:27]: تذكير تأكيد من الله -تبارك وتعالى- أنه ما خلق هذه السماء العظيمة, وهذه الأرض وما بينهما من مخلوقات عظيمة بينهما, هذا السحاب المسخر بين السماء والأرض بينهما هذه النجوم والشموس العظيمة بينهما خلق من خلق الله -تبارك وتعالى- قد لا نعرفه هذا كله ما خلق الله -تبارك وتعالى- هذا باطلًا عبثا وسدى بغير هدف وبغير غاية وبغير حكمة, وهذه مقالة الكفار فإن مقالة الكفار عندما يرون أنه لا حساب عند الله -تبارك وتعالى-, ولا يوم قيامة وأن الإنسان كل إنسان حر فيما يفعل, وفيما يأخذ وفيما يدع وأنه يقع في هذه الأرض ما يقع, ولا يكون عليه أي حساب فليقتل من شاء ما شاء وليأكل من شاء ويدع ما شاء, ويحرم ما يشاء, ويحل ما يشاء ويفعل الناس ما يشاءوا, ويبقى الصراع بينهم فقط إنما هو صراع في هذه الدنيا وأنه لا جزاء للمحسن ولا عقوبة للمسيء, وأن الحياة هكذا ثم تنتهي بعد ذلك ينتهي الناس جيلًا بعد جيل, ولا يحاسب أحد على ما قدمت يداه لا يأخذ المحسن جزاء إحسانه ولا المسييء جزاء إساءته إذن الحياة كلها وهذا الخلق كله لا معنى له ولا حكمة منه ولا شيء من وراءه فيكون كل عبث وسدى فالله -تبارك وتعالى- قال {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ........}[ص:27]: هذا ظنهم واعتقادهم عندما قالوا أنه لا بعث ولا نشور أنه إذن الحياة كلها حياة عبثية لا فائدة من ورائها لا حكمة ترجى من ورائها, قال -جل وعلا-: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ: تهديد لهم من النار التي أعدها الله -تبارك وتعالى- لهؤلاء الكفار, لأن الاعتقاد في هذا فيه سب لله وظلم وشتم له -سجانه وتعالى- واعتقاد بأنه خلق خلقه سدى وعبثا لا غاية ولا حكمة لهم -سبحانه وتعالى- من وراء هذا الخلق.

 قال -جل وعلا-: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ}[ص:28] أي كيف يكون هذا كيف يكون هذا, سؤال للتوبيخ والتقريع لهؤلاء الذين اعتقدوا هذه العقيدة الفاسدة في الرب -تبارك وتعالى- الكل يموت وينتهي لا الذين آمنوا وعملوا الصالحات لا يحاسبون ويؤجرون على إيمانهم وعملهم الصالح ولا ينالون شيئا من ذلك, وكذلك المفسدون في الأرض لا يعاقبون أفسدوا وفعلوا ما فعلوا في ملك الرب -تبارك وتعالى-, ثم لا يحاسبون على ذلك أم نجعل المتقين الخائفين من الله -تبارك وتعالى- الذين كان أحدهم يتقي مثقال ذرة من أن يكون هذا فيها معصية يعصاها فيحاسب عليها بين يدي الله أم نجعل المتقين كالفجار فاجر الذي لا يرعوي لشيء, والذي يسير في فجوره غير عابئ بشيء فتكون نهايتهم واحدة لا هذا يحاسب من الله -تبارك وتعالى-, ويؤجر على تقواه, ولا هذا يأخذ جزاء فجوره تعالى الله -تبارك وتعالى- عن ذلك يستحيل هذا, هذا أمر مستحيل في دين الله -تبارك وتعالى- في صفات الله -جل وعلا- تعالى الله تبارك وتعالى أن يكون عابثًا {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ}[ص:27] {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ ........}[ص:29]: وجه الله -تبارك وتعالى- إلى هذا الكتاب الذي شرح الطريق وأبانه وصف كل شيء وصف الحق والباطل ووضع كل أمر في نصابه وزادت بركات هذا الكتاب هذا مبارك بأنه خيراته في ازدياد دائم كتاب أنزلناه إليك مبارك, مبارك لمن يقرؤه, فإن كل حرف يقرؤه المسلم من يأخذ عشر حسنات مبارك في إبانته لطريق الناس هدايته وهداية الخلق كلهم إلى طريق الرب -تبارك وتعالى- مبارك في هدايته لأهل الإيمان الذي ينشئهم الله -تبارك وتعالى- بهذا الكتاب ينشئهم على عينه وعلى هذه تربية الرب -تبارك وتعالى- فيلتزمون أوامر الرب -تبارك وتعالى- فتسكن نفوسهم وتصفو جيل بعد جيل, فهذا الكتاب يخرج من أهل الهداية جيلًا بعد جيل هذا من بركة هذا الكتاب كتاب أنزلناه إليك مبارك لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ يتدبروها بمعنى ينظروا في آخرها فيما تؤول إليه هذا الأمر, فإن آيات الكتاب منذرة بعقوبة الرب -تبارك وتعالى- فمن نظر في هذه الآيات وعلم بعد ذلك إن وراء هذه الحياة حساب عند الله -تبارك وتعالى-, وعقوبة هذه صفتها وهذه صفتها كما جاءت نظر واعتبر وكذلك ما أعده الله -تبارك وتعالى- لعباده المؤمنين, وكذلك البراهين التي أنزلها الله -تبارك وتعالى-, وأعطاها في هذا القران إقامة لكل براهين تبرهن على كل الحق الذي أخبر الله -تبارك وتعالى- به من أسماءه وصفاته وأفعاله -سبحانه وتعالى- فبركة القرآن لا يمكن تحديدها وحصرها {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ}[ص:29], وليتذكر تذكر استحضار هذه المعاني في الذهن أولوا الألباب أهل العقول اللب العقل فأهل العقول يتذكروا بهذا القرآن المبارك الذي أنزلناه أنزله الله -تبارك وتعالى-, بعد هذا التعقيب على شأن داوود عله السلام ذكر الله -تبارك وتعالى- ابنه سليمان فقال -جل وعلا-: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ}[ص:30]: هبة من الله -تبارك وتعالى- عطية من الفضل والإحسان -سبحانه وتعالى- لداود النبي الملك سليمان ابنه كذلك, وجعله الله -تبارك وتعالى- ملكًا ورث الملك عن أبيه ملك بني إسرائيل قال -جل وعلا- نعم العبد وصفه الله -تبارك وتعالى- بأنه عبد وأثنى عليه فقال ونعم نعم للثناء والمدح نعم العبد إنه أواب إنه أواب رجاع إلى الله -تبارك وتعالى-, وتائب إلى الله -جل وعلا- فنفس الصفة التي وصف الله -تبارك وتعالى- بها داوود -عليه السلام-, وأنه أواب إلى الله -تبارك وتعالى- اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داوود ذا الأيد إنه أواب كذلك هنا وصف الله سليمان بأنه أواب أي رجاع إلى الله -تبارك وتعالى-, ومعنى رجاع أنه تواب مستغفر دائمً,ا حصل منه ما حصل من الذنب رجع إلى الله -تبارك وتعالى- وتاب إليه.

 ثم ذكر الله -تبارك وتعالى- شأن من شئونه وحادثة من الحوادث التي وقعت قال {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ}[ص:31] إذا عرض عليه عرش هذا العرض عرض لجيشه لخيوله بالعشي ما بعد العشي هو ما بعد الزوال الصافنات الجياد الصافنات جمع صافنة, والخيل إذا وقفت فإنها تصفن تقف على ثلاثة إذا وقفت طويلًا تقف على ثلاثة حوافر, ثم تضع تقيم الحافر الرابع على تقف على طرف الحافر الرابع فهذا الصفون فهذا الصفون, ويكون سكونها على هذا النحو, الصافنات الخيل الصافنات الجياد الجيدة الجياد الجيدة خيل أصيلة من الخيال الجيدة الطيبة عرضت عليه, وهذه هي التي كان يعدها للقتال والجهاد في سبيل الله, فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي: حتى توارت بالحجاب إن سليمان لام نفسه واستيقظ من نشوته وذهاب قلبه معه الخيل التي ظلت في هذا العرض عرض هذا العسكر إلى أن توارت بالحجاب غابت الشمس وكان هذا وقت الصلاة فنسي وقت الصلاة في هذا العرض حتى غابت الشمس الصلاة في العشي صلاة في العصر حتى غابت الشمس فلام نفسه بعد ذلك وكأنه استيقظ من أمر كان في غفلة معه وفي دهشة منه فقال {فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي ........}[ص:32] والخير هنا هذه عرض الخيل عليه, عن ذكر ربي عن اذكر الله -تبارك وتعالى- بالذكر الواجب المفروض وهو هذه الصلاة في هذا الوقت حتى توارت بالحجاب فضيعت الصلاة قال ردوها على ردوها علي ردوا الخيل مرة ثانية الخيل التي سارت في العرض ردوها علي فطفق مسحا بالسوق والأعناق طفق بمعنى شرع مسحا بالشوق والأعناق قيل المسح هو القتل أخذ سيفه وبدأ يقتل هذه الخيل فيضربها في أعناقها ويضربها في أرجلها {........ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ}[ص:33] سوق الخيل وأعناقها, وفي هذا انه رأى أن هذه الخيل وإن كانت مقيدة في الجهاد إلا أنها لما أشغلته هذا الأشغال, وسدبت قلبه على هذا النحو وتركته ليترك صلاة سهوًا على هذا النحو أنها أشغلته عن ذكر الله -تبارك وتعالى-, فإنها تستحق أن تزال لأنه أمر أشغله عن الأمر الفرض الواجب وهو الصلاة, ثم ذكر الله -تبارك وتعالى- أمرا أخر من سليمان فقال: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ}[ص:34-35], أمر آخر قال -جل وعلا-: وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ: اختبرناه وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ جاء في الحديث أن سليمان قال في يوم قال لأطوفن الليلة على مائة امرأة تلد كل منهن ولدًا يقاتل في سبيل الله فنوى هذه النية الحسنة, ولم يقل إن شاء الله يقول النبي فما ولدت منهن أي من المائة امرأة إلا امرأة واحدة ولدت شق إنسان شطر إنسان فقط وانه لو قال النبي -صلى الله عليه وسلم- ولو قال إن شاء الله لقاتلوا في سبيل الله أجمعون لو أنه قال إن شاء الله يكون هذا لقاتلوا لصدق الله -تبارك تعالى- ظنه ومشيئته وقاتلوا في سبيل الله أجمعون, ففسر أهل العلم التفسير قالوا بأن هنا الذي ألقاه الله -تبارك وتعالى- على كرسيه إنما هو هذا شق الإنسان الذي كان منه الذي ولد له وأنه تاب إلى الله -تبارك وتعالى- مما قال من أنه لم يقل إن شاء الله {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ}[ص:35]: أي تاب إلى الله -تبارك وتعالى-, ورجع من الأمر الأول بقتله للخيل ومن الأمر الثاني بتوبته ورجعوه إلى الله -تبارك وتعالى- ودعا الله -تبارك وتعالى- أن يهبه ملكًا قال وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ: إنك أنت الوهاب إنك أنت الوهاب الذي تعطي وتهب ما تشاء لمن تشاء سبحانك وتعالى قال -جل وعلا-: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ}[ص:36]: فهذا أول أمر أعطاه الله -تبارك وتعالى- إياه من الملك الذي لم يؤته لأحد من قبله ولا من بعده فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب ,وكان هذا تعويضًا عن الخيل التي قتلها فإن الله -تبارك وتعالى- بدلًا من أن بحمل بالخيل حمله الله -تبارك وتعالى- جنوده بالريح فسخرنا له الريح تجري بأمره إلى الجهة التي يريد التوجه إليها فإذا أراد التوجه إلى الشرق يأمر الريح فتسير شرقا إذا أراد التوجه غربًا فتحمله الريح بكل أمتعته وكل جيشه غربا فسخرنا له الريح تجري بأمره أمره هو وليس بدعائه وإنما بأمره الله هذا جعل هذا التسخير له وسلطه الله -تبارك وتعالى- على ذلك, وسخر له الريح, وأن الريح تأتمر بأمره فإذا قال له هبي إلى هذه الجهة وهبي إلى هذه الجهة تهب ورخاء ليست عاصفة ليست شديدة, وإنما رخوة هادئة تسير بكل هدوء ويسر إلى حيث أصاب: وجهه وأراد أن يصل إلى جهة معينة فإن هذه الريح تجري بأمره إلى الجهة التي أرادها.

نقف هنا ونكمل إن شاء الله في الحلقة الآتية, أستغفر الله لي ولكم من كل ذنب, -وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد-.